أصبحَ إيلون ماسك في السنوات الأخيرة شخصيةً جدليةً ليس فقط بسبب إنجازاته التقنية، بل أيضًا بسبب أدواره السياسية المتزايدة. فمع التوسّعِ الكبير في أعمالِ شركاتهِ العاملةِ في مختلف المجالات كالفضاء والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وغيرها، تزايدَ تداخلُه مع المشهد السياسي الأمريكي، مما جعل تأثيره يمتد إلى قضايا تتجاوز التكنولوجيا والاقتصاد. ورغم أن ماسك كان معروفًا بتركيزه على الابتكار بعيدًا عن السياسة، إلا أن التطوراتِ الأخيرةَ أبرزتْ دوره في دعمِ حملات سياسية وكذلك مواقفه من قضايا جدلية مثل حرية التعبير والسياسات الاقتصادية. فما هو الدافعُ الحقيقيُ وراء دخول ماسك إلى هذا العالم؟ وكيف أثّرَ دوره على الانتخابات الأمريكية الحالية؟
دخولٌ تدريجيٌ إلى عالم السياسية
لم يكنْ تفاعلُ إيلون ماسك مع الأحداث السياسية التي تشهدها الولايات المتحدة والعالم تفاعلا وليدَ اللحظة، بل أدى التوسّعُ الكبيرُ في أعماله فضلا عن امتلاكه لشركاتٍ رائدةٍ مثل تسلا وسبيس إكس وتويتر (إكس حاليا) إلى تفاعل ماسك مع السياسة باختلاف الإدارات الأمريكية المتعاقبة. ونتيجة لأن مسائل كالضرائب والتحول نحو الطاقة النظيفة وحرية الرأي والتعبير وغيرها هي محطُّ اهتمام شركات ماسك، فإن أيَّ تغيرٍ يطرأ على هذه المسائل من خلال سياسات تنتهجها الإدارة الأمريكية الديمقراطية كانت أو الجمهورية فإن ذلك من شأنه أن يُؤثرَ على أعمال هذه الشركات سواء كان ذلك بالسلب أو الإيجاب، ومن هنا يمكن فَهْمُ المغزى من الدخول إلى عالم السياسة.
وبعد مرحلةٍ اتسم فيها تناول ماسك للأمور السياسية بعدم المُبَاشَرةِ امتدت على مدار العقْدِ الماضي، فإن النقطتين التاليتين كانتا من أكثر النقاط وضوحا وعلانيةً في بروز تفاعلاته السياسية:-
١-جائحة كورونا: جاءتْ أزمة جائحة كورونا لتكونَ بمثابة بداية الدخول العلني لماسك في السياسة، حيث ترتب على هذه الجائحة سياساتٌ فيدراليةٌ متشددةٌ، وهو ما عارضه ماسك بشدة مبررا أن سياساتِ الإغلاق سوف تؤدي إلى أضرارٍ بالغةٍ بالاقتصاد الوطني وهو ما سينعكس في نِسبِ التضخم المرتفعة والبطالة والإضرار بالصناعة، حيث لم يتوقفْ الأمرُ عند هذا الحد بل خالف قرارات السلطات المحلية ذات التوجه الديمقراطي آنذاك والتي قضت بإيقاف التصنيع وأعاد فتح مصنع تسلا في كاليفورنيا[1]
٢-الاستحواذُ على منصة إكس:كان استحواذُ ماسك على منصة “إكس” بدايةً جديدةً أصبح فيها إيلون ماسك أكثر تفاعلا واشتباكا مع الأحداث السياسية، حيث لم يُفوتْ فرصةً للتعبير عن آرائهِ المتعلقة بكل ما يَشغلُ الرأيَ العام الأمريكي، فضلا عن آرائهِ في القضايا الدولية الراهنة. ومنذ ذلك الحين تحوّلَ ماسك من رجلِ الأعمال الذي في الغالب ما تكون تفاعلاته مع السياسة هي “رد فعل” نتيجةً لسياساتٍ جديدة أو أمورٍ طارئةٍ ربما تؤثر على أعماله، إلى أحد أبرز المؤثرين في الحياة السياسية الأمريكية بشكلٍ شِبهِ يومي، إلى أن وصلنا لمرحلة دعْمهِ الكبير والمؤثر لحملة ترامب.
مكاسبُ هائلة لترامب
كان لانضمام إيلون ماسك لحملةِ ترامب في يوليو الماضي دورٌ كبيرٌ على الناحيتين المالية والدعائية. فمن الناحية المالية، سخّرَ ماسك ملايين الدولارات التي قدمها في صورة دعمٍ ماليٍ لحملة ترامب الانتخابية مما جعله من أبرز المساهمين فيها. ولم يقتصرْ الأمر عند هذا الحد بل أسّس لجنةً عُرفتْ باسم “أميركا باك” وخصصَ لها مبالغَ كبيرةً والتي هدف من خلالها إلى حشْدِ الدعم المُقدمِ لترامب من خلال التواصل المباشر مع الناخبين من خلال ما يُعرفُ بطَرْقِ الأبواب ومحاولة إقناعهم بالبرنامج الرئاسي لترامب[2]. فضلا عن ذلك، فقد دشّنَ ماسك لفكرةٍ أثارت الجدل لدى البعض وذلك قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية بأيام قليلة، حيث سعى إلى تخصيص مليون دولار يوميا مقدمة لأي فردٍ يُوقّعُ على عريضة تدعم التعديلين الأول والثاني من الدستور الأمريكي اللذين يَكفلان حريةَ التعبير والحقِ في حمْلِ السلاح وهو ما اعتبرته بعض الدوائر القانونية تدخلاً من ماسك لشراء أصوات الناخبين[3].
أما من الناحية الدعائية، فقد حوّلَ ماسك منصة إكس إلى منصةٍ داعمةٍ لترامب بامتياز، حيث ظهر ذلك واضحا في عددٍ من الأمور، كاستضافة ماسك لترامب في حوار أُجرِيَ على منصة إكس، فضلا عن تغريداته الداعمة لترامب و المنتقدةِ للديمقراطيين ولحملة هاريس، علاوة على ذلك فقد ذهب البعض للقول بأن إدارة إكس استخدمت الخوارزميات لنفاذ المحتوى الداعم لترامب على صعيد واسع[4]. يذكر أيضا أن ماسك -على خلاف نظرائه من الداعمين لترامب- قد حرصَ على حضور عددٍ من الفعاليات الداعمة للمرشح الجمهوري. في المقابل يطرحُ كل هذا الدعم الكبير تساؤلاتٍ تتعلق بالهدف منه خاصة وأنه لم يُعهَدْ على ماسك دعمهُ للجمهوريين من قبل.
لماذا كل هذا الدعم؟
إن ثمةَ تباينٍ بين انضمام إيلون ماسك للجمهوريين ودعمِ الحملة الانتخابية لترامب وبين مواقفه الانتخابية السابقة. فليس من المعتاد أن يدعمَ ماسك الجمهوريين، وهو ما يتضح في موقفه من انتخابات عام ٢٠١٦ التي أعلن فيها دعمه لهيلاري كلينتون، وانتخابات عام ٢٠٢٠ والتي أيد فيها بايدن. حيث كان يتلقّى دعمَ ماسك لعددٍ من القضايا كالتحول نحو استخدام الطاقة الكهربائية في تشغيل المركبات والتحول نحو الطاقة النظيفة والاستكشافات الفضائية الكبرى مع توجه الحزب الديمقراطي، وهو ما انعكسَ على تحالفهم سويا في الاستحقاقات الماضية، حيث كان يرى أن الديمقراطيين سوف يقومون باستيعاب مشاريعهِ المتعلقةِ بالطاقة والتكنولوجيا عن نظرائهم من الجمهوريين. هذة الرؤية كانت صائبةً إلى حدِ كبير، وتمثّلَ ذلك في حصول شركة تسلا على دعم فيدرالي لصناعة السيارات الكهربائية مما عززَ فرصَ نموها[5].
لكن على مدار السنوات الأربع الماضية كان لدى ماسك العديدُ من الآراء المناقضة لتوجهات الحزب الديمقراطي، والتي شكلّت في مجموعها عدةَ عوامل أدت في نهاية المطاف إلى انضمامه إلى صفوف الجمهوريين :-
١-ضرائبُ متزايدة على الأغنياء
كان توجّهُ الديمقراطيين يميل نحو فَرْضِ المزيد من الضرائب على أصحاب الثروات[6]، والذي يُعتبرُ إيلون ماسك في مقدمتهم، وهو ما انتقده مرارا، وكان نقطةً مفصليةً في تحوله من مساره الداعم للديمقراطيين.
٢–تدخلٌ حكوميٌ متزايد
باعتباره واحدا من أصحاب الأعمال، فإن مزيدا من التدخل الحكومي من خلال فرض أمور تنظيمية على الحياة الاقتصادية، من شأنه أن يساهمَ في أن ينزعَ ماسك يده عن دعمِ الإدارة الديمقراطية، ولعلَ أزمةَ جائحة كورونا وانتقاد ماسك للقيود المفروضة -كما ذكرنا- كانت من أبرز الدلائل[7].
٣-تقييدُ الابتكار
لم تخلْ شركات ماسك من الملاحقات الحكومية، حيث تعرضت شركة تسلا لتحقيقات مكثفة من قِبلِ وزارة العدل حول نظام القيادة الذاتية الذي تُطورهُ الشركة، حيث وجهت اتهامات للشركة بأنها تضلل السائقين[8]. في المقابل اعتبر ماسك أن تحقيقات من مثل هذا النوع هي بمثابة استهداف لشركته.
٤–قيودٌ على حرية الرأي والتعبير
كانت من ضمن أهداف ماسك عند استحواذه على إكس أن تظلَ هذه المنصة منفتحةً على جميع الآراء، لاسيما وأنها في الفترة التي سبقت استحواذه عليها تحولت لأداةٍ لقمْعِ المخالفين في الرأي، حيث كان ترامب من أبرز الشخصيات الذين حظرتهم المنصة على خلفية هزيمته في انتخابات ٢٠٢٠ وعدم اعترافه بها، حيث أعاده ماسك مجددا عقب استحواذه عليها[9].
ونتيجةً لما سبق ذكره من أسباب دفعت إلى تحوّلٍ واضحٍ في مسار ماسك السياسي، فإنه يُتوقعُ أن يؤديَ فوز ترامب إلى مكاسب كبيرة على صعيد مشروعات ماسك المختلفة، فوفقا لبعض التقديرات، فقد قفزتْ ثروة ماسك بنحو ٧٠ مليار دولار منذ إعلان فوز ترامب وحتى الآن[10]. بالإضافة إلى ذلك فإنه من المتوقع ألا تواجه مشاريعُ ماسك المتعلقةُ بالطاقة والفضاء والنقل والذكاء الاصطناعي عقباتٍ تنظيميةً وملاحقات قضائية خلال فترة ترامب الرئاسية، بل إن ثمة توقعات بأن تشهد السنوات القادمة تمهيدا للأرض وحصولَ هذه المشاريع على الدعم الحكومي اللازم والإجراءات التشريعية الضرورية لاسيما في ظل هيمنةٍ منتظرةٍ للجمهوريين على الأدوات التشريعية والتنفيذية معا. وأمام هذه المكاسب المتوقعة في مجال الأعمال، فإن ثمةَ دورٍ سياسي أيضا متوقعٌ لماسك في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة.
مستقبلُ ماسك السياسي
من غير المتوقع أن تكونَ خطوةُ دعم ماسك لترامب في الانتخابات هي الأخيرة في مساره السياسي، بل بداية لتواجدٍ سياسي يكون فيه ماسك أكثر حضورا و تواجداً عن ذي قبل وذلك من خلال مسارين. الأول من خلال استغلال العلاقات القوية التي يتمتعُ بها ماسك لدى الفاعلين السياسيين الرسميين وغير الرسميين ليس فقط على مستوى الولايات المتحدة وحدها بل يمتد الأمر إلى خارجها، ولعل المكالمةَ الهاتفية التي جرت بين زيلينسكي وترامب عقبَ فوز الأخير وشارك فيها ماسك أبرز مثال على الدور الذي سيلعبه ماسك على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية[11]، وبالإضافة إلى الاستمرار في نهْجِ توظيف الأدوات التكنولوجية التي يمتلكها في خدمة أهدافِ السياسة الخارجية وفي توسيع نفوذه، حيث جرى التأكيد في المكالمة على الاستمرار في تزويد أوكرانيا بخدمة “ستارلينك” المملوكة له وهي متعلقةٌ بإنترنت الأقمار الصناعية، وهو ما يعظّمُ دورَ ماسك علي أي حال.
والثاني هو دورُ ماسك داخل الإدارة الأمريكية الجديدة ذاتها، حيث تشير التوقعات إلى أنه سيحظى بدورٍ هامٍ داخل إدارة ترامب، ولعل حديث ترامب عن ماسك ومدْحَه في خطاب النصر وكذلك حديثه في تصريحات سبقت فوزه فإن ماسك سيكون وزيرا لخفض التكاليف، وهو ما تحقق في إعلان ترامب مؤخرا تولي ماسك إلى جانب المرشح الرئاسي الجمهوري السابق فيفيك راماسوامي وزارة الكفاءة الحكومية، والتي تُعتبرُ وزارةً مستحدثةً تُعنى بمعالجة البيروقراطية الحكومية وترشيد النفقات[12]. لذلك فإن ثمة تعاونا اقتصاديا يجمع بين ماسك والإدارة الأمريكية بات متحققا بالفعل، وكما أن إدارة ترامب في حاجةٍ إلى خدماتِ ونفوذِ ماسك، فإن دورَ ماسك النافذ في هذه الإدارة سوف ينعكسُ على نمو أعماله بلا أدنى شك.
ختامًا:
فإنه في ظل الأدوار التي لعبها ماسك في دعمِ حملة ترامب وتوظيفِ موارده التقنية والمالية لخدمة هذا الهدف، من المتوقع أن يشهدَ المستقبل القريب مزيدًا من تفاعل ماسك مع السياسة الأمريكية، بل سيتحول ماسك من مجرد متفاعلٍ مع الأحداث السياسية إلى صانعٍ لها نتيجةً لدوره القادم داخل الإدارة الجديدة. مما قد يفتحُ أمامه آفاقًا واسعةً لدعم مشاريعه الطموحة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. ويبدو أننا أمام مرحلةٍ مقبلة سوف يَغلبُ عليها دمْجُ المال والتكنولوجيا معا، بالسياسة في حاجةٍ فقط إلى تنصيب ترامب في العشرين من يناير القادم.
المصادر:
[1] فيروس كورنا: إيلون ماسك يتحدى أوامر الإغلاق ويعيد فتح تسلا، بي بي سي، مايو ٢٠٢٠، متاح على الرابط التالي
[2] Trump outsourced door – knocking campaigns in two key states to musk – backed PAC. Up to 25 percent may have never happened, October, available at:
