استكمالاً لمخطط إعادة التموضع الفرنسي داخل القارة، توجه الرئيس الفرنسي “ايمانويل ماكرون” إلى القرن الأفريقي في جولة اشتملت على جيبوتي وإثيوبيا في إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين فرنسا والدول الإفريقية، وإعادة صياغة العلاقات الفرنسية الإفريقية على أسس جديدة تتجاوز إرث الاستعمار، وتستجيب لتطلعات الشعوب الإفريقية نحو التنمية، كما أنها تبحث عن شركاء جدد في المنطقة، خاصةً مع تراجع نفوذها بشكل كبير بالقارة، وظهر ذلك في انسحاب القوات الفرنسية من عدد من الدول الأفريقية، فضلاً عن سعي باريس نحو ترسيخ وجودها بالمنطقة عن طريق الاستثمارات والتنمية بعد أن كانت تعتمد بشكل أساسي على التواجد العسكري، وفرض نفوذها بإرسال قواتها العسكرية للدول الأفريقية.
جولة ماكرون
بدأ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون جولته في القرن الأفريقي، والتي شملت دولتي جيبوتي وإثيوبيا ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٤، وتعتبر هذه أول زيارة للمنطقة منذ زيارته الأخيرة في ٢٠١٩، وجاءت هذه الجولة في إطار تراجع النفوذ الفرنسي، خاصةً بعد إخفاقها في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، إضافةً إلى خسارة نفوذها في تشاد والسنغال، وقرر ماكرون الاحتفال بعيد الميلاد المجيد مع جنوده المتمركزين بالقاعدة العسكرية في جيبوتي، وأجرى لقاء مع الرئيس الجيبوتي “إسماعيل عمر غيله”؛ لمناقشة الأوضاع في المنطقة وخاصة بالصومال التي تشهد عدة نزاعات وهجمات تشنها حركة الشباب الإسلامية المتطرفة، كما أكد على أهمية الوجود العسكري الفرنسي في جيبوتي؛ سعيا منه لتطوير استراتيجيته في منطقتي المحيط الهندي والهادئ، وقال “هذا الوجود في جيبوتي موجّه أيضًا نحو منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ، واستراتيجيتنا الجديدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ التي تم تعزيزها منذ ربيع عام 2018 لا يمكن تنفيذها من دون القوات الفرنسية في جيبوتي”.[1]
ومن ثم انطلق ماكرون في اليوم التالي من زيارته لجيبوتي إلي إثيوبيا، واجتمع مع رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد”؛ لمناقشة الأوضاع الإقليمية المشتعلة، وتعهد الرئيس الفرنسي بتقديم الدعم ل “أجندة الإصلاح والطموح” التي أطلقتها إثيوبيا لتحرير اقتصادها، بواسطة الوكالة الفرنسية للتنمية من خلال المساهمة بمبلغ يقدر ب ١٠٠ مليون يورو، إضافة إلى منحها قرضًا استثنائيًا يقدر ب ٨٠ مليون يورو؛ لدعم شبكات الكهرباء بإثيوبيا بمساعدة الشركات الفرنسية.[2]
أهداف الزيارة
حملت زيارة ماكرون العديد من الأهداف سواء معلنة أو مخفية؛ فالمصرح به أن الرئيس الفرنسي ماكرون زار هذه المنطقة على وجه التحديد بدءًا من جيبوتي؛ والتي قام بزيارتها من أجل الاحتفال بعيد الميلاد مع الجنود الفرنسيين المتمركزين بها، وانتهت بإثيوبيا التي جاءها بهدف مناقشة الأوضاع الإقليمية المضطربة، ولكن في حقيقة الأمر التراجع الكبير للتواجد الفرنسي بالقارة الأفريقية، واخفاقها الملحوظ في منطقة الساحل، إضافةً إلي انسحاب القوات الفرنسية العسكرية من معظم الدول الأفريقية، من أهم الأسباب الرئيسية لتلك الجولة، فقررت باريس إتباع استراتيجية أخري بالقارة لها أبعاد تنموية واقتصادية تختلف عن الاستراتيجية العسكرية التي كانت تتبعها منذ انتهاء حقبة الاستعمار الفرنسي، حيث وجدت فرنسا أن الاستثمار في دول أفريقيا، ودعم جهود التنمية بها هو السبيل لضمان تواجدها بشكل فعال داخل القارة، خاصةً مع اشتداد صراعات القوى الكبرى على مناطق النفوذ والهيمنة بالإقليم، كما أنها تبحث عن شركاء جدد وحلفاء لها بالمنطقة؛ لدعم نفوذها وتعميق تواجدها بشكل أكبر.[3]
دلالات الزيارة
ترجع أهمية هذه الجولة إلي أنها الزيارة الأولي للمنطقة منذ ٢٠١٩، واستهدفت باريس هاتين الدولتين؛ لرغبتها في نسج شراكات أفريقية جديدة بعيدة عن مناطق النفوذ الفرنسية التقليدية، إضافةً إلى أنهما تقعان في القرن الأفريقي، الذي يعتبر منطقة حيوية تخدم المصالح الفرنسية، وتتسم العلاقات الفرنسية الجيبوتية بالاستقرار والترابط القوي من الناحية الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، حيث تعد فرنسا من أكبر الشركاء الدوليين لجيبوتي، كما أن الثانية تحتفظ بقاعدة عسكرية فرنسية تعتبر هي الأكبر في القارة في الوقت الراهن، حيث أنها تحوي حوالي ١٥٠٠ جندي، فضلًا عن الدعم الاقتصادي الفرنسي؛ لدعم البنية التحتية للتعليم والصحة والتكنولوجيا والطرق، إضافةً إلى المساهمات الفرنسية في المشاريع التنموية لجيبوتي، وفي هذا السياق تسعي باريس الحفاظ على دورها المؤثر في جيبوتي، كونها حليف استراتيجي لها بالقرن الأفريقي.[4]
أما عن العلاقات الفرنسية الإثيوبية لها طابع مميز، حيث أن أديس أبابا لم تكن مستعمرة فرنسية قط؛ لذلك تختلف طبيعة علاقتها مع باريس عن بقية المستعمرات الأفريقية الأخرى، خاصةً وأن إثيوبيا تعتبر دولة محورية في إطار التوازنات الجيوسياسية في منطقة القرن الأفريقي، كما أنها تعد شريكًا استراتيجيًا رئيسيًا لفرنسا بالقارة، إذ أنها من ناحية هي مقر الاتحاد الأفريقي، ومن ناحية أخرى تعد موقع جيوسياسي حساس بسبب قربه من ممرات التجارة الدولية مثل البحر الأحمر وخليج عدن، مما يجعل عملية تأمين ممرات التجارة البحرية أكثر سهولة، ويرجع الفضل في ذلك إلى القاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تعزيز النفوذ الإقليمي لباريس في المنطقة، فضلا عن الدعم الفرنسي لمشاريع تطوير البنية التحتية والطاقة المتجددة في إثيوبيا، مثل تحديث نظام السكك الحديدية الذي يربط أديس أبابا وجيبوتي، وما له من أهمية استراتيجية للتجارة الإقليمية، ويظهر في ذلك الشكل الآخر للتواجد الفرنسي بالقارة، الذي لا يعتمد على الهيمنة العسكرية أو الحقبة الاستعمارية السابقة.[5]
ملامح تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا
تراجع الوجود الفرنسي بالقارة الأفريقية بشكل ملحوظ، وخصوصًا عقب اخفاقها في مناطق نفوذها التقليدي في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، كما أن سلسلة الانقلابات التي شهدتها مالي والنيجر وبوركينا فاسو، أدت إلى انسحاب القواعد العسكرية الفرنسية بهم، كما أنهت التواجد العسكري لباريس في المنطقة، وهو ما جعل تواجدها غير مرغوب به على المستوى الإقليمي، هذا الفراغ الذي تركته فرنسا خلفها بدأت تشغله قوى دولية أخرى، وشرعت تلك القوى في استقطاب الدول الواقعة في مناطق حيوية بالإقليم لتعزيز نفوذها، كما نادي “باسيرو ديوماي فاي” رئيس السنغال بضرورة جلاء القوات الفرنسية عن بلاده، حيث أنه رأى أن وجود تلك القواعد العسكرية تتنافى مع مبدأ السيادة الوطنية، أما عن تشاد فقد أعلنت عن تعليق اتفاقيات التعاون الدفاعي والأمني مع فرنسا، وطالبت القوات الفرنسية بالانسحاب الكامل من الأراضي التشادية بحلول آخر يناير 2025، وجاءت هذه الزيارة كمحاولة لتحسين صورة فرنسا، وإعادة تموضعها بالقارة باستخدام أدوات القوة الناعمة، فضلًا عن تقييد جموح القوى الدولية المتصارعة على مناطق النفوذ الأفريقية.[6]
أهمية منطقة القرن الأفريقي في السياسة الفرنسية
تعتبر منطقة القرن الأفريقي ذات أهمية استراتيجية للسياسة الفرنسية بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو بوابة رئيسية لتدفق التجارة والطاقة العالمية، خاصةً النفط الذي يمر عبر قناة السويس، مما يجعلها محورًا حيويًا للتجارة الدولية والطاقة، وترجع أهمية هذه المنطقة إلى مجموعة من العوامل السياسية والجيوسياسية التي تؤثر على المصالح الفرنسية، إذ أنها تساهم في حماية خطوط الملاحة الدولية، وخاصة مضيق باب المندب الذي يُعد ممرًا استراتيجيًا لنقل النفط والتجارة بين أوروبا وآسيا، وتهدف فرنسا إلى تعزيز وجودها العسكري والدبلوماسي بالمنطقة لضمان حرية الملاحة وحماية مصالحها الاستراتيجية، كما أن تلك المنطقة تشهد تنافسًا دوليًا محتدمًا بين كلا من الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يدفع فرنسا لتعزيز نفوذها وفرض وجودها في الإقليم، كما أن منطقة القرن الأفريقي تعد محورًا أساسيًا في تجارة الطاقة، وتُعتبر من الأسواق الناشئة المهمة للاستثمارات الفرنسية، خصوصًا في مجالات البنية التحتية والنقل إلي جانب الطاقة.[7]
ختامًا:
تعبر هذه الجولة عن تأكيد التزام فرنسا بتعزيز شراكاتها الإستراتيجية مع دول منطقة القرن الأفريقي، وفق إستراتيجية جديدة ومختلفة ترتكز على الاحترام المتبادل ودعم الاستقلالية الوطنية، ومن خلال التركيز على التعاون الأمني، والتنمية الاقتصادية، وإعادة هيكلة الديون، أظهرت الزيارة رؤية فرنسا لتعزيز الاستقرار الإقليمي ومواجهة التحديات المشتركة، غير أن هذه الزيارة تُعد أيضًا جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة صياغة النفوذ الفرنسي في إفريقيا، في ظل تصاعد المنافسة الدولية، ونجاح هذه الجهود يعتمد على قدرة باريس على تقديم حلول عملية ومستدامة، تتماشى مع تطلعات شعوب المنطقة في التعاون والتنمية، بما يعزز مكانتها كشريك استراتيجي موثوق وقوة دافعة للتنمية والاستقرار في القارة السمراء.
المصادر:
[1] جولة إفريقية لماكرون تشمل جيبوتي وإثيوبيا، القاهرة الإخبارية، ١٨ ديسمبر ٢٠٢٤، https://t.ly/_UQuX .
ماكرون في زيارة إلى جيبوتي وإثيوبيا للقاء الجنود الفرنسيين ومناقشة الأوضاع الإقليمية، فرانس ٢٤، ١٨ ديسمبر ٢٠٢٤، https://t.ly/crn5m .
[2] د. أحمد عسكر، تحولات استراتيجية في التوجه الفرنسي نحو القرن الأفريقي، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٤، https://acpss.ahram.org.eg/News/21324.aspx .
ماكرون: جيبوتي مهمة لاستراتيجية فرنسا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الشرق الأوسط، ٢١ ديسمبر ٢٠٢٤، https://t.ly/EYZk2.
ماكرون يعدّ مطالبة إثيوبيا بالوصول إلى البحر «طلباً مشروعاً»، الشرق الأوسط، ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٤، https://shorturl.at/53LsL .
حسن مصدق، أهمية القرن الأفريقي في حماية الأمن العربي، العربية، ٥ يناير ٢٠٢٤، https://shorturl.at/nTop1 .
أحمد عسكر، أبعاد التحول في السياسة الفرنسية تجاه منطقة الساحل والصحراء (٢٠١٣-٢٠٢١)، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ٦ ديسمبر ٢٠٢١، https://acpss.ahram.org.eg/News/17341.aspx .
