المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > تقدير موقف > خلفية وأبعاد القرار “اللبناني- القبرصي” بترسيم الحدود البحرية
خلفية وأبعاد القرار “اللبناني- القبرصي” بترسيم الحدود البحرية
- نوفمبر 16, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات تقدير موقف وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: ريهام محمد
باحث في وحدة شؤون الشرق الأوسط
عاد ملفُ ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص إلى الواجهة مُجدَّدًا بعد أن صادقت الحكومة اللبنانية، في الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي، على الاتفاقية المثيرة للجدل، وسط انقسامات داخلية حادة واتهامات بالتفريط في الحقوق البحرية تعود جذورها إلى أكثر من خمسة عشر عامًا، فهذه ليست المرة الأولى التي يخوض فيها لبنانُ معركةً تتعلق بترسيم حدوده البحرية؛ فقد تمَّ توقيع اتفاقية أوَّلِيَّة مع قبرص في عام 2007، إلا أنها لم تَحْظَ بموافقة البرلمان، بعدما اعتُبرت مُجْحِفَةً بحقِّ السيادة اللبنانية ومؤدية لخسارة مساحات بحرية لصالح كُلٍّ من قبرص وإسرائيل.
يأتي هذا التطوُّر في توقيتٍ دقيقٍ؛ حيث تتداخل المصالح الجغرافية والسياسية والاقتصادية، في وقتٍ يُعاني فيه لبنانُ من أزمات اقتصادية خانقة وضغوط أمنية متزايدة على حدوده الجنوبية، فملف الترسيم البحري مع قبرص لم يعُدْ مجرد قضية تقنية بحتة، بل بات اختبارًا حقيقيًّا لمدى قدرة لبنان على إدارة موارده البحرية ضمن سياقٍ إقليميٍّ مضطربٍ وتحالفاتٍ مُعقَّدةٍ في شرق البحر المتوسط، وبين من يرى هذه الخطوة ضرورة لتثبيت السيادة الوطنية، ومن يعتبرها استمرارًا لنهْج التنازلات التاريخية، يجد لبنان نفسه أمام مُفْتَرق طُرُقٍ تاريخيٍّ سيحدد ما إذا كان قادرًا على استعادة مكانته كدولة ذات قرار مستقل، أو أنه ماضٍ نحْوَ إعادة تحديد حدود نفوذه السياسي والسيادي في المنطقة.
خلفية القرار “اللبناني – القبرصي”:
يستحضر ملفُ ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص سلسلةً متصلةً من المحطَّات التي تُبيِّنُ كيف تحوَّلَ المسار من فرصةٍ لحماية الحقوق إلى تراكُم تنازلات التي أفْضَتْ إلى خسائر ملموسة في مساحة المياه الواقعة تحت سيادة لبنان الفعلية.
تعود البداية إلى ديسمبر 2007، عندما قرَّرتْ الحكومة اللبنانية توقيع الاتفاقية الأولية بين لبنان وقبرص دون عرْضِها على مجلس النواب أو إقرار رسمي، في جوهر هذه الوثيقة كان اعتماد ما عُرف آنذاك بـ”النقطة رقم 1″ كنقطةٍ ثلاثيةٍ بين لبنان وقبرص وفلسطين المحتلة؛محطة جدلية أدت عمليًا إلى تنازل لبنان عن مساحات بحرية بلغت حوالي 860 كيلومترًا مربعًا في الجنوب — مع احتمال أن تكون المطالبة الحقيقية للبنان قد امتدَّت لتشمل نحو 1,430 كلم² إضافية لو استعملت معايير هندسية وقانونية دقيقة، لكن غياب ردِّ فِعْلٍ لبنانيٍّ جادٍّ آنذاك سمح لقبرص وإسرائيل باستغلال هذه الاتفاقية الجزئية لترسيخ تفاهمات إقليمية في ما بعد، واستندا لاحقًا إلى ما ورد في 2007 كأساس لترسيماتهما (اتفاق نيقوسيا–تل أبيب 2010)، والتي كان بمثابة اعتراف فعلي بهذا الخطأ اللبناني واتخاذه مرجعًا فِعْلِيًّا إقليميًّا رغم أنه لم يتحوَّلْ إلى اتفاقٍ نافذٍ داخليٍّ.[1]
وجاءت محاولة التصحيح التي بدأت عام 2008، باستبدال “النقطة 1” بــ “النقطة 23″ لاسترجاع مساحة الجنوب، لكنها فتحت صراعًا جديدًا مع إسرائيل التي تمسَّكت بالنقطة الأولى؛ ومع ذلك أوْدَع لبنان إحداثيات النقطة 23 لدى الأمم المتحدة، في 14 يوليو 2010، وتَبِعَ ذلك إصدار القانون 163/2011 في 18 أغسطس ومرسوم 6433 في أكتوبر2011، الذي ثبت الإحداثيات رسميًّا، لكن المشكلة العملية لم تكن في إصدار مراسيم فحسب، بل في إغفال توصية فنية مهمة كانت صادرة عن المكتب الهيدروغرافي البريطاني قبْل إقرار القانون، والتي أوْصَتْ باعتماد خطٍّ وسطٍ مع استثناء تأثير النتوء الصخري المعروف بـ”جزيرة تخليت” شمال فلسطين المحتلة؛ ما يؤدي إلى أن الخط العملي يصل جنوب النقطة 23 إلى ما صار يُعرَف بالنقطة 29 أو) 23-prime)، كما عاد الجيش اللبناني وأكد، عبر مصلحة الهيدروغرافيا في 2018، أن المسح الدقيق لنقطة البدْء من رأس الناقورة يؤكد حقَّ لبنان بما يوازي نحو 1,430 كلم² إضافية، لكن هذا الاستنتاج بَقِيَ دون تحويلٍ تشريعيٍّ فعَّالٍ.[2]
كما جاءت محاولات تصحيح لاحقة واتخذت طابعًا سياسيًّا؛ منها تكليف رئيس الجمهورية “ميشيل عون” في 2020؛ الجيش والخبير نجيب مسيحي بإعادة دراسة الملف، وأقرَّتْ الدراسة مُجدَّدًا جدوى اعتماد تعديل المرسوم لصالح النقطة 29، إلَّا أن الوساطة الأمريكية التي كانت جارية (خط هوف ثم جهود ديفيد ساترفيلد) دفعت لبنان نحْوَ مسار تفاوضي غير مباشر مع إسرائيل في الناقورة، ابتداءً من 14 أكتوبر 2020؛ حيث جرت خمس جوْلات ثمَّ تجمَّدَ الملف، قبْل أن تُسْتَأْنَفَ المفاوضات تحت ضغوط وتوتُّرات إقليمية (من بينها إرسال حزب الله مُسيَّرات إلى سماء حقل كاريش الاسرائيلي)، النتيجة العملية لهذه الجوْلة الطويلة كانت اتفاق 27 أكتوبر 2022 الذي اعتمد النقطة 23 لا 29، وبذلك تنازل لبنان عمليًّا عن المطالبة بحقِّ النقطة 29، بالرغم من المشروعات الفنية التي دعمتها قياسات الجيش ودراسات مستقلة[3].
وتوضح هذه الخلفية نَمَطًا مُتكرِّرًا؛ فكلما تحرَّكَ لبنانُ خطوةً لتقنين حقوقه كان ثمن ذلك عمليًّا جَلَبَ خسارةً إضافيةً نتيجة معادلات التفاوض الضاغطة أو لحسابات التسوية الإقليمية والدبلوماسية، ولم يَغِبْ هذا الواقع عن صُنَّاع القرار؛ إذ قدَّمت لجنة فنية في 2023؛ برئاسة “علي حمية” تقريرًا فنيًّا، أكَّدَ ضرورة تعديل آليات الترسيم السابقة، مشيرًا إلى حدوث خسائر تتراوح بين 1600 و2643 كلم² نتيجة اعتماد الإحداثيات القديمة، معتبرًا أن آليات الترسيم بحاجةٍ إلى تعديل يأخذ بعين الاعتبار “الإنصاف” وطبيعة السواحل.
وعليه؛ أعاد الرئيس جوزيف عون فتْح الملف مجددًا قُبَيْل زيارته الأخيرة إلى قبرص؛ حيث أُعلن بتاريخ 11 يوليو 2025، عن تسريع الجهود التقنية والسياسية، مع تشكيل لجنة فنية لبنانية لمتابعة المفاوضات، غير أن اختيار أعضاء اللجنة أثار تساؤلات حاسمة؛ إذ شمل أسماءً داعمةً لصيغة 2007، مِثْل المحامي نجيب مسيحي والعميد مازن بصبوص، بينما استُبْعِدَ خبراء بارزون أعدُّوا دراسات تُظهر إمكانيات لبنان في الحصول على تعويضات مساحية كبيرة، مثل خليل الجميل والعقيد عفيف غيث، بالإضافة إلى ممثلين عن اللجنة السابقة التي كانت برئاسة “علي حمية”[4].
واتجهت اللجنة في جلساتها الأُولى نحو إصدار توصية ترتكز على السَّيْر بالإحداثيات المرتبطة بخط 2007 مع إدخال تعديلات طفيفة تشمل النقطة 23 جنوبًا والنقطة 7 شمالًا، بَدَلًا من تعديل المرسوم 6433 لتبني النقطة 29 كخيار أساسي، لكن هذا القرار التِّقَني لم يكن منفصلًا عن الضغوط الصريحة التي مارستها قبرص؛ فقد تضمَّنت هذه الضغوط زيارات لمسؤوليْن قبرصييْن بارزيْن، بينهم مدير المخابرات ومستشار الأمن القومي، الذين لمحوا بوضوحٍ إلى أن استمرار الخلاف أو اللجوء المحتمل لتحكيم دولي قد يُسفر عن تبعات تشمل مطالبات متبادلة، أو حتى تأخيرات في خطط الترسيم وإطلاق عقود التنقيب في البلوكات، في إشارات ربما فُهِمت كتهديدٍ مُبَطَّنٍ بتشديد مواقف قبرص أو المطالبة بتعويضات مساحة صغيرة إضافية في حال رفض لبنان التسريع.[5]
ومن ثَمَّ؛ فالمفارقة تكْمُنُ في هذا التبايُن الواضح؛ فمن جهة، هناك مطالب قانونية وفنية تدعم موقفًا أقوى للبنان؛ بناءً على مفاهيم الإنصاف الجغرافي التي تُعزِّزُ حقَّه بمساحات بحرية إضافية؛ ومن جهة أخرى، يطْغَى الضغط السياسي والاقتصادي لتسريع التفاهُم مع قبرص؛ بهدف جذْب الاستثمارات وتجنُّب تجميد مشاريع التنقيب.
أبعاد القرار “اللبناني–القبرصي” وترسيم الحدود البحرية
يُمثِّلُ قرار ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص خطوةً استراتيجية ذات أبعاد متعددة، تتجاوز مجرد ترسيم الخطوط البحرية إلى تحقيق تأثيرات داخلية وخارجية واضحة، والتي يمكن إبرازها على النحو الآتي:
فيما يتعلق بالأبعاد الداخلية، يمكن تحديد النقاط الآتية:
تعزيز السيادة الوطنية وضمان السيطرة على الموارد الطبيعية؛ إذ يُمثِّلُ تحديد الخطوط البحرية والنقاط الثلاثية، مِثْل الخط 23 والنقطة رقم 7، إجراءً محوريًّا في صوْن الحقوق اللبنانية ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة، كما يُسهم هذا الترسيم في إغلاق الثغرات القانونية التي كانت قد تستغلُّ مستقبلًا، ويدعم قدرة الدولة على إدارة مواردها البحرية، بما في ذلك تطوير واستثمار حقول الغاز والنفط ضمن بلوكات واضحة ومحددة ضمن إطار قانوني متماسك، يربط مفهوم السيادة الوطنية بالتخطيط الاقتصادي الاستراتيجي، ومن ثَمَّ؛ فهذه السيطرة تُمكِّنُ لبنان من استغلال موارده بحرية دون الخضوع للضغوط الخارجية أو أيِّ نزاعات محتملة مع دول الجوار.
تصحيح الأخطاء التاريخية وإعادة تقييم المواقف السابقة: يعكس الترسيم الجديد محاولةً لتفادي الأخطاء التي بدأت منذ عام 2007، عندما تَمَّ اعتماد النقطة 1 كنقطة ثلاثية جنوبية؛ ما تسبَّبَ في خسارة مساحةٍ تُقدَّرُ بنحو 860 كيلومترًا مربعًا؛ استنادًا إلى تحديد النقطة 23 والنقطة 7، ومن ثَمَّ؛ يسعى لبنان إلى تثبيت حدوده البحرية بما يتماشى مع مصالحه الوطنية، مع العمل على استعادة جُزْءٍ من الحقوق البحرية التي لم تكن مُحَقَّقةً سابقًا، تُبرز هذه الخطوة إدراكًا واعيًا ودقيقًا للمخاطر القانونية المحتملة وتضع لبنان في موقفٍ تفاوضيٍّ أقوى في أيِّ محادثاتٍ مستقبليةٍ مع كُلٍّ من إسرائيل وسوريا.
تعزيز دور المؤسسات الوطنية في الأداء الداخلي: يكشف قرار الترسيم عن قدرة الدولة اللبنانية على تحقيق درجة عالية من التنسيق بين مختلف المؤسسات الرئيسية، مثل رئاسة الجمهورية والحكومة ووزارة الخارجية وقيادة الجيش وقطاع البترول؛ اذ يُسهم هذا التنسيق في تعزيز مكانة المؤسسات الوطنية في إدارة الملفات الاستراتيجية ذات الحساسية العالية، كما أن تشكيل لجنة فنية متكاملة، رغم ما واجهته من بعض الانتقادات، يُظهر توجُّهًا نحْوَ تحقيق الاستقرار السياسي الداخلي، من خلال معالجة الملفات الحيوية دون إحداث انقسامات بين السلطات المختلفة، علاوةً على ذلك، يؤكد هذا النَّهْج أن إدارة الموارد البحرية أصبحت إحدى الأدوات الأساسية لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع الدولي.
فيما يتعلق بالأبعاد الخارجية، يمكن تحديد النقاط الآتية:
ضبْط العلاقة مع قبرص وتثبيت التحالفات الإقليمية: يعكس الترسيم الجديد للحدود إدراكًا استراتيجيًّا لأهمية التعامل مع قبرص ضمن إطار قانوني وسياسي واضح؛ الأمر الذي يُسْهِمُ في تعزيز موقع لبنان داخل شبكات التحالفات الإقليمية في منطقة شرق المتوسط.
وتأتي هذه الخطوة في سياق الدور المحوري الذي تضطلع به قبرص في مشاريع الغاز الإقليمية؛ مما يمنح التعاون معها بُعْدًا استراتيجيًّا، يمكن من خلاله حماية المصالح اللبنانية وتقليل احتمالية حدوث نزاعات مع الأطراف الأخرى.
كما تتميز قبرص بعلاقات مستقرة مع إسرائيل؛ مما يجعل تعزيز العلاقات معها ضرورةً مُلِحَّةً، خاصَّةً في ظِلِّ تصاعُد العمليات العسكرية الإسرائيلية على الجبهة الجنوبية للبنان، وهو ما يستدعي حتمية تثبيت هذه العلاقة لضمان حماية المصالح البحرية للبنان من تداعيات الصراع المتصاعد، والحيلولة دون استخدام المجال البحري اللبناني كأداة سياسية أو أمنية من قِبَلِ إسرائيل أو شركائها الإقليميين، وعبْر هذا التأطير القانوني والسياسي للعلاقة مع قبرص، يتمكن لبنان من تقليل المخاطر السياسية المباشرة والانخراط بشكلٍ أكثرَ فعاليةً وتنظيمًا في مشاريع الطاقة الإقليمية؛ مما يدعم مصالحه الوطنية، ويُعزِّزُ استقراره الإقليمي ضمن التوازنات المُستجدَّة في المنطقة.
الاستفادة من الفرص الاقتصادية الإقليمية: فإن الترسيم يقدم إطارًا قانونيًّا متكاملًا يتيح للبنان استغلال موارده البحرية بصورة فعَّالَة؛ فتوقيع اتفاقيات مع شركات نفط عالمية للقيام بأعمال الاستكشاف والحفْر في منطقة البلوك 8 يُمثِّلُ خطوةً أُولى نحو استخراج الفوائد الاقتصادية الكامنة، وتُشكِّلُ هذه العملية قاعدةً لتطوير البُنَى التحتِيَّة البحرية، بما يشمل مرافق الغاز الطبيعي المسال وشبكات النقل البحري، وتعزيز ارتباط لبنان بمشاريع إقليمية للطاقة، كما تُمثِّلُ هذه الفرص استثمارات استراتيجية تُسْهِمُ في دعْم الاقتصاد الوطني، وتُقلِّلُ من المخاطر المترتبة على النزاعات الحدودية، علاوةً على ذلك، يُوفِّرُ التعاون مع قبرص عبْر هذه المشاريع المشتركة نموذجًا للاستثمار المُسْتَدَام للموارد البحرية بشكلٍ متوازنٍ ومُنظَّمٍ.
تعزيز الموقف القانوني والدولي للبنان: يُشكِّلُ تثبيت الخطوط البحرية والنقاط الثلاثية، مِثْل الخط 23 والنقطة 7، أداة استراتيجية للدفاع عن حقوق لبنان السيادية وتقليص الثغرات القانونية التي قد تُستغلُّ مستقبلًا، وبفضل ذلك، يُمْكِنُ للدولة اللبنانية امتلاك إطار تفاوضي قوي للتعامل مع النزاعات المحتمَلة مع كل من إسرائيل وسوريا، ويتكامل هذا مع الجهد المبذول لضمان التزام الترسيم بقواعد القانون الدولي للبحار والمعايير التي وضعتها الأمم المتحدة.