حرب اللكمات المتبادلة.. أم الثالوث النووي؟!  الوقوفُ على حافَّة الصِّرَاع ومأسسةُ نظامٍ عالميٍّ جديدٍ

إعداد : منار المنسي

باحثة علاقات دولية 

شَهِدَ القرنُ الحادي والعشرون عودةَ المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، هذه المنافسة تتسم بتفاعلٍ مُعقَّد بين عواملَ مختلفةٍ كالتكنولوجيــا والتجــارة والاستثمار والعُمْلة والمنافسة العسكرية؛ ما جعل العالم يتابع بقلقٍ وترقُّبٍ ما يحدث بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية من حرب اقتصادية متعددة الملامح والاتجاهات؛ حيث يعتبر التنافُس “الصيني – الأمريكي” من أكثر القضايا المهمة التي تُعدُّ أساسًا لمحاولات تغيير النظام العالمي بقواعدَ جديدةٍ وأُسسٍ مختلفةٍ عن نظام الأُحادية القُطبية الذي اتسم بأُسسٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ، بل وأيديولوجية مختلفة عن الأُسس التي تحاول الصين وضْعها الآن في ظلِّ هذا التنافس العالمي

ولعل صعودَ الصين وردَّ فِعْل الولايات المتحدة عليه يُشكِّلُ القضيةَ الأكثر أهميةً في عصرنا من منظور السياسة العالمية، ولكن يظلُّ التساؤلُ الكبير، هل نحن أمام تنافسٍ وصراعٍ “صيني – أمريكي” أم أنه يوجد بعض أوْجُه التقارُب بين الجانبيْن؟

أيضًا هل يمكن أن تكون هناك هيمنةٌ مشتركةٌ بدلًا من التنافس ثنائي القطبية بين كُلٍّ من الولايات المتحدة والصين؟ وهل يمكن أن تكون المنافسة بينهما جيوسياسية واقتصادية مع تحمُّلهما – بشكلٍ مشتركٍ – المسؤولية عن الحفاظ على نظامٍ عالميٍّ يفيد الجميع والعمل معًا لمعاجلة التحديات المختلفة، والتي من أهمها حالة القوة المُفْرِطة التي يتمُّ استخدامها بديلًا عن الدبلوماسية، والتحديات البيئية والمناخية وكثيرًا من القضايا المهمة.

لذا تحاول هذه المقالة تحليل مفهوم وأوْجُه التنافس “الأمريكي – الصيني”، وصولًا إلى الآفاق المستقبلية للتنافس، ومساراته، وانعكاساته المحتملة على بِنْيَة النظام الدولي، ومأسسة نظامٍ عالميٍّ جديدٍ متعدد الأقطاب.

يُعدُّ اختلاف الرؤية أساس هذا التنافس، فعلى الرغم من اعتراف الرئيس جو بايدن بوجود توترات جيوسياسية وجيواقتصادية مع الصين، لكن لا يوجد صراع، والوضع يشبه الحرب الباردة بين القوتين العظمييْن، وعبَّر عن ذلك بشعار “نحن نسعى إلى المنافسة وليس الصراع” في خطابه عن حالة الاتحاد لعام 2023.

لكن من ناحيةٍ أخرى، ترى الصين أن الولايات المتحدة تُقوِّضُ سياسة الصين الواحدة، من خلال تسليح تايوان ودمْجها في النظام العالمي كدولة مستقلة، كما أن الصين حذِرَة من تدخُّل الولايات المتحدة في شؤونها الداخلية، بالإضافة إلى فرْض العقوبات الأمريكية والجهود الجيوسياسية لعرْقلة تنميتها الاقتصادية

ومن المهم أيضًا الأخْذ في الاعتبار – وفْق الرؤية الأمريكية – النمو الاقتصادي الصيني المتنامي والبناء العسكري، اللذان لا يهددان الهيمنة الغربية فحسب، بل يهددان أيضًا قواعد النظام الليبرالي الدولي، القائم منذُ الحرب العالمية الثانية؛ حيث يخشى الغرب أن يؤدي صعود الصين في نهاية المطاف إلى ظهور نظامٍ عالميٍّ جديدٍ، يحقق المصالح الصينية، ويساعدها في ترسيخ مكانتها كزعيمة عالمية.

وبإعلان فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، التي أجريت أواخر نوفمبر 2024 ، برز تسـاؤل رئـيس، حـول مسـتقبل العلاقـات بين الولايات المتحدة والصين؛ حيث شكَّلَ لحظةً فارقةً، ليس فقط في السياسة الأمريكية؛ بل أيضًا في المشهد الدولي، وخاصَّةً في العلاقات بين واشنطن وبكين؛ لما لها من تداعيات سياسية واقتصادية وعسكرية وتكنولوجية مهمة على معظم دول العالم، إن لم يكن أجمعها؛ فهذه العلاقات، التي تربط بين أكبر اقتصاديْن في العالم، ينظر إليها على أنها الديناميكية التي سوف تحدد مواقع القوى العالمية في القرن الحادي والعشرين، خاصَّةً بعد أن أصبحت لا تخلو من المواجهات والخلافات، على جبهاتٍ كثيرةٍ حرجةٍ، بدءًا من التجارة والتكنولوجيا المتقدمة، مرورًا بقضية تايوان، إلى اشتعال المناوشات العسكرية وسباق التسلُّح في بحر الصين الجنوبي.

آفاق التنافس بين الولايات المتحدة والصين على الصعيد الاقتصادي

تُعدُّ مــن أهــم وأكثــر التفــاعلات الاقتصاديــة تعقيــدًا في العالــم، باعتبارهمـا أكبـر اقتصاديْـن في العالـم، فـإن حجـم التجـارة بينهمــا لــه آثــار عميقــة في الاســتقرار الاقتصــادي العالمــي والنمـو والجغرافيـا السياسـية؛ حيث نجد أن الصين تتمتع بفارق تجاري ضخم؛ إذ لأمريكا ما قيمته – حسب إحصائيات العام 2018 – بضائع وخدمات بقيمة 557 مليار دولار في مقابل واردات بحوالي 179 مليار دولار؛ بما يعني أن الصين تحقق فائضًا في ميزانها التجاري مع أمريكا يبلغ 378 مليار دولار لصالح الصين .(1)

وقد وصلت القيمة الاجمالية للسلع المتبادلة بين الولايات المتحدة والصيــن إلى حــوالي 690.6 مليــار دولار، بحلــول عــام 2022، وفْقًا لمكتـب الإحصـاء الأمريكي، ويشـمل هـذا الرقـمُ كُلًّا مـن الـواردات والصادرات؛ حيث يميل الميزان التجاري بشدة لصالح الصين، ففي عام 2022، اسـتوردت الولايات المتحـدة بضائع بقيمة 536.8 مليار دولار مـن الصيـن، بينما صدَّرت سـلعًا بقيمـة 153.8مليار دولار، وبلغ إجمالي عمليات التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة أكثر من 530 مليار دولار، خلال الأشهر الـ11 الأولى من العام 2024. (2)

وفي هذه الفترة، بلغت قيمة الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة أكثر من 400 مليار دولار، بحسب أرقام أمريكية؛ ما يجعل الصين ثاني أكبر الشركاء التجاريِّين للولايات المتحدة، بعد المكسيك. والصين من المورّدين الرئيسيِّين لسلعٍ، مثل الإلكترونيات والملابس والمنسوجات إلى الولايات المتحدة، وفْقًا لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي.

لكن الخلل الكبير في الميزان التجاري شكَّلَ لفترةٍ طويلةٍ مصدر قلق في واشنطن، مع بلوغ العجز التجاري مع العملاق الآسيوي 270 مليار دولار، خلال الأشهر الـ11 الأولى من العام 2024.

“التسلسل الزمني لحرب “الرسوم الجمركية” بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية”

استقرَّت أمريكا متربعةً علي المركز الاقتصادي الأول منذ أكثر من سبعين عامًا، وخاصَّةً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتربعت أيضًا كأقوى دولةٍ مسلحةٍ عسكريًّا، ولكن المؤشرات الاقتصادية العالمية، تبين بأن الميزات التنافسية التي أكسبت الولايات المتحدة الاحتفاظ بمركزها الاقتصادي، لن تكون كافيةً لاستمرارها في موقعها الريادي، في ظل الخطط التنموية التي تنتجها دول العامل والتغيرات المتسارعة في حركة الاقتصاد العالمي.

” لم تعُدْ الميزات التنافسية للولايات المتحدة الأمريكية كافيةً لوحدها للاحتفاظ بقوتها الاقتصادية وهيمنتها على اقتصادات العالم”

في حين أن اقتصاد جمهورية الصين الشعبية يُعدُّ ثاني أكبر اقتصادٍ عالميٍّ بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وأسرع اقتصادٍ متنامٍ في الثلاثين سنة الماضية بمعدل نموٍّ سنويٍّ يتخطى %10، فقد انطلقت فيها نهضة كبيرة، منذ نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي، عندما بدأت أولى خطواتها بتبنِّي خطَّة اقتصادية مدتها ست سنوات؛ للخروج من الاقتصاد الشيوعي، وتحقيق التنمية، من خلال ما يُوصف بنموذج ”اقتصاد السوق الاشتراكي“، والاعتماد على التجارة الدولية.

وتمكَّنت الصين من التقدُّم إلى صدارة مختلف القطاعات الاقتصادية، بدْءًا من تخصيصها مناطق اقتصادية ضخمة كمناطق حرة تتمتع بقوانين خاصَّة لتشجيع الاستثمار الأجنبي، وحتى انضمامها لمنظمة التجارة العالمية، وقيامها بفتْح أسواق الأوراق المالية أمام المستثمرين الأجانب، وتعديل أحكام الدستور لحماية الملكية الخاصة، في خطوةٍ جريئةٍ جدًّا، تبدو ظاهريًّا عكْس مبادئها السياسية الشيوعية التقليدية حتى وإن سميت بـ ”مصنع العامل“ .

فقد أطلقت الصين خطتها الإستراتيجية الصناعية تحت مسمى ”صنع في الصين2025؛ بهدف تطوير صناعاتها المحلية ورفْع محتواها المحلي من المكونات الأساسية والمواد المُصنَّعة لتصل إلى %70، بحلول عام 2025.

ونجد أن الإستراتيجية الأمريكية تسعى دائمًا لقطع الطريق مبكرًا على صعود الصين، فلقد بدأت التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة حين فـاز ترامـب في الانتخابـات؛ ما فاجـأ الحكومة الصينية التي لـم تكـن تتوقـع هـذا التحـوُّل، وسُـْرعان مـا بـدأ ترامـب في فـرض رسـوم جمركيـة عاليـة على الصـادرات الصينيـة، بالإضافـة إلى تطبيق قيودٍ على الاسـتثمارات الصينية وفرْض عقوبات على شـركات صينيـة.

في ظل ذلـك، عملت الصيـن على تعزيز موقفها الاقتصـادي، من خلال سـنِّ مجموعـة من القوانيـن التي تعطيها القدرة على الرَّدِّ بشكلٍ قويٍّ، وتمَّ تعزيز قانون مراقبة الصادرات؛ ما يسـمح لبكين باسـتخدام هيمنتها على العديـد من الموارد الأساسـية، مثـل المعـادن النـادرة والليثيـوم، وهي مـواد حيويـة في التكنولوجيـا الحديثـة، كأداة ضغط على الولايـات المتحدة.

فلقد عانت الصين خلال فترة ولاية ترامب الأولي 2021-2017، عندما فـرض تعريفـات جمركية على السـلع الصينيـة بقيمة مئـات المليـارات، واستمرت الحرب التجارية عاميْن مع الصين؛ بسبب فائضها التجاري الضخْم مع الولايات المتحدة، وتبادل البلدان خلالها فرض رسوم جمركية على سِلَعٍ بمئات المليارات من الدولارات؛ ما أربك سلاسل التوريد العالمية وألحق الضرر بالاقتصاد العالمي.

واستمر التصعيد حتى أغسطس 2019، عند الإعلان عن رسوم جمركية على السلع والبضائع المستوردة من الصين، تصل قيمتها الي 300 مليار دولار وبنِسَبٍ تتراوح من %10 الي %25.

وأوضحت الإدارة الأمريكية، بأن هذه الرسوم تُعدُّ ”تدابير دفاعية“ للحدِّ من العجز التجاري، وردَّت الصين من جانبها، برفْع الرسوم الجمركية على السلع والبضائع الأمريكية، وبعد مفاوضات طويلة وشاقة، توصَّل البلدان إلى ما سُمِّيَ بـ”المرحلة الأولى” من اتفاق تجاري عام 2019؛ ما أدَّى إلى هُدْنةٍ في الحرب التجارية بينهما.

وبموجب الاتفاق، تعهَّدت الصين باستيراد منتجات أمريكية بقيمة 200 مليار دولار، من بينها؛ منتجات زراعية ومأكولات بحرية بقيمة 32 مليار دولار. لكن الخطة خرجت عن مسارها؛ بسبب جائحة “كوفيد-19″؛ ليتسع العجز التجاري السنوي إلى 361 مليار دولار لصالح الصين.

وما لبث أن فرض ترامـب حملـةً ضـد شـركة الاتصالات الصينيـة العمالقـة ”هـواوي“، في السـنوات الأربع التاليـة 2021-2022، استهدف الرئيس جو بايدن بها الصناعات التكنولوجية الصينية بضوابـط مشـددة، حجَّمـت قدراتهـا على الاسـتثمار والتصديـر، بالإضافـة إلى التعريفات الجمركية.

ثمَّ تبنَّتْ الولايات المتحدة الأمريكية إستراتيجية تهدف إلى منْع وصول التكنولوجيا الأمريكية إلى الجيش الصيني تكُفُّ واشنطن بموجبها جهوده لتقييد صادرات الرقائق الإلكترونية إلى بكين.

كما زادت إدارة بايدن بعض التعريفات الجمركية ردًّا على ما وصفته بـ”الفائض الصناعي” في الصين؛ في محاولة لمواجهة تأثير الإعانات الحكومية المقدّمة للمصنّعين الصينيين، والتي من شأنها أن تؤدي إلى إغراق الأسواق بالسلع الرخيصة.

كما ضاعفت الرسوم على المركبات الكهربائية 4 مرات، لتصل إلى 100%، في حين رفعت التعريفات الجمركية على أشباه الموصلات من 25 إلى 50%، واستُهدفت أيضًا البطاريات والمعادن الأساسية والمعدّات الطبية بهذا الإجراء.(3)

واستمر التنافس الامريكي الصيني حتى نفَّذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 2025، وعيده بزيادة الرسوم الجمركية على المنتجات الصينية بعدما اتهم بكين بممارسات تجارية غير عادلة، وبعدم اتخاذ إجراءات في ما يتعلَّقُ بتهريب الفنتانيل (مادة مخدرة) إلى الولايات المتحدة. وفرض ضرائب إضافية بنسبة 10% على السلع الصينية، لتُضاف إلى تلك التي كانت مفروضةً في السابق.

وتُعدُّ الضرائب التي فرضها ترامب على الواردات كبيرة، وهي الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة والصين، وقد أدَّت التعريفات الجمركية الأوَّلية، التي دخلت حيِّزَ التنفيذ في الرابع من فبراير، إلى فرْض تعريفات جمركية على سلع مستوردة بقيمة 1.4 تريليون دولار.

وهذا أكثر من ثلاثة أمثال قيمة السلع الأجنبية التي فُرضت عليها تعريفات جمركية خلال فترة ولاية ترامب الأولى، والتي بلغت 380 مليار دولار.

الرَّدُّ الصيني.. الفحم والغاز الطبيعي

في المقابل، أعربت بكين عن اعتراضها، متعهِّدةً بالرد عبْر إجراءات مناسبة، ومجددة التأكيد، أنه “لن يكون هناك فائز” في الحرب التجارية، وقامت بفرض رسوم مضادة على عددٍ من المنتجات الأمريكية، مثل السيارات والمعدات الزراعية وشحنات الطاقة.

وقامت الصين – بالفعل – بفرْض ضريبة بنسبة 15% على أنواع معينة من الفحم والغاز الطبيعي المسال ورسوم جمركية بنسبة 10% على النفط الخام والآلات الزراعية والسيارات ذات السعة الكبيرة والشاحنات الصغيرة.

ولكننا نجد أن الإجراءات الصينية المقابلة بفرْض جمارك مماثلة على أمريكا ستكون حصيلتها بالنهاية لصالح أمريكا؛ إذ إن حجم التجارة الأمريكية الموجَّهة للصين أقل من رُبْع تلك التي كانت الصين تُصدِّرُها، إذن يمكن القول: إن سلاح الجمارك سيصُبُّ في مصلحة أمريكا كإيراد، وهو ما تراه الإدارة الأمريكية بالفعل، بأنه سيرفع إيراداتها الضريبية بحوالي 100 مليار دولار سنويًّا.

على النقيض أسلوب القوة الناعمة التي تتبعها الصين، من خلال أذرعها الاستثمارية، خاصَّةً في مجال الاستثمار العالمي في شبكات المعلومات الجيل الخامس، أصبحت تُشكِّلُ مصدر تهديد للولايات المتحدة الأمريكية في حماية أمنها القومي ومكانتها كقوة عالمية، .

وعليه؛ نجد أن الصين لجأت إلى عدة طُرُق لمواجهة اللكمات الأمريكية فلجأت إلى اتباع إستراتيجية ” الهدوء الإستراتيجي ” وسعت إلى تجنُّب تصعيد الخلافات، وانتظرت الخطوات الأمريكية بشكلٍ عامٍ قبْل أيِّ ردٍّ عليها، فما كان من الولايات المتحدة الأمريكية إلا إشعال شرارة الحرب التجارية الأولي؛ ما دفع الصين لتغير سياسـاتها وتبين أسـلوب أكثر عدوانية في العلاقات الدولية يشـار إليه باسـم ”دبلوماسية الذئب المحارب“ وهو نهْجٌ تخلَّت عنه بكين بعدها

ولجأت الصيـن بعدها على العمل على تقليل اعتمادها على الســوق الأمريكيــة وتعزيــز علاقاتهــا الاقتصاديــة مــع الـدول الأخـرى، خاصَّـةً في آسـيا وأوروبـا، ورغـم أن مسـتقبل التجـارة بيـن الولايـات المتحـدة والصيـن غيـر مؤكـدٍ؛ بسـبب التوتـرات الجيوسياسـية المسـتمرة والمنافسـة الإستراتيجية بيـن البلدين؛ فالحجـم الهائل للعلاقـات التجاريـة بينهما، والــذي يُشــكِّلُ حجــرًا في الاقتصــاد العالمــي، يجعل معضلة الصين في أن فائضها التجاري الكبير مع الولايات المتحـدة يحدُّ مـن تأثير التدابير المضادة المباشـرة. فتحوّل التهديـدات الجديـدة إلى سياسـات فعليـة، يجعل الصين نفسـها مضطـرة لاسـتخدام أدوات أكثـر تأثيرًا؛ ما يهدد بنزاعٍ أكبر يصعُبُ احتواؤه.

التدابيــر الصينيــة لمواجهــة الحمائيــة الأمريكيــة على المستوى الاقتصادي

أولًا: السياسات النقدية

نجد السياسـة النقدية في الصين شـهدت تحوُّلًا كبيـًرا مع نهاية الرُّبْع الثالـث مـن عـام 2024؛ إذ بـات واضحـًا أن الاقتصـاد بحاجـةٍ إلى مزيدٍ من التيسير لدعم النمو الاقتصادي.

خلال هذه الفترة، أعلنت الصين عن ثلاثة تدابير رئيسـية تهدف إلى تعزيـز الاقتصاد، وهي خفْض نسـبة الاحتيـاطي الإلزامي لـدى البنوك، خفْض أسعار الفائدة، وإنشاء أدوات لدعم سوق الأسهم.

وفي سـبتمبر 2024، ضخّـت سـيولة بقيمـة 2.7 تريليون يوان في النظام المصرفي لتشجيع الإقراض وخفْض أسعار الفائدة، كما أعلنت عن إنفاقٍ جديدٍ على البنية الأساسية وقدَّمت مسـاعدات لمطـوِّري العقارات المُثْقليـن بالديون.

وقام بنك الشعب الصيني بتخفيضات كبيرة على نسـبة الاحتياطي الإلزامي التي تحدد مقدار الأموال التي يتعين على البنـوك تخصيصهـا كاحتياطيـات، كمـا بدأ البنـك في خفْض العديـد من أسـعار الفائـدة لدعم النمـو المتباطئ، وكشـفت الحكومة الصينية عن دفعة إضافية بقيمـة 10 تريليونـات يـوان؛ للمسـاعدة في تخفيف أزمـة الديون وفي نوفمبر2024 .

تمثل هـذه التدابير أول تخفيف للموقف المالي في الصين، منذ أواخر عـام 2010، وتعكس توجُّه الصين إلى سياسـة نقدية ”متسـاهلة بشكلٍ معتدلٍ هذا العام 2025.

ونجد أن الصين أولوياتها في السياسة النقدية والمالية لعام 2025، توسيع الطلب المحلي وتحفيز الحيوية؛ لضمان التحسُّن المستدام في الاقتصاد الصيني، مؤكدًا أنه سينفذ سياسة نقدية «تيسيرية معتدلة» سيعمل من خلالها على منْع ونزْع فتيل المخاطر المالية في المجالات الرئيسية، فضلًا عن تعميق الإصلاح المالي والانفتاح عالي المستوى.

ثانيا- خفْض اليوان الصيني:

إن السـماح لليـوان بالانخفـاض قـد يجعـل الصـادرات الصينيـة أرخـص؛ مـا يخفـف مـن تأثيـر الرسـوم الجمركيـة ويخلـق بيئـةً نقديـةً أكثر مرونـةً في الصين، ويسـمح لليوان بالتحرُّك بنسـبة 2% صعودًا أو هبوطًا التي يحددها البنك المركزي.

في اجتماع للمكتب السـياسي للحـزب الشـيوعي، فى ديسـمبر 2024، تعهَّـدت الصين بتبنِّي سياسة نقدية ”ميسرة بشكل مناسب“ في عام 2025؛ ما يُمثِّـُل أول تيسـير من نوْعـه منذ حـوالي 14 عامًا.

وتحاول الصيـن مؤقًتا مـن ربـْط اليـوان بالـدولار الأمريكي إلى ربطه بسلة من العملات غير الدولار؛ لضمان مرونة سـعر الصرف خلال فترة التوتـرات التجارية.

ثالثًا: تعزيز العلاقات مع حلفاء جدد

تبنـت بكيـن سياسـة ”الانفتـاح الاحـادي“؛ حيـث عـزَّزت علاقاتهـا التجاريـة مـع دول خـارج نطـاق واشـنطن، مثـل أسـتراليا وكوريـا الجنوبيـة، مـن خلال تقديـم تسـهيلات، مثـل تخفيـف متطلبـات التأشـيرات دون مطالبة تلك الدول بإجراءات مماثلة، كما تحاول الصيـن تقديـم حوافـز اقتصاديـة في قطاعـات حيويـة، تشـمل المعـدات الكهربائيـة، والاتصالات، والمنتجـات الزراعيـة؛ لفتـح أسـواق جديـدة وتعزيـز الشـراكات التجاريـة مـع أوروبـا وآسـيا.

كمـا تتجـه الصيـن أيضـا إلى حجْـب إمـدادات المعـادن الحيوية وبيع الأصول الأمريكية، مثل سندات الخزانة، كجزء من سياساتها لمواجهـة الاجـراءات الأمريكيـة، كمـا نجحـت الصيـن في تمريـر بضائعهـا إلى السـواق الأمريكيـة عبـْر دول أخـرى، مثـل فيتنـام وإندونيسيا والمكسيك، بجانب أن العديد من المنتجات الموردة إلى الولايـات المتحـدة تُصنَّـُع فِعْليًّـا في مصانـع صينيـة.

رابعًا: المراوغة الصينية على التعريفات الجمركية الأمريكية

تمكنـت الصيـن مـن التحايـل على بعـض التعريفـات الجمركيـة القائمة، من خلال إعادة توجيه البضائع المشحونة إلى الولايات المتحـدة، عبر منشـآت في المكسـيك وفيتنـام؛ مـا قد يمثل عامل قوة للصين وسط قدرتها على التحايل على الرسوم الجمركية الجديدة المقترحة.

أمَّـا النمـوذج الأفضـل لسياسـات المراوغـة، فهـو قطـاع الطاقـة الشمسـية؛ حيـث فشـلت الولايـات المتحـدة خلال12 عامًـا في إيقاف نمو اسـتثمارات الصين في هذا القطاع حتى في فتـرة ترامـب الأولى؛ حيث تقـوم الشـركات الصينيـة بنقْـل عمليـات الإنتـاج إلى دول جديـدة كلما فرضت الولايـات المتحدة جمارك مرتفعـة على واردات الطاقـة الشمسـية مـن دولـة مـا، وهكـذا انتقلـت الاسـتثمارات الصينيـة مـن الصيـن إلى كمبوديـا وفيتنـام وتايلانـد وماليزيـا، ثـمَّ إلى إندونيسـيا ولاوس.

خامسًا: قطاع التكنولوجيا

تعمـل الصيـن على تطويـر التكنولوجيـا المحليـة والاسـتثمار في الصناعـات الإستراتيجية، مثـل الـذكاء الاصطنـاعي، والجيـل الخامس، والروبوتات؛ لتقليل اعتمادها على الشركات التكنولوجية الأمريكيـة، وتـسعى إلى جعْـل سلاسـل الإمـداد الخاصـة بهـا في مجال التكنولوجيا والموارد أكثر مقاومةً للتقلُّبات التي قد تسببها العقوبات الأمريكية، كما تبذل جهدًا كبيرًا لتوسيع تجارتها مع الـدول التي لا تتبـع التوجُّهات السياسية و الاقتصادية نفسها للولايات المتحدة

فلقـد اتجهـت الصيـن بشـكلٍ كبيـرٍ إلى توطيـن التكنولوجيـا في اقتصادهـا، وتـسعى إلى وضْـع نفسـها كقـوة عظمـى رائـدة في مجـال العلـوم والتكنولوجيا، بحلول 2035، كجزء من إستراتيجية الأمن القومي الشامل“، التي تخطط من خلالها لأن تكون إحدى أبـرز القـوى عالميًّـا في مجالات التقنيـة والابتـكار، وفي قلْب هذه الإستراتيجية، تقـع رقائـق أشـباه المـوصلات الدقيقـة، التي تُعدُّ ضروريةً لجميع التقنيات المدنية والعـسكرية الحالية والناشئة.

وتنظـر الصيـن إلى الضوابـط والقيـود الأمريكيـة على صـادرات أشـباه المـوصلات (الرقائـق الالكترونيـة) كمحفِّـٍز لدفْع الشـركات الصينيـة إلى القيـام بابتـكارات محليـة في هذا القطـاع، بالإضافة إلى دفْعها لزيادة اسـتثماراتها في مجال البحث والتطوير لتعزيز قدراتها على الإبداع التكنولوجي.

سادسًا: الصين ومجموعة البريكس

إن دول البريكس تهدف إلى إعادة التوازن للنظام العالمي، من خلال إلغاء الدولار والاعتماد على العملات المحلية في التعاملات البينية، مثل الاتفاق التجاري بين الصين والبرازيل باستخدام عملتيهما، كما أبرمت الصين اتفاقيات تجارية مع “روسيا وباكستان والمملكة العربية السعودية” بدون استخدام الدولار.

ومع الأخذ في الاعتبار، اتفاق الخبراء والاقتصاديين على عدم وجود بديل آمن للدولار؛ لذلك لا يتوقعون اقتراب نهاية هيْمنة الدولار. وبالرغم من ذلك، فإن الاعتماد التدريجي على وسيلة تبادل غير الدولار، ومحاولة الاستغناء عنه، سوف يؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار تدريجيًّا.

نجد أن مجموعة البريكس ترسل إشارةً قويةً، بأن النظام يجب أن يتقبل الواقع المتعدد الأقطاب وأن يتغير مع مرور الوقت، ومن أبرز ما تمَّ الاتفاق عليه في القمة الخامسة عشرة، هو قبول ستة دول أعضاء جديدة: “الأرجنتين، مصر، إثيوبيا، إيران، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة”؛ للانضمام رسميًّا إلى المجموعة، في يناير 2024.

وهناك جانب مهم آخر، يتمثل في كيفية استفادة هؤلاء الشركاء من أنظمة التعاون الجديدة التي تحاول مجموعة البريكس إنشاءها؛ فالتداول بالعملات الوطنية أصبح حقيقةً واقعةً.

وتُعدُّ صفقة النفط الأخيرة بالروبية بين الهند والإمارات العربية المتحدة، إشارة إلى أن مُصدِّري السلع الأساسية ومستورديها الرئيسيِّين في العالم قادرون على محاولة تقليل اعتمادهم على الدولار، والذي استمرَّ منذ عام 1973.

و إن لم يكن نظامًا عالميًّا جديدًا، فمن المؤكد أن توسُّع مجموعة البريكس، ما هو إلا محاولة لإقامة نظام عالمي بديل، نظام يعطي قدْرًا أكبر من الاهتمام إلى الأغلبية النامية مقابل الدول المتقدمة.

أبرز ملفات التنافس بين الولايات المتحدة الامريكية والصين علي الصعيد السياسي

أولًا: ملف تايوان

تُعدُّ قضية تايوان أحد مُسبِّبَات التوتر في العلاقات “الأمريكية – الصينية” فهي المسألة الأكثر حساسيةً في العلاقات “الصينية – الأمريكية”، فالصين لديها موقف خاصٌّ فيما يتعلق بتايوان؛ حيث تعتبر جزيرة تايوان ذات الحكم الذاتي جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، مؤكدةً عزْمها على استعادتها ولو بالقوة إن لزم الأمر، وموقف الولايات المتحدة الأمريكية الداعم للسياسة التايوانية، يُمثِّلُ تحدِّيًا وقلقًا لدى الصين.

فالصراع بين الولايات المتحدة والامريكية والصين يأخذ الطابع التنافسي، بما أن الدولتين تمثلان قوى اقتصادية تحتلَّان من خلالها المراتب الاولي عالميًّا، ولكن بروز قضية تايوان زاد من حدة الصراع بين الطرفين الذي من شأنه الوصول إلى الصدام العسكري، وفقًا لما تُمثِّلُه تايوان من أهميةٍ للطرفيْن.

إن الولايات المتحدة والصين بما تمتلكان من قوةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ تتمثل بكوْن الاثنين قوى نووية، فضلًا عن إمكانياتها الاقتصادية الكبيرة، يخوضان حربًا باردةً في عددٍ من المجلات، لكن تايوان تمثل المشكلة الأكبر بينهما، وتزيد من حدَّة الصراع؛ فالصين تستمر بالضغط على تايوان، ولا سيما التدخُّلات المتمثلة بالطيران الصيني على الحدود التايوانية؛ الأمر الذى دفع الولايات المتحدة إلى الإعلان بأنها ستدافع عن تايوان في حال أي هجوم من جانب الصين .

تداعيات أزمة تايوان على العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين

ونجد أن التداعيات الاقتصادية للأزمة في تايوان على كُلٍّ من الولايات المتحدة والصين أخذت أشكالًا عديدةً كتباطؤ النمو الاقتصادي وانخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتراجع الصادرات والواردات، فضلًا عن التقلُّبات في الأسواق المالية، كما قد تؤثر الأزمة أيضًا على سلسلة التوريدات العالمية .

ونجد أن أبرز صور ذلك تتمثل في التنافس المتزايد في مجال الرقائق الإلكترونية، فبعد اتهام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تايوان، بأنها انتزعت أعمال الرقائق الإلكترونية من الولايات المتحدة، وأن أمريكا تريد استعادتها، قامت تايوان بتقديم صناعة أشباه الموصلات في الجزيرة للولايات المتحدة كـ«هدية تذكارية»، واستغلالها لكسب الدعم السياسي من واشنطن.

تداعيات أزمة تايوان على العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة والصين

ونجد أن احتمالية تدخل الصين عسكريًّا في تايوان يرتبط بشكلٍ غير مباشرٍ بنجاح روسيا في أوكرانيا، وهذا النجاح إذ ما حدث قد يشكل مصدر تشجيع للصين، بضمِّ تايوان وتوحيد الصين، فإمكانية بروز عالم جديد متعدد الأقطاب أصبح يهدد مكانة الولايات المتحدة الأمريكية .

فموافقه الولايات المتحدة على مبيعات أسلحة بقيمة ملياريْ دولار إلى تايوان، بما فيها تسليم نظام دفاع صاروخي متقدِّم لأول مرة إلى الجزيرة التي تتمتع بالحكم الذاتي، يمثل ذلك خطوةً أثارت حفيظة الصين التي تعهَّدت بـ”إجراءات مضادة حازمة” ردًّا على الصفقة.

ووفقًا لمكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية الأمريكية، تتضمن حزمة المبيعات التي وافقت عليها الإدارة الأمريكية 3 أنظمة صواريخ “أرض – جو” متقدمة “ناسامز” (NASAMS) ومعدَّات ذات صلة بقيمة تبلغ 1.16 مليار دولار، كما تشمل أنظمة رادار تقدر قيمتها بنحو 828 مليون دولار.

أمَّا عن التداعيات العسكرية الصادرة من بكين؛ فمنها قيامها بمناورات حربية حول تايوان، ووفقًا لمسؤولين صينيين، كانت تلك المناورات الحربية التي أجرتها الصين تهدف إلى ممارسة “إغلاق الموانئ والمناطق الرئيسية” حول تايوان.

ثانيًا: بحر الصين الجنوبي اللغز الجيوإستراتيجي لصراع النفوذ “الصيني – الأمريكي”

الولايات المتحدة منذ عقد أو أكثر عملت على زيادة وجودها العسكري في منطقة بحر الصين الجنوبي بشكلٍ يثير استفزاز الصين لتقارب البحر مع الشواطئ الساحلية الشرقية للصين.

عند تحديد الأهداف التي ترغب الصين في تحقيقها من وراء سعيها الدائم لجعل بحر الصين الجنوبي منطقة سيادة صينية، نجد أن أهم أهدافها اقتصادية بالأساس وتمسُّ أمنها القومي، ناهيك عن كوْن منطقة بحر الصين الجنوبي منطقة غنية بالنفط والغاز

لذلك كان من الطبيعي للصين ونتيجةً لأهمية الطاقة بالنسبة للاقتصاد الصيني، أن تسعى لتأمين بحر الصين الجنوبي لوارداتها النفطية، خاصَّةً عندما شعرت الصين أنه نتيجة للوجود الأمريكي في بحر الصين والمحيط الهندي والهادي وللتنافس “الأمريكي – الصيني”، فإن الولايات المتحدة قد تغلق مضيق ملقا؛ ما يُمثِّلُ تهديدًا لخطوط تجارة الصين البحرية، ولكن هذا لا يعني أن للصين أهدافًا أخرى، فربما يكون هناك هدف إستراتيجي يتوافق مع سياسة الصين، فلقد بدأت الصين منذ عشرين عامًا تخطط للخروج الكامل للولايات المتحدة من منطقة بحر الصين الجنوبي، وكلا الهدفين سواء أن كان الاقتصادي أو الإستراتيجي لا تقلُّ أهميته عن الآخر بالنسبة للصين.

يأتي على نقيض أهداف الصين من وراء إستراتيجيتها في بحر الصين الجنوبي أهداف الولايات المتحدة؛ فيبدو أن الولايات المتحدة ليس لديها مطامع في ثروات بحر الصين الجنوبي، ولكن للولايات المتحدة هدف إستراتيجي من وراء وجودها العسكري في بحر الصين، وهو محاولة تطويق الصين بعددٍ من الحلفاء للولايات المتحدة

فلقد أدركت الولايات المتحدة محورية بحر الصين الجنوبي للصعود الصيني وأهميته بالنسبة لأمن الصين القومي؛ فعملت على استغلال حساسية هذه المنطقة بالنسبة للصين، وربطت مصلحتها القومية بمسألة النزاع في منطقة بحر الصين الجنوبي

ونستطيع أن نلاحظ أن إستراتيجية الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي الساعية لتحجيم النفوذ الصيني، اعتمدت على ثلاثة طرق وهم “الوجود العسكري، وحرية الملاحة البحرية، والتدخُّل لعرقلة وجود لحل لمسألة الحدود البحرية في بحر الصين”.

من الطبيعي أن تواجه الإستراتيجية الأمريكية في بحر الصين بإستراتيجية صينية مضادَّة لها نتيجة للأهمية الحيوية التي يمثلها بحر الصين لأمن الصين القومي، ونجد أن الصين قد اعتمدت على إستراتيجية داخلية في بحر الصين وأخرى خارجية، تتمثل في محاولة الإستراتيجية الصينية أن تخرق الاحكام العسكري الأمريكي لها في بحر الصين، من خلال تدشين مشاريع عالمية تربط بها اقتصادها بالاقتصاد العالمي؛ مثل “مشروع الحزام والطريق، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومشروع صنع في الصين 2025” التي لاقت قبولًا مُوسَّعًا من دول العالم عدا الولايات المتحدة التي فشلت في منْع انضمام الدول حتى الحلفاء لها[39]، فهذه المشاريع وارتباط اقتصاد عدة دول بها سوف يعطي الفرصة للصين من أن تعمل خارج نطاق منطقة بحر الصين الجنوبي.

وبذلك التفت الصين على إستراتيجية الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي، من خلال ربْط اقتصادها باقتصاد عدة دول في العالم، واستطاعت التقليل من احتمالية تحجيم النفوذ الصيني في المحيط الاقليمي الآسيوي.

كما أن الصين تبحث عن طرقٍ بديلةٍ لبحر الصين الجنوبي- رغم أهميته بالنسبة للصين- لتأمين خطوط تجارتها البحرية من التهديد الأمريكي المحتمل؛ مثل قناة برزخ كرايسثموس كبديلٍ عن مضيق ملقا، ممرّ التنمية الباكستاني 2015، فبدلًا من اعتماد أغلب خطوط الصين البحرية على البرِّ الشرقي لها سوف يتمُّ ربط غرب الصين بميناء جوادر الباكستاني، وبذلك سوف يتمُّ تفادي خطر الوجود العسكري الأمريكي على واردات الصين النفطية

وهنا لا بُدَّ أن نلاحظ أن هناك مستوى للتنافس على مناطق النفوذ بين الولايات المتحدة والصين نستطيع من خلاله القول: بأن هذا التنافس يتطور ليتخذ شكل صراعٍ بينهما؛ فالوقت الذي تتعامل فيه الولايات المتحدة من جهتها بمنطق عسكري وسياسي في إستراتيجيتها لمنافسة الصين في منطقة بحر الصين الجنوبي، قامت الصين بأخذ حذرها وطورت كفاءتها العسكرية وردعها النووي، إضافةً إلى نفوذها الاقتصادي، ولكن مع الأخذ في الاعتبار، أن إدراك كلتا الدولتين من امتلاكهما لترسانة من الأسلحة النووية سوف يردع كلتيهما عن الشروع في إضرار مباشر بمصلحة الآخر.

ختامًا:

نجد أن الصين تتعامل بهدوء مع إدارة ترامب الجديدة، ونجد الهدوء الصيني – وإن لم يكن جديدًا- إلَّا أنه هدوء الواثق مما يمتلكه من أدوات تأثير على الطرف الآخر، وتلك الأدوات جاهزة للتفعيل.

في المقابل، فإن إدارة ترامب، وعلى ضوء الخبرة السابقة، وفي ظل المؤشرات الأولية، لن تغير كثيرًا في نهْجها- لكن لا يجب إغفال أن من صفات ترامب، أنه قد يقوم بتحوُّلٍ فجائي في بعض السياسات تجاه بعض القضايا الخارجية- حتى وإن كان ذلك يبدو مخالفًا لتوصيات مؤسسية داخلية، وقد حدث ذلك في ولايته الأولى تجاه كل من كوريا الشمالية وروسيا، فهل يمكن أن يحدث مثل ذلك مع الصين في ولاية ترامب الثانية؟

على الأغلب، الصين لا تتوقع مثل هذا التحوُّل، لكنها ستكون مرحبةً بها وجاهزة للتعامل معه، كما أن الصين يمكنها أن تعطي لترامب بعضًا مما يريد، لكن ليس بذات الصِّيَغ التي يطرحها.

لذا نجد أن مسـتقبل العلاقات “الأمريكيـة – الصينيـة” سـيعتمد بشـكلٍ كبيرٍ على كيفية إدارة كلا البلديـْن لهذا التنافس المُعقَّـد ومتعـدد الأوجه، ومـن المتوقـع، أن تسـتمر المنافسـة وتـزداد حِدَّتهـا في بعـض المجـالات، ولكـن هنـاك أيضًا فـرصًا لتوظيـف المجـالات ذات الاهتمام المشـترك؛ مـن أجـل تعزيـز التعاون وتحقيـق نتائج إيجابية للجانبين.

وعلى الرغم من حِدَّة التنافس، تُوجد مجالات يمكن أن تكون محورية في بناء جسـور التعاون؛ ما يحقق فوائد متبادلة، ويسـهم في تعزيز الاسـتقرار العالمـي، والقـرارات التي سـتتخذها الولايات المتحـدة والصين في السـنوات القادمة ستشـكل مسـتقبل العالقـات الدولية، وقد تحـدد معالـم النظـام الـدولي الجديد.

ومن الجدير بالذكر، أن هذه المنافسة لا تأخذ اتجاهًا أيديولوجيًّا وجوديًّا، مثلما كان الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ فالأيديولوجيات والأهداف الإستراتيجية للجانبيْن ليست بالضرورة صفرية، ولا تسعى الصين إلى تدمير النظام الأمريكي أو إزاحة الولايات المتحدة كقوة مهيمنة عالمية؛ لذلك، يمكن القول: إن العامل اليوم لا يتميز بمعسكرين أيديولوجيين متعارضين، كما أن الولايات المتحدة مترابطة مع الصين بطرقٍ لم تكن عليها قطّ مع الاتحاد السوفييتي، لكن أيضًا المنافسة مع الصين غير مسبوقة لأن واشنطن لم تواجه قط منافسًا إسراتيجيًّا أو أيديولوجيًّا متماسكًا كالصين.

وفيما يخُصُّ بكين، يبدو أنها حسمت أمر الهيمنة العالمية واعتبرته أمرًا غير قابل للتحقيق، وغير ضروريٍّ لتأمين مصالح الصين، وربما يدرك القادة الصينيون، أن السعي إلى الهيمنة العالمية من شأنه أن يؤدي إلى نتائج عكسية، وأن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار بطرقٍ لن تكون مواتيةً لمصالح الصين أو أمنها.

وربما أدركوا أيضًاً استنادًا جزئيًّا إلى ملاحظة التجربة الأمريكية أن امتلاك الهيمنة العالمية من شأنه أن يكون مرهقًا وغير قابل للاستدامة، فإن بكين مستعدةٌ للرضا بشيء أقلّ من الهيمنة العالمية، ولهذا السبب يتحدث القادة الصينيون كثيرًا عن فكرة ”التعددية القطبية“ العالمية.

المصادر:-

1- رنا محمد عبد العال، ” التنافس الأمريكي الصيني.. نحو مأسسة نظام عالمي جديد

https://eces.ahram.org.eg/NEW/2133.aspx/

2- علي محمد الخوري،” الحرب الاقتصادية بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية : إلي أين ؟

  https://arab-digital-economy.org

3- أحمد قنديل, تعايش أم صدام؟ الترامية الجديدة ومستقبل العلاقات الأمريكية الصينية, المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة ، يناير 2025

https://futureuae.com/ar-AE

4- الرسوم الجمركية الأمريكية على الواردات الصينية تدخل حيز التنفيذ,أرقام، 2025/02/04

https://www.argaam.com/ar/article/

5- حرب تجارية مع الصين يشعلها ترامب من جديد.. هذه أبرز الحقائق ، الجزيرة

https://www.ajnet.me/ebusiness

5- بدء تطبيق الرسوم الأمريكية على الواردات الصينية.. وبكين ترد ، الحرة

 https://www.alhurra.com/arabic-and-international

6- قيصر اسماعيل خليل, ازمة تايوان واثرها علي العلاقات الامريكية الصينية, مجلة العلوم القانونية و السياسية

file:///C:/Users/Othman/Downloads/6.pdf

 7-محمد مكرم ، ترامب والصين… مواجهه حتمية ام مصالح محسوبة؟

https://www.ajnet.me.politics2025 /