إعداد : السفير / محمد العرابى – وزير الخارجية الاسبق – رئيس مركز أمناء مركز شاف
دراسة منشورة بموقع مجلة أراء حول الخليج
بتاريخ 28 سبتمبر 2021
مقدمة
تزامنًا مع انتهاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وقع عدد من التطورات السريعة في الداخل الأفغاني؛ إذ شهدت الأسابيع الأخيرة انهيارًا سريعًا للجيش الأفغاني وللحكومة أمام تقدم طالبان نحو العاصمة “كابل” وعودة طالبان إلى السلطة، واختفاء الرئيس الأفغاني “أشرف غني”، وأعلنت حركة طالبان تشكيل حكومة مؤقتة تهيمن عليها قيادات الحركة، ظهرت حالة من الفوضى في الداخل الأفغاني، وأُثيرت عدة تساؤلات حول مواقف الدول من هذه الأحداث، وكيف سيتعامل المجتمع الدولي مع هذا الصعود؟
تُعدُّ صورة الدبابات الأمريكية الرابضة في المطار، بدايةً لعصر جديد في الحروب، وهي الحرب عن بُعْد، بمعنى الابتعاد عن نظرية التلاحم، وستكون المسيرات والدفاعات الأرضية لهما السبْق، ثم القوة البحرية والجوية، كما ستظل الصور التي خرجت من محيط مطار كرازاي، معبرةً عن وضع جديد، قد يكون مريرًا، فمن ناحية، كانت المرة الأولى في التاريخ التي يحاول فيها البشر ركوب الطائرة من الخارج، وتعكس حالة يأْس من المستقبل، ودليل على فشل نظرية بناء الأمم، التي كانت أحد المفاهيم المهمة بعد أحداث 2011، وإن كانت نظريةً قديمةً نشأت بعد الحرب العالمية الثانية.
لا شك أننا أصبحنا أمام حِقْبَةٍ جديدةٍ من التغيرات الدولية، تشكِّل جائحة أفغانستان المُحدِّد الرئيسي فيها، بجانب صعود لدور شركات الأمن الخاص-المرتزقة- خصوصا الشركات الروسية والتركية، والوضع في أفغانستان جائحة بحق، فالآثار والتداعيات ستكون عابرةً للحدود، بغض النظر عن مكسب أو خسارة أيٍّ من الأطراف، وأن أفغانستان أمامها وقت غير قصير في مرحلة عدم الاستقرار، وخاصةً في ضوء وطْأَة الأزمة الاقتصادية، وفي هذا الصدد نحاول تقييم مساحة التداعيات والمتغيرات التي لن تتوقف عند حدود أفغانستان أو حتى حدود الإقليم، بصرف النظر، عمَّا يُقدَّم باعتبار تلك الأحداث هزيمةً أو انتصارًا للولايات المتحدة.
أولا: استراتيجية دول المحيط الأفغاني
يمثل وصول طالبان إلى العاصمة “كابل” نقطة تحول جيوسياسية، تحوُّلٌ في استراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، مع تداعيات طويلة المدى على مصداقيتهم وقدرتهم على العمل في مكان آخر، كما أنه أيضًا توضيح لعالم ما بعد أمريكا الذي يتشكل لصالح القوى الأُخرى، وفي مقدمتها الصين، ولكن أيضًا روسيا وتركيا وإيران، التي تفرض نفسها على الأرض وتقود دبلوماسية الأزمات، لا شك أن هذا التحول سيُنشِئ تغيرًا على استراتيجيات تلك الدول في التعامل مع الوضع في أفغانستان ويمكن قراءة خيارات هذه الدول على النحو التالي:
جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق: يشكل غرق أفغانستان في الوضع الحالي تحديات أمنية واقتصادية خطيرة لجمهوريات الاتحاد السوفيتي، فقد يؤدي الانزلاق إلى الفوضى إلى إعادة أفغانستان إلى مركز للمنظمات الجهادية والإجرامية التي من شأنها زعزعة استقرار المنطقة بأكملها بشكل كبير، وإعاقة أيِّ تقدم في الربط الاقتصادي والتجارة، والعبور في جنوب وسط آسيا.
لذا جاءت ردة فعل جمهوريات الاتحاد السوفيتي، تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، عن طريق استعراض واضح لقواتها العسكرية، من خلال تعزيز أمْن الحدود؛ حيث فرَّت قوات الأمن الحكومية الأفغانية إلى طاجيكستان وأوزبكستان، وكذلك بعض المدنيين، كما قبِلت طاجيكستان بالفعل اللاجئين الأفغان، وأقامت مخيمات لمئات الأفغان الفارِّين، وطلبوا الدعم من منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا؛ تحسبًا لمزيد من تدفقات اللاجئين عبر حدودهم، في حين كانت أوزبكستان وتركمانستان – بشكل خاص – حذرين للغاية في فتح حدودهما أمام اللاجئين، حتى أن السلطات الأوزبكية أعادت العسكريين الأفغان الذين فروا إلى أوزبكستان بعد أن اجتاح مقاتلو طالبان قواعدهم.
وردود الأفعال على اختلافها، تعكس تخوف جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، من أن تشكل أفغانستان خطرًا على أمنهم، أو أن يطول حدودهم أيّ تهديدات أمنية، وتحوله لساحة حرب بالوكالة.
الاستراتيجية الصينية: بعد أن أقامت الصين علاقة جيدة مع طالبان في أواخر التسعينيات، حين أرسلت وزارة الخارجية الصينية وفدًا إلى أفغانستان للقاء كبار المسؤولين الأفغان، وفي عام 2000، التقى السفير الصيني في باكستان مع زعيم طالبان آنذاك “الملا عمر”، نلاحظ أنه منذ وصول طالبان إلى العاصمة كابل، أظهرت الصين مستوىً غير مسبوق من الاستقبال الإيجابي والتأييد السياسي والدعم الدبلوماسي لطالبان؛ حيث أعلنت وزارة الخارجية الصينية على لسان المتحدثة الرسمية لوزارة الخارجية الصينية “هوا تشون ينغ”، بأن “الصين تحافظ على الاتصال والتواصل مع حركة طالبان الأفغانية على أساس الاحترام الكامل لسيادة أفغانستان وإرادة جميع الأطراف في البلاد، وتقوم بدور بنَّاء في البحث عن حل سياسي للقضية الأفغانية”.
لذا من غير المرجح، أن تنشر الصين قوة عسكرية، وتسعى بدلًا من ذلك إلى استخدام الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية، وذلك لإقناع طالبان بالسير على الطريق السياسي السلمي، فترى الصين أن طالبان أصبحت أكثر عقلانية وواقعية، بناءً على تواصل الجماعة الأخير مع الدول المجاورة والسياسات التي أعلنتها حتى الآن، بما في ذلك تعهدها باحترام حقوق المرأة، و أنها بشكل عام استفادت من تجربتها، وأصبحت أكثر وعْيًا، والنقطة المتشابهة في تلك الرؤيتين، هو أن الصين تعتقد أن طالبان موجودة لتبقى ولتعزِّز مكانتها، ولم تعُد تتبع أجندتها المتطرفة، كما كانت قبل 20 عامًا، ومن المرجح أن تؤيد الصين طالبان طالما أنها لا تكرر أيّ شيء مُشين، خاصةً فيما يتعلق بدعمها للجماعات الإرهابية، فالتهديدات الإرهابية أهم مخاوف الصين في أفغانستان؛ حيث حقيقة أن دولًا أُخرى، مثل روسيا، تشارك وجهات نظر مماثلة حول طالبان تعزز موقف الصين.
لذا قد تتحرك الصين بشكل أسرع من الدول الغربية لتبني نظام طالبان، لكن الاستثمارات الكبرى، السياسية والاقتصادية، ستعتمد على ظهور استقرار مستدام والألوان الحقيقية التي تكشف عنها طالبان في هذا الصدد إذا تحركت الصين بعناية ودعمت طالبان في هذه اللحظة المناسبة، فهناك احتمال أن تقوم الصين بهندسة وخلْق ولاء مفيد في أفغانستان كأصل استراتيجي، وبالنظر إلى العداء بين الصين والولايات المتحدة اليوم، يتضح حرص الصين على استخدام أفغانستان للشعور بالتفوق والضغط.
الاستراتيجية الروسية: كان رد فعل روسيا على وصول طالبان إلى العاصمة كابل مفاجئًا، فبالرغم من عدم ترجيح حصول روسيا على مكاسب هائلة من الانسحاب الأمريكي، فقد أكد فلاديمير بوتين في مؤتمر صحفي له على أن سيطرة حركة طالبان فعليًّا على كامل أراضي البلاد بما في ذلك عاصمتها تُعدُّ أمرًا واقعًا، وأكد على ضرورة التصرف بناءً على هذه الحقائق ذاتها، بدون السماح لتفكك الدولة الأفغانية، يبدو أن موسكو تفضل بقاء أفغانستان دولة موحدة ومن غير المرجح أن تدعم جماعات المعارضة.
تسعى روسيا لتبني سياسة تقوم على ركيزتين أساسيتين، الأولى هي احتواء الجماعة، فلا تتعجل في الاعتراف بطالبان كحكومة شرعية، وأوضحت أن سياستها هي سياسة المشاركة؛ حيث أعربوا عن استعدادهم للعمل مع طالبان؛ للمُضيّ قُدُمًا في حالة كبح الحكام الجدد لسلوكهم الإرهابي، أمَّا الركيزة الثانية، فتتمثل في تحجيم نفوذ طالبان، وقصره على الداخل الأفغاني.
لدى روسيا أيضًا عدة تخوفات من صعود طالبان، فتسعى روسيا إلى تحجيم تحركات طالبان بالداخل الأفغاني، واحتواء حركتهم إلى أفغانستان؛ حيث أجرت روسيا مؤخرًا عدة مناورات عسكرية في آسيا الوسطى، بما في ذلك مناورة مشتركة مع طاجيكستان وأوزبكستان على الحدود الأفغانية، وكان ذلك بمثابة رسالة موجهة إلى طالبان بعدم المبالغة في استخدام أيديهم والسعي وراء أيّ طموحات تتجاوز الحدود الأفغانية، والتي أشارت روسيا إلى أنه سيتم الدفاع عنها بشدة.
وبالرغم من أن روسيا قد تكون خسرت نفوذها الاقتصادي في آسيا الوسطى، لكنها لا تزال الضامن الرئيسي للأمن في المنطقة، فلديها الجيش الأكثر خبرة والأفضل تمركزًا، كما لديها علاقات عمل جيدة مع دول آسيا الوسطى وتركيا وإيران والصين، وبالتالي، فروسيا في وضعٍ لتنسيق الدور العسكري في وسط آسيا؛ لتحجيم نفوذ طالبان، ومن المرجح أن تحاول القيام بهذا الدور، ومن المحتمل أن تنسق روسيا والصين نهجهما تجاه طالبان؛ ما يؤدي إلى استبعاد الولايات المتحدة، بأن يكونا الداعمين الرئيسيين لشرعية طالبان، ربما جنبًا إلى جنب مع تركيا؛ حيث يمتلكون مفاتيح المنظمات الإقليمية، ومن المرجح أن تحاول كلتا الدولتين المشاركةَ البنَّاءَةَ، بينما تسعى أيضًا إلى احتواء حكام أفغانستان الجُدد.
الاستراتيجية التركية: تكيفت الحكومة التركية مع الأحداث المتغيرة في أفغانستان، وهي مستعدة للاعتراف بطالبان والانخراط مع القيادة الجديدة في كابل؛ لتعزيز مصالحها الخاصة، واعتراف الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بحكم الأمر الواقع بطالبان، هو جزء من استراتيجية أوسع، مرتبطة بالسياسة الخارجية التركية طويلة الأمد، ومرتبطة بالمشاعر المحلية السلبية بشأن الهجرة غير النظامية.
تهدف استراتيجية “أردوغان” منذ تولِّيه السلطة إلى تعميق روابطه مع الدول ذات الأغلبية المسلمة؛ حيث تعمل نخبة الأمن القومي الحالية مع التنظيمات ذات مرجعية إسلامية، بدْءًا من هيئة تحرير الشام في سوريا إلى مختلف الجماعات التابعة لجماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، كما حافظت تركيا على علاقات أوْثق مع الدول الإسلامية غير العربية، مثل باكستان، التي لها علاقات ودّية مع طالبان، ومع أذربيجان، التي نشرت قواتها في كابل تحت القيادة التركية.
أثار انهيار حكومة “غني” مخاوف من فرار اللاجئين إلى تركيا عبر إيران، على الرغم من هذه الاعتبارات الداخلية، فإن غالبية الشعب التركي يرغب في رؤية الجيش التركي يسحب قواته من أفغانستان، ولكن دافع الرئيس التركي عن وجود قوات بلاده في أفغانستان، بأنها قوات غير قتالية، وأن الوجود العسكري التركي في أفغانستان سيقوِّي يدَ الإدارة الجديدة في الساحة الدولية، ويسهل عملها، ومع ذلك، يبدو أن “أردوغان” عازمٌ على تعميق الروابط مع طالبان واستخدام الحوافز الاقتصادية؛ لمحاولة تحقيق الاستقرار في العاصمة، ويُعدُّ هذا النهج متجذرًا في ارتياحه للمجموعة، ولكنه أيضًا جزءٌ من جهد لإرضاء الشركات التركية المتحمسة للتنافس على عملية البناء في البلاد، وتحاول تركيا أن تبني سياستها مع طالبان بأن تكون بالشكل الذي لا يؤثر بالسلب على علاقتها مع أصدقائها الأوروبيين.
الاستراتيجية الإيرانية: كان لحالة الفوضى التي تلت وصول طالبان إلى العاصمة كابل تأثير كبير على إيران؛ حيث تشمل أهم مخاوف إيران وقْف تدفق المهاجرين واللاجئين، واحتواء تهريب المخدرات، والحفاظ على التجارة عبر الحدود؛ حيث خفَّضت طهران عدد العاملين في سفارتها في كابل، اعتبارًا لحالة عدم الاستقرار التي شهدتها أفغانستان، وأكدت وزارة الخارجية الإيرانية، أن الدبلوماسيين ظلوا في قنصلية “هرات” بعد سيطرة طالبان على المدينة الغربية، كما قامت القوات الإيرانية بتأمين الحدود الشرقية؛ من أجل مراقبة الوضع عن كَثَب.
ومن غير المحتمل، أن تؤدي التطورات في أفغانستان إلى تغيير مستوى دعم إيران للوكلاء في سوريا وخاصةً العراق؛ حيث دعم الوكلاء هو بالفعل أولوية استراتيجية، ولكن إذا اشتد الانقسام الطائفي بين إيران وأفغانستان التي تحكمها طالبان، فقد تعتمد إيران على الوكلاء الشيعة الذين دربتهم وسلحتهم؛ من أجل تقويض الجماعة، ومن المرجح أيضًا ألا يتغير نهج الجمهورية الإسلامية تجاه المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة بسبب الانسحاب؛ حيث ظل موقف إيران ثابتًا، وستبقى طرفًا في الاتفاق النووي طالما عادت الولايات المتحدة إلى الاتفاقية، وفقًا للشروط السابقة، دون أيّ تغييرات.
و يُظهر صعود طالبان إشكاليتين رئيسيتين لدى إيران، الأولي متعلقة بالوضع الاقتصادي، فلا شك في أن صعود طالبان على المدى القصير سيكون ضربة للتجارة الإيرانية الأفغانية، فمن ناحية، سيعاني الاقتصاد الأفغاني؛ نتيجة توقف مدفوعات مساعدات التنمية الأمريكية والأوروبية، إضافةً إلى هجرة العديد من المواطنين الأفغان، ومن ناحية أُخرى، في أفغانستان بقيادة طالبان، سوف تتقوض الروابط الاقتصادية التي أُقيمت على مدى العقدين الماضيين بين البلدين، وستؤدي هذه العوامل وغيرها إلى تدهور اقتصادي متوقع، وتؤثر بالتأكيد على إمكانات الصادرات الإيرانية إلى أفغانستان.
أما الإشكالية الثانية التي ستواجها إيران، ستكون في كيفية التصرف إذا تطلب حماية مجتمع الهزارة الشيعي من طالبان؛ حيث تمتلك إيران وحدةً من المقاتلين الشيعة الأفغان، والتي ستكون خيارًا واضحًا للتدخل إذا احتدم الأمر.
دول الأطلسي: ستتأثر العلاقة عبر الأطلسي كثيرًا ولكن يمكن القول: إن العالم لازال يعيش في العصر الأمريكي، ولكن الاتحاد الاوربي كتكتل سياسي لا شك قد أصابه الوَهَن منذ خروج بريطانيا، وجاءت جائحة أفغانستان لتضيف إلى هذا الوَهَن، ويُعدُّ التأثير الأكثر إلحاحًا بالنسبة لأوروبا، هو التأثير الإنساني؛ نظرًا للتدفق المحتمل للمهاجرين من أفغانستان، وحاجة بروكسل لمساعدة الأفغان الذين ساعدوا دول الاتحاد الأوروبي خلال مهامهم. ولكن على المدى الطويل، فإن الطريقة التي انتهت بها هذه الحرب تمثل أزمةً شرعيةً للحلف عبر الأطلسي، ولحلف الناتو على وجه الخصوص.
ليست حقيقة الانسحاب بحدِّ ذاتها هي التي أثارت غضب أعضاء التحالف، لكن افتقار الولايات المتحدة للتنسيق مع الحلفاء، لا سيما أن مهمة الناتو في وقت الانسحاب كانت تضم قوات من 36 دولة، وكان ثلاثة أرباعها من غير الأمريكيين؛ ما أدى إلى تدافع دولي للإخلاء، كانت العديد من الدول، ولا سيما المملكة المتحدة وإيطاليا، غاضبةً بعد أن تجاهلت إدارة “بايدن” معارضتها للانسحاب في قمة الناتو في شهر يونيو الماضي، وبعد أربع سنوات من العداء تجاه أوروبا من قبل إدارة “ترامب”، يُعدُّ هذا هو آخر شيء يحتاجه حلف شمال الأطلسي، كما يُعدُّ وصول طالبان إلى العاصمة كابل مصحوبًا بتأثير سلبي مباشرة على أوروبا؛ حيث مصداقية السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فضلًا عن أجهزتها الاستخبارية والجيش، تضررت بشكل كبير، لدرجة أنها تضر بالمصداقية السياسية والأخلاقية للغرب ككل.
ثانيًا: مستقبل العلاقات الأفغانية الأمريكية
أوضح الرئيس الأمريكي “جون بايدن” موقفة من حكومة طالبان المؤقتة مؤكدًا أن اعتراف بلاده بحكومة طالبان في أفغانستان لا يزال بعيدا ، وكان “بايدن” تعرض لانتقادات لاذعة؛ بسبب ترؤُّسه لعملية انسحاب غير منسقة مع أعضاء الناتو؛ إذ فاجأت عملية الانسحاب الحلفاء الدوليين والشعب الأفغاني نفسه، لكن المنطق وراء قراره، يرتكز على إيمانه الراسخ، بأن الحرب في أفغانستان لم يكن من الممكن الانتصار فيها على الإطلاق؛ حيث أنفقت الولايات المتحدة تريليون دولار أمريكي لتدريب الجيش الوطني الأفغاني على مدار عقدين تقريبًا، كما أُصيبت الإدارات المتعاقبة بالإحباط؛ بسبب مستويات عدم الكفاءة والفساد في قلب السياسة الأفغانية، لكن التركيز على الجهات الفاعلة الأُخرى في المجال الأوسع للعلاقات الدولية من خلال عودة سياسات القوة العظمى؛ حيث الاستجابة للتداعيات العسكرية والسياسية لصعود الصين، هي الآن التحدي الأكبر لسياسة بايدن.
تركز المصالح الأمنية الأمريكية والغربية الآن على هدفين رئيسيين: 1) منع البلاد من أن تصبح ملاذًا آمنًا للقاعدة والجماعات الإرهابية الأُخرى التي تنوي ضرب الغرب، 2) حماية حقوق الإنسان والحريات المدنية من ميول حركة طالبان الحاكمة.
لن يكون اللجوء إلى استخدام التدخل العسكري كوسيلة لتهدئة الأوضاع، مثلما تدَّعي الولايات المتحدة دائمًا نقطة نفوذ ذات مصداقية في المستقبل القريب؛ ما يعني أنه يجب على الولايات المتحدة أن تلجأ إلى نهج القوة الناعمة لتحقيق هذه الأهداف، لقد علّقت الولايات المتحدة الاعتراف والمساعدات الدولية، والتمسك بتلك الورقة هو الاستخدام المتجدد للعقوبات؛ حيث جمَّدت الولايات المتحدة تقريبًا كل احتياطيات النقد الأجنبي لأفغانستان، لكنها التزمت الصمت بهدوء، بشأن وصول عقوبات الولايات المتحدة والأمم المتحدة، بينما كانت القوات الأمريكية لا تزال على الأرض.
من ناحية أُخرى تشكل تجربة أمريكا في أفغانستان شكلًا جديدًا لعدد من سياسيات الولايات المتحدة في عدد من المهام أبرزها التالي:
تغير شكل الوجود العسكري الأمريكي: سيطرأ تغيرٌ جوهريٌّ على شكل الوجود العسكري الأمريكي خارج الحدود، فلن يكون في شكل خوض غمار الحروب، ولكن الوجود بمعنى تعزيز التأثير الأمريكي بالوجود في قواعد عسكرية بمناطق التوتر أو بالقرب منها، كما سيكون التركيز على أعمال الشركات الأمريكية العملاقة وانتشارها دعمًا للوجود الأمريكي.
وفي عملها العسكري في أفغانستان ستنتقل إلى مرحلة جديدة؛ حيث لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بمصالح حيوية في إجلاء المواطنين الأمريكيين والأفغان، وفي منْع الهجمات الإرهابية الإضافية من قِبَل القاعدة وغيرها، سيتطلب كلا الهدفين، الكثيرَ من العمل الدبلوماسي والعسكري، والمزيد من الوقت، والموارد الوطنية الإضافية، كما أن لدى الولايات المتحدة الآن الكثير من العمل لتدعيم تحالفاتها في أعقاب الانسحاب السيِّئ التنفيذ، سيتطلب هذا أيضًا جهودًا جديدةً، إذا سعت الولايات المتحدة إلى اجتياز هذه الحِقْبة الجديدة الخَطِرة، بطريقة تحمي الأمن والازدهار الأمريكي.
توجيه الاهتمام نحو معالجة الداخل الأمريكي: لقد تأثر الداخل الأمريكي اجتماعيًّا، فمنذ الحرب العالمية الثانية، وحرب كوريا ، وحرب فيتنام ، وحرب العراق ، وأفغانستان، وارتباط ذلك بما اعتبره بعض أفراد الجيش الأمريكي وبعض السياسيين بأنه يشكِّل تاريخه العسكري الذي يسهم في دفعه سياسيًّا، هذا إضافةً إلى الآثار الاجتماعية السلبية ، في إطار ما أكده الرئيس بايدن بشأن أعداد الجنود السابقين الذين يقدُمُون على الانتحار؛ نتيجة الصدمات والإحباط، ويثير هذا مخاوف أمريكا من تداعيات ذلك الأمر على مستقبل أقوى جيوش العالم؛ إذ يُعدُّ الانتحار حاليًّا سببًا رئيسيًّا للوفاة بين العسكريين الأمريكيين، وبالتالي، من المرجح خلال الفترة القادمة، أن تتركز جهود الإدارة الأمريكية على معالجة مشكلات الداخل الأمريكي، وخصوصًا المتعلقة بالجيش.
ثالثا: تداعيات الجائحة على الوطن العربي
لا شك أن المنطقة العربية ستُصاب ببعض آثار الجائحة، حتى وإن لم تكن مباشرة، فالاستراتيجية العربية ستتوقف على سياسة طالبان وتوجهاتهم نحو الدول العربية، فتحظى التطورات الأخيرة في أفغانستان باهتمام دول الخليج؛ إذ قدَّمت قطر ملاذًا دبلوماسيًّا لطالبان خلال محادثات السلام مع حكومة “غني” المهزومة؛ حيث تعتبر طالبان قطر بمثابة أرض الحياد، كما اعتبرتها الحركة موقعًا محايدًا، وتنظر إليها باعتبارها ذات علاقات متوازنة مع كل الأطراف، بينما ستشعر السعودية بالقلق من التطورات التي حدثت في الفترة الماضية؛ لأنه ليس من مصلحة السعودية وصول طالبان إلى العاصمة كابل، خاصةً مع التأييد الصيني والروسي والإيراني المحتمل للجماعة بجانب، وتدخل تركيا من جانب آخر، بشكل عام، فإن ضرب مكانة الولايات المتحدة في المنطقة سيكون مقلقًا لحلفائها العرب، وهذا يشمل (مصر والأردن).
وبالتأكيد فإن الأحداث في أفغانستان ليست بمثابة حدث سعيد للدول العربية، فمن ناحية تعزز دور لاعبي المنطقة – إيران وتركيا- اللذين يستغلان الوضع بشكل يخدم مصالحهم التوسيعية في المنطقة، كما سيكون لنجاح طالبان في أفغانستان تداعيات على الزاوية الأكثر احتراقًا في الشرق الأوسط، في كل من العراق وأجزاء من سوريا؛ حيث تحتفظ الولايات المتحدة بوجود عسكري.
من ناحية أُخرى، ستستغل التنظيمات التي تعمل خارج إطار الدول في المنطقة العربية، مثل الجماعات المسلحة والمتمردين؛ إذ ستشعر بقدر كبير من الثقة وقدرتها على البقاء في المشهد السياسي لدول المنطقة، وسيتفاوت ذلك بقدر قوة الدولة الوطنية المركزية وقدرتها على السيطرة على الأوضاع داخل الدولة والحفاظ على أمْنها القومي، على سبيل المثال، قد يشجع المشهد الأفغاني على مطالب حركة الحوثيين في اليمن، لتولِّيهم السلطة – هم الآخرون- نظرًا لتشابه الجماعتين في الإرث التاريخي في الحكم، بينما هنَّأ تنظيم القاعدة في اليمن طالبان، متعهدًا بمواصلة ” القتال والجهاد”.
كما ستحسب إسرائيل تداعيات النكسة التي عانى منها حليفها الرئيسي؛ حيث لا يبدو أن عدم الاستقرار المتزايد في الشرق الأوسط سيكون لصالح إسرائيل، خاصةً مع تقويض الصورة الأمريكية، في هذه المرحلة التالية، ستنسحب أمريكا – بلا شك – من جميع التزاماتها في الشرق الأوسط، باستثناء التزاماتها الأكثر إلحاحًا، و سيكون هذا وقت التفكير في الدروس التي يمكن تعلمها من تجربة أفغانستان المؤلمة؛ حيث إن أحد الدروس التي يجب أن تكون ذات أهمية قصوى فيما يتعلق بأمريكا وحلفائها، أن خوْض حروب الدول الفاشلة من أجل عملية بناء الدولة، هو “رهان خاسر”.
رابعًا: الخاتمة والتوصيات
ما بين نظرية الخروج ونظرية الاستدعاء، تقف العلاقات الدولية حائرةً أمام صياغة ثابته للعلاقات وإدارة الأزمات، وما يمكن إجماله في أزمة أفغانستان، أن استراتيجيات الدول ستتجه نحو الآتي: على الولايات المتحدة ودول الحلفاء حلّ الأزمة الإنسانية التي خلَّفها الوضع، تُعدُّ الصين أكثر الدول حرصًا على المغامرة في أفغانستان، و من المرجح أن تتعاون الصين وروسيا لتطوير استراتيجية أمنية مشتركة؛ لمنْع أيّ تأثير غير مستدام من أفغانستان؛ حيث هناك من يعتقد أن سيطرة طالبان على أفغانستان يشكل ضغطًا على الصين وروسيا، واعتقاد أن البلدين لديهما من الفطنة السياسية اللتين ستدفعهما إلى المسارعة بتقديم يد العون لنظام طالبان، أمَّا جمهوريات الاتحاد السوفيتي، تأتي حماية حدودهم من زحْف طالبان على قائمة أولوياتهم، بينما تحرص تركيا على الاحتفاظ بوجود لها في البلاد؛ إذ يبدو أن تركيا تتوق إلى وجود عسكري في أفغانستان، كما نلاحظ أيضًا أن المستقبل القريب يحمل حالة انسجام غربي مع دول إسلامية ثلاث وهي (تركيا وأفغانستان وباكستان)، وقد يدفعنا ذلك للتساؤل، هل هذا هو النموذج الذي يفضله الغرب ويطمح في تعميمه؟، كما أن هناك وضعًا استراتيجيًّا خطيرًا آخر، وهو وجود نَهَمٍ شديد لأربع دول إقليمية للتدخل في أوضاع العالم العربي، وهي (إيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا)، ومع الوضع الحالي في أفغانستان، يزيد هذا من التحدي الأمني في منطقة الشرق الأوسط، وفي ضوء هذا الوضع المتشابك، نُقدِّم عددًا من التوصيات التي تساهم في إدارة المشهد على نحْوٍ أفضل، نبرزها في الآتي:
- على الحكومات التنسيق بشكل وثيق مع الولايات المتحدة لدعم متطلبات الأمن للمواطنين الأفغان، سواء من أرادوا مغادرة البلاد، أو تقدموا بطلب للهجرة، وهنا يُوصى بالآتي:
– تسريع إجراءات صدور التأشيرات.
– على الاتحاد الأوروبي تقديم المزيد من الدعم المالي لتلك الحكومات التي ترغب في تصعيد الترحيب بالأفغان المعرضين للتهديد.
– حظر الإعادة القسرية للمواطنين الأفغان، بمن فيهم طالبي اللجوء، والذين تم تحديدهم في السابق على أنهم ليسوا بحاجة إلى حماية دولية.
- يُوصى بالضغط على طالبان لتشكيل حكومة أفغانية دائمة، مكونة من كافة الفصائل في الداخل.
- يُوصى بضرورة دعم الفصائل السياسية في أفغانستان على أن يكونوا مكوِّنين رئيسيين للمرحلة القادمة في أفغانستان في الداخل
- يُوصى بضرورة وجود خارطة طريق، تحدد ما ستكون عليه الفترة القادمة في أفغانستان، تحدد أهداف والتزامات الأطراف فيها، على أن تكون خارطة الطريق تلك خاضعة للمراقبة، سواء من الداخل الأفغاني، أو من قبل الأمم المتحدة.
- يجب تفعيل الدور الأممي؛ لمراقبة حالة حقوق الإنسان ومدى الالتزام بحماية المدنيين والأقليات.
- على روسيا والصين مراعاة حساسية الوضع في أفغانستان عند وضع استراتيجيات التعامل مع طالبان، وذلك على النحو الذي لا يؤدي إلى تعقيد المشهد.
- على الدول العربية عند صياغة موقفها من طالبان، الأخْذ في الاعتبار تأثير هذا الموقف على وضعها مع الفاعلين من دون الدول في المنطقة، على أن يصاغ بطريقة تُحجِّم تطلعات أولئك الفاعلين.
- على الولايات المتحدة تحديد سياستيها القادمة مع الوضع في أفغانستان على أن تضمن في ذلك دعم لقوات الجيش الأفغاني.