وجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في يوم الجمعة المُوافق 10 أكتوبر الجاري مُستشاريه للاستعداد لاحتمال حلّ الكنيست والدعوة إلى عقْدِ انتخاباتٍ مُبكرةٍ[1]، وقد جاء ذلك في أعقاب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، الذي جاء بموجب مُقترح الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، بين إسرائيل وحركة حماس بوساطةٍ مصريةٍ–قطرية–تركية، وما تلاه من توقيع اتفاق السلام في قمة شرم الشيخ، ومن ثَمَّ الشروع في تنفيذ المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى، ومن هنا؛ دخلَ المشهدُ السياسيُ الإسرائيلي مرحلةً دقيقةً تتسم بالاضطراب والترقّب، فقد أفرزتْ التطوراتُ الأخيرةُ حالةً من السيولة داخل مُعسكر اليمين، انعكست في تراجع نفوذ بعض الأحزاب الدينية والقومية المُتشددة، مُقابل مُحاولة حزب “الليكود” استعادة موقعه القيادي في المشهد السياسي، في خطوةٍ تعكس سعيه الواضح لإعادة التموضع السياسي وتثبيت أركان حكمه بعد عامين من الضغط العسكري والدبلوماسي، وبينما تُظهرُ استطلاعاتُ الرأي، مثل تلك التي نشرتها صحيفة “معاريف”، تحسّنًا نسبيًا في شعبية “الليكود” مُقابل تراجع أحزابٍ أخرى في الائتلاف، أبرزها “عظمة يهودية” برئاسة “إيتمار بن غفير”، فهذا يُثير التساؤل حول ما إذا كان نتنياهو يسعى لاستثمار لحظة الهدوء النسبي بعد حرب غزة لتجديد شرعيته السياسية وإعادة تشكيل التوازنات من جديد داخل اليمين الإسرائيلي.
أولًا: المشهد العام في الداخل الإسرائيلي جراء حرب غزة
أفرزت حرب غزة أطول وأعمق الأزمات في تاريخ إسرائيل الحديث، إذ لم تكنْ مُجرد حربٍ عسكريةٍ، بل نقطة تحوّل وجوديةٍ أعادت صياغة الداخل الإسرائيلي سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وذلك على النحو الآتي:
1- تعمّق الانقسام السياسي-الحزبي والاجتماعي: أحدثت حرب غزة التي استمرت لعامين شرخًا غير مسبوق في البنية السياسية وبالأخص على المستوى الحزبي والاجتماعي داخل إسرائيل، إذ تجاوز الانقسام القائم حدود الخلاف الحزبي التقليدي ليصبحَ انقسامًا وجوديًا حول هوية الدولة ومُستقبلها، فقد أعادت الحرب إحياء التصدّعات القديمة بين اليمين واليسار، والعلمانيين والمتدينين، والمركز والأطراف، لكن في سياق أكثر حدّة وتهديدًا لاستقرار النظام السياسي. انقلبت حالة “الوحدة الوطنية” التي سادت عقب عملية طوفان الأقصى إلى حالةِ استقطابٍ عميقٍ مع تآكل الثقة المتبادلة بين القوى السياسية، كما زادت الاتهامات بين مؤيدي نتنياهو وخصومه بأن الاحتجاجات ضد التعديلات القضائية قبل الحرب أضعفت إسرائيل أمام “حماس”، بينما اتهمت المعارضة نتنياهو بالتقاعس عن منْعِ الهجوم، وتجاهله تحذيرات الأجهزة الأمنية. هذا التراشقُ الاتّهاميُ حوّل النقاش السياسي إلى معركةٍ وجوديةٍ حول “من خان الدولة”، وأنتج خطابًا سياسيًا مشحونًا ولغةً إقصائيةً تجعل من الداخل الإسرائيلي نظامًا هشًا.
2- صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف ذو النزعة المليشيويّة: ساهمت الحرب الطويلة في غزة في إضعاف مركزية الدولة واحتكارها للعنف المشروع، إذ شهدت إسرائيل تنامي ظاهرة الميليشيات اليمينية، لاسيّما في الضفة الغربية. تشكّلت مجموعاتٌ مسلحةٌ مرتبطةٌ باليمين الديني الاستيطاني، مارست العنف ضد الفلسطينيين وضد المتظاهرين الإسرائيليين المعارضين للحكومة. الخطير في هذه الظاهرة أن بعض الوزراء، مثل إيتمار بن غفير، قدّموا غطاءً سياسيًا لها، بينما تراجعت قدرة الجيش على فرض الانضباط داخل صفوفه بسبب تغلغل الولاءات الأيديولوجية.[2]
3- تصاعد التصدع الديني–العلماني: كشفت الحرب عن عمق الأزمة البنيوية بين التيارات الدينية والعلمانية في إسرائيل، خصوصًا فيما يتعلق بملف الخدمة العسكرية. إذ تحوّلت قضية “من يخدم ومن يُعفى” من مسألة مساواة مدنية إلى قضيةِ حياةٍ وموت بعد سقوط آلاف القتلى في جبهات القتال. ومع ازدياد النفوذ السياسي للأحزاب الحريدية داخل الحكومة، تعمّق شعور السخَطِ لدى الطبقات العاملة والعلمانية التي رأت أن المتدينين يجنون امتيازاتٍ دون المشاركة في أعباء الدولة الأمنية والاقتصادية. تحوّل هذا التوتر إلى أزمةٍ وطنيةٍ تهدد وحدة المجتمع الإسرائيلي[3]، حيث لم تعدْ المطالبةُ بإلزام المتدينين بالخدمة العسكرية قضيةً سياسيةً قابلةً للتسوية، بل معركةً حول العدالة والمواطنة المتساوية. ويُتوقع أن يشكّل هذا الملف أحد أبرز مُحدداتٍ مستقبل الدولة وقوانينها في مرحلة ما بعد الحرب.
4- التدهور الاقتصادي وهجرة النخب: ألحقت الحرب ضررًا بالغًا بالاقتصاد الإسرائيلي، الذي شهد ركودًا حادًا وتراجعًا في النمو، حيث تجاوزت الخسائر الاقتصادية المباشرة 60 مليار دولار، مع تقديراتٍ إسرائيليةٍ أخرى ترجّح أن الرقمَ الحقيقيَ أكبر من ذلك بكثير، نتيجة امتداد تأثيرات الحرب إلى قطاعات رئيسية مثل العقارات، والتوظيف، والصناعة، وأدّى طول أمد الحرب إلى هجرة أكثر من 83 ألف إسرائيلي في عام واحد، معظمهم من النُّخبِ الشابة المتعلمة العاملة في قطاع التكنولوجيا. كما شهد قطاع الهايتك، الذي يمثّل 18% من الاقتصاد الإسرائيلي، أزمة غير مسبوقة تمثّلت في نقل أنشطة البحث والتطوير إلى الخارج، وتراجع عدد الشركات الناشئة[4]. هذا التراجعُ لا يُعدّ اقتصاديًا فحسب، بل يمسّ أحد رموز “القوة الناعمة” لإسرائيل في مجالات الابتكار والتقدم العلمي.
وبالنظر إلى هذا السياق العام، يُمكن القول بأنه على الصعيد الأول أدّت الحرب الإسرائيلية على غزة إلى تفكّكِ منظومةِ الإجماع الوطني التي كانت تُعدّ مصدر قوة للدولة، ومع أن إسرائيل نجحت في بعض المكاسب العسكرية، إلا أن كُلفةَ الحرب داخليًا تبدو أثقلَ بكثيرٍ من أي إنجازٍ استراتيجيٍ، ما يجعل مرحلة ما بعد الحرب اختبارًا حقيقيًا لقدرة إسرائيل على إعادة بناء نفسها كدولةٍ ومجتمع، لكن على الصعيد الآخر شكّل اتفاق وقْفِ إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس برعايةٍ أمريكيةٍ لحظةً فاصلةً في هذا المشهد الإسرائيلي الداخلي، إذ لم يكن مُجرد نهاية مؤقتة لحرب استنزاف طويلة على غزة، بل نقطة انطلاق لتحولاتٍ داخليةٍ عميقةٍ أعادت خلط الأوراق داخل النظام السياسي الإسرائيلي، حيث برزتْ إلى السطح تداعياتٌ داخليةٌ واسعةٌ مسّت بنية الائتلاف الحاكم، كما أعادت تشكيل المزاج الشعبي تجاه السلطة الحاكمة، وعلى رأسها حزب الليكود وزعيمه بنيامين نتنياهو.
ثانيًا: الحكومة الإسرائيلية بعد التهدئة: إعادة تشكّل الداخل وتحوّل موازين القوى السياسية
أعاد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس رسْمَ المشهد الداخلي الإسرائيلي، كاشفًا عن تحولاتٍ عميقةٍ في موازين القوى داخل الحكومة الإسرائيلية على النحو الآتي:
1- إعادة توزيع القوة داخل الأحزاب الإسرائيلية: أظهر استطلاعٌ للرأي نشرته صحيفة “معاريف” أن الليكود استعاد بعضًا من قوته الانتخابية بعد تراجع طويل خلال الحرب، إذ حصل على 27 مقعدًا بزيادة مقعدين عن الاستطلاع السابق، بينما تراجع حزب “عظمة يهودية” بقيادة إيتمار بن غفير إلى 6 مقاعد فقط. كما شهد حزب نفتالي بينيت أدنى تمثيلٍ له منذ دخوله الحياة السياسية (19 مقعدًا)، ما يشير إلى تراجع الثقة داخل القاعدة اليمينية المُتشددة ،[5]هذا التحولُ العدديُ في استطلاعات الرأي يعكسُ تحولاتٍ أعمق في المزاج الشعبي الإسرائيلي؛ فبينما ينظر بعض الإسرائيليين إلى اتفاق وقف إطلاق النار على أنه انتصارٌ تكتيكيٌ مؤقتٌ سمح بعودة الأسرى، يراه آخرون تنازلًا سياسيًا يعكس ضعف الحكومة في فرض شروطها. وبالتالي، تعكسُ النتائجُ حالةً من الاستقطاب السياسي المتزايد التي قد تُفضي إلى انقساماتٍ حادّةٍ داخل اليمين ذاته، خاصةً بين التيارات الدينية والقومية المتشددة.
2- مأزق نتنياهو ومحاولته لإعادة التموضع: يسعى نتنياهو إلى استثمار الزخم الشعبي المؤقت الناتج عن صفقة تبادل الأسرى، محاولًا ترميم صورته التي تضررت خلال الحرب، وإعادةَ بناء الثقة داخل حزب الليكود، حيث إنه بدأت تحركاتٌ داخليةٌ مبكّرةٌ للتحضير لانتخاباتٍ داخليةٍ على زعامة الحزب، كخطوةٍ تمهيديةٍ لتبكير الانتخابات العامة. التحليل السياسي لهذا التحرك يُظهر أن نتنياهو يدرك أن التحولات داخل اليمين لا تصبُّ كلها في صالحه، وأن هناك منافسين محتملين ينتظرون لحظة الضعف لتقويض قيادته. لذا، فإن تبكير الانتخابات داخل الحزب ليس فقط خطوةً تنظيميةً، بل مناورة سياسية تهدف لتجديد شرعيته الداخلية ومنحه تفويضًا جديدًا لمواجهة الضغوط الائتلافية المتصاعدة. وفي المقابل، تراهن المعارضة على أن اتفاق وقف إطلاق النار لن يُترجمَ بالضرورة إلى مكاسبَ انتخابيةٍ طويلة الأمد، وأن تحديات ما بعد الحرب –من ميزانية الدولة إلى أزمة الثقة– ستقوض أي محاولة لنتنياهو لاستعادة توازنه.
3- الليكود بين استعادة الزخم وتآكل القيادة: تُظهر التطورات الأخيرة أن حزب الليكود يعيشُ مرحلةً دقيقةً من إعادة التوازن الداخلي بين دعم القاعدة التقليدية لنتنياهو ومخاوف القيادات الوسطى من استمرار الاعتماد على “الشرعية الكاريزمية” لزعيم الحزب. فاستعادة الحزب لبعض من زخمه الانتخابي عقب اتفاق وقف إطلاق النار لا تعني بالضرورة استقرارًا سياسيًا طويل الأمد؛ بل تعكس تصويتًا عاطفيًا مؤقتًا لصالح نتنياهو بصفته “المنقذ” من مأزق الحرب، لا بصفته قائدًا مستقبليًا. ويُلاحظ أن الحزب يعاني من تراجع حيويته التنظيمية وظهورِ تياراتٍ داخليةٍ تطالب بتجديد القيادة وتبني خطاب أكثر واقعية في التعامل مع قضايا الأمن والسلام. كما أن الضغوطَ القضائيةَ المستمرة على نتنياهو، خاصةً ملف المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم الحرب في غزة، قد تشكل عامل تهديد لبقاء الحزب موحدًا، خصوصًا في حال تزايد الأصوات المطالبة بفصْل مستقبل الليكود عن مصير زعيمه. ومن ثمَّ، فإن مستقبل الليكود في مرحلة ما بعد الحرب مرهون بقدرته على التحول من حزب زعيم إلى حزب مؤسسات، قادر على بلورة رؤية وطنية جديدة تتجاوز حدود الولاء الشخصي، وتعالج التصدعات بين جناحي اليمين القومي والديني.
4- هشاشة الائتلاف وأزمة الميزانية القادمة: تتزامن هذه التحركات السياسية مع ضبابيةٍ اقتصاديةٍ متزايدة، إذ تشير التقديرات إلى أن الحكومة قد تواجهُ صعوبةً كبيرةً في إقرار ميزانية عام 2026، لا سيَّما في ظلّ الانقسام حول أولويات الإنفاق بعد الحرب. وزارة المالية لم تبدأ بعد في إعداد الموازنة[6]، وهو ما يُنذر بأزمةٍ ائتلافيةٍ قد تتفاقم مع نهاية مارس المُقبل، مما يهدّدُ بحلِّ الكنيست والدعوة إلى انتخاباتٍ مبكرةٍ. هذه الأزمةُ ليست جديدةً في تاريخ الحكومات الإسرائيلية، لكنها اليوم أكثر تعقيدًا بسبب تآكل الثقة بين مكونات الائتلاف وغياب رؤية اقتصادية مشتركة لإدارة مرحلة ما بعد الحرب. إضافةً إلى ذلك، فإن تكلفة الحرب الأخيرة على غزة، وما طلبته من نفقاتٍ عسكريةٍ ضخمةٍ وتعويضاتٍ داخلية، خلقتْ فجوةً ماليةً واسعةً في الموازنة العامة، ما يجعل من الصعب على الحكومة الحفاظ على تماسكها في ظل ضغط الشارع والبرلمان معًا.
5- توازنات جديدة بين المعارضة والحريديم: في ظل هذا التراجع اليميني، حافظت الأحزاب الحريدية (الدينية المتشددة) على كتلتها الانتخابية المستقرة، ما يجعلها عاملَ توازنٍ رئيسيٍ في أي تحالفٍ سياسيٍ قادمٍ. فبفضل قاعدتها العقائدية الثابتة، ظلت هذه الأحزاب بعيدة عن تأثيرات الحرب السياسية المباشرة، مما يزيد من أهميتها كـ”بيضة القبان” في تشكيل أي حكومة مستقبلية.
في المقابل، شهد حزب “هناك مستقبل” بقيادة يائير لبيد ارتفاعًا إلى 10 مقاعد في الاستطلاع الأخير، وهو ما عُزي إلى موقفه الداعم للتهدئة وتبادل الأسرى. هذا الارتفاعُ يُعبّر عن تنامي التيار البراغماتي داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي بات يفضل الواقعية السياسية على شعارات الردع والقوة[7] ،وبذلك، يمكن القول إن ما بعد وقْف إطلاق النار فتحَ المجالَ أمام إعادة توزيع الأدوار السياسية، حيث باتت المعارضةُ قادرةً على استغلال التصدعات داخل اليمين لتوسيع حضورها السياسي والإعلامي، بينما تحاول الأحزاب الدينية تعزيز نفوذها مقابل تراجع الأحزاب القومية المُتشددة.
ومن هنا، تتجّه إسرائيل اليوم نحو مرحلةٍ انتقاليةٍ دقيقة، تتقاطع فيها الحسابات الحزبية مع التحديات الأمنية والاجتماعية. فحرب غزة لم تنتهِ فعليًا في الوعي الإسرائيلي، بل تحولت إلى أزمةٍ سياسيةٍ متواصلة عنوانها “من يتحمل مسؤولية الفشل؟”. وفي ظل الانقسام الحاد بين دعاة الاستقرار ودعاة المواجهة، يسعى نتنياهو إلى تحويل إنجاز صفقة الأسرى إلى رافعةٍ انتخابيةٍ تمكّنه من الحفاظ على زعامته. إلا أن خصومه، في الداخل والخارج، يعتبرون أن هذه الخطوة ليست سوى محاولة للهروب من المساءلة، من هذا المنظور، فإن اتفاق وقف إطلاق النار لم يكنْ نهايةً لصراعٍ عسكريٍ فحسب، بل بداية لصراع سياسي داخلي أكثر حدّةً وتعقيدًا، يعكس عمق الانقسام في المجتمع الإسرائيلي، ويؤشر إلى مرحلةٍ من إعادة التشكل الداخلي قد تعيد رسم مُستقبل النظام السياسي برمّتهٌ.
ثالثًا: المسارات المُحتملة أمام حكومة نتنياهو بعد اتفاق غزة
بالنظر إلى هذا المشهد المُربك، تتبلور ثلاثة مسارات رئيسية يمكن أن تحدد ملامح مستقبل نتنياهو السياسي خلال الأشهر المقبلة، تختلف في دوافعها واحتمالات تحققها، لكنها جميعًا تدور حول سؤالٍ واحدٍ: هل يتمكن نتنياهو من تحويل اتفاق غزة إلى نقطةِ انطلاقٍ جديدةٍ، أم يصبح بداية النهاية لحقبته السياسية؟
1- المسار الأول: انهيار الائتلاف الحاكم والدفع نحو انتخابات مُبكرة(الأكثر ترجيحًا على المدى القصير)
يتصل هذا المسار بواقعٍ أكثر اضطرابًا، حيث يتزايد خطر تفكّكِ الائتلاف الحاكم نتيجة تصاعد الخلافات بين مكوّناته، لا سيَّما بعد إعلان وزيري المالية والأمن القومي، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، معارضتهما الصريحة لاتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، معتبرين الصفقة “تنازلًا مهينًا” و“إضعافًا لموقف الردع الإسرائيلي”. هذا التململُ داخل اليمين الديني القومي يهدد بفقدان الحكومة لأغلبيتها في الكنيست، ما يعني سقوطها التلقائي والذهاب إلى انتخاباتٍ مبكرةٍ، وفي حال تحقق هذا السيناريو، فإن إسرائيل ستدخل مرحلةً جديدةً من إعادة رسْمِ الخريطة الحزبية، يحاول فيها نتنياهو تعزيز شرعيته من جديد، وبالأخص بعد أن دعا الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الرئيس الإسرائيلي “إسحاق هرتسوغ” إلى منْحِ نتنياهو “عفوًا رئاسيًا فوريًا”، مُعتبرًا أنه “بطلٌ يستحق التكريم لا المحاكمة”[8]، لكن هذه الانتخابات المُبكرة قد تنتهي بعودة نتنياهو بائتلافٍ أضعف أو بإقصائه نهائيًا من المشهد السياسي. تاريخيًا، لطالما استخدم نتنياهو الانتخابات كأداةٍ للهروب إلى الأمام، لكن المزاج العام الإسرائيلي بعد الحرب يتّسم بالتعب والشك، ما يجعل نتائجَ أي انتخاباتٍ جديدةٍ محفوفة بالمخاطر.
2- المسار الثاني: تعزيز الزعامة من داخل الليكود ( الأقل ترجيحًا في الوقت الراهن)
يتمثّل هذا المسار في سعي نتنياهو إلى تحصين موقعه القيادي داخليًا عبر انتخاباتٍ تمهيديةٍ سريعةٍ داخل حزب الليكود، يستغل فيها ما تبقى من رصيده الشعبي بعد صفقة تبادل الأسرى. فقد كلّف وزير السياحة حاييم كاتس بدراسة الأُطر القانونية والتنظيمية لتسريع العملية الانتخابية، في محاولةٍ لقطْعِ الطريق على أي منافسين محتملين داخل الحزب، وترسيخ صورته باعتباره “رجل الدولة الذي أعاد الأسرى وحقق التهدئة”، إذ أنه كما سبق الإشارة أن الليكود لا يزال في الصدارة بـ28 مقعدًا، وهو ما يمنح نتنياهو مساحةً للمناورة داخل حزبه، رغم أن شعبيته الشخصية تظل أدنى من مستوياتها قبل الحرب. هذا المسار يُمكّنه من كسْبِ الوقت وترميم التحالفات، وربما استخدام فوزه الداخلي لتبرير بقائه في السلطة حتى نهاية الدورة البرلمانية. ومع ذلك، فإن نجاحه في هذا المسار يظل رهينًا بقدرته على ضبط توازنات اليمين المتشدد واحتواء الغضب الشعبي تجاه التكلفة الباهظة للحرب، وهو ما يُعتبر الأقل ترجيحًا في الأفق الراهن.
3- المسار الثالث: تجديد الصراع كوسيلة للبقاء (محدود على المدى القريب لكنه يظل ورقة مُحتملة)
في حال شعر نتنياهو بأن حظوظه الانتخابية تتراجع أو أن تحالفَه الائتلافيَ على وشك الانهيار، قد يلجأ إلى استراتيجية البقاء عبر تجديد الصراع، من خلال استثمار أي إخفاقٍ في تنفيذ بنود اتفاق وقْفِ إطلاق النار أو أي خروقاتٍ ميدانيةٍ لخلْقِ مبررٍ أمنيٍ يعيد توحيد الداخل حوله. يعتمد هذا المسار على تكتيكٍ قديمٍ في مدرسة نتنياهو السياسية: تأجيل الأزمات الداخلية عبر خلْقِ تهديدٍ خارجيٍ، سواء من غزة أو لبنان أو إيران، لتبرير تمديد حالة الطوارئ وتعليق الاستحقاقات السياسية. هذا الخيارُ يمنحه وقتًا إضافيًا لإعادة التموضع، لكنه محفوفٌ بالمخاطر، إذ قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب يفاقم عزلة إسرائيل الدولية والإقليمية ويضعها في موقفٍ حَرجٍ بالأخص بعد قمة شرم الشيخ للسلام، كما أن المجتمع الإسرائيلي المنهك من الحرب قد لا يتقبل بسهولة مغامرةً عسكريةً جديدةً تستنزفه اقتصاديًا، ولذلك يُعد هذا المسار محدودًا على المدى القريب لكنه يظل ورقةً مُحتملةً خصوصًا إذا ما حدث تعثّرٌ في المراحل اللاحقة لاتفاق وقف إطلاق النار.
في المُحصلة، يبدو أن مُستقبل نتنياهو وحكومته يقف على خيطٍ دقيق بين الشرعية السياسية والنجاة الشخصية، في مرحلةٍ ضبابيةٍ مُعقّدة تجمع بين تفكّك التحالفات، وضغط الشارع، والتهديد القضائي المُتصاعد، حيث إنّ استمرار تفاقم الانقسامات داخل اليمين، وتراجع الثقة الشعبية في مؤسسات الحكم بعد حرب غزة، يدفع باتجاه مرحلةٍ انتقاليةٍ قد تُعيد رسْمَ موازين القوة داخل الحكومة الإسرائيلية بأكملها، ومن هنا، فإن المعطيات الراهنة تشير إلى تراجع فعاليته في إدارة الأزمات مقارنة بالمراحل السابقة من حكمه. فالدعوةُ إلى انتخاباتٍ مبكرةٍ ليست سلوكًا جديدًا في نهجه السياسي، إذ لجأ إليها ما يقارب خمس مرات سابقًا كآلية لتجديد شرعيته أو تجاوز أزمات ائتلافية. غير أنّ السياق الحالي يختلف جذريًا؛ وبالتالي باتت الحكومة الإسرائيلية بحاجةٍ إلى إعادة صياغة بنيتها القيادية والسياسية بما يتجاوز شخصَه ويستجيب لمتطلّباتِ مرحلة ما بعد الحرب.
المصادر:
[1] نتنياهو يأمر مستشاريه بالاستعداد للانتخابات، صحيفة الشرق الأوسط، تاريخ النشر: ١٠ أكتوبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/vMvVN
[2] مهند مصطفى، تحلل “الدولتية” وتعميق “المليشياوية”.. الخطر الوجودي على إسرائيل، الجزيرة نت، تاريخ النشر: ٥ أغسطس ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://url-shortener.me/7C80
[3] رضوى الشريف، أثر انسحاب الأحزاب الحريدية على استقرار حكومة نتنياهو، مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية (الشرق الأوسط وأفريقيا)، تاريخ النشر: ١٦ أغسطس ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://share.google/xGL99xXIItxE3LG2R
[4] محمد وتد، ثمن باهظ دفعه الاقتصاد الإسرائيلي خلال سنتين من حرب غزة، الجزيرة نت، تاريخ النشر: ٧ أكتوبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://share.google/RfghO8y3wTHCTX1V7
[5] محمد وتد، نتنياهو يتحرك لتثبيت مكانته قبيل “تبكير” محتمل للانتخابات بإسرائيل، الجزيرة نت، تاريخ النشر: ١١ أكتوبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://share.google/eqhPpV75bwLEazK9d
[7] Netanyahu’s Likud enjoys slight bump in support on heels of Gaza deal, poll shows, The Times of Israel, published at: 10 October 2025, available at: https://share.google/ihHOmVy1RHtLwWrUl
