المقالات
حاجةُ تركيا للطائراتِ المقاتلة: استراتيجية ثلاثية الأبعاد للتحديث الجوي
- أغسطس 31, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط

إعداد: هنا داود
باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية
تواجهُ القواتُ الجويةُ التركيةُ في عام 2025 فجوةً حاسمةً في قدراتها التشغيلية، ناجمةً عن تَقادمِ أسطولها من الطائرات المقاتلة الأساسية واستبعادها من برنامج F-35 المشترك. في مواجهة هذا الوضع، اعتمدت أنقرة استراتيجية متعددة المحاور، تجمع بين الاستجابة الفورية والطموح طويل المدى، من خلال اقتناء طائرات F-16 Block 70، والسعي للحصول على مقاتلات Eurofighter Typhoon، بالإضافة إلى تطوير مشروعها الوطني الطموح KAAN.
رغم أن هذه الاستراتيجية تبدو قويةً، إلا أنها تواجهُ تحدياتٍ ملموسةً، تشملُ تأخيراتٍ كبيرةً في التسليم، وتعتمدُ بشكلٍ جزئيٍ على العوامل السياسية الدولية، بالإضافة إلى نقاط ضعف داخلية حرجة، أهمها النقص الكبير في أعداد الطيارين المؤهلين، تشير المعطيات إلى أن هذا النهج لا يعكسُ خطةً مدروسةً بعيدة المدى، بقدر ما يشكّل استجابةً عاجلةً لمأزق استراتيجي سابق.
يخلص التحليل إلى أن مستقبل القوة الجوية التركية يبقى غير مؤكد إلى حد كبير، فبالرغم من التقدم الملحوظ في تطوير الصناعات الدفاعية المحلية، فإن قدرةَ البلاد على تعزيز تفوقها الجوي تعتمد بالدرجة الأولى على التعامل مع التحديات المؤسسية والبشرية العميقة، إضافةً إلى التأثيرات الخارجية المحتملة على جدولها الزمني وبرامج التسليح.
الضرورة الاستراتيجية: الحاجة الماسة لتحديث الأسطول
لم يعدْ تحديثُ سلاح الجو التركي في عام 2025 مسألةً تقنيةً روتينيةً تتعلق بالصيانة الدورية، بل أصبح يمثّل خياراً استراتيجياً مصيرياً، فهي في حاجةٍ لامتلاك قوةٍ جوية حديثة قادرةٍ على فرض الردع وإبراز النفوذ العسكري بالأخص مع تسارع خطط التحديث لدى القوى الإقليمية المنافسة، وعلى رأسها اليونان وإسرائيل، اللتين تستثمران في طائرات متقدمة مثل F-35 ورافال، وهو ما يؤدي إلى توسيع الفجوة التكنولوجية مقارنة بقدرات أنقرة الجوية.
يمكن إرجاع جذور هذه الإشكالية إلى قرار تركيا عام 2017 باقتناء منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، وهو ما ترتب عليه إقصاؤها من برنامج المقاتلة الشبحية F-35 عام 2019، وقد انعكسَ هذا القرارُ بتبِعاتٍ ماليةٍ واستراتيجيةٍ ضخمةٍ؛ إذ خسرت أنقرة ما يقارب 100 طائرة F-35 كانت ضمن خططها المستقبلية (منها أربع تم سداد ثمنها مسبقاً)، إضافة إلى مليارات الدولارات المستثمرة في القطاع الدفاعي، فضلاً عن عقود صناعية محلية كانت تدر نحو 700 مليون دولار سنوياً، والمفارقة أن منظومة S-400 ذاتها لم تدخلْ الخدمةَ الفعلية حتى اليوم، حيث بقيت في حالة تخزين أو استُخدمت على نطاق محدود في اختبارات تقنية، لتتحول إلى رمز سياسي أكثر منها قدرة عسكرية عملية.[1]
وفي محاولةٍ لمعالجة هذا الخلل، تبنّت أنقرة ما تسميه باستراتيجيةٍ “ثلاثية المسارات”، التي ترتكز على التوجه نحو التعاون الأمريكي، والشراكات الأوروبية، إلى جانب المسار المحلي عبر تطوير برامج وطنيةٍ للطائرات المقاتلة، وعلى الرغم من تقديم هذه المقاربة بوصفها خطوةٌ استباقيةٌ نحو تعزيز الاكتفاء الذاتي الدفاعي، إلا أن القراءةَ التحليليةَ تشير إلى أنها أقربُ إلى تحركٍ اضطراريٍ متعدد الأبعاد هدفه سدُّ الفجوة التي أفرزها قرار شراء S-400، فالسير في ثلاثة مسارات متوازية لا يعكس بالضرورة قوة في التنويع، بل يكشف عن حالة استعجال وضغط استراتيجي لمعالجة ثغرة أمن قومي باتت تمثّل مغامرةً عاليةَ المخاطر على الصعيد الجيوسياسي.[2]
برنامج F-16: حل مرحلي قصير الأجل
يُعد برنامج F-16 الركيزة الأساسية الأولى في مقاربة أنقرة لمعالجة النقص في قدراتها الجوية على المدى القريب، وبعد مفاوضاتٍ مطوّلةٍ استمرت لسنوات، أقرّ الكونغرس الأمريكي مطلع عام 2024 صفقة الطائرات المخصصة لتركيا، لتُمنحَ الموافقة التشريعية النهائية على البيع، وتتضمن الحزمة المعدلة شراء40 مقاتلة F-16 Block 70 بتكلفةٍ إجماليةٍ تقارب7 مليارات دولار، دفعت أنقرة منها بالفعل نحو 1.4 مليار دولار كدفعة أولية.
ورغم ذلك، يظل التنفيذ عملياً بعيدَ المدى بسبب ضغوط الإنتاج على الشركة المصنّعة لوكهيد مارتن Lockheed Martin، التي لا تُنتجُ سوى أربع طائراتٍ من هذا الطراز شهرياً، وتشير التقديرات إلى أن تسليمَ أولى المقاتلات قد لا يتمُّ قبل عامي 2028 – 2029، ما يحدّ من جدوى الصفقة كخيار فوري.[3]
اللافت أن تركيا كانت قد خططت مبدئياً لصفقةٍ أوسع بقيمة23 مليار دولار تشمل شراء 79 حزمة تحديث لأسطولها الحالي من F-16، لكنها قررت لاحقاً التخلّي عن هذا الجزء من الاتفاق.[4]
في هذا السياق، أطلقت شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية (TUSAŞ) برنامج “Özgür”، الذي يستهدف تحديث إلكترونيات الطيران والأنظمة الأساسية لمقاتلات F-16 العاملة حالياً في الخدمة. ويُظهر هذا التوجّهُ أن خيارَ الاستقلالية الاستراتيجية لم يكنْ مجرد شعارٍ سياسيٍ أو طموحٍ صناعيٍ، بل ضرورة فرضتها المخاطر المرتبطة بالاعتماد المفرط على مصادر خارجية وعدم اليقين في سلسلة التوريد الدولية.[5]
المشروع الوطني KAAN – الرؤية الاستراتيجية والطموح التركي
يُعتبر مشروع المقاتلة KAAN الذي كان يُعرف سابقًا باسم TF-X أكثر البرامج الطموحة في تاريخ صناعة الطيران التركية، ويمثّل ركيزةً أساسيةً في مسار أنقرة نحو تحقيقِ استقلالٍ كاملٍ في قطاع الطيران العسكري، يهدف المشروع في جوهره إلى استبدال الطائرات القديمة من طراز F-4 Phantom II، ثم لاحقًا أسطول F-16، مع تطلع تركيا لتحويله إلى مُنتجٍ رئيسيٍ للتصدير في أسواق السلاح العالمية.
على المستوى العملي، أحرز البرنامج تقدمًا تقنيًا لافتًا؛ إذ تمكّن النموذجُ الأولي (P0) من تنفيذ أولى رحلاته في فبراير 2024، تلتْها رحلةٌ ثانيةٌ في مايو من العام ذاته، المقاتلة الجديدة صُممت لتكونَ من الجيل الخامس، بخصائص تخفٍّ مثل تقليل المقطع الراداري واعتماد مخازن أسلحة داخلية، كما جرى تصميمها لحمل حمولة تصل إلى 10 أطنان، ومن أبرز المكونات المحلية الجاري تطويرها رادار AESA MURAD 600-A، إضافة إلى المحرك التوربيني. TF35000
رغم هذه الإنجازات، يواجهُ المشروعُ تحدياتٍ واضحةً تتعلقُ بالجدول الزمني، فبينما يصرّح المسؤولون الأتراك بإمكانية تسليم أولى الطائرات في أواخر 2028 أو مطلع 2029، يرى محللون عسكريون أن التقديرات الأكثر واقعية تُرجّح دخول الطائرة الخدمة الفعلية بعد عام 2035، أحد أبرز العقبات يتمثّل في الاعتمادِ المستمر على محركاتٍ أجنبيةٍ من نوع General Electric F110 في النماذج الأولية، حيث من غير المتوقع تشغيل المحرك المحلي TF35000 قبل عام .[6]2032
يمكن النظرُ إلى برنامج KAAN باعتباره مزيجًا بين الطموح السياسي والواقعية التقنية والحسابات الاقتصادية، فالتصريحاتُ المتفائلةُ بشأن المواعيد المستهدفة تحمل بعدًا سياسيًا يهدف إلى إظهارِ القوة وطمأنةِ الرأي العام، بينما التقديرات الأكثر تحفظًا تعكسُ حجم التحديات الهندسية لبناء مقاتلةٍ متطورةٍ من الصفر. ويبرزُ البُعدُ الاقتصاديُ بوضوحٍ مع توقيع إندونيسيا في يوليو 2025 اتفاقًا تاريخيًا لشراء 48 طائرة KAAN، لتصبحَ أولَ زبونٍ خارجيٍ للبرنامج. هذا التطورُ لم يؤكدْ فقط البعد التصديري للمشروع، بل أبرز أيضًا أنه يمثّل استثمارًا اقتصاديًا طويل المدى يعوّض أنقرة عن خسائرها بعد استبعادها من برنامج F-35، ويمنحُ الصناعاتِ الدفاعيةَ التركية نافذةً جديدةً نحو الأسواق العالمية.[7]
المعضلة الحقيقية: الموارد البشرية والخلل الهيكلي
رغم تركيز أنقرة على تحديث أسطولها الجوي واقتناء طائرات متطورة، إلا أن المشكلةَ الجوهرية التي تكاد تُهمل هي جاهزيةُ العنصر البشري، فالعجزُ الكبير في أعداد الطيارين يمثّل التهديدَ الأعمق للقوة الجوية التركية، بل يتجاوز في خطورته التحديات المتعلقة بالتجهيزات.
وتشير بعض التقديرات إلى أن نسبةَ الطيارين إلى الطائراتِ انخفضت إلى ما يقارب 1.2 طيار لكل طائرة، وهي نسبةٌ بعيدةٌ تمامًا عن المعدّلات المثالية التي تتراوح عادة بين 1.5 و2 طيار، هذه الفجوةُ لا يمكن سدُّها في المدى القصير، إذ يتطلبُ إعداد طيار متمرس على مقاتلات F-16 ما يزيد عن عشر سنوات من التدريب المتدرج، وهو مسارٌ زمنيٌ لا يمكن اختزاله بمجرد قراراتٍ سياسيةٍ أو صفقات تسليح جديدة. وبالتالي، فإن امتلاك أعداد إضافية من مقاتلات F-16 أو Eurofighter أو حتى KAAN لن يغيرَ من واقع محدودية الأداء في غياب العدد الكافي من الطيارين ذوي الخبرة، إلى جانب فقدان تدريجي للخبرة المؤسسية[8].
تتعقد الأزمة أكثر مع ملف منظومة S-400 التي اشترتها تركيا مقابل 2.5 مليار دولار، هذه الصفقةُ لم تؤد فقط إلى إقصاء أنقرة من برنامج F-35 وخسارتها استثمارات قُدرت بـ1.25 مليار دولار وعقودًا صناعية كانت تدر حوالي 700 مليون دولار سنويًا، بل تسببت كذلك في فرض عقوباتٍ أمريكيةٍ وزيادة حدّة التوتر مع حلفاء الناتو، وإلى جانب ذلك، لم تدخل المنظومة الخدمة الفعلية بشكل كامل حتى الآن.
الخاتمة
في عام 2025، تعتمدُ تركيا في تحديث قواتها الجوية على مزيجٍ متنوعٍ يجمع بين البراغماتية عبر الاعتماد على مقاتلات F-16، والتنويع عبر مقاتلات Eurofighter، والطموح الاستراتيجي طويل المدى من خلال مشروع KAAN كل عنصرٍ من هذه العناصر يلعبُ دورًا محددًا على الصعيد الاستراتيجي، لكنه يقترنُ بتحدياتٍ خاصةٍ، برنامج F-16 يُشكل حلاً مؤقتًا لتجديد الأسطول الجوي، لكنه يواجهُ مشكلاتٍ تتعلق بتأخر تسليم الطائرات، ما يزيد الحاجة إلى برامج تحديث محلية، برنامج Eurofighter يُعتبر خيارًا احتياطيًا واعدًا، لكن نجاحه يعتمد بشكلٍ كبيرٍ على مستوى التنسيق والتعاون السياسي بين الدول المشاركة في الكونسورتيوم الأوروبي، أما برنامج KAAN فيمثّل الطموحَ طويل المدى لتركيا في صناعة مقاتلات الجيل الخامس، لكنه يواجهُ تحدياتٍ تقنيةً وجداول زمنية غير متسقة، مما يجعله مشروعًا عالي المخاطر، ولكنه ذو قيمة استراتيجية كبيرة.
إن مستقبلَ القوة الجوية التركية يعتمد على قدرتها على مواجهة هذه التحديات بسرعةٍ وكفاءةٍ أكثر التهديدات جوهرية ليست متعلقةً بالتكنولوجيا أو التمويل، بل بالجانب المؤسسي والبشري. فالآثارُ المترتبةُ على شراء منظومة S-400، إلى جانب النقص الكبير في أعداد الطيارين المؤهلين، تمثلُ نقاطَ ضعف جوهرية لا يمكن تجاوزها بمجرد اقتناء أسلحة حديثة أو طائرات جديدة. وبعبارة أخرى، إن أي توسّعٍ في الأسطول سيكون محدودَ الفعالية ما لم يتمّْ استعادة قوة طيارين مدربين وذوي خبرة، قادرين على تشغيل هذه المعدات على الوجه الأمثل.
كما أن التحدياتِ الاقتصاديةَ تلقي بظلالها على القدرات الدفاعية؛ فالانخفاضُ المزمنُ في قيمة الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي أدى إلى تضخّم تكلفةِ استيراد المعدات العسكرية، إضافة إلى ذلك، تثار مخاوف جدية بشأن تراجع جودة القيادات العسكرية، في ظل التدخل السياسي في مسار الترقيات، وهو ما قد ينعكسُ سلبًا على المهنية والكفاءة داخل المؤسسة العسكرية..
المصادر:
[1] Crashed ambitions: How Turkey sabotaged its own air https://turkishminute.com/2025/06/24/opinion-crashed-ambitions-how-turkey-sabotaged-its-own-air-power/, Accessed 28 August 2025
[2] Türkiye plans diversification strategy on fighter jet formula while https://www.turkiyetoday.com/nation/turkiye-plans-diversification-strategy-on-fighter-jet-formula-while-awaiting-indigeno-3205606, Accessed 28 August 2025
[3] Türkiye’s F-16 procurement faces 4-5 year delay amid high demand | Caliber.Az, https://caliber.az/en/post/turkiye-s-f-16-procurement-faces-4-5-year-delay-amid-high-demand, Accessed 28 August 2025
[4] Türkiye plans diversification strategy on fighter jet formula while, https://www.turkiyetoday.com/nation/turkiye-plans-diversification-strategy-on-fighter-jet-formula-while-awaiting-indigeno-3205606, Accessed 28 August 2025
[5] Turkey Scales Back F-16 Deal With US, Citing Domestic Capabilities https://themedialine.org/headlines/turkey-scales-back-f-16-deal-with-us-citing-domestic-capabilities/ Accessed 28 August 2025
[6] Spain Eyes Türkiye’s KAAN as Strategic Alternative After Cancelling ,https://defencesecurityasia.com/en/spain-eyes-turkiye-kaan-fighter-alternative-after-f35-cancellation/,, Accessed 28 August 2025