في أعقابِ اغتيال زعيم حزب الله “حسن نصر الله”، أعلنَ رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في تصريح له بتاريخ ٢٩ سبتمبر أن هذه العملية تُشكّل جزءًا من خُطةٍ إسرائيليةٍ منهجية تهدف إلى تغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط[1]، وقد جاء هذا التصريح في سياق تصعيد العمليات العسكرية الإسرائيلية على عدة جبهات، لا سيَّما في لبنان واليمن، فعلى الحدود الجنوبية اللبنانية تقف دبابات “الميركافا” في انتظار أوامر الهجوم، بينما استهدفت إسرائيل ميناء الحُديدة اليمني بضربات جوية، في خطوة تُمثل ثانيَ أهم اختراق عسكري لها في خلال فترة وجيزة[2]، تتزامن هذه العمليات مع جهود إسرائيل المستمرة في محاربة التنظيمات المدعومة من إيران، مثل “حزب الله” والحوثيين، وذلك في إطار استراتيجيةٍ إسرائيليةٍ تهدف إلى تحييد تلك التنظيمات وتوجيه ضربةٍ قويةٍ لمصالح إيران الإقليمية، هذه التحركات العسكرية تتجاوز أهدافها المباشرة لتشيرَ إلى مسعى أكبر نحو إعادة صياغة المعادلات الإقليمية وبروز “شرق أوسط جديد” من المنظور الإسرائيلي، بناءً على هذه التطورات، يبرزُ عددٌ من التساؤلات حول رؤية إسرائيل لهذا التحول وما يحمله من أبعاد استراتيجية، خاصةً بعد أن قامت إيران بالرد على اغتيال حسن نصر الله واسماعيل هنية بإطلاق حزمةٍ من مئات الصواريخ على تل أبيب وعسقلان في ليلة ١ أكتوبر[3]، وكيف تسعى إسرائيل إلى إعادة صياغة المعادلات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وفقًا لهذه الرؤية.
أولًا: المعادلاتُ الإقليميةُ في الشرق الأوسط قبل هجوم السابع من أكتوبر
شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولاتٍ إقليميةً جذرية قبل هجوم السابع من أكتوبر، نتجت عن مزيجٍ من الضغوط الداخلية والخارجية، دفعت دولاً مثل مصر، السعودية، الإمارات، وقطر إلى تبني سياسة “تصفير المشكلات وتغليب المصالح”[4] بهدف الحدِّ من الصراعات التي أنهكت المنطقة لأكثر من عِقْد، على سبيل المثال، اتجهت مصر إلى تحسين علاقاتها مع تركيا عبر تحركات دبلوماسية مُعقّدة، من ناحية أخرى، شهدت السعودية تحولًا في سياستها الخارجية منذ تولي إدارة بايدن الحكم[5]، حيث تبنت استراتيجيةَ تنويع تحالفاتها بعيدًا عن الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة، وسعت إلى تعزيز علاقاتها مع قوى إقليمية مثل إيران من خلال مُباحثات أمنية وسياسية، كما عملت على بناء شراكاتٍ أقوى مع الصين وروسيا، مما أثار قلق إسرائيل التي رأت في هذه التحالفات تهديدًا مباشرًا لمصالحها ولأمنها القومي في المنطقة، وفي سياق متصل، اتبّعتْ كل من الإمارات وقطر سياسةً مشابهة لتعزيز دورهما الإقليمي؛ حيث لَعِبتْ قطر دَورَ الوسيط في عدة صراعات إقليمية، مما عزّز من مكانتها كطرف محوري في تهدئة التوترات الإقليمية، أما الإمارات، فكانت سّباقة في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل عبر “اتفاقيات أبراهام”[6]، لكنها حرصت في الوقت ذاته على تطوير علاقاتها مع إيران وتركيا لضمان التوازن في سياساتها الإقليمية، ومن هنا يُمكن إجمال المعادلات الإقليمية قبل هجوم السابع من أكتوبر فيما يلي:
1- عودةُ سوريا لجامعة الدول الدول العربية: مثّلتْ عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية تطورًا مهمًا في الديناميكيات الإقليمية، هذا التحول عكس إدراكًا متزايدًا لدى الدول العربية بأن معالجة الأزمة السورية، يتطلب تعاملًا مباشرًا مع الحكومة السورية في دمشق، وقد كان الهدف من هذا التحول هو محاولةُ تحقيق الاستقرار الإقليمي من خلال احتواء تداعيات الصراع السوري المستمر في إطار سياسة تصفير المشكلات، والتي شملت استمرار شبكات تهريب المخدرات، ولا سيَّما الكبتاجون، الذي تمَّ تصنيعه في سوريا واستُخدم لتمويل أنشطة إجرامية وإرهابية، ويأتي على رأس ذلك تزايد النفوذ الإيراني عبر الميليشيات المدعومة من طهران[7]، وقد كانت السعودية تحديدًا هي من قادت هذا التحولَ الإقليمي في سياستها تجاه سوريا، وذلك لعدة أسباب تتمحور جميعها في طموح الرياض لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية رئيسية، ودورها القيادي في إعادة تشكيل المشهد السياسي العربي، وقد كانت هذه الاستراتيجية متسقةً مع السعى لتنويع الاقتصاد السعودي بعيدًا عن الاعتماد الكامل على النفط، مع توسيع دائرة تحالفات السعودية سواء الدولية أو الإقليمية بما يتماشى مع رؤية “السعودية ٢٠٣٠”[8].
2- التطبيعُ السعودي-الإيراني: شهدت العلاقاتُ السعوديةُ – الإيرانيةُ تحولًا ملحوظًا بعد توقيع اتفاق تطبيع العلاقات في ١٠ مارس ٢٠٢٣ برعاية صينية[9]، مما أثّر بشكلٍ كبير على المعادلات الإقليمية في منطقة الخليج، حيث عكس هذا التحول إرادة كلا الطرفين في تجاوز خلافاتهما التاريخية وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وبدورها قامت المملكة العربية السعودية بإعادة فتح سفارتها في إيران في أوائل أغسطس ٢٠٢٣، في هذا السياق، ساهم استئناف العلاقات السعودية – الإيرانية في تحقيق قدر من الاستقرار الإقليمي، من خلال التمهيد لتقارب خليجي – إيراني، بما في ذلك وقف التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول الخليجية، ومن هنا شهدت المنطقة أيضًا بوادر انفراجات نسبية على صعيد الأزمات العربية، فيما يخص الأزمة اليمنية، بدأت أكبر عملية لتبادل الأسرى بين الحكومة اليمنية والحوثيين في أبريل ٢٠٢٣، وعلى صعيد الأزمة العراقية، وبعد تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران، أعلنت إيران عن إفراج العراق، بموافقة أمريكية، عن ٥٠٠ مليون دولار أمريكي كانت مجمدةً لتسديد جزءٍ من ديون إيران لدى العراق[10]، وبالتالي، الأمر الذي يُظهر تأثير التطورات الإيجابية في العلاقات السعودية – الإيرانية على توازن القوى في المنطقة، ومع عودة العلاقات، تم توجيه رسائل واضحة حول الحاجة إلى التعاون بين الدول الخليجية، مما يعكس تغييرات في الخطاب الإقليمي الذي يُهدد الهيمنة الإسرائيلية في ظل معادلات جديدة.
3- مباحثاتُ السلام بين السعودية والحوثي: شهدت مباحثات السلام بين السعودية والحوثيين تقدمًا ملحوظًا في إطار المعادلات الإقليمية، جاءت هذه المباحثات كنتيجةٍ مباشرةٍ لتحسين العلاقات بين الرياض وطهران، حيث سعت السعودية إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية من خلال محاولة إنهاء الصراع في اليمن[11]، وذلك ضمن سياق أوسع للتقليل من التوترات الإقليمية، حيث تم إجراء مفاوضات مباشرة في صنعاء بحضور وفود سعودية وعمانية، وكان الهدفُ الرئيسي من هذه المفاوضات هو الوصولَ إلى اتفاق يفضي إلى تثبيت وقف إطلاق النار ورفع الحصار عن الموانئ والمطارات اليمنية، والذي كان بدوره خطوةً مهمة نحو استعادة الاستقرار في المنطقة.
4- التقاربُ المصريُ-التركي:شهدت العلاقات المصرية التركية تحولاتٍ ملحوظةً في إطار المعادلات الإقليمية قبل هجوم السابع من أكتوبر، حيث بدأ البلدان في تحسين علاقاتهما بعد سنوات من الخلاف، وذلك من خلال تبنّي سياسة “الحوار والانفتاح”[12]، عكست هذه الديناميكية رغبة كلا البلدين في تحقيق الاستقرار وتعزيز العلاقات الثنائية بما يساهم في تحقيق الأمن الإقليمي، وبالتالي مثّل هذا التقارب تحديًا لإسرائيل، حيث سعى البلدان لتعزيز تحالفاتهما الإقليمية في وقتٍ واجهت فيه تل أبيب تهديداتٍ متزايدةً من إيران وعملائها، وبالتالي عكس التعاون المصري التركي إمكانية تشكيل محورٍ إقليميٍ قادرٍ على مواجهة النفوذ الإسرائيلي، والذي بدوره يعرقل من قدرة تل أبيب على إدارة وتوجيه سياساتها في المنطقة.
5- الانفراجةُ القطريةُ:سعت قطر بدورها إلى تحسين علاقاتها مع الدول الخليجية الأخرى بعد المصالحة التي تمت في قمة العُلا الخليجية عام ٢٠٢١ [13]، حيث أسهمت هذه المصالحة في تعزيز العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة مع السعودية والإمارات، أدت هذه الخطوة إلى فتح قنوات جديدة للحوار والتعاون، كما عكست جهود قطر رغبة في إعادة بناء الثقة بين الدول الخليجية، عبر هذه الديناميكية، سعت قطر إلى لَعِبِ دور أكثر فعالية في المنظومة الخليجية، مدفوعًا بإدراك الجميع لأهمية الوحدة في مواجهة التحديات الإقليمية.
وبالنظر إلى هذا السياق و من منظور إسرائيلي، شكّلت هذه التحولات تهديدًا استراتيجيًا لمصالحها في المنطقة، إذ إن التحالفاتِ الجديدة بين دول الخليج، مصر، وتركيا، بالإضافة إلى تقارب هذه الدول مع إيران، دفعت تل أبيب إلى إعادة تقييم سياستها الإقليمية، إسرائيل؛ التي كانت تعتمد في سياستها الخارجية على تفتيت المنطقة العربية وتعزيز الانقسامات، وجدت في هذه التحالفات تهديدًا مباشرًا لأمنها ومصالحها، تبنّت إسرائيل سياسةً أكثر عُدوانية تجاه هذه التحالفات، واعتبرت أن هذه التحركات تهدف إلى الحدِّ من نفوذها الإقليمي وتعزيز جبهة عربية قوية قد تُحدث توازنًا جديدًا في القوى الإقليمية، مما يعرقل سعيها لفرض هيمنتها.
ثانيًا: توصيفُ الوضع السياسي والعسكري في الشرق الأوسط بعد هجوم السابع من أكتوبر
شهد الوضع السياسي والعسكري في الشرق الأوسط بعد هجوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ تحولاتٍ جذرية على على مختلف المستويات خصوصًا على إيران وأذرعها في المنطقة وذلك من خلال ما يلي:
1- بالنسبة لحركة حماس: في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، تعرضت الحركة لخسائرَ عسكريةٍ كبيرة نتيجة الهجمات الإسرائيلية المكثفة، ورغم أن هذا الهجوم أظهر قوةً الحركة في بداية الصراع، إلا أن ردَ الفعل الإسرائيلي القوي، عبر القصف الجوي والهجوم البري على قطاع غزة، ألحق أضرارًا كبيرة بحماس وقواعدها العسكرية، ولكن على الرغم من هذه الضربات، لم تتمكنْ إسرائيل من القضاء الكامل على حماس، فقد انتقلت المقاومة العسكرية للحركة إلى الأنفاق تحت الأرض، وهو ما صعّب من مهمة إسرائيل في تحقيق انتصار حاسم، وهو أيضًا ما حدى بها إلى تبني سياسة الاغتيالات والتي نفذتها تجاه قادةٍ بارزين في حماس وفي مقدمتهم “إسماعيل هنية”، على الصعيد السياسي، تعرضت حماس لضغوطٍ هائلة نتيجة لتدمير بنيتها التحتية في غزة، فقد دُمرت معظم المؤسسات الحكومية، بما في ذلك الجامعات والمستشفيات، وكذلك المرافق الحيوية، هذا الوضع أدّى إلى شللٍ كبير في الإدارة المدنية بالقطاع، ورغم هذه الضغوط، لا تزال حماسُ قادرةً على المحافظة على دورها كلاعبٍ رئيسي في المشهد الفلسطيني، كما أن الحركة تواصل عملها بقيادة “يحيى السنوار”[14]، حيث القيادة السياسية والعسكرية لحماس لا تزال تُدار من مواقعَ سريةٍ، وبشكل عام، ورغم تراجع قوة حماس العسكرية والسياسية بعد هجوم السابع من أكتوبر، إلا أن الحركة لم تُهزمْ بشكلٍ كامل وتواصل لَعِبَ دورها، لكن مع مواجهة تحديات كبيرة على الصعيدين العسكري والإنساني.
2- حزب الله: بعد سلسلةٍ من الضربات الموجعة التي استهدفت حزب الله خلال الأربعة أشهر الماضية، والتي أدت إلى مقتل عدد من كبار قادته، وفي مقدمتهم زعيمه “حسن نصر الله”، وإصابة آلاف من القيادات الوسيطة في الهجمات المعروفة بعملية “أجهزة البيجر”، أصبح حزب الله يواجه أزمةً داخليةً وحالة من الارتباك غير مسبوقة، هذا الوضع خلقَ فرصةً لإسرائيل، التي تحاول استغلال الفوضى ليس فقط لدفع قوات حزب الله نحو التراجع إلى مناطق ما وراء نهر الليطاني، وهو هدف استراتيجي سعت إليه إسرائيل منذ سنوات، بل قد تتجاوز ذلك إلى التفكير في تصفيه حزب الله كليًا، ورغم أن تحقيق هذا الهدف على المدى القريب يواجه عقبات كبيرة ومنها ما قامت به إيران من رد غير مسبوق في بداية شهر أكتوبر الجاري أصاب العمقَ الإسرائيلي، إلا أن إسرائيل تعتمد على استراتيجية بعيدة المدى، تتضمن تكتيكاتٍ عسكريةً دقيقة، وحروباً نفسيةً تهدف إلى إضعاف الروح المعنوية لحزب الله، بهدف تفكيكه تدريحيًا وتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة.[15]
3- المقاومةُ الإسلامية في العراق: برزَ دور المقاومة الإسلامية في العراق كأحد الفاعلين العسكريين الإقليميين، حيث قامت بتصعيد عملياتها ضد الأهداف الإسرائيلية والأميركية في المنطقة، إذ يتألف هذا الكيان من عدة فصائل مسلحة مدعومة من إيران، وشهدت الفترة التي تلَتْ الهجومَ الإسرائيلي على غزة تناميًا في نشاطه العسكري، إذ نفذت المقاومةُ هجماتٍ ضد قواعد أميركية في العراق وسوريا، ووسّعت عملياتها لتشملَ استهداف مواقع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن أبرزها قصف قاعدة رامات ديفيد الجوية في يونيو [16]٢٠٢٤، ما يعكس دورها كجزء من محور المقاومة الذي يسعى إلى مواجهة إسرائيل عبر وسائل عسكرية وسياسية.
4- الحوثي وتحالف الازدهار:بعد هجوم السابع من أكتوبر، برزَ دور الحوثيين في المشهد الإقليمي بشكلٍ ملحوظ، حيث شنوا هجماتٍ لأول مرة على إسرائيل، والذي عكس توسّع نفوذهم إلى ما وراء اليمن، هذه الهجمات، التي استهدفت قواعدَ جويةً وسفناً تابعةً لإسرائيل وللدول الغربية في البحر الأحمر، أظهرت استمرار قوة الحوثيين على الرغم من الحملة العسكرية التي يقودها “تحالف الازدهار”[17] بقيادة الولايات المتحدة منذ يناير ٢٠٢٤، ورغم الإنفاق الضخم الذي بلغ ٣٠ مليار دولار، لم يتمكنْ التحالف من تحقيق نتائج جوهرية، بل واصلت الجماعة استخدام ترسانتها من الصواريخ والطائرات المسيّرة بفعالية، في ضوء ذلك، أقرَّ البنتاغون بالحاجة إلى استراتيجية أكثر صرامة، لكن تحقيق هزيمة كاملة للحوثيين يبدو غير واقعي نظرًا لطبيعتهم كجماعة أيديولوجية تعمل في بيئة تضارسية صعبة. وبالتالي، قد تقتصر الاستراتيجية الصارمة على تقليص هجماتهم بدلاً من القضاء عليهم بالكامل.
وبالنظر إلى أهداف إسرائيل المُعلنة منذ بداية حرب الإسرائيلية في غزة تمثلت في أهدافٍ رئيسية، أولها القضاءُ على حركة حماس التي تعتبر تهديدًا وجوديًا لأمنها في المنطقة، وفي هذا السياق، ركّزت العمليات العسكرية الإسرائيلية على تدمير القدرات الصاروخية والبنية التحتية العسكرية للحركة، بما في ذلك الأنفاق والمنشآت التي تستخدمها لإطلاق الصواريخ وتخزين الأسلحة، كما استهدفت القادة الميدانيين لحماس بهدف تقويض قدرتها العسكرية، إلى جانب القضاء على حماس، تسعى إسرائيل إلى استعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى الحركة، حيث تعتبرُ هذه القضيةُ مسألةً وطنيةً تؤثر على ثقة الجمهور في قدرة الحكومة على حماية مواطنيها وجنودها، بيدَ أن إسرائيل لم تتمكنْ من تحقيق انتصار حاسم في هذين الهدفين، ومن هنا وسعت عملياتها لتشملَ الجبهة اللبنانية في محاولة لإضعاف القوة العسكرية لحزب الله عبر تدمير الترسانة الصاروخية والمواقع الاستراتيجية في جنوب لبنان، بالإضافة إلى سعي إسرائيل إلى خلْقِ حزامٍ أمني في الجنوب اللبناني لمنع نشاط حزب الله وضمان عودة آمنة لسكان البلدات الشمالية النازحين[18]، يمكن القول بأن هذه الأهداف تدور جميعها في فلكٍ واحدٍ، وهو إحراز تقدمٍ إسرائيليٍ نسبيٍ قبل نهاية الانتخابات الأمريكية وتحسين صورة الحكومة الإسرائيلية في الداخل الإسرائيلي وأمام المجتمع الدولي وإظهارها بمظهر الدولة القادرة على فرض نفسها كقوة إقليمية تستطيع الدفاع عن نفسها.
ثالثًا: استراتيجيةُ الحكومة الإسرائيلية نحو الشرق الأوسط الجديد
تعكسُ خريطةُ الشرق الأوسط بوضوحٍ أن الحرب الإقليمية باتت أقرب من أي وقت مضى، حيث إن التحركات الإسرائيلية في المنطقة لم تكن فقط دفاعًا عن أمنها بل أيضًا محاولة لاستعادة هيبتها وصورتها بعد أن اهتزت أمام الرأي العام العالمي، ومن هنا فإن استراتيجيةَ الحكومة الإسرائيلية نحو “الشرق الأوسط الجديد” ترتبطُ بعدة عوامل سياسية، اقتصادية، وعسكريةٍ تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والسياسي في المنطقة لصالح إسرائيل، منذ سنوات، تصرح القيادات الإسرائيلية، وعلى رأسهم رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو”، بأن هناك تغييراتٍ استراتيجية في المنطقة تستدعي إجراءاتٍ غير تقليدية لتعزيز الأمن القومي الإسرائيلي وإحياء مخطط إنشاء دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلي الفرات.[19] من خلال ما يلي:
1- إعادةُ تشكيل الحدود الجغرافية والسياسية للمنطقة: تسعى إسرائيل بوضوح إلى إعادة تشكيل المنطقة الجغرافية والسياسية للشرق الأوسط بما يتماشى مع أهدافها التوسعية، الفكرة الأساسية وراء استراتيجية “الشرق الأوسط الجديد” هي توسيعُ الحدود الإسرائيلية وفرضُ سيطرتها على المزيد من الأراضي، ليس فقط ضمن إطار “دولة إسرائيل الكبرى” بل أيضًا لضمان تفوقها العسكري والاقتصادي في المنطقة، ومن هنا فإنها تركز على ضم أجزاء من الضفة الغربية، خاصة المستوطنات الكبرى، وتركز على السيطرة على القدس والمناطق المحيطة بها لضمان سيطرةٍ كاملة على مفاصل الصراع الفلسطيني، من خلال هذه الاستراتيجية، تحاولُ إسرائيل تسخير الظروف الإقليمية لصالحها، بما في ذلك الصراعات الداخلية في الدول العربية مثل سوريا واليمن، والتوترات الدولية بين القوى الكبرى، هذا يفسر المخطط الذي قدمه الجنرال الإسرائيلي “غيورا آيلاند” في نوفمبر ٢٠٢٣ [20]بشأن توسيع غزة على حساب الأراضي المصرية في سيناء، والذي يأتي في إطار محاولات تسوية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار، وبشكل خاص مصر.
2- تقويضُ التهديد الإيراني: تُعد إيران الخصم الإقليمي الأكبر لإسرائيل، وتشكل هاجسًا رئيسيًا في صياغة استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، كما أن الدعمَ الإيراني لوكلائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن يزيد من قلق إسرائيل ويجعلها تسعى لتقويض هذا النفوذ، من خلال التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة، كما أن الصراعَ مع إيران لا يقتصر فقط على الساحة العسكرية، بل يمتدُ إلى الساحة الدبلوماسية والاقتصادية أيضًا، حيث تعمل إسرائيل على عزل إيران دوليًا وفرضِ المزيد من العقوبات الاقتصادية عليها، ومن الناحية الاستخباراتية فإن إسرائيل عملت على إهانة إيران وإذلالها في المنطقة من خلال توجيه ضربات أصابت عمقها الأمني بتنفيذ عدد من عمليات الاغتيال على أرضها ، كما يُعتبرُ التقارب الإسرائيلي-الخليجي جزءًا من استراتيجية احتواء النفوذ الإيراني، حيث إن دول الخليج السنية مثل السعودية والإمارات تشارك إسرائيل مخاوفها بشأن التهديدات الإيرانية.
3- الحفاظُ على الولايات المتحدة الأمريكية كحليف في المنطقة:لطالما كانت الحليف الأقوى والأكثر تأثيرًا على إسرائيل، ويعد الدعم الأمريكي العسكري والسياسي عنصرًا أساسيًا في الاستراتيجية الإسرائيلية، منذ تولي ترامب الرئاسة، شهدت العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية تقدمًا ملحوظًا، خاصة مع الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وطرح صفقة القرن، التي تضمنت مبادئَ من شأنها تعزيز السيطرة الإسرائيلية على أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية، لكن في ظل التغيرات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، خاصة مع وصول إدارة بايدن، تسعى إسرائيل إلى الحفاظ على هذا الدعم، وإن كان بوتيرةٍ أقل من ذي قبل. ومع ذلك، تدرك إسرائيل أن الولايات المتحدة قد تتجهُ إلى تقليل انخراطها العسكري في المنطقة خاصةً بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية، والذي يدفعها إلى تسريعِ وتيرة عملياتها العسكرية في المنطقة وإنجاز أكبر قدر من الخطة الاستراتيجية الكبرى، وتقوية نفوذها في المنطقة وموقفها على طاولة المفاوضات.
4- تطبيعُ العلاقات مع السعودية: يمرُّ مستقبل التطبيع بين إسرائيل والسعودية بفترة حرجة ومعقدة، إذ أغلق هجوم السابع من أكتوبر الباب أمام أي محاولات جادة للتطبيع في الوقت الحالي، فالسعودية، التي كانت قد أعربت عن استعدادها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل تحقيق تقدمٍ في الملف الفلسطيني والحصول على برنامج نووي مدني، أصبحت الآن تضع شروطاً صارمةً للتطبيع، حيث تشترط قبل أي تطبيع تحقيق وقف العدوان الإسرائيلي على غزة، وتحقيق تقدم نحو إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، على الجانب الآخر، تواجه إسرائيل تحدياتٍ كبيرةً تتمثل في الحكومة اليمينية المتشددة بقيادة بنيامين نتنياهو، التي ترفض فكرة حل الدولتين، التصريحات الصادرة عن وزراء في الحكومة، مثل إيتمار بن غفير، تؤكد على عدم استعداد إسرائيل لتقديم أي تنازلات تذكر. ومع ذلك، قد يكون هذا الوضع مؤقتًا، وأن تغير الحكومة الإسرائيلية في المستقبل قد يفتح المجال لفرص جديدة للتطبيع، وقد تدفع الولايات المتحدة إلى ممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل لتقديم تنازلات، إذا أرادت تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع الرياض، إلا أن موقفَ السعودية سيظل صارم ومرهون بحقوق الفلسطينيين.
رابعًا: الاستنتاجاتُ الختامية
1- استمرارُ توسيع نطاق العمليات العسكرية: المتوقع أن تستمر إسرائيل في توسيع نطاق عملياتها العسكرية ضد الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران، وبالأخص الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان، والذي يتوافق بطبيعة الحال مع رؤية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإعادة تشكيل الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، حيث يرى في تصعيد العمليات العسكرية ضد وكلاء إيران وسيلة لتقويض قدرتها على التأثير في مجريات المنطقة.
2- نقل التوتر إلى ساحات جديدة: من المحتمل أن يتم نقل التوترات إلى ساحات جديدة، مثل البحر الأحمر وخليج عدن، مما يزيد من احتمالية حدوث مواجهات عسكرية في هذه المناطق، أو ربما قد يتجاوز التصعيد وكلاء إيران إلى ما أبعد ذلك نحو استهداف المحطات والمنشآت النووية الإيرانية، على الجانب الآخر، يُحتمل أن تواجه إسرائيل تصعيدًا مضادًا من قبل إيران عبر وكلائها، حيث قد تلجأ طهران إلى تكثيفِ هجماتها غير المباشرة ضد الأهداف الإسرائيلية عبر الحوثيين وحزب الله ومن الممكن أن تستهدفَ هذه الجماعات المصالح الإسرائيلية أو توسع نطاق هجماتها ليشملَ خطوط الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وهو ما قد يجرُّ المنطقة إلى حربٍ إقليمية شاملة.
3- إعادة فك وتركيب القضية الفلسطينية: في ضوءِ رؤية نتنياهو لـ “الشرق الأوسط الجديد”، يتضحُ أن العمليات العسكرية الإسرائيلية المتزايدة تأتي في سياقِ استراتيجيةٍ أوسع تهدف إلى تقليص النفوذ الإيراني وتأمين مصالح إسرائيل الحيوية في المنطقة. وذلك من خلال إعادة تركيب القضية الفلسطينية من خلال الضم التدريجي للأراضي بالتوازي مع إضعاف وتفتيت محور المقاومة.
المصادر:
[1] نتنياهو: نتبع خطة منهجية لتغيير واقع الشرق الأوسط، سكاي نيوز العربية، تاريخ النشر: ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/xpxQc
[3] انتهى الرد.. إيران أطلقت وابل صواريخ على إسرئيل، العربية، تاريخ النشر: ١ أكتوبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/xREJZ
[4] أمل عبدالله، محددات نجاح سياسة “تصفير المشكلات” في الإقليم، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، تاريخ النشر: ٢٨ مايو ٢٠٢٣، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/roPfq
[6] اتفاقات أبراهام وموجة التطبيع العربي مع إسرائيل، الجزيرة نت، تاريخ النشر: ٩ يونيه ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/FlFZo
[7] عودة سوريا للجامعة العربية: تحولات السياسة الإقليمية وتأثيرها على الأزمة السورية، منظمة الحركة السياسية النسوية السورية، تاريخ النشر: ٣١ مايو ٢٠٢٣، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/ZSTXK
[8] كيف تُمكن قراءة عودة سوريا إلى الجامعة العربية بعد عزلها لسنوات؟،France 24،، تاريخ النشر: ١٩ مايو ٢٠٢٣، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/EdoNU
[9] سامية بيبرس، إيران: ” ماذا بعد تطبيع العلاقات مع السعودية… الفرص والتحديات”، مجلة الشؤون العربية، العدد: ١٩٥، تاريخ النشر: ١١ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/hFVpg
[13] معتز سلامة، قمة العُلا ٢٠٢١: هل انتهت الأزمة الخليجية مع قطر، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تاريخ النشر: ٩ يناير ٢٠٢١، متاح على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/17030.aspx
[14] أمل عبدالعزيز، «حماس» وتداعيات هجوم السابع من أكتوبر، الشرق الأوسط، تاريخ النشر: ٥ مارس ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/iOAlT
[15] سعيد عكاشة، بعد اغتيال نصر الله: هل تغير إسرائيل استراتيجيتها تجاه حزب الله؟، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تاريخ النشر: ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/zIQGJ
[16] “المقاومة الإسلامية في العراق” تستهدف قاعدة جوية بإسرائيل، الجزيرة نت، تاريخ النشر: ١٤ يونيه ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/qTozP
[17] فاتن الدوسري، لماذا فشل تحالف الازدهار في هزيمة الحوثيين؟، الشرق، تاريخ النشر: ٣٠ يوليو ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/cwjsq
[18] نظير مجلي، هدفان للحرب الإسرائيلية… تحطيم «حزب الله» وإعادة نازحي الشمال، الشرق الأوسط، تاريخ النشر: ١ أكتوبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/CnyTM
[19] نتنياهو وحلم “إسرائيل” الكبرى: من غزة إلى الأمم المتحدة وعدوان جديد على لبنان، الميادين، تاريخ النشر: ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/MyiXF
[20] توطين الفلسطينيين بسيناء.. ما هو مشروع “غيورا إيلاند” الذي رفضته مصر؟، العربية، تاريخ النشر: ٢ نوفمبر ٢٠٢٣، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/yfjxY
