المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الدراسات الأفريقية > تقدير موقف > خارطة طريق أممية جديدة لليبيا: بين واقعية الطَّرْح وتحديات التطبيق
خارطة طريق أممية جديدة لليبيا: بين واقعية الطَّرْح وتحديات التطبيق
- أغسطس 23, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات تقدير موقف وحدة الدراسات الأفريقية
لا توجد تعليقات

إعداد: رضوى الشريف
منسق وحدة شؤون الشرق الأوسط
منذُ سقوط النظام السابق عام 2011، تعيش ليبيا في دوَّامة المراحل الانتقالية المتكررة؛ حيث تعاقبت الحكومات المؤقتة والمبادرات الأممية دون أن تصل البلاد إلى محطة استقرار دائم؛ فكل محاولة للانتخابات أو لتوحيد المؤسسات كانت تصطدم بعوائق دستورية أو قانونية، وانقسامات سياسية، أو تدخُّلات إقليمية ودولية متشابكة، ورغم الجهود المتواصلة، ما زالت الأزمةُ الليبية واحدةً من أعقد أزمات المنطقة وأكثرها استعصاء على الحلِّ.
في هذا السياق، جاءت إحاطة الممثلة الخاصَّة للأمين العام للأمم المتحدة، هانا تيتيه، أمام مجلس الأمن مساء الخميس 21 أغسطس الجاري، لتطرح خارطة طريق جديدة تستغرق بين 12 و18 شهرًا، وتهدف إلى إنهاء المرحلة الانتقالية عبْر خطوات تدريجية تُفضي إلى انتخابات عامة وتوحيد المؤسسات، والجديد في هذه المبادرة أنها تستند إلى ثلاث ركائز متكاملة: إصلاح الإطار الدستوري والانتخابي، تشكيل حكومة مُوَحَّدة جديدة، وإطلاق حوار وطني واسع يشمل مختلف المكونات.
ورغم ما حمله الإعلان من أجواء ترحيب، إلَّا أن التباين في ردود الأفعال يعكس حجم التعقيدات التي تحيط بالمشهد الليبي؛ حيث تتقاطع حسابات الداخل مع رهانات الإقليم والمجتمع الدولي؛ ما يجعل مسار التنفيذ محكومًا بجملةٍ من التحديات التي ستحدد مستقبل هذه المبادرة.
مرتكزات خارطة الطريق الجديدة
تقوم المبادرة الأممية على ثلاث ركائز أساسية مترابطة وهي كالآتي:
1- إطار انتخابي سليم فنيًّا وقابل للتطبيق سياسيًّا، يقوم على تعديل الأُطُر الدستورية والقانونية بشكلٍ محدودٍ لكن جوهري، بما يسمح بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة، مع إعادة تشكيل مجلس إدارة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات وضمان استقلاليتها المالية والتنظيمية.
2- تشكيل حكومة مُوَحَّدة جديدة خلال فترة قصيرة (شهرين في حال توافرت الإرادة السياسية) تكون قادرة على تهيئة بيئة سياسية وأمنية مناسبة، وإدارة مهام الدولة الأساسية بكفاءة خلال المرحلة الانتقالية.
3- حوار وطني مُهَيْكَل بمشاركة واسعة من القوى السياسية، المجتمع المدني، الأكاديميين، النساء، الشباب، وذوي الإعاقة؛ بهدف معالجة القضايا المتجذرة التي تُغذِّي الصراع، مثل “الأمن، الحكم الرشيد، والإصلاح الاقتصادي، والخروج برُؤْية وطنية مشتركة تُمهِّدُ لاستقرار طويل الأمد”.
وفي هذا السياق، شدَّدَتْ المبعوثة الأممية، هانا تيتيه، على أن الخطة ليست جدولًا زمنيًّا افتراضيًّا بل عملية متسلسلة، كل خطوة فيها تُمهِّدُ للتي تليها، ورغم تقديرها أن الإطار الزمني الإجمالي يتراوح بين 12 و18 شهرًا، فإنها أكدت أن نجاح المسار يتوقف على الإرادة السياسية والالتزام بتجاوز عراقيل السنوات الماضية، مع تضمين ضمانات ضد المعرقلين قد تصل إلى إجراءات عقابية أممية.[1]
ردود الأفعال
أثار إعلان خارطة الطريق الأممية الجديدة سلسلة من المواقف المرحّبة من مختلف الأطراف الليبية، جاءت على النحو الآتي[2]:
حكومة طرابلس: اعتبر رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، عبد الحميد الدبيبة، أن الخطة الأممية أكَّدَتْ – ما ظلَّ يطرحه منذ فشل انتخابات 2021 – أن القوانين الانتخابية هي العقبة الأساسية، ورحَّبَ الدبيبة بالخطة، واعتبرها خطوةً في الاتجاه الصحيح نحو توحيد المؤسسات، لكنه شدَّدَ على أن تشكيل حكومة جديدة لا يجب أن يتحوَّلَ إلى ذريعة لتأجيل الانتخابات، مؤكدًا أن “الرهان الحقيقي” هو على وعْي الليبيين وإرادتهم الحرة.
المجلس الرئاسي: رحَّبَ رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، بما وصفه بـ”الجهود الصادقة” للمبعوثة الأممية، مُثَمِّنًا تركيزها على وضْع إطار زمني واقعي لإلزام المجلسين (النواب والأعلى للدولة) بمعالجة النقاط الخلافية، كما طرح فكرة الاستفتاء الشعبي على المواد المختلف بشأنها في القوانين كآلية لإشراك الليبيين بشكلٍ مباشرٍ وتفادِي أيِّ انسداد سياسي جديد.
حكومة بنغازي: عبَّرَت الحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد، عن تأييدها لما ورد في الخارطة بخصوص تشكيل سلطة تنفيذية مُوَحَّدة، مؤكدة استعدادها للتعاون مع الأطراف الوطنية والدولية كافَّة. وركَّز بيانها على أن تشكيل حكومة جديدة يعكس إرادة الشعب الليبي في بناء دولة مستقرة تقوم على مبدأ التداول السِّلْمي للسلطة عبْر انتخابات حرة ونزيهة.
مجلس النواب: من جانبه، أبْدَى رئيس البرلمان عقيلة صالح دعمًا صريحًا لإحاطة المبعوثة الأممية، واعتبر دعوتها لتشكيل حكومة مُوَحَّدة جديدة “خطوة أساسية نحو توحيد السلطة التنفيذية وتعزيز وحدة الصف”، مؤكدًا أن الحكومة التي يقودها أسامة حماد هي الحكومة الشرعية المنبثقة عن البرلمان ونالت ثقته.
تحديات التنفيذ
رغم ما تحمله خارطة الطريق من وعود بإنهاء المراحل الانتقالية وفتح الطريق أمام انتخابات وطنية شاملة، فإن الواقع الليبي يكشف عن جُمْلَةٍ من التحديات البنيوية المُعقَّدة التي قد تعرقل التنفيذ وتفقد الخطة زَخَمَها، ومن أبرز هذه التحديات الآتي:
الانقسام المؤسسي والسياسي: لا يزال وجود حكومتيْن متنافستين – حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس والحكومة المكلفة من البرلمان في الشرق – يُمثِّلُ عقبةً مركزيةً أمام أيِّ مسار توحيدي؛ حيث يتمسك كل طرف بشرعيته ويرفض التنازل، فيما يصرُّ البرلمان على اعتباره الجهة التشريعية الوحيدة المُخوَّلَة بتعديل القوانين أو إعادة تشكيل السلطة التنفيذية.
هذا الانقسام يُعمِّقُ الشكوك حول قدرة الأطراف على الالتزام بالخارطة الأممية، خصوصًا إذا فُسِّرَتْ على أنها تنتقص من صلاحيات أيِّ طَرَفٍ.
الإطار القانوني والدستوري: أثبتت التجربة السابقة في 2021، أن الخلاف حول القوانين الانتخابية يكفي وحده لنسْف العملية برُمَّتِهَا، وحتى اليوم، لا يوجد توافق على التوزيع الدستوري للسلطات بين الرئيس والبرلمان أو على آليات الترشُّح والاستفتاء، كما يوظف كل طرف هذا الجدل كوسيلةٍ لتعطيل أو تأجيل الانتخابات؛ ما يجعل أيَّ تعديل تشريعي مُقْبِل ساحةً جديدةً للصراع لا خطوة نحو الحلِّ.
الوضع الأمني ومعضلة الميليشيات: يُمثِّلُ الوضع الأمني في الغرب الليبي التحدي الأخطر أمام تنفيذ خارطة الطريق الأممية، إذ ما زالت الميليشيات تفرض نفوذها على العاصمة وتتحكم في تفاصيل المشهد السياسي، ومع كل محاولة لفتح أفق جديد تتجدد الاشتباكات في طرابلس لتكشف أن الاستقرار ليس سوى هُدْنة هشَّة بين مجموعات متنافسة، وما ضاعف خطورة المشهد أن مقرَّ البعثة الأممية في طرابلس، تعرَّض فجر الجمعة 22 أغسطس الجاري، لهجوم صاروخي بعد ساعات من إعلان الخارطة[3]، في رسالة واضحة، بأن المجتمع الدولي نفسه لم يعُدْ بمنأى عن الاستهداف، وأن أيَّ مسار سياسي يظلُّ رهينة بموازين السلاح لا بنصوص الاتفاقات. وفي ظلِّ هذه المعطيات، تبدو محاولات، الدبيبة، لإعادة هيكلة الترتيبات الأمنية أقرب إلى تعزيز مواقع حلفائه داخل طرابلس منها إلى إصلاح حقيقي يُعيد بناء مؤسسة أمنية وطنية، وهو ما يعني أن أيَّ حديث عن حكومة مُوَحَّدة أو انتخابات نزيهة سيظلُّ معلقًا على قدرة هذه التشكيلات على التخلِّي عن سلاحها أو قبول دمْجها في مؤسسات الدولة، وهو احتمال لا تلوح مؤشرات جِدِّيَّة على تحقُّقِه في المدى القريب.
الوضع الاقتصادي والمالي: يُمثِّلُ الملف الاقتصادي تحدِّيًا محوريًّا أمام خارطة الطريق الأممية؛ إذ تتقاطع الأزمة المالية مع الانقسام المؤسسي لتنتج خلَلًا في إعداد وإقرار الميزانية لعام 2025؛ فالخلافات الأخيرة بين المصرف المركزي والبرلمان حول تقديرات الإيرادات والإنفاق كشفت غياب التنسيق والحوْكمة؛ حيث اعتُبرت الأرقام متضخمة وغير واقعية، في ظلِّ اعتماد البلاد شبه الكامل على النفط وتراجع الثقة في البيانات المالية[4]، ولايقتصر هذا التضارُب على كوْنه مسألة محاسبية، بل يبرز هشاشة البنية الاقتصادية ويُضْعِفُ قدرة الدولة على وضْع سياسة مالية مستقرة قادرة على ضبْط سعْر الصرف أو معالجة أزمة السيولة التي تُثْقِلُ كاهل المواطن.
التدخُّلات الخارجية: يتعقَّدُ الملف الليبي بقدْر ما يتقاطع مع توازنات القوة الدولية؛ إذ تسعى الولايات المتحدة إلى تثبيت حضورها الاستراتيجي في ليبيا وتأمين تدفُّقات الطاقة، فيما تعمل روسيا على ترسيخ موطئ قدم “عسكري – أمني” في الشرق والجنوب وتوسيع شبكات نفوذ اقتصادية ولوجستية تُستخدم كورقة تفاوضية في علاقتها مع الغرب وبوَّابة نفاذٍ أوسع إلى أفريقيا؛ وفي ظل هذا التنازع تتآكل قدرة مجلس الأمن على صياغة موقفٍ مُلْزِمٍ وتتعطّل آليات الضغط الجماعي، لتظلَّ أيُّ محاولة لتوحيد المؤسسات أو تشكيل حكومة جامعة مرهونة بمواقف القوى الكبرى؛ حيث تمنحها بعض العواصم غطاءً سياسيًّا بينما تتحفَّظُ أخرى، وهو ما ينعكس على شرعية الترتيبات المالية والأمنية وعلى قبول نتائج أيِّ استحقاق انتخابي. وهكذا يصبح نجاح خارطة الطريق رهْنًا بلحظة تقاطع نادرة بين المصالح الأمريكية والروسية أكثر مما هو نتاج توافق داخلي بين الأطراف الليبية.
السيناريوهات المحتمَلة
في ضوء ما سبق، يمكن تصوُّر مساريْن رئيسييْن لمستقبل خارطة الطريق الأممية الجديدة في ليبيا:
السيناريو الأول (المتشائم): يقوم على فرضية استمرار الانسداد السياسي؛ إذ تعجز الأطراف عن ترجمة تعهُّداتها إلى خطوات عملية، وتبقى الخلافات حول الإطار الدستوري والقوانين الانتخابية حجر عثْرةٍ أمام التوافق.
في هذا السياق، قد يواصل البرلمان إصدار تشريعات بشكل منفرد، بينما يرفض المجلس الأعلى للدولة أيَّ تعديلات لا تتوافق مع شروطه، فينعكس ذلك على تعطيل المفوضية العليا للانتخابات، ويُبْقِي البلاد في دائرة المراحل الانتقالية المتكررة. هذا السيناريو، إذا تحقَّقَ، لن يعني فقط استمرار الانقسام، بل سيكرِّسُ واقعًا تستفيد منه قوى محلية ودولية لا ترى مصلحتها في الذهاب إلى انتخابات تعيد الشرعية لمؤسسات الدولة.
السيناريو الثاني (المتفائل): يقوم على إمكانية أن تستوعب القوى السياسية دروس الفشل السابق، وأن تُدرك أن استمرار الوضع الراهن يُهدِّدُ بانفجار اجتماعي وأمني أكبر، ووفْق هذا السيناريو، قد تنجح الضغوط الدولية والإقليمية في دفْع الأطراف نحو تنازلات متبادلة، يتمُّ عبرها إقرار قاعدة دستورية وقوانين انتخابية مقبولة، مع تشكيل حكومة مُصَغَّرة تتولَّى تهيئة الأجواء وتنظيم الاستحقاق الانتخابي.