المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشؤون الدولية > جسُّ النَّبْض بين واشنطن وموسكو: قراءةٌ في قمة ألاسكا
جسُّ النَّبْض بين واشنطن وموسكو: قراءةٌ في قمة ألاسكا
- أغسطس 16, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية
لا توجد تعليقات

إعداد: أكرم السيد
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
تُعَدُّ القمةُ التي جمعت بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين واحدةً من أبرز المحطات في مسار العلاقات بين الدولتين، خلال السنوات الأخيرة، لا سيما أنها جاءت بعد فترةٍ طويلةٍ من القطيعة والتوتُّر بينهما، وهذه القطيعة لم تأتِ على شاكلة فتور دبلوماسي عابر، بل ارتبطت بسياق دولي مُعقَّد، وذلك على خلفية الحرب “الروسية – الأوكرانية”، وما نتج عنها من تصاعُد غير مسبوق في العقوبات الغربية على موسكو وإعادة اصطفاف واسع.
ومن ثم، فإن انعقاد القمة في هذا التوقيت مثَّلَ حدثًا نوعيًّا يعكس إدراك الطرفين، أن استمرار الصدام دون أفق للحوار يهدد بتعميق الاستنزاف السياسي والاقتصادي، وربما توسيع نطاق المواجهة.
وعلى صعيد آخر، تضاعفت رمزية القمة باختيار ولاية ألاسكا كمكان لانعقادها؛ حيث تمثل تقاطعًا تاريخيًّا بين النفوذ الروسي والأمريكي، كما ارتبطت أيضًا بصفقة شراء ألاسكا من روسيا في القرن التاسع عشر، وبكونها أقرب نقطة تماس بين البلدين من الناحية الجغرافية، وهذا الاختيار أضفى على اللقاء دلالات توحي بأن الهدف يتجاوز مجرد مناقشة آنية للأزمة الأوكرانية، ليحمل في طيَّاته رسالة رمزية على إمكانية إبرام صفقة أخرى تُنهي الحرب الممتدة منذ فبراير 2022.
علاوةً على ذلك، شكَّلَتْ هذه القمة أول زيارة لبوتين إلى الأراضي الأمريكية منذ ما يقرب من عشر سنوات، وتحديدًا منذ مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك عام 2015 ولقائه بالرئيس الأسبق باراك أوباما آنذاك.
ومن ثم، فإن عودة بوتين إلى الولايات المتحدة بعد عقْدٍ كاملٍ، وفي ظل هذه الظروف الدولية المتوترة تُضفي على القمة بُعْدًا استثنائيًّا، يجعلها لحظةً مفصليةً في العلاقات بين البلدين وفي القلب من ذلك مسألة حسْم الملف الأوكراني:-
أولًا: مخرجات القمة
كان من المثير للانتباه أن القمة لم تُختتم ببيانٍ رسميٍّ مشتركٍ كما جرت العادة في مِثْل هذه اللقاءات، وهو ما نتج عنه الافتقاد إلى وثيقة واضحة، يمكن من خلالها قراءة ما تم الاتفاق عليه بالتفصيل.
وبدلًا من ذلك، اكتفى الجانبان بمؤتمر صحفي مشترك، حمل رسائل عامة أكثر من كونه إعلانًا عن تفاهمات دقيقة.
ومع ذلك، يمكن من خلال تصريحات الرئيسين استخلاص ملامح الصورة الأولية لما خرجت به القمة:-
الجانب الروسي
حاول الرئيس فلاديمير بوتين تأكيد البُعْد التاريخي للعلاقة مع واشنطن، مُذكِّرًا بدور التعاون بين البلدين في الحرب العالمية الثانية كإرثٍ مشتركٍ يمكن البناء عليه لإيجاد أرضية جديدة للحوار. كما لفت إلى أن هذه هي القمة الأولى بين البلدين منذ أربع سنوات، وهو ما يعكس في حدِّ ذاته كسْرًا لحالة القطيعة التي سيطرت على العلاقات خلال السنوات الماضية.
وفي سياق إبراز الجانب الإيجابي، وصف بوتين اللقاء، بأنه انتقالٌ من المواجهة إلى المناقشة والحوار، مُؤكِّدًا أن روسيا تقدر موقف الولايات المتحدة كطرفٍ راغبٍ في إنهاء الحرب.
بل ذهب بوتين إلى أبعد من ذلك، بالإشارة إلى أن وجود ترامب في السلطة – منذ البداية – كان سيحول دون اندلاع الحرب أصلًا، في تلميحٍ صريحٍ إلى تحميل الإدارة الأمريكية السابقة مسؤولية تفاقم الأزمة، وهو ما يتماشى مع ما يقوله ترامب، كما لم يغفل بوتين الحديث عن ضرورة التعاون مع الولايات المتحدة في مختلف المجالات، لا سيما المجال الاقتصادي بين كمدخلٍ لإعادة بناء الثقة
الجانب الأمريكي
ركَّزَ الرئيس دونالد ترامب على تصوير الاجتماع، باعتباره ناجحًا، مؤكدًا أنه تمَّ التوافق حول “الكثير من القضايا”، وإن كان قد اعترف بوجود ملفات ما زالت عالقة لكنها – بحسب تعبيره – في طريقها إلى الحلِّ. كذلك لم يغلق ترامب الباب أمام الحلفاء؛ إذ شدَّدَ على أن مخرجات القمة ستكون محلَّ نقاش مع الناتو وأوروبا وأوكرانيا، في إشارة إلى أن واشنطن لا تتحرك منفردة رغم الطابع الثنائي للقاء. والأهم أنه أكَّدَ بوضوح أن هناك رغبة مشتركة بين الجانبيْن في إنهاء الحرب.
وبتحليل مُجْمَل ما قِيلَ في المؤتمر الصحفي، يمكن القول: إن المخرجات لم تتجاوز حدود العبارات الدبلوماسية الفضفاضة، كالإشادة بالتعاون التاريخي، والحديث عن تحقيق نجاح كبير في القمة، والتلميحات بالرغبة في إنهاء الحرب مع وعود بمواصلة الحوار. لكنها لم تتضمن أي خطة ملموسة أو خطوات عملية تترجم هذه الرغبات إلى سياسات فِعْلِيَّة.
ومن ثم، فإن هذا الغياب للوضوح يعزز الانطباع بأن القمة كانت أقرب إلى كسْر الجمود وفتْح قنوات اتصال، أكثر من كونها محطة حاسمة ترسم ملامح حلٍّ نهائيٍّ للأزمة.
ثانيًا: دلالات القمة
مثَّلَتْ القمة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين حدثًا يتجاوز كونه لقاءً ثنائيًّا عابرًا؛ حيث احتوت على جُمْلة من الرسائل السياسية والدبلوماسية التي تسعى كُلٌّ من واشنطن وموسكو إلى توجيهها للعالم. وتظهر هذه الدلالات بوضوح إذا ما وضعناها في سياق الظروف المحيطة بالحرب، ويمكن تناولها في السياق الآتي:-
محاولة ترامب إثبات قدرته على إنهاء الحرب
روَّجَ ترامب لنفسه – في سياق حملته الانتخابية- باعتباره الرئيس القادر على إنهاء الحرب في غضون 24 ساعة فقط، وهو شعار رفعه مرارًا في خطاباته.
وهذه القمة تأتي في إطار سعيه الحثيث لإثبات هذا الوعد أمام الرأي العام الأمريكي والدولي، خاصَّةً أن استمرار الحرب بلا حلول ملموسة يُعرِّضُه لانتقادات داخلية قد تؤثر على صورته السياسية أمام من مناصريه. وعلاوةً على ذلك، فإن ترامب لا يُخفي رغبته في تسويق أي إنجاز محتمل كخطوة تعزز أحقيته بجائزة نوبل للسلام، وهو ما يجعل من القمة منصةً لإظهار جديته – أو على الأقل رغبته – في لعب دور “صانع السلام”.
كسْر عُزءلة روسيا الدولية
عانت روسيا من عُزْلة شديدة منذ اندلاع الحرب، وواجهت عقوبات غربية واسعة النطاق، إلا أنه من خلال هذه القمة تجد موسكو نفسها في لحظة فارقة؛ حيث تجلَّى ذلك في استقبال بوتين على الأراضي الأمريكية في أجواء رسمية تتضمن بروتوكولات عسكرية مهيبة.
كل ذلك يحمل رسالة بأن موسكو لا تزال لاعبًا أساسيًّا لا يمكن تجاوزه.
والجدير بالذكر، أن هذا الاستقبال جاء رغم صدور مذكرة توقيف دولية بحق بوتين من المحكمة الجنائية الدولية،وهو ما يبرز تناقضًا بين الخطاب الغربي الذي يسعى لعزْله، وبين الواقع السياسي الذي يفرض ضرورة الحوار معه.
الإفلات من العقوبات والضغط الأمريكي
لوَّحَ ترامب في الأسابيع الأخيرة بفرْض عقوبات إضافية على روسيا في حال لم تُظهر خطوات جدية نحو إنهاء الحرب، لكن بمجرد انعقاد القمة بهذا الشكل، وبما حملته من أجواء دبلوماسية، فإن ذلك يشير إلى نجاح موسكو في تخفيف حِدَّة الموقف الأمريكي وكسْب مزيدٍ من الوقت؛ حيث إنه بدلًا من أن يتمَّ محاصرتها بعقوبات جديدة، حصلت روسيا على فرصةٍ جديدةٍ لتسويق نفسها كشريكٍ يمكن التفاهم معه.
وبالتالي؛ أفشلت جزئيًّا التوجُّه التصعيدي الذي كان ترامب يتبناه.
ومن ثم؛ فإن هذه النتيجة تمثل مكسبًا استراتيجيًّا للكرملين؛ إذ تعني تقليص الضغوط المباشرة وفتح نافذة لمناورة أوسع.
إقصاء الأوروبيين والأوكرانيين عن طاولة التفاوض
كان من اللافت للنظر في هذه القمة هو غياب الحضور الأوروبي والأوكراني، وهذا الغياب يوضح حجم التبعية الغربية للقرار الأمريكي، ويؤكد بما لا يدع مجالًا للشَّكِّ أن واشنطن الطرف الأكثر تأثيرًا في صياغة أي معادلة سياسية تخص الحرب؛ حيث إنه في الوقت الذي يتابع فيه الأوروبيون والأوكرانيون من بعيد، تجلس الولايات المتحدة مع روسيا لترسم الخطوط العريضة لمسار الحرب.
حضور البعد الاقتصادي
لم يغب البُعْد الاقتصادي عن أجواء القمة، بل بدا حاضرًا بشكلٍ واضحٍ، من خلال طبيعة الوفد الروسي المشارك، والذي ضمَّ شخصيات ذات خلفية اقتصادية، وهو الأمر الذي يشير بأن العامل الاقتصادي يمكن أن يُشكِّلَ مدخلًا رئيسيًّا لأيِّ تسوية سياسية مقبلة؛ حيث إن المفاوضات حول ملفات الطاقة، وإمكانية عقْد صفقات اقتصادية أو تجارية بين الولايات المتحدة وروسيا، قد تصبح الورقة الحاسمة في إعادة بناء الثقة بين الطرفين، وربما تُستخدم كحافزٍ لتليين المواقف الصلبة المتعلقة بالحرب.
ومن هذا المنظور، يمكن النظر إلى الحضور الاقتصادي ليس كعامل ثانوي، بل كأداة ضغط ومساومة وتسوية، سواء من جانب موسكو التي تبحث عن فك عزلتها الاقتصادية، أو من جانب واشنطن التي ترى في الاقتصاد وسيلة لإخضاع روسيا لشروط التسوية النهائية.
ثالثًا: انعكاسات القمة على مسألة وقف إطلاق النار
تُعَدُّ مسألة وقْف إطلاق النار القضية الأهم التي تدور حولها التوقُّعات من أيِّ قمة تجمع بين واشنطن وموسكو؛ حيث تعتبر بمثابة النقطة المركزية التي يترقبها المجتمع الدولي بوصفها المدخل الطبيعي لأيِّ تسوية سياسية لاحقة، إلا أن ما ظهر من القمة الأخيرة يُوحي بأن ملف الهُدْنة لم يتحرك بالزَّخَم المطلوب؛ إذ بدا أن القمة خدمت بدرجة أكبر في دفْع العلاقات “الروسية – الأمريكية” إلى مسار “التطبيع” أكثر من كونها محطة جادَّة لوضع ترتيبات عملية لوقف إطلاق النار. وبالنظر إلى التصريحات التي خرجت من الجانبين، فقد اكتفت بالتعبير عن رغبةٍ عامَّةٍ في إنهاء الحرب، لكنها لم تحمل أيَّ ملامح واضحة للعروض أو المقترحات الأمريكية التي يمكن أن تُشكِّلَ أساسًا لوقف إطلاق النار.
وعلاوةً على ذلك، تكمن معضلة أساسية، مفادها؛ أنه حتى الآن لا يبدو أن أيًّا من الأطراف الرئيسية مُستعدٌّ للتراجع بطريقة تُظهره كطرفٍ مهزومٍ، وهو ما يزيد من التعقيدات، ويمكن الإشارة إلى ذلك في السياق الآتي:-
بالنسبة لروسيا
تتقدم موسكو ميدانيًّا في عددٍ من الجبهات، وهو ما يمنحها شعورًا نسبيًّا بالانتصار.
ومع ذلك، فإن فكرة أن تنسحب روسيا من الحرب بعد أكثر من ثلاث سنوات من القتال من دون تحقيق مكاسب ملموسة أو التنازل عما تمَّ تحقيقه يبقى أمرًا مستبعدًا سياسيًّا، بل قد يمثل ذلك تهديدًا مباشرًا لاستقرار النظام في الداخل؛ حيث سيكون من الصعب على الكرملين تبرير حجم الخسائر البشرية والاقتصادية بلا مقابل سياسي أو جغرافي.
وعليه؛ فإن أيَّ وقْف لإطلاق النار ستسعى موسكو لربطه بتثبيت مكاسبها أو ضمان اعتراف غربيٍّ ضِمْنِيٍّ بما حققته على الأرض.
بالنسبة لأوكرانيا وأوروبا