منذُ إندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023 في قطاع غزة، أسفرت التحولات الميدانية عن بروز مشهد أمني مُعقَّد لم يعُد محصورًا في المواجهة التقليدية بين الإحتلال الإسرائيلي وحركات المقاومة الفلسطينية، حيثُ أدت العمليات العسكرية الواسعة، والإنهيار الجزئي في البنية الأمنية لحركة “حماس”، إلى فراغات أمنية في مناطق مُتعددة، أبرزها جنوب قطاع غزة؛ نظرًا لسيطرة القوات الإسرائيلية عليها، مما أتاح المجال لظهور قوة محليَّة مُسلَّحة أواخر شهر مايو الماضي تعمل خارج أُطر السلطة وحركات المقاومة، مما أتاح تفاقم أزمة سرقة المساعدات، وهي ميليشيا أطلقت على نفسها في البداية إسم “جهاز مكافحة الإرهاب” ثم “القوات الشعبية” – الإسم الحركي الجديد لعصابة “أبو شباب” – بقيادة ياسر أبو شباب. في هذا السياق، تُمثِّل هذه العصابة حالة غير تقليدية في السياق الفلسطيني، فهي ليست فصيلاً سياسيًا، بل قوة تشكَّلت من خليط عشائري، وسوابق جنائية، وأجندات مشبوهة، نشطت في تنفيذ عمليات نهب قوافل المساعدات، ما أدخل القطاع في أزمة غذاء كارثية وعزز من مخاطر حدوث المجاعة، لتتحول إلى فاعل أمني موازٍ يتحدى سلطة “حماس” في غزة، وقد أثيرت حولها شكوك واسعة بشأن تلقيها دعمًا عسكريًا غير مباشر خاصًة من الإحتلال الإسرائيلي.
في هذا السياق، تطرح هذه الورقة تساؤلات، أبرزها: هل تُمثِّل ميليشيا “أبو شباب” حالة مؤقتة من الفوضى على غرار تجارب سابقة في العراق ولبنان؟، أم بداية لتحول هيكلي في معادلة الأمن في غزة؟ وما مدى تأثيرها على الأمن المجتمعي في القطاع، وعلى الأمن القومي المصري؟
سيـــاق التكويــن ودلالات الظهــــور
من الجدير بالذكر أن بداية ظهور ميليشيا “أبو شباب” تزامنت مع الهجمات الإسرائيلية المباشرة في شهري مايو ويونيو من العام الماضي 2024 على منطقة رفح، والتي أدت لتدمير معبر “رفح”، والبنى السكنية، ومراكز توزيع المساعدات، أبرزها مركز “أونروا” لتخزين وتوزيع المساعدات، وكان يُمثِّل المركز اللوجستي الأكبر للأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، مما جعل معبر “كرم أبو سالم” المنفذ الوحيد لشاحنات المساعدات إلى غزة من جهة الجنوب؛ وبذلك فقد مهَّد الجيش الإسرائيلي الطريق عملياتيًا أمام نشاط عصابات سرقة المساعدات، التي خرجت من سجون “حماس” في بداية حرب غزة، بتعمُّد الجيش الإسرائيلي منذُ بدء الحرب على غزة في إستهداف سجون “حماس”. في ضوء ذلك، تركَّزت “القوات الشعبية” في شرق رفح بين محوري “موراج وصلاح الدين”، في منطقة أعلنها جيش الإحتلال منطقة محظورة على المدنيين، خاصًة وأنه بدأ يتردد على ألسنة سائقي شاحنات المساعدات أن هناك عصابة مُسلَّحة تعترض الشاحنات على مسافة نحو 2 كيلومتر شمال كرم أبو سالم،[1] تحت أنظار قوات الجيش الإسرائيلي، وذلك وفقًا لمذكرة صادرة عن الأمم المتحدة في أكتوبر 2024، كما أُشير إلى أن “ياسر أبو شباب” هو الشخص الأكثر نفوذًا وصاحب المصلحة الأكبر في عمليات النهب المُمنهجة لقوافل المساعدات.
في هذا السياق، صرَّح رئيس جمعية النقل الخاص في غزة “ناهد شحيبر”، بأن عناصر عصابة “أبو شباب” هاجموا قرابة 80 شاحنة مساعدات من أصل 100 شاحنة،[2] وذلك في حادثة واحدة وقعت في أكتوبر 2024، كما تسببت هجمات ميليشيا “القوات الشعبية” في مقتل أربعة من سائقي الشاحنات؛ في إشارة إلى حجم السيطرة والجرأة التي تتمتع بها هذه المجموعة، حيثُ أنها تُمارس عُنفًا مُمنهجًا ومُوجهًا، ما يُعزز الشكوك حول وجود دعم مباشر أو غير مباشر تتلقاه، سواء من أطراف داخلية لها مصلحة في إعادة تشكيل النفوذ المحلي، أو من جهات خارجية تسعى لإستثمار الوضع لتفكيك النسيج الأمني والاجتماعي في غزة.
الهيكل التنظيمي للميليشيا: وتضُم عصابة “أبو شباب” عشرات العناصر التي كانت تُشارك في هجوم 7 أكتوبر بصواريخ على إسرائيل ولكن دون التنسيق مع “حماس”. في هذا السياق، جُنِّد غالبيتهم جهاز الشاباك – حسب صحيفة معاريف الإسرائيلية – لتشكيل عصابة مرتزقة لصالح إسرائيل، وهم مجرمون متورطون في قضايا مخدرات وتهريب، حيثُ أن الفكرة الأساسية للشاباك كانت إستخدام هذه العصابة كمشروع تجريبي لمعرفة ما إذا كان بإمكانها فرض نوع من الحُكم البديل لحركة “حماس”، وذلك من خلال الدعم التسليحي؛ حيثُ جاء تصريح لـ “بنيامين نتنياهو” بأن دعم هذه الجماعة هو لحماية جنود الجيش الإسرائيلي، وقال: “ما العيب في ذلك؟ إنها خطوة جيدة”.[3] وعليه، يُمكن القول أن بعدما إستنفذ الإحتلال أدوات العدوان على قطاع غزة، من قصف وتدمير وتجويع وحرب إبادة وتهجير، يتجه اليوم إلى محاولات إشعال الفوضى وتمزيق النسيج الداخلي، بتشكيل وتمويل مجموعات إرهابية وعصابات مُسلَّحة داخل القطاع. في إطارٍ مُتصل، لا يُجيد “ياسر أبو شباب الكتابة؛[4] مما يُشير إلى وجود طاقم إعلامي يعمل على إدارة صفتحه لترويج عمله بشكل مهني.
أبــرز قــادة الميليشيــا الجديــدة، هُــــم:-
1- عصام نباهين: البالغ 33 عامًا، من مخيم النصيرات وسط غزة، والذي سبق أن قاتل مع “داعش” في سيناء ضد الجيش المصري.
2- غسان الدهيني: شقيق وليد الدهيني – أحد عناصر “داعش” الذي قضت عليه حماس – كان متورطًا في إختطاف الجندي الإسرائيلي الأسير السابق “جلعاد شاليط” عام 2006، ويعمل حاليًا ضمن الميليشيا الجديدة، على الرغم من إنتمائه الرسمي لحركة “فتح”.
3- ياسر أبو شباب: يبلغ من العمر 31 عاما، من سكان رفح، وينتمي إلى قبيلة الترابين، وهي قبيلة بدوية تنشط في سيناء والنقب وغزة، وهو تاجر مخدرات – خاصًة الحشيش والحبوب المؤثرة عقليًا – وكانت له علاقات واسعة في شبه جزيرة سيناء، وكان متورطًا في تهريب المخدرات من سيناء إلى قطاع غزة، ثم أصبح يعمل مع الصليب الأحمر والأونروا لتأمين شاحنات المساعدات الإنسانية الإغاثية التي كانت تُدخل القطاع، حيثُ إستغل ذلك في سرقة البضائع والنهب المُمنهج.
في سياق ذلك، يتبيَّن أنها جماعة مُسلَّحة لها سجل مُتعلق بالنشاط الإرهابي؛ نظرًا لإرتباطها بتنظيم “داعش”.
أساليب الميليشيا: تستخدم العصابة حواجز ترابيَّة تُعيق حركة قوافل المساعدات وتسهيل عملية نهبها، كما تستعين بأسلحة تقليدية كبنادق الكلاشينكوف. بالإضافة إلى أسلوبها الدعائي، ففي ظل سياق وجود حوالي 30 عائلة في شرق رفح تُقدِّم لها الدعم،[5] دعت الميليشيا سكان شرق رفح إلى المشاركة في أول “إدارة شعبية” في قطاع غزة؛ حيثُ ذكرت ذلك في بيان لها أنها “ستبدأ بتأسيس لجان إدارية ومجتمعية في مختلف مناطقنا لتكون يدًا منظمة خادمة راعية لكرامة الناس، وعليه، نفتح باب التطوع لكافة أبناء شعبنا من أصحاب الخبرة، المهارة، التخصص والعزيمة“. في إطار ذلك، يشمل التطوع: لجان إغاثة ومساعدة، غرف طوارئ ميدانية، لجان تعليمية وتربوية للأطفال، وحدات إعلام ورصد وفضح الإنتهاكات، تنسيق مساعدات دولية، حراسات شعبية وتنظيم مدني، دعم فني وإلكتروني للبنية التحتية المجتمعية، كما أكدت الميليشيا أن الفرصة مفتوحة أمام الخريجين، الطلبة الجامعيين، المتقاعدين، أصحاب الخبرة، الشباب والشابات الجادين.
– دلالات سياسية: وجود أزمة شرعية للفصائل الحاكمة، حيثُ يعكس ظهور هذه الميليشيا تآكلًا تدريجيًا في شرعية حركتي “حماس وفتح”، وتراجع الثقة بقدرة الأطر التقليدية على تحقيق أهداف التحرر أو حتى تحسين ظروف الحياة؛ حيثُ تُشير المظاهرات التي إندلعت قبل بضعة أسابيع، وظهور عصابة “أبو الشباب”، إلى كسر حاجز الخوف من حماس، وإلى تنامي عدد الفلسطينيين الذين يعتقدون أن حماس يجب أن لاتعود إلى السيطرة على حياتهم مرة أخرى.
– دلالات إجتماعية: تحوُّل في البنية المجتمعية الغزيَّة، حيثُ ظهور فئات شبابية مُهمَّشة، غير مُنخرطة في الفصائل التقليدية، وتتمتع بإستقلالية نسبية، وتبحث عن دور وتأثير من خلال القوة لا السياسة، خاصًة مع تصاعد الإحباط الجماعي بإرتفاع معدلات البطالة والفقر، وغياب الخدمات.
– دلالات أمنية: وجود تفكُك تدريجي لإحتكار السلاح، فمنذُ سنوات، تحرص حماس على إحتكار القوة المسلحة في غزة، لكن ظهور هذه الميليشيا يُشير إلى فقدان السيطرة الكاملة.
– دلالات تنظيمية وأيديولوجية: أصبح هناك تغيُّر في أشكال التنظيم؛ إنتقل من البنية الهرمية الصلبة (مثل فصائل منظمة التحرير أو حماس)، إلى شبكات مرنة يُصعب إختراقها أو السيطرة عليها، كما أن طبيعة خطابها خطاب إعلامي متجاوز للثنائيات التقليدية (فتح، وحماس)، يتبنى شعارات عامة كـ “التحرر الكامل”، “المقاومة الحقيقية”.
– دلالات إقليمية: يعكس هذا النشوء تأثر غزة بنماذج قريبة مثل سوريا والعراق ولبنان، حيثُ تتعايش أو تتصارع الدولة مع ميليشيات خارج السيطرة. بالإضافة إلى إختبار لأدوار جديدة لبعض الدول والقوى الإقليمية.
ردود الفعـــــــل
– إسرائيل: فقد تكوَّنت مُعارضة في الداخل الإسرائيلي، حيثُ قال اليميني المُتطرف “ليبرمان” على منصة “إكس”: “لم يتعلم رئيس وزراء السابع من أكتوبر شيئًا ويواصل نفس المفهوم الذي قادنا إلى أعظم مذبحة في تاريخ البلاد، لقد دعم نتنياهو حماس لسنوات ورفض الإستماع إلي عندما قلت له إنه من خلال القيام بذلك فإنه يضر بشكل خطير بأمن دولة إسرائيل”. كما وأضاف: “وها هو الآن يكرر نفس الخطأ وينقل الأسلحة إلى العشائر التابعة لداعش في غزة”.
على الصعيد الآخر، نفى “أبو شباب” أي صلة له بالجيش الإسرائيلي، قائلًا: “قواتنا لا تتواصل مع الجيش الإسرائيلي بأي شكل من الأشكال، لا بشكل مباشر ولا غير مباشر”. برغم ذلك يُشير عملها في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي إلى وجود قنوات تواصل مع إسرائيل؛ حيثُ أعلنت مصادر إسرائيلية في 9 يونيو الجاري، أن الجيش الإسرائيلي قتل مسلحين من حركة حماس أثناء إشتباكها مع جماعة “ياسر أبو شباب” في قطاع غزة.
– جهود مكافحة “حماس”:أعلنت الوحدة الأمنية “سهم” التابعة لحماس عن مقتل 12 من أفراد عصابة “أبو شباب” في 11 يونيو الجاري، وهددت الوحدة الأمنية بمزيد من الملاحقة. علاوًة على، مقتل شقيق أبو شباب في عملية المداهمة التي نفذها أفراد شرطة “حماس”، والتي جاءت بعد يومين من عملية سرقة 109 شاحنات من أصل 150 شاحنة[6] تحمل مساعدات إغاثية كانت في طريقها من معبر “كرم أبو سالم” إلى وسط القطاع.
– مصر: حتى الآن لم تصدر القاهرة أي تصريح رسمي حول نشاط عصابة “أبو شباب”، خاصًة وأنها تتواجد قرب الحدود المصرية؛ يُشير ذلك على التحفظ الإستراتيجي المعتاد الذي تتبعه خاصًة في القضايا المتعلقة بسيناء وغزة، بالإضافة لحرصها على عدم إعطاء الشرعية الإعلامية للجماعة، إلى حين إتضاح مدى تأثيرها على أمن الحدود، وعلى توازنات الساحة الفلسطينية الداخلية.
الآفــــاق المستقلبيـــة للميليشيــــا
– احتمالات التصعيد: إذا إستمرت هذه العصابة في إكتساب القوة والتمدد بزيادة إستقطابها للعناصر وزيادة تسليحها، وسعيها للهيمنة على مناطق معيَّنة وفرض سيطرتها عليها، قد يُفضي ذلك الصعود إلى صراع دامٍ على النفوذ في مناطق غزة المختلفة، مما يُهدد حياة المدنيين ويزيد من معاناتهم، وخلق بيئة من التوتر بتصاعد العنف والصراعات؛ وعليه فقد تصبح فاعلًا مُسلحًا مؤثرًا يتحدى حركات المقاومة، مما يؤدي إلى خلخلة التوازنات وتحوُّل جذري في المعادلة الأمنية في غزة، ومن ثم يُعيد تشكيل المشهد السياسي. في سياق ذلك، قد يدعم ذلك السيناريو تحولها لأداة لأطراف إقليمية ودولية تسعى للتأثير في غزة خارج القنوات الرسمية، مما يُعيد سيناريوهات الحرب بالوكالة، وعليه تُصبح الميليشيا قوة تَحكم وتُحكم.
– التفكك الذاتي:إحتمالية عدم قدرتها على الإستمرار كقوة موحدة أو فاعلة، من خلال حدوث تآكل بفعل الإنكشاف الأمني أو التصدعات الداخلية الناتجة عن الضعف البنيوي وتضارب المصالح بين عناصر العصابة نفسها، وتوقف الدعم، بالإضافة لإحتمالية تعرضها لضغط عسكري من جهة أقوى. ويُدلل على ذلك السيناريو ما حدث على سبيل المثال في لبنان عام 1976 بتشكيل ميليشيا “لحد” أو ما كانت تسمى بـ “جيش لبنان الجنوبي”، من أبناء القرى الجنوبية ووحدات منشقة من الجيش اللبناني بدعم من إسرائيل، وتفككت في عام 2000 مع إنسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، وتضاءل الدعم الذي كانت تقدمه إسرائيل للميليشيا.
تأسيسًا على ما سبق، فإن ما يجري اليوم في جنوب غزة ليس مُجرَّد دعم لفصيل مُسلَّح محلي، بل بداية لصناعة مشهد فوضوي؛ حيثُ أن إسرائيل تبحث عن وكلاء محليين، والسلطة الفلسطينية تُجاري المشهد، بينما حماس تحت الحصار من الخارج والداخل، وبالتالي فكرة صعود ميليشيا جديدة في غزة لا تُمارس الحُكم ولا تخضع له، يعكس تحولات عميقة في بُنية السلطة والمجتمع، ويؤشر لإحتمال إعادة تشكيل النظام السياسي والأمني الفلسطيني تحت ضغط الداخل والخارج وتحويل الصراع من مقاومة الإحتلال إلى إقتتال داخلي دموي.
المصادر:
[1]– Claire Parker and Loveday Morris, “Gangs looting Gaza aid operate in areas under Israeli control, aid groups say”, the Washington post, 18 November 2024. Look at
[2]– “عصابات تنهب مساعدات غزّة تحت حماية جيش الاحتلال”، ذا كريدل عربي، 20 ديسمبر 2024. على الرابط الآتي
[3]– ماهر الشريف، “بنيامين نتنياهو يسعى إلى تفتيت المجتمع الغزي”، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 10 يونيو 2025. على الرابط الآتي
[4]– ” ياسر أبو شباب .. غزيٌّ مثير للجدل يختفي مع اختفاء المساعدات ويعاود الظهور معها”، صحيفة الشرق الأوسط، 8 يونيو 2025. على الرابط الآتي
[5]– “Hebrew media: Abu al-Shabab militia fought against the Egyptian army in Sinai”, RT, 10 June 2025. Look at
[6]– سالم الريس، “غزة .. هكذا تسرق العصابات المنظمة المساعدات الشحيحة”، مجلة المجلة، 25 نوفمبر 2024. على الرابط الآتي
