وصل الصراع الجيوسياسى بين روسيا والغرب ذروته باندلاع الحرب الأوكرانية واستمرارها دون وجود حل يلوح فى الأفق القريب، واستتبع ذلك، سعى كل طرف لمد نفوذه إلى مناطق جديدة حتى لو كانت خاضعة لنفوذ الطرف الآخر، وهو ما ظهر بشكل واضح فى التدافع على إفريقيا بشكل عام، ثم منطقة الساحل الخاضعة تقليديًا للنفوذ الفرنسى، وهو ما حاولت روسيا تغييره، لكن بنظرة فاحصة لخريطة التفاعلات الدولية، نجد أن منطقة الساحل ليست استثناء بل مثال بجانب مناطق أخرى تشهد ذلك التنافس ومحاولة تغيير قواعد اللعبة بين القوى الكبرى.
يأتى ذلك فى وقت تراهن فيه الصين وروسيا على تورط الولايات المتحدة وحلفائها فى جبهات متعددة خارج نطاق أوكرانيا والأندوبسفيك، لما يحمل معه من أعباء -خاصة مالية- جديدة بما يؤدى إلى إستراتيجية “التمدد الإمبراطورى المفرط”، مما يجبر الولايات المتحدة على التراجع الإستراتيجى، من ناحية أخرى، فالرهان الغربى يكمن فى عزل روسيا وإبعادها عن أصدقائها التقليديين، وتقزيم استفادة الصين من التجارة الحرة من خلال إعادة تشكيل سلاسل الإمداد حول العالم، وبالتالى خلق فرص لإعادة التشكيل الجيوسياسى لصالحه.
فيما سيلى نعرض للتنافس الدولى على ثلاث مناطق مهمة:
1- القوقاز
تمتلك روسيا قاعدة عسكرية فى أرمينيا وتعتبر نفسها القوة المهيمنة فى منطقة جنوب القوقاز التى كانت حتى 1991 جزءًا من الاتحاد السوفياتي، كما تحتفظ بقوات لحفظ السلام فى المنطقة للتأكد من الالتزام بتنفيذ الاتفاق الذى أنهى الحرب بين أرمينيا وأذربيجان فى 2020، غير أن انشغال روسيا بحرب أوكرانيا وعدم إقدامها على موقف إيجابى -حسب رؤية يريفان-، جعل رئيس الوزراء الأرمينى يصف تحالفات بلاده بـ “غير مجدية” فى إشارة إلى علاقاته مع موسكو وأن الاعتماد عليها فى مسألة توفير الأمن كان خطأً إستراتيجيًا.
ففى سبتمبر الماضى، سيطرت أذريبجان على إقليم “قاره باغ” بعد هجوم دام حوالى 24 ساعة، وتم توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بين “باكو” والسلطات فى الإقليم المتنازع عليه، ولأن الولايات المتحدة دائمًا تبحث عن منافذ لها فى القوقاز لمنازعة روسيا نفوذها الإقليمى التاريخى، فقد استغلت توتر العلاقات بين أرمينيا وروسيا، وبدأت مناورات مشتركة مع أرمينيا تحت عنوان “إيغل بارتنر 2023” فى سبتمبر الماضى، وهو ما أثار غضب موسكو، والتى اعتبرتها إجراء غير ودى من حليفها التقليدى، إذ شارك 85 جنديًا أمريكيًا، و175 جنديًا أوكرانيًا، فى التدريبات، التى تهدف إلى إعداد الأرمن للمشاركة فى بعثات حفظ السلام، ورغم صغر حجم التدريبات، إلا أنها تحمل رمزية خطيرة لموسكو.
من ناحية أخرى، تسعى “يريفان” للبحث عن بديل يوفر لها الحماية “بشكل فورى”، ويبدو أنها وجدته فى فرنسا التى تقيم علاقات وثيقة مع أرمينيا، وكان قد صرح الرئيس الأرمينى بأن بلاده «بحاجة لشريك أمنى جديد من أجل تعزيز قدراتها للدفاع عن نفسها وأن فرنسا أعربت عن استعدادها لمساعدة أرمينيا»، وهنا تلوح لأحد أهداف فرنسا وهى تحقيق نصر جيوسياسى على حساب روسيا، حيث لم تعلن أى دولة أوروبية استعدادها لتزويد “يريفان” بالسلاح باستثناء فرنسا، وهو ما دفع الرئيس الأذربيجانى لاتهام فرنسا اليوم بتسليح أرمينيا وتمهيد الأرضية لحرب جديدة.
غير أنه مع اتفاق أرمينيا وأذربيجان على اتخاذ إجراءات ملموسة باتجاه تطبيع العلاقات وتبادل سجناء الحرب، بدأت منافسة جديدة بين روسيا والغرب لاستضافة ورعاية تلك المفاوضات باعتبارها طريق آخر لتأكيد النفوذ فى المنطقة، فى ظل ضبابية المشهد خاصةً مع تراكم الخلافات وأسباب التوتر بين البلدين.
2- آسيا الوسطى
مطلع نوفمبر، زار الرئيس الفرنسى كازاخستان وأوزبكستان، كأول زعيم فرنسى يزور منطقة آسيا الوسطى منذ عام 1994، وتم إبرام اتفاقيات بشأن التعاون فى مجال استخراج اليورانيوم والاستثمار الفرنسى فى الطاقة المتجددة، وأعربت فرنسا عن استعدادها لتعميق التعاون
فى مجالى التنمية والتعليم؛ وتعزيز اللغة الفرنسية، وتأتى خصوصية ذلك التحرك فى عزم فرنسا الدخول إلى الفناء الخلفى لروسيا التى أضعفت الكثير من النفوذ الفرنسى فى غرب إفريقيا.
ويبدو أن الهدف الرئيسى لزيارة ماكرون لآسيا الوسطى، هو تطوير التعاون فيما يتعلق بتعدين واستيراد اليورانيوم، بعد انخفاض الواردات من النيجر (ثانى أكبر مورد إلى السوق الفرنسية فى عام 2022)، فما يقرب من 70% من الكهرباء فى فرنسا تأتى من الطاقة النووية، وكازاخستان تزود فرنسا بالفعل بـ 40% من اليورانيوم. وفى المقابل، فإن الاتفاقيات المبرمة فى قطاعات الطاقة المتجددة والنقل فى الدولتين الآسيويتين، تعمل على تعزيز المصالح الفرنسية، وتحقيق أولويات الاتحاد الأوروبى للتعاون مع المنطقة، فى إطار مشروع “البوابة العالمية”، وهى إستراتيجية لربط الاتحاد الأوروبى بباقى أنحاء العالم، وهى موجهة لاحتواء مبادرة الحزام والطريق الصينية.
وترى كل من “أستانا وطشقند” فى تعاونهما مع الغرب فرصة لتعزيز مواقفهما الدولية والخروج من عباءة روسيا، فى حين تعمل فى الوقت نفسه على جذب الاستثمار والتحديث (فى مجال التكنولوجيا والتعليم)، كما أنهما يروجان لأنفسهما كشركاء تجاريين موثوقين وإستراتيجيين (كبدائل لروسيا) بالنسبة للاتحاد الأوروبى ودوله فى مجال المواد الخام.
وتبرز الأهمية الجيوسياسية، إذا ما علمنا أن أوزبكستان هى عضو فى منظمة شنغهاى للتعاون، وهى المجموعة التى أنشأتها الصين وتضم روسيا، وتعد كازاخستان جزءًا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهو تحالف عسكرى بقيادة موسكو.
الاهتمام الغربى بالمنطقة ليس فرنسيا فقط، فقد سبق ذلك، أن التقى وزراء خارجية كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان مع وزراء خارجية الدول الأعضاء
فى الاتحاد الأوروبى للمرة الأولى أكتوبر الماضى، والتقى الرئيس جو بايدن فى سبتمبر بقادتهم على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفى الشهر نفسه، استضافهم المستشار الألمانى فى برلين.
3- الشرق الأوسط والبحر الأحمر:
لم تكن حرب غزة وتداعياتها مجرد أعمال عنف كسابقاتها، بل اكتسبت زخم واهتمام إقليمى ودولى، نظرًا لخطورتها على القضية الفلسطينية، والاهتمام الغربى بأمن إسرائيل بشكل مطلق، وتأثير تلك الحرب على مسار التطبيع والتفاعلات الإقليمية بين العرب وإسرائيل من جهة، والعرب وإيران من جهة أخرى، وتحت مظلة أوسع، حاولت الصين وروسيا كسب مواقف دبلوماسية تحقق مصالحهما على حساب الغرب الذى انحاز بالكلية لإسرائيل وحقها فى الدفاع عن نفسها.
فقد عبر بوتين لرئيس الوزراء العراقى بقوله “إن الكثيرين سيتفقون معى على أن هذا مثال واضح على السياسة الفاشلة التى تنتهجها الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط والتى حاولت احتكار عملية التسوية”، كما استقبلت الخارجية الروسية وفدًا من حماس 26 أكتوبر وهو ما أثار سخط إسرائيل، كذلك رحل بوتين إلى دولة الإمارات قبل أن يتوقف فى السعودية لإجراء محادثات شملت حرب غزة، ثم استضاف الرئيس الإيرانى فى موسكو فى مسعى لتأكيد دور روسيا فى الشرق الأوسط. واقترح أن تلعب موسكو دور الوسيط، بفضل علاقاتها الودية مع كل من إسرائيل والفلسطينيين، معتبرًا أنه “لا يمكن لأحد أن يشك فى أننا نلعب لصالح طرف واحد”.
من ناحية أخرى، السعودية والإمارات العربية المتحدة حليفتان مهمتان لروسيا، وتم تدعيم هذه العلاقات حين استفادت موسكو من ارتفاع أسعار النفط بفضل اتفاق أوبك+ الذى أبرمته مع الرياض، كذلك العلاقات الوثيقة مع الإمارات وفرت مخرج من العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، ويصور بوتين تلك العلاقات باعتبارها مؤشر على عدم قدرة الغرب على عزل روسيا، وأن بوتين يربح رهانه فى توريط الغرب فى معركة طويلة تؤدى لإرهاقه.
بالنسبة للصين، دعت إلى عقد مؤتمر دولى للسلام “موسع وأكثر فاعلية” تحت رعاية الأمم المتحدة، واعتبرت أن الركود طويل الأمد فى عملية السلام غير قابل للاستمرار، ورفضت إدانة هجوم حماس واعتبرت أن حق الدفاع عن النفس مكفول للطرفين، كما رفضت مشروع القرار الأمريكى فى مجلس الأمن، حيث حمل الوقف الصينى بصورة مبطنة، انتقادًا للموقف الأمريكى؛ فقد دعت الصين الولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص، للعب دور “بناء ومسؤول” فيما يخص حرب غزة.
وفى مسألة جديدة أمام أعين المراقبين، أرسلت الصين 6 سفن حربية إلى الشرق الأوسط، والتى أجرت تدريبات مشتركة مع البحرية العمانية فى 11 أكتوبر، ثم غادرت المياه العمانية إلى الكويت فى 18 أكتوبر.
وفيما علق المتحدث باسم السفارة الصينية فى واشنطن، ليو بينغيو، على أنباء نشر سفن حربية صينية فى الشرق الأوسط، داعيًا إلى وضع حد للضجة حول ذلك الأمر، يرى مراقبون أنه تحول إستراتيجى يهدف إلى تحدى هيمنة البحرية الأمريكية فى عمليات الأمن البحرى الدولية وهو مجال يقع تقليديًا ضمن اختصاص الولايات المتحدة وحلفائها الرئيسيين.
أما الولايات المتحدة، فبعثت بإشارات أنها طرف الدولى الأهم فى الشرق الأوسط، وأنها تدافع عن مصالحها رغم الحرب الأوكرانية والتوترات مع الصين، فتردد المسؤولون الأمريكيون وعلى رأسهم “بايدن” على إسرائيل مع تأكيد الدعم المطلق، كما نُشرت حاملتى الطائرات “جيرالد فورد” أحدث حاملة طائرات فى الأسطول الأمريكى، و”دوايت دى أيزنهاور”، وهى إحدى الحالات النادرة فى تاريخ الصراع الدولى بعد الحرب العالمية الثانية حيث يتم نشر مجموعتين من حاملات الطائرات فى نفس المنطقة.
وكشفت صور الأقمار الصناعية أيضًا عن نشاط مكثف لطائرات الاستطلاع والإنذار المبكر الأمريكية فى شرق المتوسط، وأكدت إدارة “بايدن” التزامها بإرسال مزيد من الأسلحة والقوات الأمريكية إلى الشرق الأوسط، ويظل تقييم تأثيرات تعزيز الدور الأمنى للولايات المتحدة
فى المنطقة غير واضح فقد يحمل مزيدًا من التوتر مع إيران ووكلائها.
البحر الأحمر
هاجم الحوثيون فى اليمن سفنًا فى الممرات الملاحية بالبحر الأحمر لإظهار الدعم لحماس، لذا أعلنت بعض شركات النقل البحرى الكبرى تحويل سفنها وناقلاتها بعيدًا من باب المندب، متفادية المرور فى البحر الأحمر، ويعنى ذلك إبحار تلك السفن عبر طريق رأس الرجاء الصالح، مما يعنى طول المدة وزيادة الكلفة، بالتالى ارتباك فى سلاسل الإمداد العالمية، وارتفاع كلفة شحن البضائع عبر البحر الأحمر.
وقال المبعوث الأمريكى إلى اليمن “تيم ليندر كينغ” إن الولايات المتحدة تريد تشكيل تحالف بحرى لحماية السفن فى البحر الأحمر وإرسال “إشارة مهمة” إلى الحوثيين، كما بدأ “تيم ليندر كينغ” جولة إلى الخليج لحثهم على لعب دور لإثناء الحوثيين عن هجماتهم، كذلك تحدثت صحف إسرائيلية عن أن حكومة نتنياهو والولايات المتحدة تدرسان تشكيل قوة عمليات خاصة فى البحر الأحمر، ردًا على الهجمات الحوثية، ومن المفهوم أن تشكيل قوة كهذه سيحمل معه أبعاد أخرى تخص الطموح الروسى والصينى فى البحر الأحمر.