خلفتْ هجماتُ الحادىَ عشرَ من سبتمبر لعامِ 2001 العديدَ من عملياتِ الاستهدافِ والاعتقالِ لإرثِ تنظيمِ القاعدةِ الإرهابىِ لاسيَّما مع محاولاتهِ المستمرةِ للحفاظِ على معاقلهِ وجبهاتِ قتالهِ ضد العديدِ من دولِ العالمِ لاسيَّما مع توسعاتهِ خارجَ قواعدهِ المركزيةِ، وبالتزامنِ مع النهجِ السابقِ أعلنتْ سلطاتُ مكافحةِ الإرهابِ فى باكستان فى يومِ التاسع عشرَ من يوليو الجارى اعتقالَ القيادىَ فى تنظيمِ القاعدةِ (أمين الحق) المقربِ من زعيمِ التنظيمِ الراحلِ (أسامة بن لادن) وذلك فى مدينةِ “جوجرانوالا” الواقعةِ شمالِ شرقِ إقليم “البنجاب”، ليحملَ هذا الإعلانُ العديدَ من التساؤلاتِ حولَ خلفيةِ هذا القيادىِ، وسياقِ اعتقالهِ إذ تواجهُ إسلام أباد فى الأونةِ الأخيرةِ، وفق ما عبرتْ عنه وزارةُ الخارجيةِ الباكستانية، أنه تهديدٌ أمنىٌ خطيرٌ من جانبِ وجودِ الجماعاتِ الإرهابيةِ سواءٌ على أراضيِها أو داخلَ أفغانستان المجاورةِ لها.
خلفيةُ القيادىِ “أمين الحق”:
ولد (أمين محمد الحق سام خان) عام 1960 فى ولايةِ “نانغارهار” بأفغانستان وفى الثمانينياتِ من القرنِ الماضىِ كان عضواً فى الحزبِ الإسلامىِ “HIK”، الذى أسُس على يدِ (مولوى محمد يونس خالص) والذى توطدتْ علاقاتهُ بتنظيمِ القاعدةِ فى أفغانستانَ فيما بعدُ، وأصبحَ الحقُ قريباً من بن لادن حينَها أثناءَ عملهِ مع مؤسسِ نواةِ تنظيمِ القاعدةِ (عبد الله يوسف عزام)، وتنامتْ علاقاتهُ منذُ عامِ 1996 وأصبحَ واحداً من أبرزِ الشخصياتِ داخلَ التنظيمِ وشغلَ حينذاك رئاسةَ “الحرسِ الأسودِ/ Black Guard” وهى وحدةٌ أمنيةِ مسؤولةٌ عن حمايةِ بن لادن، وظهرَ دورُها فى معركةِ “تورا بورا” التى شنتهَا القواتُ الأمريكيةُ فى أعقابِ هجماتِ 11 سبتمبر فى أفغانستان من أجلِ البحثِ عن بنِ لادن وغيرهِ من عناصرِ تنظيمِ القاعدةِ وقياداتهِ، ووفقاً لبعضِ المصادرِ فقد ساعدَ الحقُ بن لادن وغيرَهُ من قادةِ التنظيمِ للفرارِ إلى باكستان، وأدرجَ مجلسُ الأمنِ التابعِ للأممِ المتحدةِ الحقَ على قائمةِ الأممِ المتحدةِ للكياناتِ الإرهابيةِ منذُ 2001[1].
واستطاعتْ القواتُ الباكستانيةُ اعتقالَه من قبلُ فى عامِ 2008 فى مدينةِ “لاهور” عاصمةِ إقليمِ “البنجاب”، وذلكَ بعدَ تسجيلِ إدارةِ مكافحةِ الإرهابِ فى البنجابِ دعوىَ قضائيةٍ ضدهُ اتهمتهُ فيها بتخريبِ المنشآتِ الرئيسيةِ داخلَ الإقليمِ ولكن تمَّ إطلاقُ سراحهِ عامَ 2011 بعدَ أن صرحَ المسؤولون الباكستانيونَ أن صلةَ الحقِ بتنظيمِ القاعدةِ لا يمكنُ إثباتُها ولم تحددْ ماهيةَ خططهِ ومنشآتِ الإقليمِ المرادِ استهدافُها، ناهيكَ عن حالتهِ الصحيةِ المتدهورةِ حينهَا، وبعد إطلاقِ سراحهِ تراجعَ الحديثُ عنه واختفىَ عن الأنظارِ[2].
ولكنْ بعدَ جلاءِ القواتِ الأمريكيةِ عن الأراضِى الأفغانيةِ واستيلاءِ طالبان على السلطةِ فى كابول فى أغسطسَ لعامِ 2021، عادَ الحقُ إلى أفغانستانَ وزعمَ أنه ركزَ جهودَه من أجلِ إعادةِ تنظيمِ القاعدةِ بمساعدةِ خفيةٓ من حركةِ طالبان التى تنكرُ باستمرارِ ارتباطِها بالتنظيمِ .[3] وجاءَ اعتقالُه الثانى كأولِ اعتقالٍ نوعىٍ منذُ سنواتٍ لعضوٍ بارزٍ وهامٍ فى تنظيمِ القاعدةِ، وجاءَ القبضُ عليه بالتعاونِ بين إدارةِ مكافحةِ الإرهابِ الباكستانيةِ ووكالاتِ الاستخباراتِ على أثرِ اتهامهِ بالتخطيطِ لأنشطةٍ تخريبيةٍ والسعيِ إلى استهدافِ منشآتٓ مهمةٍ داخلَ باكستان[4].
دحضُ إعادةِ تنظيمِ الصفوفِ للقاعدةِ:
لم ينفكٰ تنظيمُ القاعدةِ على مواصلةِ أنشطتهِ داخلَ كلٍ من أفغانستان وباكستان حيثُ يسعَى إلى إعادةِ بناءِ صفوفهِ داخلَ أفغانستان واحتماءِ التواجدِ فى معسكراتِهم التى ساعدتٰ الجغرافَيا والتضاريسُ الأفغانيةُ الوعرةُ على تواجدِها، كما أن قيادتَه العلَيا تبحثُ عن ملاذٍ آمنٍ داخلَ الأراضيِ الأفغانيةِ بعدَ الانسحابِ السريعِ للقواتِ الأمريكيةِ اعتماداً على “رهان طالبان”، النموذجِ الأمثلِ فى المنطقةِ، من خلالِ تقديمِ ملاذٍ سرىٓ لأعضاءِ وعائلاتِ التنظيمِ فى أفغانستان، ويستدلُ على ذلك من دعوةِ تنظيمِ القاعدةِ المركزىِ وفرعهِ فى جنوبِ شرقِ آسيا إلى شنِّ هجماتٍ فى المنطقةِ ، ناهيكَ عن فرعِ شبهِ الجزيرةِ الهنديةِ المنبثقِ من تنظيمِ القاعدةِ المركزىِ، والتى أفادتٰ القيادةُ المركزيةُ الأمريكيةُ فى تقديرٍ لها فى شهرِ مارس الماضى، أن هذا الفرعَ يديرُ معسكراتِ تدريبٍ ومدارسَ دينيةً فى العديدِ من الولاياتِ الأفغانيةِ مثلَ “ننكرهار، وقندهار، وتخار، غزنة، أروزكان”[5]، فضلاً عن مواصلتهِ للعملِ من خلالِ علاقاتهِ وشبكاتهِ من التنظيماتِ والجماعاتِ المتحالفةِ معه والتابعةِ له فى جنوبِ آسيا. وبالنظرِ إلى الواقعِ العملياتىِ تنامتْ الهجماتُ فى الشهورِ المنصرمةِ وأعلنتٰ حركةُ طالبان باكستان وتنظيمُ القاعدةِ مسؤوليتِها عن الكثيرِ منها مستغلةَ العديدَ من الأزماتِ التى يعانىِ منها النظامُ لتحقيقِ مصالحِها الإستراتيجيةِ[6]ِ.
اشتدادُ المجابهةِ ضد تهديداتِ القاعدةِ والتنظيماتِ ذات الصلةِ:
ارتبطتْ التحولاتُ فى المشهدِ الأمنى والإرهابىِ ومحاولاتِ تنامىِ القاعدةِ بسعَى إسلامُ أباد فى مجابهةِ ذلك التهديدِ الإرهابىِ المركّبِ للأمنِ الداخلىِ الباكستانىِ من الإرهابين سواءٌ فى الداخلِ أو المتمركزينَ خارجَ البلادِ لاسيَّما فى أفغانستان وذلك فى ضوءِ ما صرحَ به (خواجة محمد آصف) وزيرُ الدفاعِ الباكستانيِ أنه “إذا لم توقفْ وتيرةُ هذه العملياتِ فإنها قد تنتشرُ إلى مقاطعاتٍ أخرى إلى جانبِ خيبرِ بختونخوا وبلوشستان”. وجاءتْ تحركاتُ السلطاتِ الباكستانيةِ عبرَ توظيفِ العديدِ من الأدواتِ العسكريةِ من خلالِ استخدامِ القوةِ وشنِّ عملياتٍ مضادةٍ، فقد أعلنتْ باكستانُ عن بدءِ عمليةِ “عزم استحكام” خلالَ اجتماعٍ للجنةِ العليا فى سبيلِ تفكيكِ الشبكاتِ الإرهابيةِ ورصدِ المخاطرِ الأمنيةِ التى تواجهُ الداخلَ الباكستانىَ عبر تكثيفِ القواتِ الأمنيةِ للعملياتِ الاستخباراتيةِ ويلاحظُ عمليةُ اعتقالِ القيادىِ (أمين الحق) فى هذا التوجهِ الأمنىِ وهو ما اعتبرتهُ إدارةُ مكافحةِ الإرهابِ تقدماً فى الحربِ ضدَ الإرهابِ، هذا إلى جانبِ السعىِ لحلحلةِ الأزماتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ لمواجهةِ الخطرِ الإرهابىِ.[7]
ومن أجلِ استمراريةِ نجاحِ تفكيكِ الشبكاتِ الإرهابيةِ ودحرِ تناميِها على المدىَ البعيدِ تحاولُ الإدارةُ الباكستانيةُ انتهاجَ المسارِ الدبلوماسىِ من خلالِ مفاوضاتهِا مع كابول معقلِ العديدِ من التنظيماتِ المتطرفةِ من أجلِ ضمانِ عدم استخدامِ الأراضيِ الأفغانيةِ لشنِّ هجماتٍ إرهابيةٍ ضدَ دولٍ أخرى مما يؤججُ التوتراتِ بينهما خاصةً على الحدودِ، وسبقَ وأن نفذتْ باكستانُ عملياتِ استخباراتٍ داخلَ أفغانستان لاستهدافِ جماعاتٍ متشددةٍ [8]، وقد جاءَ اعتقالُ الحق بعد يومينِ من قيامِ وزارةِ الخارجيةِ الباكستانيةِ باستدعاءِ نائبِ رئيسِ بعثةِ طالبان وحثتْ بلادَه على اتخاذِ إجراءاتٍ ضدَ جماعاتٍ متشددةٍ متمركزةٍ في أفغانستان تزعمُ إسلام آباد إنها شنتْ هجوماً على قاعدةٍ عسكريةٍ منتصفَ الشهرِ الجارىِ، حيثُ شنَ متشددونَ هجوماً على قاعدةٍ في “بانو” الواقعةِ في شمالِ غربِ باكستان، وصدموا سيارةً محملةً بالمتفجراتِ بجدارٍ يحيطُ بالقاعدةِ، مما أسفرَ عن مقتلِ ثمانيةِ عناصرَ من قوات ِالأمنِ الباكستانية[9]ِ.
قدرةُ الادارةِ الأمريكيةِ فى كبحِ جماحِ التنظيمِ:
تواجهُ الادارةُ الأمريكيةُ جملةً من التهديداتِ فى أفغانستان وباكستان والتى ترتكزُ بالإساسِ على تنظيمِ القاعدةِ وتنظيمِ داعش ولايةِ خرسان مرتكزةً على الخبرةِ التاريخيةِ فى التأهبِ والاستنفارِ تجاهَ التنظيماتِ المتطرفةِ وتأثيراتهِا على الداخلِ الأمريكىِ أو مصالحِها فى دولِ العالمِ المختلفةِ، وارتبطَ الأمرُ بانسحابِ الولاياتِ المتحدةِ من أفغانستان، وبالنسبةِ للخطرِ المرتبطِ بتنظيمِ القاعدةِ فإن إيديولوجياتِها قائمةً بالأساسِ على محاربةِ وإضعافِ العدوِ البعيدِ المتمثلِ فى الولاياتِ المتحدةِ والغربِ والتى ارتبطتْ بهجومِ 11 سبتمبر الشهيرِ، ولازالتْ تحاولُ اتباعَ هذا النهجِ المعادىِ للولاياتِ المتحدةِ رغمَ التأكيداتِ الأمريكيةِ على خمولِ التنظيمِ وعدمِ قدرتهِ على إثارةِ تهديداتٍ مماثلةٍ لسابقِ عهدهِ، ولكن بناءً على تقاريرَ صادرةٍ عن مجلسِ الأمنِ الدولىِ في شهرِ يونيو المنصرمِ نوهتْ “أن القيادةَ العليَا للقاعدةِ ما زالتْ موجودةً داخلَ أفغانستان إلى جانبِ المئاتِ من العناصرِ المسلحةِ”. وعليه تثيرُ التهديداتُ والتوجهاتُ الأخيرةُ حالةً من الضغطِ على واشنطن وإدارةِ بايدن الحاليةِ من حيثُ مدى قدرتِها على منعِ عودةِ وصعودِ التنظيمِ لاسيمٌَا فى أفغانستان وتأثيرهِ على الجوارِ الباكستانىِ بالتناغمِ مع مصالحِ طالبان فى كابول ومع القوىَ الأخرى، وذلكَ فى إطارِ غيابِ القواتِ الأمريكيةِ تراجعَ اتخاذُ واشنطن إجراءاتٍ حازمةً لإضعافِ ودحرِ أنشطةِ تنظيمِ القاعدةِ سواءٌ فى أفغانستان أو باكستان، وكذلك انشغالُ الولاياتِ المتحدةِ بملفاتٍ شائكةٍ مع اقترابِ موعدِ الانتخاباتِ الذى يحملُ معه ضرورةَ إعادةِ الحساباتِ الأمريكيةِ للتهديداتِ والمخاطرِ التى ترتبطُ بأهدافِها واستراتيجيتِها فى المنطقةِ والتى يقعُ على رأسهِا علاقتُها مع طالبان والجماعاتِ ذاتِ الصلة[10]ِ.
وختامًا:
فى سياقِ الضغطِ على أجهزةِ الأمنِ الباكستانيةِ التى تواجهُ العديدَ من التحدياتِ والمخاطرِ الأمنيةِ على جبهاتٍ مختلفةٍ جاءتْ عمليةُ اعتقال “أمين الحق” كانتصارٍ نوعىٍ لاستراتيجياتِ مكافحةِ الإرهابِ التى تتبناها إسلامُ أباد من أجلِ اتخاذِ إجراءاتٍ صارمةٍ تجاهَ تنامىِ أنشطةِ التنظيماتِ الإرهابيةِ وخطورتِها وتأثيِرها على الداخلِ الباكستانِى وعدمِ الاستقرارِ الأمنىِ، خاصةً من جانبِ تنظيمِ القاعدةِ الذى يحاولُ لملمةَ شتاتهِ اعتماداً على العناصرِ البارزةِ والقياداتِ الخطرةِ وثيقةِ الصلةِ بالجيلِ الأولِ بالتنظيمِ، وذلك فى ضوءِ بعضِ التحدياتِ التى تحجمُ من تحركاتهِ وتُعيدُ حساباتِه وتطوقُ أنشطتَه.
المصادر:
[1] Extremist Leaders: Amin al-Haq, Counter Extremism Project (CEP), Available on:
[5] Senior Study Group on Counterterrorism in Afghanistan and Pakistan, “Afghanistan’s and Pakistan’s Dangerous, Threat Landscape for US Interests”, United States Institute of Peace, May 2024, Available on:
