المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > تقدير موقف > خيارات الحوثي بعد هُدْنة غزة: بين تآكُل الذريعة وتحديات الداخل اليمني
خيارات الحوثي بعد هُدْنة غزة: بين تآكُل الذريعة وتحديات الداخل اليمني
- أكتوبر 16, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات تقدير موقف وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: رضوى الشريف
منسق وحدة شؤون الشرق الأوسط
يُمثِّلُ إعلانُ وقْفِ إطلاقِ النَّارِ في غزةَ وتوقيع اتفاق شرم الشيخ للسلام يوم الإثنين 13 أكتوبر 2025، بحضور الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وعددٍ كبيرٍ من قادة العالم العربي والإسلامي والدولي، خطوةً مِفْصَلِيَّةً تدخل فيها المنطقة مرحلة جديدة من إعادة التموْضع السياسي والأمني؛ فالقمة التي وُصفت بأنها “ختام حرب غزة وبداية سلام الشرق الأوسط” لم تقتصر دلالتها على وقف المواجهة العسكرية، بل تكشف عن تحوُّلٍ أعمق في توازنات القوى الإقليمية، وانتقال الاهتمام الدولي من إدارة الصراع إلى تثبيت الاستقرار وإعادة بناء التفاهمات.
في هذا المشهد الجديد، تجد جماعة الحوثي في اليمن نفسها، أمام فراغ استراتيجي غير مسبوق؛ فالحرب التي مثَّلَتْ لها طوال عاميْن غطاءً سياسيًّا ودعائيًّا لتبرير فشلها الاقتصادي والإداري وانتهاكاتها الداخلية، انتهت.
ومع انحسار المبرر الإقليمي الذي غذّى خطابها التعبوي، فقدت الجماعة قدرتها على استخدام حرب غزة كوسيلة لتعبئة الداخل وإحكام السيطرة الأمنية، بعدما كانت الحرب قد وفَّرت لها مخْرَجًا مؤقتًا من أزماتها البنيوية المتفاقمة.
حيث يجدر بالذكر أنه، وقبْل اندلاع حرب غزة، كانت جماعة الحوثي تمرُّ بمرحلة داخلية شديدة الاضطراب، تجسَّدت في تصاعُد احتجاجات المعلمين والنقابات المطالبة بصرْف الرواتب وتحسين الأوضاع المعيشية، إلى جانب تراجع المساعدات الإنسانية وتزايد السخط الشعبي في مناطق سيطرتها، غير أن اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، شكَّلَ فرصةً مهمةً للجماعة لتغيير مسار الغضب الداخلي، من خلال تبنِّي خطاب “نصرة فلسطين”، وقمْع الأصوات المنتقدة؛ بذريعة “الانشغال بمعركة الأمة”، ما مكَّنَها من فرْض حالة من الطوارئ السياسية والاجتماعية وتجميد المطالبات الحقوقية والمعيشية، ولكن مع إعلان اتفاق الهُدْنة في غزة، بدأت ذريعة الحرب تتلاشى تدريجيًّا؛ ما يعيد التركيز على التحديات الداخلية التي طالما تجنَّبت مواجهتها.
موقف الجماعة من الهُدْنة ورسائل خطاب عبد الملك الحوثي
ألقى زعيم الجماعة، عبد الملك الحوثي، في 9 أكتوبر الجاري – عقب إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن اتفاق الهُدْنة في غزة – خطابًا مطوَّلًا، تناول فيه التطورات الإقليمية بعد إعلان الهُدْنة، وقد اتسم الخطاب بلغة مشحونة بالتحدِّي والاستعراض، عكست حالة الارتباك والقلق التي ستعيشها الجماعة، في ظلِّ انحسار الغطاء الإقليمي الذي كانت تستند إليه.
ركَّزَ الحوثي في خطابه على فكرة “الجهوزية الدائمة” لما سمَّاه “الجولات القادمة”، مشيرًا إلى أن “الاعتداءات الإسرائيلية قد تُستأنف في أيِّ لحظة”؛ في محاولةٍ للحفاظ على خطاب التعبئة والطوارئ الذي مكَّنَ الجماعة من البقاء في حالة استنفار دائم.
وفي الوقت ذاته، حرص على إظهار القدرات العسكرية للجماعة، عبْر استعراض إحصائية، زَعَمَ فيها تنفيذ أكثر من 1835 عمليةً ما بين صواريخ باليستية ومُجنَّحة وفرْط صوتية وطائرات مُسيَّرة وزوارق حربية؛ وذلك لتأكيد أنها ما تزال فاعلًا محوريًّا فيما تسميه محور المقاومة.[1]
وعليه؛ يمكن القول: بأن الخطاب تضمَّنَ ثلاث رسائل رئيسية؛ أولها: التشكيك في استقرار الهُدْنة، من خلال الإيحاء بأن الهدوء الحالي مؤقت وأن “العدو الإسرائيلي والأمريكي” قد يعودان إلى العدوان، وهو ما يمنح الجماعة ذريعةً للاستمرار في التصعيد متى شاءت.
ثانيها: استعراض الذات كقوة ردع إقليمية قادرة على تهديد إسرائيل والمِلَاحة الدولية، في رسالةٍ مُوَجَّهة للداخل والخارج على السواء؛ لتأكيد أنها ما زالت تمتلك أدوات التأثير.
أمَّا الرسالة الثالثة: فتمثَّلَتْ في التمسُّك بخطاب “الجهوزية الدائمة” الذي يوحي بأن الهُدْنة لا تُلزم الجماعة بشيء، وأن الحرب بالنسبة لها خيار قابل للاستدعاء في أيِّ وقت.
وفي موازاة خطاب زعيم الجماعة، صرَّحَ عضو المكتب السياسي لـ“أنصار الله”، حزام الأسد، بأن “العمليات العسكرية ستتوقف إذا التزم الجيش الإسرائيلي باتفاق وقف إطلاق النار، وستُستأنف بوتيرة أشدَّ؛ في حال استمرار الحصار على غزة”؛ ما يعكس حرص الجماعة على إبقاء خطوط التصعيد مفتوحة كوسيلة ضغط سياسي، وبذلك، يحاول الحوثيون رسْم صورة تُوحي بأنهم طرفٌ مراقبٌ لاتفاق غزة وليس متأثرًا به.
كيف استثمر الحوثيون حرب غزة سياسياً وإعلامياً؟
حين اندلعت الحرب في غزة أكتوبر 2023، كانت جماعة الحوثي تمرُّ بواحدة من أكثر لحظاتها هشاشةً، منذ انقلابها على الحكومة الشرعية عام 2014، فقد تراكمت الأزمات في مناطق سيطرتها، وعلى رأسها “أزمة الرواتب، شلل المؤسسات، تراجع الخدمات الأساسية”، وغضب شعبي متصاعد عبَّرت عنه احتجاجات المعلمين والموظفين المدنيين،[2] ومع عجْزها عن تقديم حلول واقعية، بدت الجماعة أمام مأزق مزدوج؛ حيث سلطة أمرٍ واقعٍ بلا شرعية اجتماعية، وبنية دينية لا تملك مشروع حكمٍ حقيقيٍّ.
في هذه اللحظة، جاءت حرب غزة لتمنح الحوثيين ما يشبه “طوق النجاة” واستثمارها كذريعة جديدة تُعيد صياغة المشهد من الداخل، وتنقل الاهتمام من المطالب المعيشية إلى الشعارات العقائدية؛ فالحرب لم تكن بالنسبة للجماعة حَدَثًا تضامُنِيًّا عابرًا، بل فرصةً لإعادة إنتاج الشرعية، وتثبيت السيطرة، وتخفيف الضغط الداخلي عبْر تصدير العداء للخارج.
ولتحليل كيف استثمرت جماعة الحوثي حرب غزة لصالحها خلال العامين الماضيين، يمكن عرْض عدة مكاسب رئيسية شكَّلت جوهر تحرُّكات الجماعة وسلوكها السياسي والإعلامي خلال العامين الماضيين، وهي كالاتي:
ترميم الشرعية المتآكلة عبر توظيف خطاب ” نصرة فلسطين”: منذ الأسابيع الأولى للحرب، استثمر الحوثيون الحرب في غزة كغطاء سياسي وأخلاقي لإعادة تقديم أنفسهم كجزء من محور المقاومة؛ من أجل “نصرة فلسطين”؛ الأمر الذي جعل الخطاب الداخلي يتغير بالكامل، فمن من لغة الإدارة الفاشلة والرواتب المتوقفة إلى لغة “المواجهة مع العدو الصهيوني”، وبذلك نجحت الجماعة في تذويب أزمتها المعيشية في خطاب المقاومة، باعتبارها “إلهاء عن واجب الأمة”، وصار الولاء للجماعة مرادفًا للولاء لفلسطين.
وبهذا؛ استعادت جماعة الحوثي زمام المبادرة الخطابية، وأعادت فرْض الانضباط الاجتماعي بالقوة الناعمة للدين والمقاومة، بدل القمْع المباشر وحده.
تأمين موارد جديدة للحرب عبْر شرعنة الجبايات والسيطرة الاقتصادية: في ظلِّ انهيار الإيرادات المحلية، مثَّلَتْ الحرب فرصة لإعادة تشغيل ماكينة الجباية تحت عناوين جديدة؛ فبدل أن تُفرض الضرائب باسم الدولة، أصبحت تُجمع باسم “المجهود الحربي لغزة” [3]؛ حيث فرضت الجماعة رسومًا على التجار، واقتطاعات من المرتبات القليلة المتبقية،[4] واستحدثت ضرائب “نصرة فلسطين”، في حين أعادت توجيه موارد الموانئ والسوق السوداء لخدمة أجهزتها الأمنية والعسكرية.
وعليه؛ يمكن القول: بأن حرب غزة تحوَّلَتْ إلى مورد مالي داخلي يمدُّ الجماعة بالأموال، ويُوحِّدُ شبكاتها المالية، ويمنحها مُبرِّرًا لاختفاء الشفافية.
تعزيز الحضور الإقليمي وإحياء دور الوكيل: قبْل الحرب، كان موقع الحوثيين في الخارطة الإقليمية قد بدأ يتراجع بشكلٍ نسبيٍّ مع تركيز إيران على جبهات أخرى (سوريا، العراق، لبنان)، لكن انخراطهم في الهجمات على المِلَاحة الدولية تحت شعار “نصرة غزة” أعادهم بسرعة إلى الواجهة، فمن خلال عمليات استهداف السفن في البحر الأحمر، أثبت الحوثيون أنهم أذرعٌ قادرةٌ على التأثير الميداني في معادلات الأمن الإقليمي؛ حيث قد منحتهم مشاركتهم في هذه العمليات مساحة لفرْض حضورهم السياسي، وأظهرت قدرتهم على الصمود التنظيمي والعسكري، مقارنةً ببعض الأذرع الإيرانية التي تراجعت فاعليتها في ساحات أخرى، خاصَّةً حزب الله في لبنان.
وعليه؛ لم تكن حرب غزة بالنسبة للحوثيين مجرد حدث خارجي، بل كانت أداةً لإعادة ترميم شرعيتهم الداخلية، إلا أن المكاسب التي سبق طرْحها مهما بَدَتْ صلبة في ظاهرها، إلا أنها تقوم على فراغ استراتيجي؛ لأن الجماعة لم تُبْنِ دولة ولا اقتصادًا مستقرًّا، بل أعادت تدوير أزمة حرب غزة في خطابٍ جديدٍ.
الخيارات القادمة أمام الحوثيين بعد هدنة غزة
اليوم ومع انحسار ذريعة “نصرة غزة” عقب إعلان الهُدْنة ووقْف الحرب، تدخل جماعة الحوثي مرحلة اختبار سياسي داخلي حقيقي؛ حيث لم تعُدْ تملك الغطاء الذي وفَّرته الحرب طوال عامين، وتعود إلى مواجهة الأسئلة المؤجلة حول الرواتب، والشرعية، والانهيار الاقتصادي، والتملْمُل الشعبي المتصاعد. وفي هذا السياق، تبدو خيارات الجماعة محدودة، لكنها ليست معدومة، ويمكن عرْضها كالآتي:
الخيار الأول: التصعيد الخارجي المضبوط لإبقاء البلاد في حالة استنفار
يرتكز هذا الخيار، بأن تحاول الجماعة إعادة تدوير خطاب المقاومة، من خلال التحذير من “جولات جديدة” في المنطقة، والاستمرار في استهداف المِلَاحة الدولية تحت عناوين فضفاضة، مثل “الردع الاستباقي” أو “الجهوزية الدائمة”؛ لضمان بقاء مناخ الطوارئ السياسي والعسكري الذي سمح لها بتجاوز كل استحقاقات الداخل، ولمنْع المجتمع من إعادة ترتيب أولوياته بعيدًا عن الحرب.
هذا الخيار يمنح الحوثيين استمرارية في استخدام خطاب “الجهوزية الدائمة”، الذي لعب دورًا مركزيًّا في ضبْط المشهد الداخلي وتحييد الأصوات المعارضة والغاضبة في مناطق سيطرتها، كما يسمح لهم بمواصلة تجنيد المقاتلين، وفرْض الجبايات تحت مُسمَّى “المجهود الحربي”؛ ما يخلق بيئة أمنية مضبوطة تتيح السيطرة دون الحاجة إلى تقديم حلول اقتصادية أو اجتماعية حقيقية.
الخيار الثاني: الانكفاء المؤقت ومحاولة امتصاص الغضب الشعبي
الخيار الأقلُّ ترجيحًا – وإن لم يكن مُسْتَبْعَدًا – هو أن تتجه الجماعة نحْو تهدئة مؤقتة مع محاولة استيعاب الغضب الداخلي المتصاعد، خاصَّةً في ظلِّ التدهور الاقتصادي وتراجع المساعدات واحتقان الشارع، ويتطلب هذا الخيار من الحوثيين التخلِّي عن بعض أدوات السيطرة الأمنية لصالح تقديم تنازلات اجتماعية، مثل “صرف الرواتب أو تخفيف الجبايات أو السماح بمساحات محدودة من التعبير”.
غير أن هذا السيناريو يصطدم بطبيعة الجماعة التي قامت، منذ نشأتها، على نهْج الصراع المفتوح ورفض التسوية، كما أن تجربتها في التعامل مع الحراك الاجتماعي ضدها، سواء في 2021 أو ما بعده، تُظهر أن التنازلات ليست من أدواتها المفضلة، بل تميلُ إلى تفريغ أيِّ أزمة عبْر خطاب التعبئة لا المعالجة الحقيقية.
الخيار الثالث: فتْح جبهة داخلية لتوجيه الضغط الشعبي نحو “عدو داخلي“