المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > دورُ تركيا كوسيطٍ دبلوماسي: استشراف فرص الوساطة التركية المتوقعة في النزاعات الأفريقية
دورُ تركيا كوسيطٍ دبلوماسي: استشراف فرص الوساطة التركية المتوقعة في النزاعات الأفريقية
- سبتمبر 27, 2024
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات
إعداد / أماني السروجي
باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية
شكّلت الوساطة الدوليةُ عنصراً رئيسياً في السياسة الخارجية التركية منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، حيث تهدفُ السياسة الخارجية التركية إلى تعزيزِ مكانة تركيا على الساحتين الإقليمية والدولية، وتأدية دورٍ فعّالٍ ومؤثرٍ في حلِّ النزاعات الإقليمية، كما أن تركيا وبحكم كونها إحدى أهم مراكز القوة في منطقة أفرو-أوراسيا، فهي تتأثرُ بشكلٍ مباشرٍ بكافة التطورات الجارية في هذه المنطقة، لذا تبذل تركيا جهوداً كبيرةً لإرساء مناخ السلام الدائم والاستقرار والازدهار في المنطقة.
وترى تركيا في الدبلوماسية الوقائية والوساطة الدولية خيرَ طريقٍ لحل النزاعات والخلافات وتحقيق الاستقرار في المنطقة، فالنجاحات التي يمكنُ تحقيقها عن طريقِ الوساطة الدولية، تشكل أكثر الطرق تأثيراً وفاعلية في حلِّ النزاعات ومن أقلّها تكلفةً في هذا المجال، كما تساهم الدبلوماسية الوقائية في تراجع احتمالات اندلاع الخلافات والنزاعات في المنطقة، مما يساهم بشكلٍ مباشر في تطور تركيا، وذلك على العكس من الخسائر التي من الممكن أن تسببها النزاعات والصراعات للمنطقة والمجتمع الدولي، والتي ستتطلبُ اتخاذَ تدابيرَ طويلة الأمد.
وفي هذا السياق بذلت تركيا الكثير من الجهود الفعالة لحلِّ الكثير من المشاكل والنزاعات سواء في المنطقة المحيطة بها أو في المناطق البعيدة عنها، وخلال السنوات الأخيرة وبعد سلسلة من تحركات أنقرة كوسيطٍ في مناطق الأزمات في الشرق الأوسط، برزت تركيا كوسيطٍ في عدة ملفات أفريقية، نظراً لما تشهده المنطقة من تهديداتٍ أمنية ونزاعات حادة في العديد من المناطق، تستدعى التدخلَ السريعَ لحفظ أمن واستقرار القارة، وأيضًا لتتمكنَ تركيا من ترسيخ عمقها الاستراتيجي ومكانتها حتى تتجاوزَ الشرق الأوسط إلى العمقِ الأفريقي.
لذا يحاولُ هذا التقرير أن يناقشَ فُرصَ الوساطة التركية الممكنة في القارة الأفريقية في ضوء المستجدات الأمنية التي تشهدها القارة.
الدبلوماسيةُ الوقائيةُ والوساطة الدولية في السياسة الخارجية التركية.
حكمت السياسةُ الخارجية التركية في المرحلة الأردوغانية مبادئ وتوجهاتٍ جديدةً تختلف بشكلٍ كبيرٍ عن المبادئ والثوابت الكمالية، وقد وضع هذه المبادئ الجديدة وحددها بدقةٍ أحمد داوود أوغلو، وتحدث عنها في كتابه العمق الاستراتيجي، وقد تزامنت هذه المبادئ والأفكارُ مع جملةٍ من المُتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية ساعدت على تقبل هذه الأفكارِ ونقلها من إطار النظرية إلى التطبيق.
ويُعدُ مبدأ دبلوماسية السلام الوقائية والاستباقية أحد أهم هذه المبادئ، وهو يهدف إلى اتخاذ إجراءاتٍ معينةٍ قبل وقوع أيِّ أزمة أو قبل تفاقم أي أزمة موجودة بالفعل، فالسياسة التركية تُقرّ بمبدأ الأمن للجميع والحوار السياسي على أعلى مستوى، والانخراط الاقتصادي والترابط والتعايش بين الثقافات المختلفة، لذا تولي تركيا اهتماماً كبيراً للتوفيق والوساطة بين الوحدات الدولية في مختلف الصراعات الدولية، لحلِّ الخلافات القائمة ومنع وقوع الخلافات المحتملة، وحتى الآن لم تَحِدْ عن هذا المبدأ الجوهري لسياستها الخارجية.
وما قد يساعدها على الاضطلاع بهذا الدور هو ما يتوفرُ لديها من مجموعةٍ من العوامل تتمثل في موقعها الجيوسياسي الاستراتيجي الذي يتوسط منطقةً جغرافيةً نشطةً سياسياً مليئة بالنزاعات، مما يُتيحُ لها لَعِبَ أدوارٍ محوريةٍ على نطاقٍ عالمي في مجال الوساطة الدولية، كما ترتبط تركيا بشراكات استراتيجية مع جميع الأطراف، هذا فضلاً عن الإرادةِ السياسية، وتجربة التحديث، واعتمادها بشكلٍ كبير على القوة الناعمة، واتباعها سياسة خارجية نشطة.
وفي إطارِ الأهمية التي توليها تركيا للدبلوماسية الوقائية، بذلت جهوداً فعالةً لحلِّ النزاعات بالطرق السلمية، وقادت العديدَ من مبادرات الوساطة في مناطقَ جغرافيةٍ واسعةٍ، حيث توسطت بين الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، كما رعتْ المصالحة الداخلية في العراق ولبنان وقرغيزستان، ولعبت دوراً رئيسياً في المحادثات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا في 2008، وتدخلت كوسيطٍ لحل أزمةِ الملف النووي الإيراني، فضلاً عن نجاحها في أن تكون وسيطاً مؤثراً بين أوكرانيا وروسيا، والأهم من ذلك نجاح تركيا في التوسط لإتمام اتفاقية الحبوب، وهي المبادرةُ التي أنقذت العديد من دول العالم من مجاعةٍ شبه حتمية.
أدواتُ التوغل التركي في القارة الأفريقية.
تصدرت إفريقيا اهتمامَ صُناعِ السياسة الخارجية التركية خلال العِقْدين الماضيين، وتمكنت تركيا عَبْر سياسات متوازنة، من تعزيز نفوذها في الفضاء الإفريقي، حيث بدأ التوغل التركي في القارة الأفريقية عبر أدوات القوة الناعمة، من خلال بناء شبكةٍ واسعة قوية من العلاقات الدبلوماسية والسياسية، وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية، وتشجيع الزيارات المتبادلة للوفود التجارية، بالإضافة إلى الاهتمام بالبُعد الثقافي والاجتماعي والإنساني وتقديم المنح الدراسية والمساعدات الإنسانية.
وبعدما عززت تركيا حضورَها التجاري الاستثماري في المنطقة، سعت لتعزيز نفوذها العسكري في القارة عبر أدواتِ القوة الصُلبة، من خلال القواعد العسكرية والاتفاقيات الدفاعية والأمنية، حتى تتمكنَ من حماية استثماراتها في المنطقة لا سيما في ظل الأوضاع الأمنية الغير مستقرة في العديد من الدول الأفريقية، بالإضافة لرغبتها في الظهور كقوةٍ إقليميةٍ فاعلةٍ وقادرة على التأثير في مُجريات الأحداث الإقليمية، فانتقلت العلاقات التركية الأفريقية من مربع العلاقات الاقتصادية نحو العلاقات العسكرية والأمنية.
وبالتوازي مع النجاحات التي حققتها تركيا عبر الأدوات الاقتصادية والعسكرية والمساعدات الإنسانية، تسعى أنقرة إلى تعزيزِ حضورِها كدولةٍ راعية للسلام، وقوة للاستقرار في أفريقيا، لذا اتجهت نحو استخدام الدبلوماسية الوقائية والوساطة الدولية في عددٍ من الملفات الأفريقية التي تمثلُ أهميةً كبيرةً لتركيا، فقد رعت أنقرة المفاوضات بين الصومال وأرضِ الصومال، حيث حرصت على إعادة المفاوضات بين البلدين بعدما انقطعت، كما تدخلت تركيا بالوساطة لحل النزاع الحدودي بين إثيوبيا والسودان بشأن منطقة الفشقة التي تتهم الخرطوم أديس أبابا بالتعدي عليها عبر الزراعة والاستيطان، وتمكنت من إعادة الدولتين إلى طاولة التفاوض عبر إيجاد أرضيةٍ مشتركة للتوافق، وخلال الأشهر الأخيرة قامت بالتوسط في الأزمة بين الصومال وأثيوبيا، وعرضت التوسط من أجل حل الصراع بين شرق ليبيا وغربها.
أدوارُ الوساطةِ التركية في القارة الأفريقية.
مثّلت الوساطة أداةً رئيسيةً في السياسة الخارجية التركية تجاه القارة الأفريقية وعلى الرغم من أن ذلك لم يظهرْ إلا خلال السنوات الأخيرة، إلا أن تركيا استطاعت أن تَبرزَ كوسيطٍ هامٍ يمكن الوثوق به من قِبَلِ الدول الأفريقية، فقد رعت تركيا المفاوضات بين الصومال وأرض الصومال في 2016، فبعدما لاحظت توقف عملية التفاوض بين الطرفين، تدخلت أنقرة لإحياء المفاوضات بين البلدين، وتغليفها بهيكلية حلول ناجحة تمكّن الطرفين من حلِّ الأزمة.
كما تدخلت تركيا بالوساطة لحلِّ النزاع الحدودي بين إثيوبيا والسودان بشأن منطقة الفشقة التي تتهم الخرطوم أديس أبابا بالتعدي عليها عبر الزراعة والاستيطان، وتمكنت من إعادة الدولتين إلى طاولة التفاوض عبر إيجاد أرضيةٍ مشتركةٍ للتوافق، لاسيما بعد رفْضِ أثيوبيا وساطات مماثلة من دول عربية وحاولت التمسك بالحل الأفريقي للأزمة، وخلال هذا العام وفي أعقاب التوتر الشديد بين أثيوبيا والصومال، على إثر مذكرة التفاهم التي وقعتها إثيوبيا في الأول من يناير الماضي مع حكومة دولة أرض الصومال لاستئجار إثيوبيا منفذاً بحرياً على البحر الأحمر، قامت تركيا بالدخول كوسيط في الأزمة بين الصومال وأثيوبيا والتي كادت أن تتحولَ إلى صراعٍ مسلحٍ بين الطرفين، وعملت على تهيئة بيئة ملائمة لعَقْدِ محادثات بين البلدين لتقريب وجهات النظر بينهما، ومؤخرا عرضت أنقرة التوسط من أجل حل الصراع بين شرق ليبيا وغربها.
فرصُ الوساطةِ التركية المحتملة في أفريقيا.
في ضوء ما سبق يبدو أن تحركاتِ تركيا للوساطة في أفريقيا ترتكز بشكلٍ كبير على مناطق اهتمامها والتي يأتي في مقدمتها منطقةُ القرن الأفريقي والساحل، كما تنخرطُ تركيا كوسيطٍ بين الدول التي ترتبط معها بشراكات استراتيجية، و ترتكز على القضايا التي تتعلقُ بالنزاعات على الحدود او المياه، والصراعات الداخلية، لذا من المحتمل أن تمارسَ تركيا دوراً أكبر في أفريقيا من خلال الوساطة، لا سيَّما في ظل استمرار الصراعات الداخلية في بعض الدول الإفريقية، والنزاعات القائمة بين دول الجوار الإفريقي، وتتمثل أبرز النزاعات التي من الممكن أن تدخل تركيا كوسيط بها في الآتي:
النزاعُ الحدوديُ البحري بين الصومال وكينيا
يُعدُ النزاع الحدودي البحري بين الصومال وكينيا من أهمِّ النزاعات التي شهدتها منطقة القرن الأفريقي، نظراً لما به من تعقيداتٍ أدتْ إلى توتر العلاقات بين البلدين، ويتمحور النزاع حول السيادة على منطقة بحرية تمتلك كمياتٍ من النفط والغاز، تبلغ مساحتها ١٠٠ ألف كيلومترًا مربعًا، قامت كينيا بالتعاقد مع العديد من الشركات، منها شركة إي أن آي الإيطالية ومنحتها حق التنقيب عن النفط والغاز في ثمانية مناطق تقعُ سبعةٌ منها في المنطقة المُتنَازعِ عليها، وهو ما اعترضت عليه الصومال وتقدمت بدعوى في أغسطس 2014 إلى محكمة العدل الدولية ضد كينيا للفصل في هذا النزاع، بعد تعثر المفاوضات بين البلدين.
وفي أكتوبر 2021 أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها الفاصل في النزاع بين البلدين، والذي يؤكدُ على أحقية الصومال في السيادة على الجزء الأكبر من المنطقة المتنازع عليها، وإما عن كينيا فقد رفضت هذا القرار وأعلن الرئيس الكيني كينياتا أن بلادَه لن تتنازلَ عن جزءٍ من أراضيها.
أبرزُ الأسبابِ التي تدفعُ تركيا للدخول كوسيط في النزاع بين الصومال وكينيا
الاتفاقية الدفاعية بين تركيا والصومال: حيث قامت تركيا في فبراير الماضي بتوقيع اتفاقية إطارٍ للتعاون الاقتصادي والعسكري مع الصومال، وهي اتفاقيةٌ استثنائية وغير مسبوقة لتركيا مع أي دولة، وتعطي تركيا نفوذاً عسكرياً شبه كامل على الصومال، براً وبحراً وجواً، وتضـع هذه الاتفاقية أنقـرة فـي قلـب النزاع بيـن الصومال وكينيا، حيث إنه بموجب هذه الاتفاقية ستعمل تركيا على حماية ما يقارب 3 آلاف كيلومتر من ساحل الصومال، من كينيا إلى جيبوتي، بواسطة سفنٍ حربية وجنود أتراك.
المصالحُ التركية في البلدين: حيث ترتبط تركيا بعلاقاتٍ وثيقةٍ مع الصومال، والتي وصلت إلى حدِّ الشراكة الاستراتيجية، فهي تمتلك أكبر قاعدة عسكرية لها في مقديشو، كما أن الصومال من بين الدول التي استثمرت فيها تركيا أكبر قدرٍ من الاستثمارات السياسية والاقتصادية والعسكرية، فضلاً عن أهميتها لتركيا في مجال الطاقة لا سيما بعد توقيع اتفاقية التعاون الدفاعي والاقتصادي الأخيرة، وإما عن كينيا فتمتلك تركيـا اسـتثماراتٍ كبيرةً بها من أهمها المُجمّـعُ الصناعي الذي تقوم ببنائه بقيمـة 760 مليـون دولار، والـذي يشـمل سـتة مصانـع للبنـاء والغابـات والأثاث ومنتجـات التنظيف، كما أبرمت تركيا وكينيا في يوليو 2023 اتفاقية تعاونٍ في الصناعات الدفاعية، تشملُ التوريدَ المباشر لكافة أشكال خدمات ومنتجات الصناعات الدفاعية التي تحتاجها المؤسسات الأمنية لدى الجانبين، وتطويرها وإنتاجها وبيعها لطرف ثالث.
تمتع تركيا بعلاقات استراتيجية مع الطرفين تدفعهم للوثوق بتركيا كوسيطٍ جيد: وخيرُ دليلٍ على ذلك قَبولُ الصومال الوساطة التركية في أزمتها مع أثيوبيا، بعد رفضها الدخول في أي مفاوضات، كما وقّعت اتفاقية مع تركيا لتقوم بحماية السواحل الصومالية من أي تهديد خارجي.
تداعياتُ الأزمة على استقرار المنطقة: حيث إنه وفي حال استمرار رفض كينيا الامتثال لقرار المحكمة، قد تشهد المنطقة نزاعًا ممتدًا لسنوات طويلة بين الطرفين، مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، وهو ما يتبعهُ المزيدُ من التدخلات من قِبَلِ القوى الدولية، ويعززُ من حالة التنافس في المنطقة، لاسيما في ظل سعي روسيا لحجز موطئ قدمٍ لها في المنطقة، وهو الأمر الذي لن ترغبَ به تركيا.
تداعياتُ استمرارِ الأزمة على جهود مكافحة الإرهاب: حيث إن تصاعدَ حدّة الأزمة سوف يؤدي إلى عرقلة الجهود الثنائية المبذولة من البلدين لمواجهة حركة شباب المجاهدين الصومالية، والتي تُعدُ من أهمِّ الفاعلين الإجراميين في نشاط الجريمة المنظمة في الصومال، وهو الأمر الذي سيفرض مزيداً من الأعباءِ الأمنية على تركيا من خلال الحاجة إلى القتال ضد الجماعات الإرهابية، لاسيما في الوقت الذي تخطط فيه بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال، لسحب قواتها بحلول نهاية عام 2024.
وفي هذا السياق يمكنُ القولُ إن عمليةَ التفاوض هنا تتسمُ بالتعقيد بعض الشيء لا سيما في ظل وجود حكم محكمة العدل الدولية، وتمسك كينيا بقرارها في رفض قرار المحكمة والذي سيجعلها تقومُ بإلغاءِ كافة العقود مع الشركات الدولية، والتي أبرمتها للتنقيب عن النفط، مما سيفرض عليها المزيدَ من الأعباء، لذا ستواجه تركيا بعض الصعوبات في هذا الملف وسيكون عليها تغليب العوامل السياسية على القانونية.
أزمةُ سدِّ النهضة بين مصر وأثيوبيا.
خلال السنوات الأخيرة احتلت قضيةُ سدِّ النهضة الصدارة في قضايا المياه، حيث يُعدُ من الملفات الشائكة، حيث إنه يحتوي مشاكلَ مائية معقّدة ومتعددة الأسباب، مما أدى إلى نشوب صـراع مائيٍ دولي بين كل من أثيوبيا ومصر والسودان حول مدى مشـروعية اتفاقيات مياه النيل السـابقة، فإثيوبيا ترفضُ جميعَ هذه الاتفاقيات بحجة أنها تمت من قِبَلِ دول الاستعمار، لذا لا تعترفُ بالحقوق المُكتسبة لدولة مصـر، ولا تأبه بموضـوع التوارث الدولي للمعاهدات كما تُعتبرُ مسألةُ سـد النهضـة مسـألةً متعلقةً بسـيادة دولتها على النهر الذي يَمرُّ بأراضـيها.
وعلى الرغم من أن النزاعَ المصري الأثيوبي حول سد النهضة تعودُ جذورهُ إلى خلافٍ منذ قرون حول نهر النيل، إلا أن الأزمةَ بدأت منذ عام 2011 عندما قامت أثيوبيا ببناءِ ســـــــدّ النهضـــــــة الذي يَحجزُ كمياتٍ كبيرةً من مياه النيل خلفه، مما يُلحقُ أضراراً كبيرةً لدول المصبِّ، ونقصاً في حصتها المائية من مياه نهر النيل، وهو الأمرُ الذي يخالفُ جميع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بتوزيع مياه الأنهار، وعلى أثر هذه الأزمة دخلت الأطراف المتنازعة في جولات من التفاوض منذ ثلاثةَ عَشَرَ عامًا، إلا إنها جميعًا باءتْ بالفشل.
أبرزُ الأسباب التي تدفعُ تركيا للوساطة في الأزمة
التقاربُ المصري التركي: فقد شهدت العلاقات المصرية التركية تقدماً كبيراً بعد زيارة الرئيس التركي للقاهرة في فبراير الماضي بعد 12 عاماً من القطيعة، مع تبادل الزيارات بين المسؤولين من البلدين، وبعد زيارة الرئيس السيسي الأخيرة إلي أنقرة من المقرر أن تشهدَ العلاقات تطوراً في شتّي المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وفي هذا الإطار من المُحتمل أن تدخلَ تركيا كوسيطٍ في الأزمة بين البلدين، لاسيما في ظل رغبه تركيا لتعزيز العلاقات مع مصر وتوقيع اتفاقية شراكة استراتيجية معها.
تمتعُ تركيا بعلاقاتٍ وطيدةٍ مع إثيوبيا: فخلال السنوات الأخيرة تطورت العلاقات التركية الإثيوبية بشكلٍ كبيرٍ دبلوماسيًا وسياسيًا، ولاحق ذلك تطورٌ في التعاون العسكري والصناعي الدفاعي بين البلدين، حيث تم توقيع اتفاقيةٍ للتعاون في مجال الصناعة الدفاعية بين البلدين في عام 2013، وفي 2021 وقعا على اتفاقيات الإطار المالي والعسكري، كما ساعدت تركيا أثيوبيا لمواجهةِ جبهة تحرير تيغراي من خلال الطائرات بدون طيار، بالإضافة إلى أن تركيا تمتلك استثماراتٍ قويةً في إثيوبيا، فهي لديها ما يَقربُ من 200 شركة تَنشطُ في مختلف القطاعات، لذا تُعدُ تركيا وسيطاً جيداً يمتلك أدواتٍ للضغط على أثيوبياً.
وجودُ قابليةٍ للطرفين المتنازعين للوساطة التركية: فأما عن مصرَ فهي تؤمن بأهمية الحلول الدبلوماسية للصراعات والأزمات، كما لديها انفتاحٌ على أي جهد دبلوماسي، لا سيَّما من الدول التي تمتلكُ أدواتٍ للضغط على أثيوبيا، وأما عن إثيوبيا فتمثّلُ تركيا بالنسبة لها وسيطاً يمكن الوثوق به، فقد طلبت أديس أبابا من أنقرة التوسطَ بينها وبين الصومال على أثر الأزمة الأخيرةِ بينهم بعد توقيع أثيوبيا مذكرة تفاهمٍ مع الصومال.
خبرةُ تركيا في هذه الملفات: حيث إنها تملكُ أكثر من 600 سدٍّ على الأراضي التركية، بعضها شُيدَ على أنهارٍ دولية مثل دجلة والفرات، ولدي تركيا مسألة تقاسم المياه مع الدول المجاورة.
تعزيزُ مكانتها في المجتمع الدولي: حيث إن دخول تركيا كوسيطٍ في هذا الملف الذي يتسمُ بالتعقيد الشديد، سيساهم في تعزيز مكانة تركيا في المنظومة الدولية، كما أن نجاح الوساطة ستُبرزُ تركيا كفاعلٍ دولي قادر على تغيير قواعد اللعبة.
ومن الجدير بالذكر أن نُشيرَ إلى أنه على مدار السنوات السابقة اختلفت موضوعات المفاوضات، حيث بدأت بمواصفات سدّ النهضة، ثم عملية الملء الأول، ورغم أن سدَّ النهضة اكتمل بنسبةٍ تكاد تكون 100% إنشائيا، وحوالى 60% كهربائيا، إلا أنه مازال من الضروري الوصولُ إلى اتفاقٍ لتنظيم العلاقات المائية للسد، لذا سوف تتمحور المفاوضات بشكلٍ أساسي حول ضمان حصة مصر من مياه النيل، والتي ترفض أثيوبيا الاعتراف بها، كما أنه من الممكن التفاوض حول طريقة تشغيل سد النهضة في فترات الجفاف، وطريقة تسوية الخلافات في المستقبل.
واخيراً وليس آخراً تعاني القارة الأفريقية من نزاعاتٍ أخرى في العديد من المناطق، بعضها صراعات داخليه، كالنزاع في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع علي السلطة، والذي أدّى إلى نُزوحِ ستة ملايين سوداني منذ أبريل 2023، وبعضها نزاعات بين الدول الأفريقية المتجاورة كالنزاع بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية على أثر اتهام جيش جمهورية الكونغو الديمقراطية، رواندا باستهداف مطار جوما في شرق البلاد بمُسيّرات، في سياق معارك دائرة بالمنطقة مع متمردي حركة “إم 23” المدعومة من كيجالي، وأيضًا النزاع في منطقة الساحل الأوسط، كالأزمة بين مالي والجزائر، بسبب إعلان مالي إلغاء اتفاقية السلم والمصالحة الموقع في الجزائر في 2015.
إلا أنه لا يُتوقعُ أن تدخلَ تركيا كوسيط في هذه النزاعات في المستقبل القريب، نظراً لأن بعضها يتسم بالتعقيد الشديد، ورفض الوساطة من أي طرف، كما أن الوساطة تستلزمُ بشكلٍ أساسي وجود مخصصات مالية وجهود كبيرة لتحقق نتائج فعلية، كما أن تركيا تتعامل حاليا مع بعض الملفات كالملف بين أثيوبيا والصومال، لذا يُرجّحُ أن تركزَ الوساطة التركية في أفريقيا خلال الفترة القادمة على منطقتي القرن الأفريقي والساحل.
ختامًا
استطاعت تركيا خلال السنوات القليلة الأخيرة أن تَبرزَ كوسيطٍ فعّال ومؤثرٍ في القارة الأفريقية، من خلال الانخراط في عددٍ من النزاعات الأفريقية، كالنزاع بين الصومال وأرض الصومال، والنزاع الحدودي بين أثيوبيا والسودان، كما برزت خلال الأشهر الأخيرة كوسيطٍ في الأزمة بين الصومال وأثيوبيا، وهي المفاوضات التي سينتجُ عن نجاحها اختراق تركيا لملفاتٍ أخرى، ويأتي في مقدمة هذه الملفات، النزاع الحدودي البحري بين الصومال وكينيا، وأزمةِ سد النهضة بين مصرَ وإثيوبيا.
المراجع
د/ياسمين أحمد إسماعيل، النزاع الحدودي البحري بين الصومال وكينيا وتداعياته على أمن منطقة القرن الأفريقي، محلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مجلد 24، العدد 4، أكتوبر 2023.
بوسكين سليم، أنغام عادل، تأثير مشكلة المياه على العلاقات التركية مع دول المصب لنهري دجلة والفرات، كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر، العدد 76، 31 مارس 2024.
كيف تعاملت قمة الاتحاد الإفريقي الـ37 مع النزاعات في قارة إفريقيا؟، القاهرة الإخبارية، 20 فبراير 2024. https://n9.cl/8we9r
حل الخلافات والوساطة، موقع وزارة الخارجية التركية. https://2h.ae/AKqZ
ناصر حاتم، هل ستتدخل تركيا في الأزمة بين مصر وإثيوبيا؟، ار تي، 15 اغسطس 2024. https://2h.ae/WdOa
آخرها الوساطة بين روسيا وأوكرانيا.. دور تركي رائد في حل النزاعات الدولية، موقع تي أر تي بالعربي، 30 مارس 2022. https://2h.ae/Nfjn
بيان صحفي حول مؤتمر إسطنبول الثامن للوساطة، موقع وزارة الخارجية التركية، : 9 مارس 2022. https://2h.ae/lFid
حبيب الله مايابى، تركيا في أفريقيا.. تمدد دبلوماسي وتعاون اقتصادي وعسكري، الجزيرة، 10 فبراير 2024. https://2h.ae/LBcT
تركيا تغير طبيعة حضورها في القرن الأفريقي من النفوذ إلى الوساطة، موقع العرب، 10 اغسطس 2024. https://2h.ae/iylJ
جلال سلمي، دور تركيا في الإصلاح بين الأطراف المتنازعة في الصومال، ترك برس، 24 مايو 2016. https://www.turkpress.com.tr/node/22104
منى عبد الفتاح، هل تحل الوساطة التركية النزاع الحدودي السوداني الإثيوبي؟، اندبندنت عربية، 23 سبتمبر 2021. https://2h.ae/ZzcQ
أماني السروجي، استخدامُ الوسَاطةِ كـ “منفذٍ دبلوماسي”: لماذا سعتْ تركيا للوساطة بين أثيوبيا والصومال؟، مركز شاف للدراسات المستقبلية، 2 سبتمبر 2024. https://bit.ly/4cOmvQX