المقالات
حديث أمريكي عن فجر شرق أوسط جديد: قراءة بشأن حدود النفوذ الإيراني بعد توقيع اتفاق غزة
- أكتوبر 31, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط

إعداد: شيماء عبد الحميد
باحثة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط
أثار تغيب إيران عن الحشد الإقليمي والدولي الذي شهدته قمة “شرم الشيخ للسلام”، حيث تم التوقيع على اتفاق وقف الحرب في قطاع غزة، كثير من التساؤلات حول دلالات هذا الغياب، وما إذا كان يعني خروج طهران ومحورها من المشهد الإقليمي خلال الفترة المقبلة، خاصةً وأن هذا الأمر تزامن مع حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن بزوغ فجر شرق أوسط جديد يسوده الاستقرار والسلام بتوقيع اتفاق غزة، وفي ضوء ذلك؛ هل باتت المنطقة حقًا على أعتاب ترتيبات شرق أوسطية مغايرة للوضع الذي سبق هجوم السابع من أكتوبر 2023، أم أن لإيران رأيًا آخر؟:
أولًا؛ إيران… الغائب الحاضر:
رغم إعتذار إيران عن حضور قمة شرم الشيخ المصرية للسلام، وهو الأمر الذي أثار كثير من التأويلات والتساؤلات، إلا أنها كانت حاضرة في تصريحات الرئيس الأمريكي خلال القمة، وكذلك في خطابه الذي ألقاه بالكنيست الإسرائيلي، أثناء زيارته إلى تل أبيب، والتي سبقت حضوره للقمة بساعات قليلة، حيث:
1- تغيب إيراني عن حضور القمة:
رغم توجيه دعوة من مصر إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لحضور قمة شرم الشيخ للسلام، إلا أن الرئاسة الإيرانية أعلنت يوم 12 أكتوبر 2025، أنها لن تشارك في القمة، وقد برر وزير الخارجية عباس عراقجي، موقف بلاده موضحًا الأتي[1]:
تقدر إيران دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لكنها لا تستطيع الجلوس مع من هاجموا الشعب الإيراني، وما زالوا يفرضون العقوبات عليه.
ترحب طهران بأي مبادرة تنهي الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، وتؤدي إلى خروج القوات الإسرائيلية منه.
لا ينبغي فهم موافقة إيران المبدئية على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، على أنها تأييد لسياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الشرق الأوسط، والتي تتعارض مع قناعات طهران العقائدية.
يهدف دعم إيران لمبادرة السلام، إلى إنهاء أعمال العنف بالقطاع فقط، رغم أن آفاق تحقيق سلام واقعي في الأراضي الفلسطينية لا تبدو قريبة.
هناك اختلافًا جوهريًا بين الموقف الراهن وآفاق المستقبل التي لا تزال غامضة للغاية، خاصةً وأن إسرائيل لم تلتزم مرارًا بمثل هذه الاتفاقات.
وقد أثار هذا الرفض انقسامًا حادًا في الأوساط السياسية الإيرانية؛ حيث رأى التيار الإصلاحي أن طهران أضاعت فرصة مهمة للغاية حتى تكسر العزلة الدولية وتستعيد دورها الإقليمي، فيما رأى التيار المحافظ أنه قرارًا صائبًا، يدل على تمسك طهران بموقفها الإقليمي الداعم لحل القضية الفلسطينية على أساس مبدأ حل الدولتين، والرافض للرؤية الأمريكية التي تمهد لما تروج له واشنطن على أنه “الشرق الأوسط الجديد”.
وردًا على هذا الجدل الداخلي؛ صرح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، يوم 14 أكتوبر الجاري، بأن إيران لم تفوت أي فرصة دبلوماسية بغيابها عن قمة شرم الشيخ حول غزة، موضحًا التالي[2]:
المشاركة في مثل هذه الاجتماعات، دون حسابات دقيقة، قد تضر بمكانة البلاد.
تعرضت إيران لهجوم مخالف للقانون و”إجرامي” من الولايات المتحدة في يونيو الماضي، كما لعبت إسرائيل دورًا في هذا الفعل الإجرامي، بضوء أخضر وتعاون من الولايات المتحدة، ولذلك؛ من الطبيعي ألا تشارك طهران في اجتماع برئاسة طرف يتباهى بمثل هذا العمل الإجرامي.
نفوذ إيران وتأثيرها في التطورات الإقليمية والدولية، لا يقتصران على المشاركة في حدث معين، والدليل على ذلك؛ أن طهران كانت خلال العامين الماضيين، من أكثر الأطراف نشاطًا في ممارسة الضغط على إسرائيل وداعميها لوقف الحرب.
2- رسائل أمريكية من قلب الكنيست الإسرائيلي:
على الرغم من أن إيران تغيبت، إلا أنها كانت حاضرة على رأس أولويات خطاب الرئيس الأمريكي سواء خلال زيارته للكنيست الإسرائيلي قبيل القمة، أو حتى خلال توقيعه لاتفاق غزة في قمة شرم الشيخ، مما يعني أن واشنطن استغلت هذا الحدث الهام، والذي ضم حشدًا إقليميًا ودوليًا ضخمًا، لإرسال رسائل عدة إلى طهران، وخاصةً فيما يخص مستقبل برنامجها النووي، ويمكن إيجاز تلك التصريحات في الأتي[3]:
هذه ليست فقط نهاية حرب، بل هي نهاية عصر من الإرهاب والموت، وبداية عصر الإيمان والأمل، بداية تناغم جديد لإسرائيل وجميع دول المنطقة، إنه فجر تاريخي لشرق أوسط جديد، يسوده الاستقرار والازدهار والتنمية، فهذا هو العصر الذهبي لإسرائيل وللشرق الأوسط.
كان الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، عاملًا حاسمًا في تحقيق هذا الاتفاق، وهو ما يربط الهدنة بإحلال السلام في الشرق الأوسط ككل.
لو امتلكت إيران السلاح النووي، لما شعرت الدول العربية بالارتياح لإبرام اتفاق غزة، فطهران كانت مثل سحابة كبيرة من الضبابية فوق الشرق الأوسط وإسرائيل، والضربات الأمريكية عليها أزالت هذه السحابة.
الوثائق النووية الإيرانية المهمة التي حصلت عليها إسرائيل قبل سبع سنوات، استُخدمت جيدًا، حيث قصفت واشنطن منشآت نطنز وفوردو وأصفهان النووية، ودمرتها تدميرًا كاملًا، مما أدى إلى حرمان إيران، الدولة الراعية للإرهاب، من الحصول على أخطر الأسلحة في العالم.
من مصلحة المنطقة أن تتخلى إيران عن “الإرهابيين”، وأن تتوقف عن تهديد جيرانها، وعن تمويل أذرعها المسلحة، وأن تعترف بحق إسرائيل بالوجود.
الولايات المتحدة على استعداد تام للدخول في مفاوضات مع طهران، والكرة الآن في ملعب إيران لإبرام أي اتفاق، فواشنطن مستعدة حينما تكون طهران مستعدة أيضًا، وسيحدث ذلك قريبًا.
حتى بالنسبة إلى إيران التي ألحق نظامها الكثير من الدمار بالشرق الأوسط، فإن يد الصداقة والتعاون ممدودة، فلا الولايات المتحدة ولا إسرائيل، تكن أي عداء للشعب الإيراني، بل فقط يريدان العيش بسلام.
في السياق ذاته؛ صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال كلمته أمام الكنيست بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بأنه يوجه الشكر له على خروجه من الاتفاق النووي، وقصفه للمنشآت الإيرانية الثلاث، وقراره باغتيال القائد السابق لفيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، واعترافه بالحقوق “التاريخية” لإسرائيل على الضفة الغربية، واصفًا إياه بأنه “أعظم صديق حظيت به إسرائيل”.[4]
كما أشار نتنياهو إلى أن “السنوات المقبلة هي سنوات السلام داخل إسرائيل وخارجها”، مؤكدًا أن “السلام سيأتي أسرع مما يظن بقيادة ترامب، الذي يمكن من خلال قيادته، إبرام معاهدات سلام جديدة مع الدول العربية في المنطقة والدول المسلمة خارج المنطقة”.
ثانيًا؛ قراءة إيرانية للتصريحات الأمريكية:
لا شك أن ما صدر عن الرئيس الأمريكي من تصريحات خاصة بطهران ودورها الإقليمي وملفها النووي، يحمل كثير من الدلالات والرسائل التي تلقتها إيران من واشنطن، والتي اعتبرها النظام الإيراني كمحددات لشكل التفاوض الذي تريده الولايات المتحدة فيما يخص البرنامج النووي، ولحجم نفوذ طهران الإقليمي خلال الفترة المقبلة، ومن أبرز هذه الرسائل:
التأكيد على محورية الدور الأمريكي في الشرق الأوسط على حساب روسيا والصين؛ المشهد الاحتفالي الذي ترافق مع زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى الكنيست الإسرائيلي، وكذلك زيارته إلى مصر لحضور قمة شرم الشيخ للسلام، حمل كثير من الاعتبارات التي أرادت واشنطن من إيران أن تدركها، وأهمها؛ أن الولايات المتحدة لا تزال هي المتحكم والقوة الدولية الرئيسية في الشرق الأوسط، وأنه لا يمكن استبعادها أو استبدال دورها بأي قوة كانت، وهو ما تجلى في الغياب الروسي والصيني عن القمة، التي يبدو أنها أعادت الشرق الأوسط إلى الهيمنة الأمريكية الانفرادية، وهو ما يتنافى مع الرغبة الإيرانية، التي راهنت في وقتًا ما على أدوار موسكو وبكين المتنامية في المنطقة.
وبالتالي؛ رأت إيران أن الزيارة الأمريكية تمثل جزءًا من إعادة التموضع الأمريكي في الشرق الأوسط، ودليل واضح على أن واشنطن ترغب مجددًا في تأكيد سيطرتها على الإقليم وترتيباته، والتأكيد كذلك على أنها لا تزال الفاعل المؤثر في أهم ملفات المنطقة، وهذا الأمر يعني بالنسبة لطهران، أن مستقبل الشرق الأوسط بات مرهونًا بالرؤية الأمريكية له، والتي لا شك أنها تخدم مصالح إسرائيل، وفي الوقت ذاته، تضر بأهداف ومصالح إيران.
الترسيخ لمعطيات إقليمية جديدة مغايرة للواقع الذي سبق هجوم السابع من أكتوبر 2023؛ من أهم التأكيدات التي شدد عليها الرئيس ترامب، أن اتفاق غزة لا ينهي حرب غزة فقط، بل أنه يؤسس أيضًا لشرق أوسط مغاير، متحدثًا عن بزوغ فجر شرق أوسط جديد ينعم بالسلام والاستقرار، وهو ما قرأته إيران على النحو التالي:
المعطيات الإقليمية خلال الفترة القادمة ستكون مختلفة تمامًا عن الوضع السابق، وهو ما يفرض على طهران حسابات جديدة، تتطلب تغيرات جوهرية في سياستها الخارجية، تتماشى مع تطورات المنطقة، وإلا ستتخلف طهران عن ركب هذا الشرق الأوسط الجديد، الذي تُرسم ملامحه الآن برعاية أمريكية.
الحديث عن شرق أوسط جديد في ظل عدم وجود إيران، يفيد بأن ميزان القوى الإقليمي سوف يتغير لصالح إسرائيل، ومعها بعض القوى الجديدة التي بدأت تظهر في المشهد السياسي للشرق الأوسط وعلى رأسها باكستان، وذلك على حساب طهران ومحور المقاومة، فهذا الغياب يفيد بأن مستقبل المنطقة تحدد بعيدًا عن أي وجود إيراني، وأن طهران باتت خارج الحسابات، وأصبحت متفرجًا فقط.
وصف هذا الشرق الأوسط الجديد بأنه سينعم بالاستقرار والسلام، وسيكون خاليًا من الإرهاب، يشير إلى أن المنطقة سوف تنعم بالسلام والاستقرار فقط عندما تغيب إيران ودورها الإقليمي عن المشهد، مما يعني أن طهران هي السبب الرئيسي في أي فوضى أمنية في الشرق الأوسط، أي إعادة إحياء فكرة “شيطنة إيران”، تلك الرؤية ذات الصناعة الأمريكية الإسرائيلية، والتي تراجعت كثيرًا في أعقاب اندلاع حرب غزة.
إعادة إحياء مبدأ “السلام الاقتصادي” الأمريكي؛ تحدث ترامب عن إمكانية انضمام إيران إلى عملية السلام مع إسرائيل، وهو ما أفاد بأن الولايات المتحدة ترغب في تحويل طهران إلى دولة عادية، لا تمتلك أي أفكار أيدولوجية معادية لواشنطن أو إسرائيل، مما يؤكد حقيقة الرغبة الأمريكية في تغيير النظام الإيراني.
كما يُفهم تصريح الرئيس الأمريكي على أنه اختبار أمريكي لرد الفعل الإيراني على هذا الطرح، ومعرفة مدى تقبل إيران لفكرة الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها، في مقابل إنهاء العقوبات والضغوط الاقتصادية التي تمارسها واشنطن عليها، وكأن الأمر ما هو إلا تعديل لصفقة القرن السابقة، والتي قامت على مبدأ “السلام الاقتصادي”؛ والذي يعني تطبيع العلاقات مع تل أبيب، في مقابل الاصلاح الاقتصادي، وهو نفس المبدأ الذي يقوم عليه الطرح الأمريكي في الوقت الراهن، والذي يدفع بـ”السلام في مقابل إعادة الإعمار”.[5]
هذه هي رؤية الرئيس ترامب عن السلام في الشرق الأوسط، والتي تُعد بعيدة كل البعد عن أي تنازلات سياسية سواء للقضية الفلسطينية أو لإيران، ولا شك أن هذه الرؤية مغايرة تمامًا للسلام بمفهومه الإيراني، ولذلك؛ رد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي على حديث الرئيس ترامب عن السلام بين إيران وإسرائيل، قائلًا “فكرة تطبيع إيران للعلاقات مع إسرائيل، محض خيال، فطهران لن تعترف بنظام احتلال ارتكب إبادة جماعية”.[6]
خروج محور المقاومة الإيراني من المشهد الإقليمي؛ في الوقت الذي تضغط فيه الولايات المتحدة على لبنان حتى ينتزع سلاح حزب الله، وعلى العراق من أجل حل الحشد الشعبي، وعلى اليمن من خلال استمرار الضربات الأمريكية الإسرائيلية على الحوثيين، أصرت واشنطن على عدم حضور حركة حماس لحظة توقيع اتفاق غزة، كما تمسكت بنزع سلاح حماس في مقابل إعادة إعمار القطاع، وذلك في دلالة واضحة تفيد بأن الحركة، والتي تعتبرها واشنطن وتل أبيب جزء من محور المقاومة الإيراني، لن تكون جزءاً من مستقبل القطاع، فهذه أول مرة يتم توقيع اتفاق خاص بترتيبات قطاع غزة في ظل غياب حماس عن المشهد.
ومن ثم؛ يرسل غياب الحركة، رسالة إلى طهران تفيد بأن المليشيات التي لطالما اعتمدت عليها لتعزيز نفوذها في الإقليم، لن تكون جزءاً من الشرق الأوسط الجديد الذي تعده واشنطن، وأن محورها الذي تعرض لخسائر وضربات قاسمة، بات خارج حسابات الشرق الأوسط الإقليمية خلال الفترة القادمة، واصفًا تلك الجماعات بـ”الإرهابيين”.
التأكيد على محددات الموقف الأمريكي من المفاوضات النووية الإيرانية؛ خلال زيارة الرئيس الأمريكي إلى الكنيست الإسرائيلي، وفي ظل مشهد احتفالي بهذه الزيارة، تفاخر ترامب بالضربة الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية، والتي أكد أنها جاءت في إطار مساعي واشنطن لحماية استقرار المنطقة، وحرمان طهران، التي وصفها بالدولة الأولى في رعاية الإرهاب عالميًا، من امتلاك سلاحًا نوويًا، رابطًا بين تنفيذ هذا الهجوم والتوصل لاتفاق غزة الذي ربط بينه وبين إحلال السلام في المنطقة.
كانت تلك التصريحات، وغيرها من الحديث عن مساويء الاتفاق النووي الموقع في العام 2015، إشارة مهمة لإيران، تفيد بأن تدمير برنامجها النووي هو البوابة التي سيأتي منها السلام والاستقرار للداخل الإيراني بشكل خاص، وللمنطقة بشكل عام، أي أراد ترامب تثبيت المحددات التي تقوم عليها دعوته التفاوضية، وهي التنازل عن مبدأ تخصيب اليورانيوم، وإيقاف برنامج إيران الصاروخي الباليستي.
كما أن الربط بين الضربة الأمريكية وبين اتفاق غزة، والدعوة إلى العودة للمسار التفاوضي من قلب الكنيست الإسرائيلي، يحمل كثير من الدلالات؛ أهمها: إضفاء المشروعية السياسية على الهجوم الأمريكي، ومحاولة تبريره بأنه كان مهمًا لتعطيل البرنامج النووي الإيراني، إرسال واشنطن رسالة إلى إيران، مفادها أنه في حالة رفض التفاوض وفقًا للمطالب الأمريكية، يحق للولايات المتحدة استهداف البرنامج النووي الإيراني مرة أخرى، الربط بين اتفاق وقف الحرب في غزة وبين إيران وملفها النووي، يفيد بأن القطاع قد يشهد تصعيد جديد في حال رفضت طهران التفاوض.
ومن هنا؛ قررت إيران عدم الحضور، ولكنها أعلنت تأييد أي اتفاق يوقف الحرب في القطاع، وكأنها تحاول الموازنة بين التمسك بموقفها الرافض للشروط الأمريكية، ولأي تفاوض يتم بالإكراه أو تحت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، وبين رغبتها في فك الإرتباط بين غزة والملف النووي، وهي معادلة شديدة التعقيد.
التأكيد على الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل؛ تُعد زيارة الرئيس الأمريكي قبل قمة توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وتعهده في قلب الكنيست بأن الولايات المتحدة لن تسمح بتكرار هجوم 7 أكتوبر، متباهيًا بالدعم العسكري الأمريكي المقدم لتل أبيب، إلى جانب تصريحاته المضادة لإيران ومطالبتها بالاعتراف بوجود إسرائيل والانضمام لعملية السلام، مؤشرات توضح بما لا شك فيه أن واشنطن تربط بين السلام في المنطقة وبين حماية المصالح الإسرائيلية، كما تشير إلى أنه أيًا كانت ملامح ومعطيات الشرق الأوسط الجديد الذي يتحدث عنه ترامب، سيصب في صالح تل أبيب وميزان قوتها، على حساب المصالح الإيرانية، وكأن واشنطن تقول لطهران أن العهد القادم هو عهد تل أبيب، وهو ما عبر عنه ترامب بصراحة شديدة قائلًا “هذا الاتفاق هو بداية العصر الذهبي لإسرائيل والشرق الأوسط”، فيما عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واصفًا ترامب بـ”أفضل صديق حظيت به تل أبيب”.
وقد دفعت تلك المؤشرات، إيران إلى قرار عدم الحضور، وكأنها تبدي رفضها لكل المخططات الأمريكية التي روج لها دونالد ترامب، وكذلك رفضها لمحددات التفاوض، ولمعطيات الشرق الأوسط الجديد، كما أرادت بهذا الغياب، التعبير عن تمسكها بمشروعها الإقليمي، وبمحددات سياستها الخارجية التي لن تتغير بشكل يناقض أيدولوجيا النظام الإيراني الذي خلفته الثورة الإسلامية.
رابعًا؛ حدود الدور الإقليمي الإيراني بعد حرب غزة:
في ضوء ما تقدم من قراءة للمشهد الراهن لمنطقة الشرق الأوسط، وبعد الضربات الموجعة التي تلاقها المشروع الإقليمي الإيراني ومحور المقاومة، والحديث عن رؤية أمريكية شاملة للمنطقة، تحمل كثير من التغيرات التي ستطرق على معطيات الإقليم في مرحلة ما قبل الحرب على قطاع غزة، وأهمها إخراج طهران من الحسابات، وتغير ميزان القوى لصالح عدوها اللدود؛ إسرائيل، تُثار العديد من الآراء والسيناريوهات حول حدود الدور والنفوذ الإيراني خلال الفترة القادمة، وهل فعلًا سقط محورها ومشروعها، أم أن إيران سيكون لها رأيًا آخر، وفي هذا الشأن؛ يمكن الوقوف عند اتجاهين من الرأي، وهما:
1- الاتجاه الأول؛ يرى أن إيران تعرضت لخسائر فادحة، وأن ثلاثي النفوذ الإيراني؛ البرنامج النووي والصاروخي الباليستي ومليشيات محور المقاومة، تراجع بشكل كبير، مما يعني أن طهران باتت على قدر من الضعف الذي قد يحرمها من ممارسة الدور الإقليمي الذي كانت تؤديه قبل اندلاع حرب غزة، ولذلك؛ يأتي غيابها عن قمة شرم الشيخ المصرية، للتدليل على أنها أصبحت خارج مستقبل الشرق الأوسط خلال الفترة القادمة، وينطلق هذا الرأي من عدة معطيات؛ أهمها:
أ. الضغط الإقليمي الذي يمثله الاتفاق على إيران؛ الحديث عن فترة جديدة من السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، تزامنًا مع عدم وجود أي تمثيل لإيران في لحظة توقيع اتفاق غزة، وتصويرها على أنها الطرف المسبب لأي فوضى أمنية في الإقليم، يجعل طهران مقيدة في هذا الملف، وبالتالي؛ إذا قررت إيران التحرك لإفشال الهدنة القائمة في القطاع، نظرًا لعدم رضاها على بنود الاتفاق التي لا تخدم مصالحها، فإنها قد تغامر بكل مؤشرات التحسن التي بدت مؤخرًا في علاقاتها مع دول جوارها، وخاصةً جوارها الخليجي، ومن ثم؛ باتت إيران مجبرة على أن تقبل هذا الاتفاق، حتى ولو كانت غير راضية عنه.
ب. تحول محور المقاومة إلى عبء على طهران؛ أنفقت إيران أموال طائلة على وكلاءها على مدار سنوات عديدة، وذلك بغرض خدمة مشروعها الإقليمي، ولكن لم يأتي هذا الأمر بثماره؛ إذ خسرت طهران نفوذها في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتآكلت قدرات حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي اليمنية، بعد الضربات القاسمة التي تعرضا لها، فيما تواجه الجماعات الموالية لإيران في العراق وعلى رأسها الحشد الشعبي، شبح الحل والتفكيك بضغط أمريكي، ومن ثم؛ أصبح هؤلاء الوكلاء عبء على طهران، واستمرار دعمهم يضع إيران في مواجهة مع واشنطن وتل أبيب، فضلًا عن أن استمرار دعمهم في وقت يعاني فيه الشعب الإيراني من وضع اقتصادي كارثي، يزيد من غضب واحتقان الداخل للنظام، وبالتالي؛ تحول هذا المحور من ورقة ضغط إلى عبء سياسي وأمني على كاهل إيران.
ج. خسارة إيران لنفوذها في القضية الفلسطينية؛ لطالما كان الدافع الإيراني وراء دعم حركة حماس هو إيجاد موطيء قدم لها في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إدراكًا منها لأهمية وحساسية هذا الملف بالنسبة لإسرائيل وأمنها القومي، ولكن الآن وبعد أن تم استبعاد الحركة من إدارة القطاع، ومطالبة واشنطن وإسرائيل بنزع سلاحها، أصبحت طهران خارج غزة والقضية الفلسطينية أيضًا، وهذا يفقدها جانب مهم من نفوذها الإقليمي الذي دائمًا ما اعتمدت عليه إيران، من أجل الضغط على تل أبيب وكذلك الولايات المتحدة.
د. الربط الأمريكي بين مفاوضات البرنامج النووي والنفوذ الإقليمي لإيران؛ حملت تصريحات الرئيس دونالد ترامب دعوة لطهران من أجل العودة للمسار التفاوضي، ولكنه ربطها بعدة مطالب؛ وهي التخصيب الصفري لليورانيوم والتخلي عن الصاروخي الباليستي وإيقاف الدعم لجماعات محور المقاومة التي وصفها في حديثه بـ”الإرهابيين”، ملوحًا باستخدام القوة مرة أخرى في حال لم تستجب طهران للدعوة.
ومن هنا؛ تقف إيران بين خيارين كلاهما مر؛ إما القبول بالاستسلام والتخلي عن كل أدوات الردع والنفوذ التي عملت على بناءها وتعزيزها منذ قيام النظام الحالي في أعقاب الثورة الإسلامية، أو الاستعداد لمواجهة عسكرية جديدة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي لا شك أنها ستكون أكثر توسعًا وأكبر مدى من سابقتها التي وقعت في يونيو الماضي، هذا إلى جانب الضغط السياسي الذي تمارسه الدول الأوروبية خلال أروقة الأمم المتحدة، وخاصةً بعد إنتهاء مدة الاتفاق النووي، وعودة العقوبات على طهران، وكذلك عودة الملف إلى مجلس الأمن الدولي.
2- الاتجاه الثاني؛ يرى أن إيران لم تخرج تمامًا من المشهد، وأن غيابها عن توقيع اتفاق غزة، لا يعني بالضرورة أنها باتت خارج الحسابات، أو فضلت العزلة، بل أنها قررت التمسك بأيدولوجيتها السياسية المعهودة، وينطلق هذا الرأي من المعطيات التالية:
أ. تمسك إيران بموقفها رغم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية؛ حيث أن غيابها عن توقيع الاتفاق، أرسل عدة دلالات إلى واشنطن وتل أبيب، منها: رفض المخطط الأمريكي لمستقبل الشرق الأوسط، وكذلك رفض إخراج حركة حماس من حسابات القضية الفلسطينية وقطاع غزة، إلى جانب إرسال رسالة مفادها أن طهران لن تقبل بإتخاذ أي قرار يخالف أيدولوجيا عقيدتها السياسية، مهما تكلفت طهران من عزلة وضغوط.
ب. التشكيك في مدى صمود الاتفاق الموقع أمام الاختراقات الإسرائيلية؛ على الرغم من الإعلان عن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، إلا أن طهران أثارت شكوكًا عديدة حول احتمالية فشله جراء الانتهاكات التي ترتكبها تل أبيب، وغياب الرؤية الكاملة حول القضايا المصيرية التي لا تزال غير مكتملة، وعلى رأسها موعد انسحاب تل أبيب من القطاع، شكل وحجم القوة الإقليمية- الدولية التي ستتولى إدارة القطاع خلال الفترة المقبلة، والخلاف حول مطالب نزع سلاح حركة حماس.
وبالتالي؛ أعلنت إيران ترحيبها بأي اتفاق من شأنه أن يوقف الحرب في غزة، حتى لا تظهر بمظهر القوة الإقليمية الوحيدة الرافضة للسلام، ولكن في الوقت ذاته؛ راحت طهران تحاول إثارة الشكوك في جدوى الاتفاق، وهذا ينعكس في تصريحات وزير الخارجية عباس عراقجي، والتي أكد خلالها أن “قد سبق وحصل أكثر من وقف لإطلاق النار في الماضي، في أماكن مختلفة، خصوصًا في لبنان، لكن إسرائيل انتهكته”.[7]
ج. مواصلة الدعم الإيراني لمحور المقاومة وحركة حماس؛ لم ترغب طهران في أن تكون طرفًا في الاتفاق، وقررت الغياب عن لحظة توقيعه، حتى تؤكد ثبات موقفها من محور المقاومة، وأنها تظل داعمة له، ولا تريد أن تتحمل أيًا من نتائجه التي قد تتعارض مع أهدافها أو مصالحها، وكذلك مع أهداف المقاومة الفلسطينية التي تغيبت هي الأخرى عن المشهد.
ويبدو أن إيران لن تكتفي بمقاطعة اتفاق غزة حتى تظهر دعمها السياسي للمقاومة الفلسطينية، بل تفيد تقارير إسرائيلية بأن طهران تحاول تقديم الدعم اللوجيستي أيضًا؛ حيث وفقًا لتقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، أعده رئيس برنامج المحور الإيراني والشيعي في المعهد داني سيترونوفيتش، فإن إيران تعد الآن خطة لإعادة تسليح حركة حماس عن طريق السودان، من خلال تحركها لإقامة قاعدة هناك، استغلالًا للفوضى الأمنية التي تشهدها البلاد على خلفية الحرب المتواصلة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، وقد حذر التقرير أيضًا من نشاط طهران في أفريقيا، وبالأخص في الجهة الشرقية.[8]
وإجمالًا؛ حمل الاصطفاف الأمريكي- الإقليمي- الدولي الذي كان حاضرًا في قمة شرم الشيخ المصرية للسلام، وكذلك المشهد الاحتفالي الذي رسم ملامح زيارة الرئيس الأمريكي إلى الكنيست الإسرائيلي، كثيرًا من الرسائل والدلالات لإيران ومشروعها الإقليمي، كما أثار كثير من التساؤلات حول حدود النفوذ الإقليمي الإيراني في الفترة القادمة، وخاصةً في حال صمد اتفاق غزة وتم استكمال باقي مواده ومراحله، وبدأ عهد الشرق الأوسط الجديد الذي تحدث عنه دونالد ترامب.
ورغم ضبابية المستقبل وصعوبة التكهن بالتطورات القادمة، نظرًا لصعوبة المشهد الإقليمي وتعقيده، إلا أن هناك مجموعة من الحقائق يمكن الوقوف عندها؛ ومنها: تعرض النفوذ الإيراني لضربة هائلة أدت إلى تراجع مشروع طهران الإقليمي لعدة سنوات للوراء، هناك تغيرات كبيرة تطرأ على ميزان القوى في المنطقة وعلى أدوار الفاعلين سواء الإقليميين أو الدوليين أو حتى على الفاعلين من غير الدول، البرنامج النووي الإيراني وكذلك الصاروخي الباليستي هو الورقة التي ستحدد ما إذا كانت المنطقة ستشهد مواجهة عسكرية جديدة وتصعيد يضع أمن واستقرار الشرق الأوسط على المحك مجددًا، أو الإبقاء على الهدنة الراهنة.
وتبقى أهم هذه الحقائق هي: إيران مهما بدت ضعيفة أو هشة، إلا أنها لا تزال تحتفظ بأوراق ضاغطة تضمن لها البقاء، وبالتالي؛ تصدير فكرة خروج طهران من الحسابات الإقليمية وأنها باتت فاعل غير مؤثر في المنطقة، يبدو قراءة غير حقيقية ومبالغة للواقع، فهذا سيناريو تحاول الولايات المتحدة وإسرائيل الترويج له كنوع من الحرب النفسية التي تستهدف إجبار إيران على تقديم التنازلات التي تطالب بها واشنطن وتل أبيب، كما تهدف إلى زيادة الغضب والنفور الداخلي للنظام الإيراني، في محاولة لوضع النظام بين ضغوط الداخل والخارج، ومن ثم؛ إكراهه على التفاوض المشروط، الذي لطالما رفضته طهران.
المصادر:
[1] إيران ترفض المشاركة في قمة شرم الشيخ، الجزيرة القطرية، 12/10/2025، متاح على الرابط: https://www.ajnet.me/news/2025/10/12/%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8
[2] إيران تؤكد أنها «لم تفوت فرصة» في تبرير غيابها عن قمة شرم الشيخ حول غزة، صحيفة الشرق الأوسط، 14/10/2025، متاح على الرابط: https://aawsat.com/%D8%B4%D8%A4%D9%88%D9%86-%D8%A5%D9%82
[3] ترامب: هذا اليوم هو فجر تاريخي لشرق أوسط جديد، روسيا اليوم، 13/10/2025، متاح على الرابط: https://arabic.rt.com/world/1720296-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%
[4] ترامب يؤكد بزوغ «فجر تاريخي جديد في الشرق الأوسط»، صحيفة العين الإخبارية، 13/10/2025، متاح على الرابط: https://al-ain.com/article/1760354233
[5] حسن فحص، إيران ورهانات ما بعد قمة شرم الشيخ، اندبندنت عربية، 16/10/2025، متاح على الرابط: https://www.independentarabia.com/node/634182/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%
[6] بعد اقتراح ترامب.. كيف ردت إيران على “التطبيع مع إسرائيل”؟، سكاي نيوز عربية، 11/10/2025، متاح على الرابط: https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1826515-%D8%A7%D9%82%D8%
[7] إيران لا تثق باحترام إسرائيل لوقف النار في غزة، صحيفة اندبندنت عربية، 11/10/2025، متاح على الرابط: https://www.independentarabia.com/node/633887/%D8%A7%D9%84%D8%A
[8] بعد حرب غزة.. خطة إيرانية لتسليح حماس عن طريق السودان، رويترز، موقع إرم نيوز، 14/10/2025، متاح على الرابط: https://www.eremnews.com/news/arab-world/7pz866k