في أول اختبار لشكل العلاقة بين الدولة اللبنانية ورئيسها الجديد وحزب الله اللبناني، شهدت لبنان على مدار الأيام الماضية توترات واشتباكات اندلعت بين الجيش اللبناني وعناصر تابعة للحزب، وذلك على خلفية اعتصامهم أمام الطريق المؤدي لمطار بيروت، احتجاجًا على أزمة طالت تسيير الرحلات الجوية الإيرانية إلى البلاد، وما صاحب ذلك من اعتداء طال قوات “اليونيفيل”، مما يثير تساؤلات عدة حول الرسائل والدلالات الكامنة وراء تلك التطورات، وخاصةً فيما يتعلق بمستقبل العلاقات الإيرانية اللبنانية، ودور حزب الله في المشهد السياسي الداخلي لبيروت خلال الفترة المقبلة:
أولًا؛ أزمة الطائرات الإيرانية تثير غضب حزب الله:
اندلعت أحداث الشغب التي شهدها لبنان بدءًا من يوم 13 فبراير 2025، على إثر اتخاذ بيروت قرارًا بمنع استقبال رحلتين مجدولتين من طهران؛ حيث تلقى مطار رفيق الحريري الدولي طلبًا من وزارة الأشغال العامة والنقل اللبنانية، بإبلاغ خطوط “ماهان” الإيرانية بعدم استقبال الرحلتين التابعتين لها إلى بيروت، واحدة كانت مقررة مساء يوم 13 فبراير، وأخرى يوم 14 فبراير[1].
وهو ما أوضحته مديرية الطيران المدني اللبنانية، في بيانها الذي نص على أنه “حرصًا على تأمين سلامة وأمن المطار والأجواء اللبنانية وسلامة جميع الركاب والطائرات، تم اتخاذ بعض الإجراءات الأمنية الإضافية التي تتوافق مع المقاييس والمعايير الدولية، ومن بينها إعادة جدولة توقيت بعض الرحلات الآتية إلى لبنان مؤقتًا ومنها القادمة من إيران حتى 18 فبراير 2025”.[2]
وقد جاء القرار اللبناني بعد اتهامات إسرائيلية تفيد بأن الطائرة كانت تحمل على متنها أموالًا موجهة من إيران إلى حزب الله، وكذلك الحديث عن أن مسؤولون أمريكيون نقلوا معلومات إلى بيروت، تشير إلى أن إسرائيل سوف تستهدف المطار، في حال جاءت الطائرة الإيرانية إلى لبنان.[3]
وردًا على ذلك؛ قام مناصرون لحزب الله بالاحتجاج على القرار اللبناني، وذلك عن طريق قطع كل الطرق المؤدية من وإلى المطار، ومنع المسافرين من الدخول إليه والخروج منه بسياراتهم، وإشعال إطارات السيارات أمام مدخل المطار.
ازداد الأمر سوءًا خلال اليوم الثاني من الاحتجاج؛ وذلك على خلفية الاعتداء على قافلة تابعة لقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل” يوم 14 فبراير الجاري، حيث أوضحت البعثة الأممية في بيانًا لها، أن “تعرضت القافلة لهجوم عنيف في أثناء توجهها إلى مطار بيروت، إذ أُضرمت النيران في إحدى مركباتها، مما أسفر عن إصابة ضابطين، أحدهما نائب قائد قوات “اليونيفيل” المنتهية ولايته شوك ياهادور داكال، النيبالي الجنسية، والذي كان في طريقه إلى بلاده بعد انتهاء مهمته”.[4]
كما طالبت البعثة، السلطات اللبنانية بـ”إجراء تحقيق شامل وفوري، والعمل على تقديم جميع المسؤولين عن هذا الهجوم إلى العدالة”، مؤكدة أن “مثل هذه الهجمات ضد قوات حفظ السلام، تُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، وقد تشكل جرائم حرب”.
ووسط إدانة لبنانية ودولية لهذا الاعتداء، أكد الرئيس اللبناني جوزيف عون أن “قوات الأمن لن تتهاون مع أي جهة تحاول زعزعة الاستقرار والسلم الأهلي في البلاد”، موجهًا الجيش والقوى الأمنية إلى “وقف هذه الممارسات، وملاحقة المخلين بالأمن واعتقالهم، وإحالتهم إلى القضاء”.
وبناءًا عليه؛ نفذت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، حملة في الضاحية الجنوبية، أدت إلى توقيف أكثر من 25 شخصًا، متهمين بالتورط في الحادث، حيث يجري التحقيق معهم بإشراف القضاء المختص.
وفي إطار رد الفعل؛ دعا حزب الله مناصريه للاعتصام في محيط مطار بيروت يوم 15 فبراير 2025، تحت شعار “استنكار التدخل الإسرائيلي وإملاء الشروط واستباحة السيادة الوطنية”، وبالفعل توافد المتظاهرون إلى جسر الكوكودي عند طريق المطار القديمة، رافعين الأعلام اللبنانية والإيرانية، وأعلام حزب الله، وصورًا للأمين العام السابق للحزب حسن نصر الله.[5]
وعلى خلفية ذلك؛ وقعت اشتباكات بين المعتصمين وعناصر الجيش اللبناني، الذي اضطر إلى إطلاق عددًا من القنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين بهدف تفريقهم، وبالفعل تم فض الاعتصام وفتح الطريق.
من جانبها؛ رفضت إيران طلبًا لبنانيًا بهبوط طائرتين تابعتين لشركة “طيران الشرق الأوسط” اللبنانية، لإجلاء الرعايا اللبنانيين العالقين في طهران، مما استدعى حراكًا دبلوماسيًا من الدولتين لحل الأزمة؛ إذ تحدث وزير الخارجية الإيراني ونظيره اللبناني هاتفيًا، وبحثا سُبل حل قضية الرحلات الجوية المدنية بينهما، وأكدا استعدادهما لإجراء محادثات بناءة حول هذا الأمر.[6]
وتمسكًا بموقفه؛ طالب حزب الله يوم الأحد 16 فبراير 2025، الدولة اللبنانية بالتراجع عن منع الطائرات الإيرانية من الهبوط في مطار بيروت، وباتخاذ إجراءات جدية “لمنع إسرائيل من فرض إملاءاتها والتعدي على السيادة الوطنية”.[7]
كما طالب الحزب بفتح تحقيق عاجل حول “الاعتداء على المعتصمين المناصرين في محيط مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت”، موضحًا أن “الاعتصام كان تحركًا سلميًا وتعبيرًا حضاريًا عن موقف شعبي رافض للخضوع غير المبرر للإملاءات الخارجية، إلا أن المعتصمين فوجئوا بإقدام بعض عناصر الجيش على إطلاق القنابل المسيلة للدموع باتجاههم، في تصرف يشكل اعتداءً غير مبرر على مواطنين سلميين”.
وكذلك شدد على ضرورة “تحمل الحكومة اللبنانية مسؤولياتها كاملة في حماية المعتصمين السلميين، وحقهم في التعبير عن مواقفهم ومطالبهم، واتخاذ الإجراءات المناسبة حفاظًا على دور المؤسسة العسكرية في حماية الاستقرار والسلم الأهلي”.
ثانيًا؛ الرسائل ودلالات التوقيت:
يحمل توقيت أحداث الشغب التي افتعلها حزب الله اللبناني على مدار الأيام الماضية، الكثير من المؤشرات والدلالات، ويكمن في طياته رسائل إيرانية عدة للداخل والخارج؛ منها:
1- الضغط على إسرائيل من أجل الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار؛ تأتي التطورات الأمنية الأخيرة قبل أيام قليلة من انتهاء مدة اتفاق وقف إطلاق النار المُبرم بين إسرائيل ولبنان في 27 نوفمبر 2024، والذي كان مقررًا أن يستمر فترة 60 يومًا، ولكن تم تمديده لينتهي غدًا الثلاثاء 18 فبراير 2025.
وينص الاتفاق على أن يقوم حزب الله بتفكيك بنيته التحتية العسكرية في جنوب نهر الليطاني بلبنان، قرب الحدود مع إسرائيل، في مقابل انسحاب الجيش الإسرائيلي من كامل الأراضي اللبنانية التي احتلها في ضوء حربه مع الحزب، على أن يكون الإشراف الأمني في هذه المنطقة للجيش اللبناني وقو “اليونيفيل”.
ولكن في انتهاك واضح للاتفاق؛ تطالب إسرائيل الاحتفاظ بـ5 مواقع بداخل الخط الأزرق، وهي: اللبونة، وجبل بلاط، ومارون الراس، والحمامص، وموقع بين بلدتي حولا ومركبا حتى نهاية فبراير الجاري، مبررة ذلك بأسباب أمنية تتمثل في ضمان أمن مستوطناتها الواقعة في الجزء الشمالي من حدودها مع لبنان، وللتأكد من أن حزب الله يلتزم بوقف النار، وأن الجيش اللبناني تمكن من إحكام سيطرته على هذه المنطقة، ولم يعد فيها بنى عسكرية وأنفاق للحزب، وقد جاء الموقف اللبناني رافضًا للطلب الإسرائيلي، ومتمسكًا بتنفيذ بنود اتفاق إطلاق النار، والتي تؤكد أن يكون الانسحاب الإسرائيلي انسحابًا كاملًا ونهائيًا.[8]
يُضاف إلى ذلك؛ حلق الطيران الإسرائيلي المسير على مستوى منخفض في أجواء صيدا وشرقها، بشكل يخالف الاتفاق، كما قامت تل أبيب بتنفيذ أول عملية اغتيال منذ وقف الحرب بينها وبين حزب الله؛ إذ استهدفت سيارة على طريق جرجوع في منطقة إقليم التفاح يوم 15 فبراير الجاري، مما تسبب في مقتل شخصين أحدهما أحد عناصر الوحدة الجوية لحزب الله، فضلًا عن إصابة 4 آخرين بجروح[9]، وكذلك استهدفت غارة إسرائيلية أخرى المدخل الشمالي لمدينة صيدا اليوم 17 فبراير 2025، مما أسفر عن اغتيال القيادي بحركة حماس محمد شاهين، والذي شغل منصب قائد مديرية العمليات في لبنان.[10]
وانطلاقًا من هذا التوقيت الحرج؛ يبدو أن حزب الله أراد إشعال الوضع الداخلي من أجل زيادة الضغط على الحكومة اللبنانية حتى تتمسك بتنفيذ الاتفاق، وإجبار إسرائيل بالانسحاب بشكل كامل من جنوب لبنان، خاصةً وأن بقاء الجيش الإسرائيلي في النقاط الاستراتيجية الـ5 التي يطالب بها، يلقي مزيد من الضغوط والتحديات الأمنية على الحزب، ويضع بنيته التحتية العسكرية في مرمى ضربات تل أبيب بأي وقت.
2- تأكيد الحزب على أنه لا زال فاعل مؤثر في المشهد السياسي اللبناني؛ لقد طرأت على الساحة اللبنانية مجموعة من المتغيرات التي مثلت تحديًا لنفوذ حزب الله السياسي، والذي هيمن على مجريات الأمور في البلاد لسنوات طويلة، منها: انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيسًا للجمهورية في 9 يناير2025، والذي لم يكن هو خيار محور إيران وحلفائها في الداخل، وكذلك اختيار نواف سلام رئيسًا للوزراء على حساب رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، والذي كان يفضله حلفاء حزب الله، فضلًا عن صياغة بيان وزاري جديد للحكومة اللبنانية يتجه للمرة الأولى إلى عدم تضمين أية إشارة إلى “المقاومة”، مما يعني تقليص الشرعية السياسية لسلاح حزب الله، الذي طالما استند إلى مبررات مثل تحرير الأراضي والدفاع عن لبنان.
وبناءًا عليه؛ شعر الحزب أنه بات خارج المشهد السياسي اللبناني، وأن بقية الأطراف اللبنانية تتعامل معه على أنه منهزم وضعيف وغير موجود، ولذلك أراد حزب الله إثارة هذا الشغب ليؤكد أنه لا يزال حاضرًا، وأن استبعاده من المشهد قد يهدد استقرار لبنان الأمني، والدليل على ذلك؛ أن الأحداث الحالية مشابهة لما حدث في عام 2008، عندما لجأ الحزب إلى استخدام القوة لفرض إرادته السياسية، فقام باحتلال بيروت ومناطق في جبل لبنان.
3- التلويح بورقة استهداف قوة “اليونيفيل”؛ رغم أن حزب الله تنكر من مسؤولية عناصره عن استهداف قافلة اليونيفيل، واصفًا منفذي الهجوم بـ”المندسون”، بل ومعبرًا عن إدانته للهجوم، إلا أن ما حدث يرسل رسالة غير مباشرة للداخل اللبناني وخارجه، مفادها أن الحزب قادرًا على اللعب بورقة استهداف القوات الأممية المتواجدة في البلاد، وإحداث أزمة أمنية بجنوب لبنان في أي وقت، بل والإشارة إلى أن الحزب قادر على استعادة مواقعه المتاخمة للحدود الإسرائيلية بالقوة، في حال عدم التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار، خاصةً وأن قوة حفظ السلام الأممية في لبنان “اليونيفيل”، وبالتشارك مع الجيش اللبناني، هي التي ستحل محل قوات الحزب للإشراف والانتشار الأمني على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
4- تأكيد إيران على احتفاظها بنفوذها في لبنان؛ لا شك أن العهد الجديد في لبنان، الذي أعلن عنه الرئيس جوزيف عون، والذي يقوض نفوذ وهيمنة حزب الله، يفرض معادلات جديدة للعلاقات اللبنانية الإيرانية، تقوم على مبدأ المعاملة بالمثل ووقف أي تصرفات إيرانية تتخطى الدولة اللبنانية، وهو ما يعني الحد من نفوذ طهران في بيروت.[11]
ومن ثم؛ أرادت طهران وعبر ذراعها اللبناني، حزب الله، إرسال رسالة مفادها أن لبنان لا يزال جزءاً من المشروع الإيراني الإقليمي ومحور المقاومة، ويُستدل على ذلك من رفع الأعلام الإيرانية خلال الاحتجاجات، وترديد شعار “شيعة – شيعة”، أي اللعب بورقة المذهب الشيعي لتحريض الشيعة المتواجدين في البلاد ضد تحرك الحكومة الإيرانية المتمثل في تعطيل الرحلات الإيرانية الجوية إلى بيروت حتى يوم الغد 18 فبراير 2025؛ وهو يوم انتهاء فترة اتفاق إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل.
وإجمالًا:
يبدو أن التطورات اللبنانية الأخيرة ما هي إلا تحرك إيراني يهدف إلى وضع حزب الله في مواجهة الحكومة اللبنانية، لإرسال عدة رسائل إلى الداخل والخارج؛ منها: الحزب لم يخسر الحرب ولا يزال موجود وقادر على رد الفعل، والتأكيد على ضرورة القبول بنفوذ إيران في المشهد اللبناني، ومراعاة مصالحها في أي تسوية يتم التوصل إليها بين بيروت وإسرائيل، وإلا سيكون الثمن هو تهديد الاستقرار الداخلي للبلاد، وتعطيل المسيرة السياسية الجديدة التي يقودها الرئيس جوزيف عون.
