المقالات
ركائز التواجد التركي في الصومال
- مايو 21, 2024
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
إعداد: هنا داود
باحثة في الشؤون التركية
مقدمة
لم تكنٓ العلاقاتُ التركيةُ – الإفريقيةُ تسيرُ على وتيرةٍ واحدةٍ خلالَ العقودِ الماضيةِ، وإنما اختلفتْ حدةُ هذه العلاقاتِ واتجاهاتهِا باختلافِ توجهاتِ السياسةِ الخارجيةِ التركيةِ، وباختلافِ الظروفِ الداخليةِ والدوليةِ المواتية. لكنْ في الوقتِ الحاليِ، تشهدُ العلاقاتُ التركيةُ – الإفريقيةُ انفراجةً إيجابيةً على أكثرِ من مستوىً. وفي هذا الإطارِ، يمكنُ دراسةُ زيادةِ النفوذِ التركيِ في إفريقيا، بالأخصِ في منطقةِ القرنِ الإفريقي، منْ خلالِ التركيزِ على التواجدِ التركيِ في الصومالِ بشكلٍ أساسيٍ.
حيثُ شهدتْ العلاقاتُ التركيُة-الصوماليةُ تطوراتٍ ملحوظةً، اتسمتْ بتناميِ التعاونُ في مختلفُ المجالاتِ السياسيِة، والاقتصاديةِ، والدبلوماسيةِ، والثقافيةِ. وبرزَ هذا التناميُ بشكلٍ خاص في أعقاب زيارةِ الرئيسِ التركيِ رجب طيب أردوغان إلى مقديشو عام 2011، والتي كانت أول زيارة يقومُ بها رئيسٌ تركيٌ إلى الصومالِ منذُ استقلالهِا.
وقد شملتْ مجالاتُ التعاونِ التركيُ-الصوماليُِ المساعداتٍ الإنسانيةَ، حيثُ قدمتْ تركيَا مساعداتٍ كبيرةً للصومالِ، خاصةً خلالَ أزماتِ الجفافِْ التي ضربت البلادَ. كمَا أقامتْ تركيا العديدَ من المشاريعِ التنمويةِ في مجالاتِ التعليمِ، والصحةِ، والبنيةِ التحتيةِ. وفي مجالِ التعاونِ الدبلوماسيِ، تبادلتْ تركيَا والصومالُ العديدَ من الزياراتِ الرسميةِ على مختلفِ المستوياتِ، وشاركتْ تركيا في العديدِ من المؤتمراتِ والفعالياِتِ الدوليةِ المتعلقةِ بالصومالِ. وفي التعاونِ الاقتصاديِ، زاد حجم التبادل التجاري بين تركيا والصومال بشكلٍ ملحوظٍ في السنواتِ الأخيرةِ، كما قامتْ تركيا بالاستثمارِ في العديدِ من القطاعاتِ في الصومالِ، مثلَ الطاقةِ، والبنيةِ التحتيةِ، والسياحةِ. أما في الجانبِ العسكريِ، فقد افتتحتْ تركيا في عامِ 2017 قاعدةً عسكريةً في مقديشو باسمِ “قاعدةِ توركسوم”، والتي توفرُ التدريبَ العسكريَ للجيشِ الصوماليِ وتساهمُ في مكافحةِ الإرهابِ وتحقيقِ الاستقرارِ، ولقد أثارَ هذا التواجدُ التركيُ المتناميِ في الصومالِ اهتمامًا كبيرًا لفهمِ دوافعِ السياسةِ التركيةِ تجاهَ هذه المنطقةِ الاستراتيجيةِ.
الأهميةُ الاستراتيجيةُ لمنطقةِ القرنِ الأفريقيِ:
يُعدُ القرنُ الإفريقيُ منطقةً ذاتَ أهميةٍ استراتيجيةٍ واقتصاديةٍ هائلةٍ، نظرًا لموقعهِ الجغرافيِ الفريدِ وثرواتهِ الطبيعيةِ الغنيةِ. يقعُ القرنُ الإفريقيُ في الجزءِ الشماليِ الشرقيِ من قارةِ إفريقيِا، ويشملُ أربعَ دولٍ رئيسيةٍ هي: إثيوبيا، وإريتريا، والصومالُ، وجيبوتي. وهناكَ اختلافٌ حولَ تسميةِ المنطقةِ والدولِ التي يضمُها القرنُ الإفريقيُ؛ حيثُ يوسعُ بعضُ المحللينَ تسميةَ القرنِ الإفريقيِ ليشملَ دولَ أوغندا، وكينيا، والسودان، وجنوبَ السودان، ويقصرُها بعضُ المحللينَ على الدولِ الأربعِ: إثيوبيا، وإريتريا، والصومال، وجيبوتي.[1] وليستْ هذه نقطةَ تركيزنِا في هذهِ الورقةِ، بلْ تتبنىَ الورقةُ التعريفَ الضيقَ لمفهومِ القرنِ الإفريقيِ بحيثُ يشملُ الدولَ الأربعَ فقط.
وتنبعُ أهميةُ المنطقةِ من إشرافِها على ممراتٍ مائيةٍ حيويةٍ مثلَ البحرِ الأحمرِ وخليجِ عدن والمحيطِ الهندي، مما يجعلهُا منطقةَ عبورٍ أساسيةٍ للتجارةِ العالميةِ بينَ قاراتِ إفريقيِا وآسيا وأوروبا، وهذا الأمرُ جعلَ من المنطقةِ نقاطَ ارتكازٍ هامةٍ على هذهِ الممراتِ وجعلهَا تتحكمُ في طرقِ الملاحِة الدوليةِ. كمَا تتمتعُ المنطقةُ بكمياتٍ هائلةٍ من الثرواتِ الطبيعيةِ مثلَ البترولِ والغازِ الطبيعيِ، وبالأخصِ في الصومالِ، حيثُ تقدرُ احتياطياتُ النفطِ في الصومالِ بحواليِ 30 مليارَ برميلٍ. بالإضافةِ إلى ذلكَ، تتميزُ المنطقةُ بالثرواتِ الحيوانيةِ وبالإمكاناتِ الكبيرةِ لاستغلالهِا في مجالِ الطاقةِ المتجددةِ. [2]
كذلكَ تطلُ الصومالُ على مجموعةٍ من الموانئِ الاستراتيجيةِ، مثلَ ميناءِ مقديشو الذي يُعدُ من أكبرِ موانئِ الصومالِ ويتمتعُ بأهميةٍ كبيرةٍ لإطلالهِ على ساحلِ المحيطِ الهنديِ. بالإضافةِ إلى ميناءِ بوصاصو الذي يطلُ على خليجِ عدن ويقعُ بالقربِ من مدخلِ مضيقِ بابِ المندبِ، وميناءِ هوبيو في شمالِ شرقِ الصومالِ الذي يمثلُ حلقةَ الوصلِ بينَ شمالِ الصومالِ وجنوبهِ، كمَا يمثلُ بوابةً استراتيجيةً لإثيوبَيا لعبورِ الصادراتِ النفطيةِ إلى العالمِ الخارجيِ. بالتاليِ، تُعتبرُ الصومالُ دولةً غنيةً بالعديدِ منَ المواردِ الطبيعيةِ والبحريةِ، وتتمتعُ بموقعٍ استراتيجٍي جعلهَا محطَ اهتمامِ العديدِ من الدولِ الخارجيةِ.[3]
وعلى الرغمِ منْ ثراءِ هذهِ المنطقةِ بالمواردِ والثرواتِ الطبيعيةِ والحيوانيةِ، وموقعِها الاستراتيجيِ، إلا أنهَا تعرضتْ لكثيرٍ منَ الأزماتِ، من تاريخٍ طويلٍ منَ الاستعمارِ والفقِر وموجاتِ الجفافِ، مما جعلهَا في حاجةٍ للاعتمادِ على المساعداتِ الخارجيةِ من الدولِ الأجنبيةِ التي تتنافسُ على التواجدِ في المنطقةِ.[4]
علاقاتُ تركيا مع الدولِ الأفريقيِة: تحولٌ تاريخيٌ وتطلعاتٌ جديدةٌ
شهدتْ السياسةُ الخارجيةُ التركيةُ تحولاتٍ هامةً بعدَ صعودِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ إلى السلطةِ عامَ 2002، حيثُ اتخذتْ منحىَ أكثرَ براجماتيةِ ودبلوماسيةٍ فعالةٍ، معَ اعتبارِ الدولةِ التركيةِ دولةً مركزيةً ولاعبًا إقليميًا نشطًا، وانعكسَ ذلكَ على توجهاتِ تركيا نحوَ القارةِ الإفريقيةِ، التي باتتْ تحتلُّ مكانةً متقدمةً في استراتيجيةِ السياسةِ الخارجيةِ التركيةِ.
وتُعدُ العلاقاتُ التركيةُ-الأفريقيةُ ذاتَ جذورٍ تاريخيةٍ عميقةٍ، حيثُ تعودُ إلى عهدِ الدولةِ العثمانيةِ التي سعتْ إلى نشرِ الإسلامِ في القارةِ وتحسينِ العلاقاتِ معَ الدولِ الأفريقيةِ. وتجلىَ ذلكَ في محاولاتِ الدولةِ العثمانيةِ لنشرِ تعاليمِ الدينِ والفقهِ والشريعةِ الإسلاميةِ، وفضِّ الخلافاتِ الدينيةِ التي كانتْ قائمةً آنذاك. وتوطدتْ العلاقاتُ التركيةُ-الأفريقيةُ خلال القرن التاسع عشر، حيثُ اتسعَ نفوذُ الدولة العثمانية ليضمَّ مناطقَ شمالِ وجنوبِ أفريقيا، خاصةً السودانَ، والصومالَ، وإريتريا.
معَ إعلانِ قيامِ الجمهوريةِ التركيةِ على يدِ مصطفى كمال أتاتورك عامَ 1923، شهدتْ العلاقاتُ التركيةُ الأفريقيةُ بعضَ التراجعِ نتيجةً لانشغالِ تركيا بالتطوراتِ الداخليةِ وبناءِ مؤسساتِ الدولةُ الجديدةِ. كمَا تركزتْ السياسةُ الخارجيةُ التركيةُ في تلكَ الفترةِ على الجانبِ الغربيِ معَ تراجعِ الاهتمامِ بالعلاقاتِ معَ الدولِ غيرِ الغربيةِ، بمَا في ذلك الدولُ الأفريقيةُ. كمَا ساهمتْ الظروفُ الدوليةُ الصعبةُ، مثلَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ والحربِ الباردةِ، في عرقلةِ تطورِ العلاقاتِ التركيةِ الأفريقيةِ، حيثُ حالتْ هذه الظروفُ دونَ قيامِ علاقاتٍ وثيقةٍ بينَ تركيا والمجتمعاتِ غيرِ الغربيةِ، بما في ذلكَ الدولُ الأفريقيةُ.[5]
ومعَ الانضمامِ التركيِ إلى المؤسساتِ الغربيةُ مثلَ حلفِ الناتو عامَ 1952، وانضمامِها إلى عضويةِ الأممِ المتحدةِ في عامِ 1946، تأثرتْ السياسةُ التركيةُ الخارجيةُ وعلاقاتُها معَ الاتحادِ السوفيتيِ، وأفريقيا، وآسيا. كمَا تخلتْ عن دعمِ حركةِ دولِ عدمِ الانحيازِ وحركاتِ الاستقلالِ، مما أدىَ إلى توترِ العلاقاتِ التركيةِ الأفريقيةُ لفترةٍ طويلةٍ. ومعَ ذلكَ، جاءتْ سياسةُ “الانفتاحِ على إفريِقيا” في عام 1998، والتي كانتْ بدايةَ انفراجةٍ جديدةٍ في العلاقاتِ التركيةِ مع إفريقيِا، حيثُ قدمَ وزيرُ الخارجيةِ التركيِ آنذاكَ “إسماعيل جيم” ما عرفَ بـ “خطةِ عملٍ إفريقيا”، والتي كانتْ عبارةً عن خريطةٍ للتعاونِ السياسيِ والتجاريِ والثقافيِ بينَ تركيا والدولِ الإفريقيةِ. وعلى الرغمِ من عدمِ نجاحِ هذهِ السياسةِ في تحقيقِ أهدافهُا، إلا أنهَا قدمتْ بدايةً جديدةً للنوايَا والتوجهاتِ التركيةِ.[6]
معَ وصولِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ إلى الحكمِ في عام 2002، بدأَ التوجهُ التركيُ نحوَ الانفتاحِ على دولِ المنطقةِ منْ خلالِ سياساتٍ متعددةٍ، مثلَ تصفيرِ المشاكلِ وغيرهِا، ومعَ إخفاقاتٍ متعددةٍ لانضمامِ تركيا للاتحادِ الأوروبيِ، بدأَ التوجهُ نحوَ الانفتاحِ على مناطقَ أخرىَ، وذلكَ من خلالِ مجموعةٍ منَ القيمِ السياسيةِ والمؤتمراتِ الدبلوماسيةِ. بدأَ العملُ الفعليُ في عامِ 2003، وتمَّ التحضيرُ بشكلٍ متتالي لتطويرِ استراتيجيةِ العلاقاتِ مع إفريقيِا. في عامِ 2008، عُقدتْ قمةُ التعاونُ الإفريقيُ – التركيُ الأول، ونتجَ عنها حصولُ تركيا على مقعدٍ في بنكِ التنميةِ في أفريقيا، وأصبحتْ شريكاً استراتيجياً في الاتحادِ الأفريقيِ، ممَا دفعَ إلى التعاونِ الاقتصاديِ والاستثمارِ والتبادلِ التجاريِ. وكانتْ هذه بدايةَ الانفراجةِ في العلاقاتِ التركيةِ الإفريقيةِ، واستمرتْ في التطورِ وتضاعفَ عددُ السفاراتِ التركيةِ في دولِ إفريقيِا[7]، في السنواتِ الأخيرةِ، أصبحتْ تركيا لاعباً فاعلاً ونشطاً في القارةِ الأفريقيةِ على مستوياتٍ عدةٍ، خاصةً في الجوانبِ الاقتصاديةِ والعسكريةِ، حيثُ ارتفعتْ مستوياتُ التبادلِ التجاريِ والتعاونِ في مجالِ الصناعاتِ الدفاعية.
وفي هذا السياقِ، نجدُ أنَّ العلاقاتِ التركيةَ الإفريقية لم تكنْ تسيرُ بشكلٍ خطيَ كغيرِِها من التفاعلاتِ الأخرى بينَ الدولِ، وعادةً ما اختلف شكل العلاقات وحدتها باختلاف القيادات، ونجد أن الجانبَ التركيَ هو المتحكمُ في شكلِ العلاقةِ. وعند النظر إلى تغيرِ التوجهاتِ، نجد أنها تعتمد بالكاملِ على خدمةِِ المصالحِ الوطنيةِ وتحقيقِ أقصى قدرٍ من التوازناتِ. ومع ذلكَ، تتباينُ التحليلاتُ حولَ التواجدِ التركيِ في إفريقيا ودوافعهِ، ومنَ الممكنِ التركيزُ في هذا السياقِ على العلاقاتِ التركيةِ الصوماليةِ، نظرًا لأنَ الصومال تُعتبر واحدةً من أهمِ الدولِ في منطقةِ القرن الأفريقي، وتحظى! بأهميةٍ كبيرةٍ في دائرةِِ السياسةِ الخارجيةِ التركيةِ.
موجزُ العلاقاتِ التركية – الصومالية:
يعودُ تاريخُ العلاقاتِ بين تركيا والصومالِ إلى القرنِ السادسَ عشرَ، حيثُ كانتْ تربطهُم العديدُ من الروابطِ الدينيةِ، حيثُ كانتْ تركيا تدعمُ المسلمينَ في أفريقِيا ضدَ الاستعمارِ البرتغاليِ، وكانتْ الصومالُ إحدىَ الدولِ التي حصلتْ على الدعمِ الماليِ والمعنويِ منَ الدولةِ العثمانيةِ. وبالتأكيدِ، تغيرَ شكلُ العلاقاتِ خلالَ فترةِ فتورِ العلاقاتِ بينَ الجمهوريةِ التركيةِ الوليدةِ والدولِ الأفريقيةُ، كمَا تمَّ الإشارةُ إليهِ. ثم جاءتْ إعادةُ الانخراط في الصومال مرة أخرى بشكلٍ مكثفٍ منذ عام 2005، الذي أعلنتْ فيه تركيا أنه “عامُ إفريقيا” كجزءٍ من سياسةِ الانفتاحِ على إفريقيا، بهدفِ تعزيزِ الوجودِ الدبلوماسيِ التركيِ عبر القارةِ.
وبشكلٍ عامٍ، كانتْ الصومالُ منْ أهمِ الدولِ في منطقةِ القرنِ الإفريقيِ بالنسبة لدائرةِ السياسةِ الخارجية التركية، لأنَّ تركيَا كانتْ ترغبُ في تسويقِ نفسِها في فترةٍ معينةٍ كرائدةٍ مرةً أخرىَ للعالمِ الإسلاميِ بعدَ الدولةِ العثمانيةِ، وحاولتْ رسم َهذا الانطباعِ منْ خلالِ الصومالِ منْ خلالِ التعاونِ وتقديمِ المساعداتِ الماديةِ والمعنويةِ. وبعدَ فتراتٍ طويلةٍ، كانَ أولُ اتصالٍ رسميٍ بينَ تركيا والصومالِ خلالَ حضورِ الرئيسِ رجب طيب أردوغان مؤتمرَ قمةِ الاتحادِ الإفريقيِ في أديس أبابا في يناير 2007، حيثُ التقىَ آنذاكَ معَ الرئيسِ الصوماليِ عبدالله يوسف أحمد، وعرضَ وقتهَا أردوغان إمكانيةَ المساعدةَ وتلبيةَ احتياجاتِ الصومالِ. وشاركتْ تركيا في العديدِ من المناسباتِ معَ الصومالِ، مثلَ محادثاتِ السلامِ بينَ جيبوتيِ والصومالِ، ومؤتمرِ المانحينَ في بروكسل، حيثُ عرضتْ تركيا مرةً أخرى المساعدةَ للصومالِ لدعمِها في تحقيقِ السلامِ في ذلكَ الوقت[8]ِ.
في عامِ 2010، عانتْ الصومالُ من أزمةِ جفافٍ شديدةٍ كجزءٍ من موجةِ الجفافِ التي ضربتْ شرقَ إفريقيا، ونتيجةً لذلكَ حدثتْ أزمةٌ غذائيةّ حادةٌ أسفرتْ عن مقتلِ حوالي 260,000 شخصٍ، ونتيجةً لهذهِ العواقبِ المؤلمةِ، قررتْ تركيا التدخلَ لحلِّ هذهِ الأزمةِ، وفي الوقتِ نفسهِ كانتْ هذه فرصةٌ لتحقيقِ أهداف السياسة الخارجية التركية وتعزيز التواجدِ في منطقةِ القرنِ الأفريقيِ. في هذا السياقِ، قامتْ تركيا بتنسيقِ سياسةِ “إعادة الإعمارِ والأمنِ في الصومالِ” في مايو 2010 بالتعاونِ معَ الأممِ المتحدِة والحكومةِ الفيدراليِة الانتقاليةِ الصوماليةِ.
وفي عامِ 2011، استضافتْ تركيا اجتماعَ منظمةِ المؤتمرِ الإسلاميِ، حيثُ تعهدتْ 40 دولةً بتقديمِ 350 مليونَ دولارٍ كمساعداتٍ للصومالِ، وتمَّ تصويرُ الجهودِ التركيةِ المبذولةِ للصومالِ في تلكَ الفترةِ على أنهَا محلُ اهتمامٍ شخصيٍ من الرئيسِ أردوغان نتيجةً لاستنكارهِ للمجتمعُ الدوليِ لتركِ الصومال يعانيِ في هذهِ المأساةِ لسنواتٍ دونَ تقديمِ الدعمِ أو الاهتمامِ الدولي. ولم تقتصر الأزمات في ذلكَ الوقتِ على الظروفِ الطبيعيةِ فحسبْ، بل تفاقمتْ بسببِ الحوادثِ الإرهابيةُ.[9] وتشيرُ التحليلاتُ الصوماليةُ إلى أن تركيَا كانتْ الدولةُ الوحيدةُ التي قدمتْ المساعدةَ للصومالِ في أزمتِها عام 2010 وأزماتِها المتكررةِ، وأدتْ هذهِ المساعداتُ والوجودُ التركيُ في الصومالِ إلى تطويرِ التعاونِ على مختلفِ الأصعدةِ، منها الاقتصاديةُ والسياسيةُ والدبلوماسيةُ والعسكريةُ والثقافية[10]ُ.
تطوراتُ العلاقاتِ التركيةِ الصوماليةِ:
في عامِ 2016، افتتحتْ تركيا أكبرَ سفارةٍ لها في مقديشو، العاصمةِ الصوماليةِ، خلالَ فترةِ حكمِ الرئيسِ حسن شيخ محمود، مما يبرزُ التعاونَ الدبلوماسيَ بينَ البلدينِ، وتمتلكُ هذه الفترةُ تبادلَ الزياراتِ والبعثاتِ الدبلوماسيةِ بين الجانبينِ. وفي الفترةِ الأخيرةِ ، زارَ الرئيسُ الصوماليُ حسن شيخ محمود نظيرَهُ التركيَ رجب طيب أردوغان في أكتوبرَ 2023، حيثُ أكدَّ على دعمِ أنقرةَ للصومالِ في مجالاتٍ عدةٍ، منها إعادةُ الإعمارِ ومكافحةُ الإرهابِ.
ومعَ توسعِ تركيا في المساعداتِ الإنسانيةِ والدبلوماسية، توجهت لتقديم الدعمِ في الجوانبِ الفنيةِ والعسكريةِ وبناءِ القدراتِ، ففي عامِ 2017، افتتحتْ القاعدةُ العسكريةُ التركيةُ “توركسوم” في الصومالِ بتكلفةٍ تقدرُ بحوالي 50 مليونَ دولار، وتضمُ مدارسَ عسكريةً ومصانعَ للأسلحةِ والذخيرةِ، ضمنَ مساعيِ تعزيزِ الأمنِ ومحاربةِ الإرهابِ، وتوفيرِ التدريبِ للجيشِ الصوماليِ. وحتى الآنَ، ما زالتْ تركيا تقدمُ التدريبَ العسكريَ وتوريدَ الأسلحةِ اللازمةِ لوحداتِ الجيشِ الصوماليِ، ومثلتْ خطوةُ إنشاءِ تركيا لقاعدةٍ عسكريةٍ في الصومالِ نقلةً نوعيةً في سياستِها الخارجيةِ تجاهَ القارةِ الأفريقية، حيثُ توضحُ قدرةَ أنقرة على استخدامِ أدواتِ “القوةِ الصلبةِ” بعدَ نجاحِها في تحقيقِ اختراقاتٍ دبلوماسيةٍ واقتصاديةٍ باستخدامِ “القوةِ الناعمة”.
على الجانبِ الاقتصاديِ والتجاريِ، في عامِ 2020 وقعتْ أنقرةُ مع الصومالِ اتفاقيةً للتنقيبُ عن الغاز والبترول في المياهِ الصوماليةِ. أما فيما يتعلقُ بحجمِ التبادلِ التجاريِ بين تركيا والصومالِ، فقد وصلَ وفقًا لإحصائياتِ عامِ 2022 إلى 389 مليونَ دولار، مقارنة بـ 72 مليون دولار في عام 2015. وبالإضافةِ إلى ذلكَ، تديرُ تركيا عددًا من الموانئِ البحريةِ والجويةِ في مقديشو[11].
بشكلٍ عامٍ، تتنوعُ العلاقاتُ التركيةُ – الصومالية في مختلفِ المجالاتِ الاقتصاديةِ والسياسية والدبلوماسية والثقافية، بما في ذلكَ تبادلُ الطلابِ والمنحِ التعليميةِ وغيرهِا من الجوانبِ. والأمثلةِ التي تمَّ توضيحُها مجردَ إشاراتٍ إلى مدى تطورِ العلاقاتِ التركيةِ – الصومالية، بالإضافةِ إلى بروزِِ التواجدِ التركيِ في الصومال بشكل نشط وفاعل. ولعلَّ أحدثَ التطوراتِ في العلاقاتِ بين البلدينِ وهو توقيعُ الاتفاقِ الإطاريِ الدفاعيِ بينَ تركيا والصومال في فبراير 2024، يمثلُ محطةً مهمةً في مرحلةِ تعميقِ العلاقاتِ الثنائيةِ. ولهذا الاتفاقِ دلالاتٌ مختلفةٌ، ولكن لفهمِها بشكلٍ صحيحٍ، يجب أولًا فهمُ دوافعِ التواجدِ التركيِ في الصومالِ، أو فهمُ التطوراتِ في العلاقاتِ الثنائيةِ بين الدولتينِ.
أهدافُ ودوافعُ التواجدِ التركيِ الصومالِ:
يشهدُ القرنُ الأفريقيُ منذُ أكثرَ من عقدٍ تدفقًا ملحوظًا للنفوذِ التركيِ، ما يثيرُ تساؤلاتٍ حائرةً حولَ دوافعِ أنقرةَ وراءَ هذا التوجهِ الاستراتيجي، حيثُ تمَّ تفسيرُ هذاَ التواجدِ أنه يعكسُ سعيًا لإحياءِ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ، وأيضًا مواجهةُ الدولِ الاستعماريةِ السابقةِ في القارةِ. لكن، ولتوضيحِ انخراطِ تركيا المكثفِ في هذه المنطقةِ، هناكَ مجموعةٌ من الدوافعِ، أبرزُها:
- طموحاتُ أردوغان: تلعبُ طموحاتُ الرئيسِ التركيٍ رجب طيب أردوغانَ دورًا هامًا في توجهاتِ السياسةِ الخارجيةِ للبلادِ، حيثُ يسعىَ أردوغان إلى جعلِ تركيا قوةً إقليميةً رائدةً وتعزيزِ نفوذهِا في العالمِ الإسلاميِ.
- دوافعُ اقتصاديةٌ: يُعدُ الدافعُ الاقتصاديُ أحدَ أهمِّ العواملِ الكامنةِ وراءَ توجهاتِ تركيا في القرنِ الأفريقيِ، حيثُ تسعىَ أنقرةُ جاهدةً لتنويعِ أسواقهِا وتعزيزِ فرصِ الاستثمارِ، خاصةً في قطاعاتِ حيويةٍ مثلَ البنيةِ التحتيةِ والزراعةِ، وتُمثّل دولٌ مثلَ الصومالِ وإثيوبيا وجيبوتي جاذبيةً استثماريةً لتركيا نظرًا لموقعهِا الاستراتيجيِ وإمكاناتِها الهائلةِ. كما أنه يُمكنُ لتواجدهِا في الصومالِ، بإشرافِها على الممرات الهامة وثرواتها الطبيعية منَ النفطِ والغازِ الطبيعيِ، أن يوفّرَ فوائدَ هائلةً لتركيَا كبديلٍ عن الصداماتِ الموجودةِ في منطقةِ شرقِ المتوسطِ.
- القوةُ الناعمةُ كأداةٍ: تُولي تركيا اهتمامًا كبيرًا بنشرِ نفوذهِا الناعمِ في المنطقةِ من خلالِ أدواتٍ ثقافيةٍ وتعليميةٍ ودينيةٍ، حيثُ تسعى إلى تعزيزِ الروابطِ مع المجتمعاتِ المسلمةِ في القرنِ الأفريقيِ عبرَ بناءِ المدارسِ والمساجدِ ودعمِ المبادراتِ الثقافيةِ. قد لا تكونُ هذه الرغبةُ في إعادة صياغة الإمبراطورية العثمانية بل رغبةٌ في فرضِ نوعٍ من الهيمنةِ والقيادةِ، والتي يمكنُ أن تحققَها من خلالِ تسويقٍ صورتِها كدولةٍ قائدةٍ وفاعلةٍ مهيمنةٍ منْ خلالِ الصومالِ، ومحاولةِ حلِ الأزماتِ السياسيةِ بها.
- المنافسةُ الإقليميةُ: تلقي المنافسةُ الإقليميةُ معَ الدولِ الخليجيةِ، وخاصةً المملكةَ العربيةَ السعوديةَ والإماراتِ العربيةَ المتحدةَ وأيضًا إيران، بثقلِها على توجهاتٍ تركيا في القرنِ الأفريقيِ، حيثُ تسعى أنقرةُ إلى توسيعِ نفوذِها في المنطقةِ لمواجهةِ ما تعتبرهُ تدخلاتٍ خليجيةً معاديةً لمصالحهِا.[12]
- الدعمُ الجيو-سياسيُ: تهدفُ تركيا إلى تعزيزِ مكانتهِا كلاعبٍ جيوسياسيٍ إقليميٍ من خلالِ دعمِ الاستقرارِ والأمنِ في القرنِ الأفريقيِ، وتُقدمُ المساعدةَ العسكريةَ للصومالِ، لمكافحةِ الجماعاتِ المتطرفةِ والحفاظِ على السلامِ، على الرغمِ من أنَّ هناكَ أهدافاً معلنةً خلفَ هذهِ الجهودِ، إلا أنَها قد تكونُ لها دوافعُ أعمقُ من إنشاءِ قاعدةٍ عسكريةٍ أو توثيقِ التعاونِ العسكريِ معَ الصومالِ. وبالطبعِ، أحدُ أهمِ هذه الدوافعِ هو حمايةُ مصالحِها الاقتصاديةِ وفتحُ أسواقِ خارجيةٍ لتسويقِ صناعتِها العسكريةِ والدفاعيةِ، والتي شهدتْ تطورًا كبيرًا في السنواتِ الأخيرةِ. ومنْ بينِ هذِه الدوافعِ الهامةِ أيضًا تعزيزُ النفوذِ العسكريِ في القارةِ الإفريقيةِ. وتظهرُ هذه الأهدافُ واضحةٌ في السياسةِ الخارجية التركية، حيث وقعت بالفعل عددًا منَ الاتفاقياتِ الأمنيةِ مع دولٍ إفريقيةٍ أخرىَ مثلَ كينيا وإثيوبيا وتنزانيا وأوغندا، مما يعكسُ رغبتَها في توسيعِ نفوذِها العسكريِ على نطاقٍ واسع[13]ٍ.
تتسمُ دوافعُ تركيا في القرنِ الأفريقيِ بالتعقيدِ وتعددِ الأوجهِ، ولا يمكنُ حصرُها في سعيٍ لإحياءِ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ، وتلعبُ المصالحُ الاقتصاديةُ والقوةُ الناعمةُ والمنافسةُ الإقليميةُ والدعمُ الجيو-سياسيُ دورًا هامًا في توجهاتِ تركيا في المنطقةِ. كمَا تُشكلُ العواملُ الداخليةُ، مثل طموحات أردوغان والأزمة الاقتصادية، سياقًا هامًا لفهمِ سلوكِ تركيا في القرنِ الأفريقيِ. وفي اعتقاديِ أنَّ المحركَ الأساسيَ في السياسةِ الخارجيةِ التركيةِ هو المصلحةُ الوطنيةُ، وأن التيارَ الواقعيَ ينجحُ في تفسيرِ تحركاتِ تركيا على المستوىَ الخارجيِ في فتراتٍ زمنيةٍ مختلفةٍ.
وفي إطارِ تزايدِ العلاقاتِ بين البلدينِ، تأتيِ الاتفاقيةُ الإطاريةُ الخاصةُ بالتعاونِ الدفاعيِ والاقتصادي كنقلة نوعية، تأتي هذهِ الاتفاقيةُ في سياقٍ مزدحمٍ من الأزماتِ والتوتراتِ في الشرقِ الأوسطِ وفي النظامِ الدوليِ بأكملهِ، ويمكنُ تناولُ الاتفاقيةِ في إطارِ تحليلِ التواجدِ التركيِ في الصومالِ.
الاتفاقُ الإطاريُ بشأنِ التعاونِ الدفاعيِ والاقتصاديِ
في 8 فبراير 2024، تمَ توقيعُ الاتفاقِ الإطاريِ بشأنِ التعاونِ الدفاعيِ والاقتصاديِ أثناءَ لقاءِ وزيرِ الدفاعِ التركيِ “يشار جولر” ونظيرهِ الصوماليِ “عبد القادر محمد نور” في العاصمةِ التركيةِ أنقرةَ. وفي 21 من الشهرِ نفسهِ، وافقَ البرلمانُ الصوماليُ على الاتفاقية بأغلبيةِ 213 صوتًا مقابل 3 أصوات. وتتيحُ الاتفاقيةُ لمدةِ عشرِ سنواتٍ إنشاءَ قوةٍ بحريةٍ عسكريةٍ وتوفيرَ الحمايةِ التركيةِ على المياهِ الصوماليةِ والمساعدةَ في تطويرِ المواردِ البحريةِ للصومالِ، وتعدُ هذه الاتفاقيةُ نقلةً نوعيةً في العلاقاتِ بينَ الدولتينِ وتهدفُ بشكلٍ أساسيٍ لتعزيزِ قدراتِ الصومالِ على الجانبِ الاقتصاديِ والأمني[14]ِ.
وفقًا لما نقلتهُ وكالةُ الأناضولِ، جاءتْ الاتفاقيةُ بناءً على طلبٍ منْ حكومةِ مقديشو لدعمِ الصومالِ ضدَ التهديداتِ الخارجيةِ والإرهابِ والقرصنةِ والصيدِ البحريِ غيرِ القانونيِ. والهدفُ الأساسيُ لهذهِ الاتفاقيةِ بحسبِ ما أعلنَ الرئيسُ الصوماليُ حسن شيخ محمود هو إنشاءُ قوةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ مشتركةٍ بين البلدينِ لحمايةِ الصومالِ ومياههِ الإقليميةِ، وأيضًا تعزيزُ الاستثمارِ في مواردِ المياهِ الصوماليةِ لمدةِ 10 سنواتٍ، ومن ثمَّ سيعتمدُ الصومالُ على قواتهِ الخاصةِ.
دوافعُ تركيا من هذهِ الاتفاقيةِ:
1- في مطلعِ يناير 2024، وقعتْ إثيوبيا اتفاقيةً معَ حكومةِ أرضِ الصومالِ، وهي منطقةٌ تتمتعُ بالحكمِ الذاتيِ داخلَ الصومالِ، تُتيحُ لهَا استئجارَ طريقٍ بريٍ من إثيوبيا إلى البحرِ الأحمرِ على سواحلِ أرضِ الصومالِ، واستخدامِ ميناءِ بربرةَ البحريِ لمدةِ 50 عامًا، مقابلَ اعترافِ إثيوبيا باستقلالِ “أرضِ الصومال“. وقد رفضتْ الصومالُ هذهِ الاتفاقيةَ بشدةٍ وجاءَ موقفُ الحكومةِ التركيةِ رافضًا للاتفاقيةِ أيضًا ولكنْ ازادادَ التوترُ والقلقُ من تزايدِ الخلافاتِ بين الصومالِ وأرضِ الصومالِ وأكدتْ على ضرورةِ اتباعِ الحلولِ الدبلوماسيةِ، لكن كان أحدُ الدوافعِ من هذهِ الاتفاقيةِ هو حمايةُ الصومالِ ضدَ النفوذِ اثيوبيَا في أرضِ الصومالِ.
2- مدُّ نفوذِها العسكري وموازانةُ المصالحِ، حيثُ يزدادُ عددُ القواعدِ الأمريكيةِ في المنطقةِ حيثُ وقعتْ الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ في 14 فبرايرَ اتفاقيةً لإنشاءِ خمسِ قواعدَ عسكريةٍ وبالتاليِ يخلقُ هذا نوعاً ما من التنافسيةِ في حالِ تراجعِ العلاقاتِ التركيةِ معَ واشنطن، أو ربما يزدادُ التعاونُ بينهم في مواجهةِ القرصنةِ والإرهابِ.
3- زيادةُ نفوذهِا في المنطقةِ ربمَا تعويضًا عن الخلافاتِ الحادثةِ في منطقةِ شرقِ المتوسطِ، وأن تكونَ دولةً فاعلةً في المنطقةِ وهذا يظهرُ من تفاعلاتِها معَ دولٍ أخرىَ مثلَ إثيوبيا وجيبوتي وعلى الرغمِ منْ أنَّ هذهِ الاتفاقيةَ بينَ تركيا والصومال يهددُ العلاقاتِ التركيةَ – الإثيوبيةَ، ولكنْ في اعتقاديِ أن تركيَا ستحاولُ الحفاظَ على علاقاتهِا مع كلا الدولتينِ ومحاولةَ التوسطِ وحلَ الخلافاتِ بينهم[15].
وهذهِ الاتفاقيةُ ستكونُ لها الكثيرُ منَ النتائجِ على كلا الجانبينِ، ومن أهمهِا أنها ستُضعُ تركيا كلاعبٍ إقليميٍ في العديدِ منَ الملفاتِ، فعلى سبيلِ المثالِ قد تضطرُ للعبِ دورٍ في منطقةِ خليجِ عدن وبابِ المندبِ لتأمينِ الملاحةِ ضدَّ نشاطِ جماعةِ الحوثي المرتبطِ بالنفوذِ الإيرانيِ، وقد تتعرضُ أيضًا لمنافسةِ معَ التواجدِ الإماراتيِ في المنطقةِ.
وفي الوقتِ نفسهِ، ستعودُ الفوائدُ على الصومالِ، حيثُ تُمثلُ الاتفاقيةُ فرصةً كبيرةً لإعادةِ بناءِ الجيشِ الصوماليِ وتعزيزِ قدراتهِ وإمكانياتهِ القتاليةِ، وإرسالِ الأسلحةِ والطائراتِ، حتى يستطيعَ الجيشُ الصوماليُ بعدَ فترةٍ أن يتولىَ مهامهُ في المنطقةِ وتزدادُ قدراتهُ على مكافحةِ الإرهابِ واحتواءِ التوتراتِ القبليةِ والعشائريةِ لمنعِ حدوثِ حربٍ أهليةٍ مرةً أخرىَ.
كما ستعودُ هذهِ الاتفاقيةُ بفوائدَ اقتصاديةِ هائلةٍ لكلا الجانبين، حيث ستمنحُ لتركيا القدرةَ على الاستفادةِ من الثرواتِ الموجودةِ في الصومالِ وستمنحُ لها تواجدًا قويًا في المنطقةِ كفاعلٍ نشطٍ ومهيمنٍ، كمَا ستسمحُ لها بالتنافسِ معَ القوى الإقليميةِ الموجودةِ في المنطقةِ.
الخاتمة:
عندَ النظرِ في تحركاتِ تركيَا في إفريقِيا، وبشكلٍ خاصٍ في الصومالِ، نجدُ أنَّ الوضعَ يتماشىَ معَ سياسةِ أردوغانَ في تحسينِ العلاقاتِ الخارجية، بل وفي خلقِ علاقاتٍ جديدةٍ، حيثُ تسعى تركيا إلى توسيعِ نفوذِها في القارةِ الإفريقية، ليسَ كمحاولةٍ لإحياءِ الدولةِ أو الدورِ العثماني، بل كوسيلةٍ لتكونَ دولةً رائدةً في أكثرَ من إقليم. ورغمَ وجودِ مشكلاتٍ وتحدياتٍ لهَا في منطقةِ شرقِ المتوسطِ، وكذلكَ تعثرُ محاولاتهِا في الانضمامِ إلى الاتحادِ الأوروبيِ، إلا أنها تسعىَ إلى خلقِ مناطقَ نفوذٍ جديدةٍ تحققُ منها مكاسبَ تعويضيةً. كذلكَ، تحاولُ تركيا أيضًا إثبات نفوذها في وجودِ قوىً منافسةٍ لهَا في إفريقيا، مثلَ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ وفرنسا والصين والإمارات.
كما أنَّ توطيدَ علاقاتهِا معَ الصومالِ سيعودُ عليها بمنافعَ اقتصاديةٍ كبيرةٍ، ويخلقُ لها فرصةً للتواجدِ والتحركِ في المنطقةِ. وبشكلٍ عامٍ، لا يُعتبرُ تقديمُ المساعدةِ للصومالِ وتحقيقُ الاستقرارِ بها الدافعَ الوحيدَ لتركيا، بل في الأساسِ هو تحقيقُ مصالحِها الوطنيةِ تحتَ ستارِ تقديمِ المساعداتِ والدعمِ العسكريِ والإنسانيِ.
بالنهايةِ، تعتبرُ العلاقاتُ التركيةُ الصوماليةُ نموذجًا لعلاقاتٍ استراتيجيةٍ متناميةٍ بين دولةٍ إقليميةٍ ناشئةٍ ودولةٍ إفريقيةٍ تسعىَ إلى تحقيقِ الاستقرارِ والتنميةِ، وتظهرُ هذه العلاقاتُ قدرةَ تركيا على لَعِبِ دورٍ فاعلٍ في القارةِ الإفريقيةِ، وتعزيزِ مكانتِها كلاعبٍ إقليميٍ ودوليٍ مهمٍ.
المصادر:
[1] Fekade Terefe and Mulugeta Tesfaye, Militarisation of the Horn of Africa and what this means for regional security, Good Governance Africa, 2023, Militarisation of the Horn of Africa and what this means for regional security | Good Governance Africa (gga.org), Access May 15, 2024.
[2] أحمد سلطان، توقعات وانعكاسات مختلفة: اتفاقية التعاون في مجال الطاقة بين الصومال وتركيا، المرصد المصري، 28 أبريل 2024، توقعات وانعكاسات مختلفة: اتفاقية التعاون في مجال الطاقة بين الصومال وتركيا – المرصد (ecss.com.eg)، تاريخ الدخول 12 مايو 2024.
[3] اكرام زيادة، أهمية باب المندب والقرن الإفريقي خلال الحروب والنزاعات الدولية، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، أكتوبر 2023، أمن دولي ـ أهمية باب المندب والقرن الإفريقي خلال الحروب والنزاعات الدولية – المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات (europarabct.com)، تاريخ الدخول 12 مايو 2024.
[4] رأفت صلاح الدين، الأهمية الجيواستراتيجية للقرن الأفريقي، مجلة البيان، أكتوبر 2011، الأهمية الجيواستراتيجية للقرن الإفريقي (albayan.co.uk)، تاريخ الدخول 12 مايو 2024.
[5] دريسي حنان، التوجه التركي نحو إفريقيا؛ المحددات والتحديات، مجلة الواحات للبحوث والدراسات، 2021، https://www.asjp.cerist.dz/en/PresentationRevue/2 ، تاريخ الدخول 14 مايو 2024.
[6] Kateřina Rudincová, new player on the scene: Turkish engagement in Africa, Bulletin of Geography. Socio-economic Series, 2013, (9) New Player on the Scene: Turkish Engagement in Africa | Katerina Rudincova – Academia.edu , p198. Access 13 May 14, 2024.
[7] ” االعلاقاات التركية مع الدول الإفريقية، وزارة الخارجية الجمهورية التركية،
[8] د.شيرين مبارك فضل، السعي نحو تحقيق مصالح استراتيجية واقتصادية العلاقات التركية – الصومالية “نموذجًا 2011-2017، مجلة كلية اللغة العربية بإيتاي البارود، العدد 34، ص. 3209 وما بعدها
[9] المرجع السابق، ص. 3216.
[10] آدم شيخ حسن، العلاقات الصومالية التركية وتأثيرها على مسيرة السلام والتنمية في الصومال، مركز الصومال للبحوث ودراسة السياسات، 2020، الفيدرالية في الصومال.. الجدل القائم وجذور المشكلة (somaliacenter.com)، ص 4.
[11] ” دعم مقديشو: أبعاد االتفاق اإلطاري الدفاعي بين تركيا والصومال”، إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 2024، article21707838720764.pdf (dd8tm5zo9pl5p.cloudfront.net)، ص .4.
[12] زاك فيرتن، تركيا والوضع الجديد في أفريقيا: مخطّطات عثمانية أم مخاوف غير مبرّرة؟، Brookings، 2019، تركيا والوضع الجديد في أفريقيا: مخطّطات عثمانية أم مخاوف غير مبرّرة؟ | Brookings، تاريخ الدخول 13 مايو 2024.
[13] دوافع تأسيس تركيا قاعدة عسكرية في الصومال”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبريل 2017. مركز المستقبل – دوافع تأسيس تركيا قاعدة عسكرية في الصومال (futureuae.com) تاريخ الدخول 13 مايو 2024.
[14] إبراهيم الاجوز، الاتفاق البحري بين تركيا والصومال و أهميته للقرن الإفريقي، TRT عربي، أبريل 2024، الاتفاق البحري بين تركيا والصومال وأهميته للقرن الإفريقي (trtarabi.com)، تاريخ الدخول 13 مايو 2024.
[15] الاتفاقية العسكرية بين تركيا والصومال: مُجازَفَة محسوبة أم خطوة نحو المجهول؟، مركز الإمارات للسياسات، 2024، مركز الإمارات للسياسات | الاتفاقية العسكرية بين تركيا والصومال: مُجازَفَة محسوبة أم خطوة نحو المجهول؟ (epc.ae)، تاريخ الدخول 14 مايو 2024.