المقالات
زخم “غير حقيقي” حول أفريقيا
- أكتوبر 10, 2024
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الدراسات الأفريقية
إعداد/ مصطفى مقلد
باحث في العلوم السياسية
مقدمة:
في وقت تستعر فيه المنافسة بين القوى الكبرى، تبدو أفريقيا مصدر مهم للموارد تسعي تلك القوى للإقتباس منها، وهو ما بدا وكأن أفريقيا ستصير في قلب وعقل العالم، وستُمنح أفريقيا الفرصة -بسبب تلك المستجدات- لأن تساوم بما تمتلكه من موارد لتأخذ ما تريده وتحتاجه من تنمية حقيقية تنعش آمالها وطموحاتها، لكن هنا من المهم التمييز بين الاهتمام بأفريقيا كساحة جيوسياسية مهمة تتنافس عليها الدول الكبري ضمن صراعهم الأكبر، وبين الاهتمام بأفريقيا وقضاياها وتطلعاتها عبر علاقات سياسية واقتصادية تخدم المصالح المتبادلة، والواقع أن المسار الأول هو المهيمن على العلاقات مع أفريقيا، فالتعهدات بدعم أفريقيا كثيرة لكن الواقع الملموس لا يعكس ذلك.
أزمة الديون الأفريقية
وصل الدين العام العالمى إلى 92 تريليون دولار أمريكى فى عام 2022، وتدين البلدان النامية بنحو 30% من إجمالى الديون[1]، ففي استجابة للانكماش الاقتصادي الذي عجلت به جائحة كوفيد-19، قامت الحكومات بزيادة نفقاتها لمواجهة حالات الطوارئ الإنسانية والصحية
وتزامن ذلك مع انخفاض الإيرادات الحكومية وصدمات العرض والطلب العالميين، ونتيجة لذلك، ارتفعت مستويات الديون السيادية بشكل كبير في جميع أنحاء العالم وخاصة في أفريقيا، حيث أصبحت مدفوعات الفائدة على الديون الخارجية واحدة من أكبر بنود الإنفاق في الميزانيات الوطنية.
بالإضافة إلى تدفقات رأس المال واسعة النطاق إلى الخارج نتيجة لدورة تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي التي بدأت مع اندلاع الحرب الأوكرانية فبراير 2022، فإن الارتفاع الحاد في قيمة الدولار مقابل العملات الأفريقية أدى إلى زيادة كبيرة في تكاليف خدمة الديون الخارجية في جميع أنحاء المنطقة، ووفقا لتقرير صادر عن البنك الدولي عن الديون الدولية، أنفقت البلدان الأفريقية رقما قياسيا قدره 112.3 مليار دولار لخدمة ديونها الخارجية في عام 2022.
وتقترض الدول الأفريقية في المتوسط بمعدلات فائدة أعلى بنحو أربعة أضعاف من نظيراتها في الولايات المتحدة، وأعلى بنحو ثمانية أضعاف من نظيراتها في ألمانيا، وبما أن مدفوعات الفائدة أصبحت واحدة من أكبر بنود الإنفاق في الميزانيات الوطنية، فقد اضطرت الحكومات إلى تقليص النفقات الرئيسية الأخرى، بما في ذلك مبادرات الاستثمار الاجتماعي، ما يعني تفاقم معدلات البطالة والفقر، وتباطؤ النمو وتنويع مصادره، بالتالي إضعاف قدرة أفريقيا على الاستجابة لحالات الطوارئ، مثل التصدي لتغير المناخ[2]، وتؤدي هذه التفاوتات إلى ظهور تحديات عالمية، مثل الهجرة والارهاب.
وفي غياب إصلاح كبير للنظام المالي الدولي يعزز المساواة في الوصول إلى التمويل بأسعار معقولة، تستمر محدودية فرص الحصول على التمويل، وارتفاع تكاليف الاقتراض، ما أدى إلى إخضاع الدول والشركات الأفريقية لمعدلات اقتراض ساحقة للنمو، وقد أدى هذا إلى إعاقة الجهود الحكومية لحشد الاستثمار الخاص لتعزيز أسس القدرة على تحمل المالية العامة والقدرة على تحمل الديون[3]، وخاصة في قارة ظل رجال الأعمال لفترة طويلة يشيرون إلى العجز المزمن في البنية الأساسية باعتباره عائقا رئيسيا أمام النمو.
وتحتفظ الصين بحوالي 60% من ديون البلدان الأفريقية، وبالتالي فهي المستثمر الرائد
في القارة، لكنها لا تشارك إلا قليلاً في التمويل المتعدد الأطراف، الذي يمثل حصة كبيرة
من التدفقات المالية إلى أفريقيا، وخاصة التدفقات السيادية، إذ تمتلك الصين 6% فقط من الديون السيادية، وفي سبتمبر الماضي، تجاهل “شي جين بينج” الدعوات المطالبة بتقديم مساعدات إضافية في إعادة الهيكلة للمقترضين الأفارقة المثقلين بالديون.
تراجع التمويل
بلغ التمويل الصيني لأفريقيا ذروته في عام 2016 عند 30 مليار دولار، لكنها انخفضت بعد ذلك بشكل حاد حيث تسبب الانكماش الاقتصادي في أعقاب الوباء، إلى جانب انخفاض القدرة التمويلية، في انهيار الاستثمارات المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق، لتنخفض إلى أقل من
5 مليارات دولار في عام 2023. وفي السنوات الأخيرة، كان الدائنون الصينيون أكثر حذرا، مع إيجاد البلدان الأفريقية صعوبة في تلبية أقساط ديونها، فانخفضت القروض الصينية للحكومات الأفريقية إلى أقل من مليار دولار في عام 2022، وفقًا لمركز سياسات التنمية العالمية بجامعة بوسطن.[4]
من ناحية أخرى، اعتبرت بكين العديد من المشاريع غير مدروسة بشكل جيد، على سبيل المثال، تم تعليق بعض مشاريع الموانئ، مثل مشروع باجامويو في تنزانيا في عام 2019، وأعادت تركيز أنشطتها على التجارة والطاقة الشمسية أو التكنولوجيا الرقمية وتفضيل تمويل المشاريع الأصغر حجما، ولكن يمكن اعتبار هذه المشاريع غير متوازنة من حيث المنافع للطرفين، لأنه سيتم بناء الألواح أو البطاريات في الصين، الأمر الذي لن يقلل العجز التجاري للقارة على المدى القصير أو يبدأ عمليات نقل التكنولوجيا أو المهارات.
إن حصة الاستثمار الأجنبي المباشر في أفريقيا من إجمالي التدفقات المالية منخفضة للغاية، وهو ما لا يسمح بتحقيق تنمية صناعية، ولا شك أن القروض الصينية المخصصة لبناء البنية التحتية مفيدة للاقتصادات الأفريقية[5]، ومع ابتعاد الصين عن مشاريع البنية التحتية الأكبر حجما بسبب إعادة تقييم أهدافها وأولوياتها فيما يتعلق بمبادرة الحزام والطريق، فإن حاجة البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى الوصول إلى رأس المال والائتمان لن تختفي.[6]
لذا انطلقت دعوات لتعزيز التعاون “المربح للجانبين” في منتدى التعاون الصيني الأفريقي 2024 فأفريقيا لا تسيطر على أجندة القمة التي وضعتها بكين، ولإحداث تغيير في هيكل التجارة لتوفير فرص العمل وتوليد الاستثمارات في القارة، بما يضمن وضع أفريقيا ضمن سلاسل القيمة، لكن بكين لديها مصلحة في الحفاظ على الوضع الراهن، وفيما تعهد الرئيس الصيني بتوفير نحو 50 مليار دولار بما في ذلك 29 مليار دولار على شكل قروض، و11 مليار دولار على شكل مساعدات، و10 مليارات دولار على شكل استثمارات، وبذلك يزيد عن تعهد الصين بقمة 2021، مما يمثل جهدًا ملحوظًا من جانب الصين تجاه القارة، لكن نظرًا لعدم الإبلاغ عن رصد الالتزامات، فمن المستحيل التحقق مما إذا كانت المبالغ الموعودة قد تم الالتزام بها بالفعل.
على الجانب الأخر وفي ديسمبر 2022، عقد الرئيس الأمريكي جو بايدن النسخة الثانية من قمة قادة الولايات المتحدة الإفريقية بعد غياب 8 سنوات، وتعهدت الولايات المتحدة بتقديم دعم مالي قدره 55 مليار دولار للقارة على مدى السنوات الثلاث اللاحقة لتحقيق أهداف وغايات الاتحاد الأفريقي، على الرغم من تعيين ممثل خاص لدفع التنفيذ، والزيارات رفيعة المستوى اللاحقة لوزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين والمبعوثة الأمريكية لدى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى أفريقيا، ليندا توماس جرينفيلد كجزء من الجهود المبذولة لتكثيف المبادرات تجاه القارة، لكن الالتزامات تبدو متواضعة للغاية في ظل توجيه الدعم الى أوكرانيا وإسرائيل وتايوان.
لكن حتى تلك التعهدات لا تؤدي إلا إلى تعزيز متلازمة التبعية التي اعتادت عليها أفريقيا، لكنها فشلت في التحرر منها، كإرث من الاستعمار.
عدم جدية تمويل المناخ
وفي عام 1992، عُقدت أول معاهدة دولية على الإطلاق لمكافحة تغير المناخ في ريو دي جانيرو، وتم الاتفاق على ضرورة توفير الأموال خاصة للدول النامية لمكافحة تغير المناخ والتخفيف من آثاره فيما عُرف باتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، وساهمت الآليات والأطر اللاحقة في تشكيل وكالة أو نظام تمويل المناخ الذي يشير إلى الأموال المخصصة من قبل الدول الأكثر ثراء والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة لدعم جهود التخفيف من تغير المناخ والتكيف معه من قبل الدول النامية، ويشمل ذلك نقل رأس المال والتكنولوجيا والاستثمارات.
لكن وكالات التمويل – بحكم الأمر الواقع- تعمل لصالح القوى الكبرى، فهي تمنح الأموال كديون بدلاً من المنح مما يؤدي إلى أعباء اقتصادية على الدول النامية، كما أن هذه الأموال تأتي أيضًا بشروط مثل خفض انبعاثاتها الكربونية وبالنسبة للدول النامية فهي تعتمد برامج التنمية وتستخدم الوقود الأحفوري، ما يعني خفض التنمية والصناعات، لكن الدول النامية حريصة على الحصول على مثل هذه الأموال لأنها معرضة لمخاطر المناخ. [7]
وخفض التنمية يعني أن تصنيع السلع سيتأثر بشكل كبير بينما يزداد الاستهلاك، ولملء الفراغ، يزداد الاستيراد من الدول المانحة مما يجعل الدول النامية تابعة وفقيرة.
تشكك حول جدوى ممر لوبيتو
في سبتمبر 2023، أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون مشروع ممر لوبيتو، وهو أول “ممر اقتصادي استراتيجي” تم إطلاقه في إطار شراكة مجموعة السبع للبنية التحتية العالمية والاستثمار، ثم أعلنت الولايات المتحدة، أواخر شهر أغسطس الماضي، استعدادها توسيع مشروع السكة الحديدية الخاص بممر لوبيتو، الذي ينطلق من أنغولا إلى زامبيا مرورا بالكونغو الديمقراطية انتهاء بتنزانيا حزام يربط طرفي القارة، والمشروع يعد أهم تطوير للبنية التحتية ساعدت الولايات المتحدة في تطويره في أفريقية منذ جيل واحد[8]، ليتجدد النقاش حول حرب الممرات التجارية في القارة الإفريقية بين القوى الكبرى.
ويعود إعتزام واشنطن إتمام المشروع إلى الأهمية الإستراتيجية للممر، بهدف بلوغ المعادن النادرة والإستراتيجية، مثل: الكوبالت والنيكل والليثيوم والنحاس في إفريقيا والتي تبقى ضرورية في الصناعات التي تعتمد على التكنولوجيا المكثفة[9]، كما يعتمد الأمن الاقتصادي والقومي للولايات المتحدة على تنويع سلاسل التوريد لهذه المواد المهمة وتقليل اعتماد الغرب على الصين [10]، كذلك يعد المشروع رد أمريكي على مبادرة الحزام والطريق الصينية.
إن أي مبادرة أميركية في أفريقيا من المقدر لها أن تلعب دور اللحاق بمبادرة الحزام والطريق الصينية الأطول أمداً والأكثر شمولاً، ويبدو المشروع تقليد لقواعد اللعبة التي تمارسها الصين، والتي تعترف ضمنيًا بأن واشنطن تتخلف عن بكين فيما يتعلق باستثماراتها في إفريقيا، وبالتالي، فإن مشاركة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في مشروع ممر لوبيتو يشير إلى رغبة واشنطن المتزايدة في استخدام منافسة القوى العظمى كإطار تنظيمي للسياسة الخارجية ويعطي الأولوية لأهداف واشنطن الجيوسياسية، وهذا بدوره يثير العديد من التساؤلات حول فعالية وجدوى “الشراكة المتساوية” التي عبرت عنها إدارة بايدن كجزء من “إعادة ضبط” العلاقات مع الدول الأفريقية.
بذلك تضاعف الولايات المتحدة الجهود التي ينبغي توجيهها نحو مجالات أخرى من شأنها تمكين الحكومات في جميع أنحاء القارة بشكل أفضل من تحقيق أهدافها في مجال التنمية الاجتماعية. وعلى النقيض مما تزعمه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، فإن مشروع لوبيتو لا يخرج عن برامج الاستخراج التقليدية التي تقوم على إزالة كميات كبيرة من الموارد الطبيعية بأقل قدر من المعالجة بغرض التصدير.
إن آثار المشروع على البيئة والمناخ كبيرة، بالنظر إلى التأثير السلبي لاستخراج المعادن الحيوية على المجتمعات والبيئة والأمن، ففي زامبيا مثلا، تشمل آثار التعدين ومعالجة الخامات إزالة الغابات، وتلوث المياه والهواء والتربة والمحاصيل، ويقدم تاريخ تنمية الموارد الطبيعية في القارة العديد من الحكايات المحبطة، ففي كثير من الأحيان أدى استغلال النفط والغاز الطبيعي والماس والأخشاب إلى تغذية الفساد الكبير والدمار البيئي والصراعات العنيفة.
ومع ذلك فإن المشروع الغربي يواجه منافسة شرسة، فمن ناحية أخرى، تتمتع الصين بوصول غير مسبوق إلى الثروة المعدنية الهائلة في أفريقيا، حيث تمتلك الشركات الصينية في جمهورية الكونغو الديمقراطية 72٪ من إجمالي الكوبالت والنحاس، وفي غينيا تهيمن الشركات الصينية على صناعة البوكسيت[11]، كما أن الصين وقعت اتفاقًا مع تنزانيا وزامبيا لإعادة تأهيل خط سكة حديد تازارا والذي من شأن إعادة تأهيله أن يساعد زامبيا غير الساحلية، وهي ثاني أكبر منتج للنحاس في أفريقيا، على تصدير معدنها عبر تنزانيا إلى الصين.[12]
ومن المرجح أن تكون المكاسب الأفريقية محدودة، لأن معظم المعادن الأفريقية يتم تصديرها في حالتها الخام ويتم تكريرها في الخارج، تفيد فالصين تمثل 85% من قدرة المعالجة العالمية وبالمقارنة، تقوم جمهورية الكونغو الديمقراطية بتكرير حوالي 7% من جميع منتجات النحاس المنتجة محليًا، بينما تقوم زامبيا بتكرير 1.3%.
مراكز البيانات الصينية
في حين تعرضت شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي” لقيود متزايدة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإنها تزدهر في أفريقيا، حيث تنشط شركة Huawei في معظم الدول الإفريقية، ووفقًا لدراسة أجراها المجلس الأطلسي فقد تم إنشاء حوالي 50 بالمائة من شبكات الجيل الثالث في أفريقيا و70 بالمائة من شبكات الجيل الرابع بواسطة شركة هواوي، وتعتبر شركة هواوي أكثر نجاحًا في أفريقيا من المنافسين الغربيين.[13]
تحتاج أفريقيا إلى دعم من الصين ودول أخرى لتطوير البنية التحتية الرقمية، لأن إجمالي سعة مراكز البيانات العالمية المتاحة لديها أقل من 1%، والشركات الصينية مستعدة لبناء مثل هذه البنية التحتية وتمويل هذه المشاريع بأسعار ميسرة، في جميع أنحاء أفريقيا.
تحتاج أفريقيا إلى بنية تحتية رقمية، ولكن هناك حاجة إلى قدر من الحذر بشأن سلبيات هذا التعاون حتى لا تكون بيانات أفريقيا تحت السيطرة الصينية إلى حد كبير، حيث قامت الولايات المتحدة وبعض حلفائها الغربيين، بعد الاشتباه في تعرضها للمراقبة الصينية، بتصنيف خمس شركات اتصالات صينية، بما في ذلك ZTE Corps، وHikivision، وHuawei، باعتبارها “تهديدًا للأمن القومي”، من ناحية أخرى، فمن الأفضل للبلدان الأفريقية أن تهدف إلى خلق بيئة تنافسية في بنيتها التحتية الرقمية.[14]
مبادرات وزيارات مكوكية بعد الحرب الاوكرانية
تعددت الجولات المكوكية للقادة الغربيين ووزير الخارجية الروسي بعد الحرب الأوكرانية لتكشف عزم المسئولين الغربيين والروس تدعيم روابطهم بدول القارة الأفريقية في مواجهة بعضهم، وتوزعت الزيارات بين مسئولي الإدارة الأمريكية مثل بلينكن وليندا توماس جرينفيلد، والرئيس ماكرون لترتيب مصالح بلاده فى القارة الأفريقية عقب تضرر نفوذ فرنسا في غرب أفريقيا، والمستشار الألماني “شولتز”، في مقابل وزير الخارجية الروسي “لافروف”.
سعت روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع أفريقيا من خلال قمتها مع الدول الأفريقية عام 2023، حيث عرضت محطات الطاقة النووية والطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع الصاروخي وتصدير الحبوب والمنتجات الغذائية وغيرها، لكن روسيا التي كانت تركز مشاركتها في أفريقيا على دبلوماسية الأسلحة، غارقة في الصراع الذي بدأته في أوكرانيا، وبالتالي تراجع ترتيبها بين الدول المصدرة للسلاح إلى أفريقيا، كنها مازالت تعتمد على الفيلق الأفريقي-فاغنر سابقا- في منطقة الساحل خصوصا وأفريقيا عموما للحفاظ على ما حققته من نفوذ، وتظهر بجلاء الجولات المكثفة التي أجراها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لدول القارة الإفريقية خلال عامين بعد اندلاع الحرب الأوكرانية بهدف عرض الرواية الروسية للصراع، حتى أجرى 6 جولات.[15]
سعت الولايات المتحدة وحلفائها إلى مواجهة نفوذ كل من الصين وروسيا في أفريقيا، كما تشير استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2022، وأيضًا لتأمين مصالحها الوطنية ومصالحها الاستراتيجية [16]، فتعهد مسئولي الإدارة الأمريكية بتقديم ما يقرب من ١,٣ مليار دولار من المساعدات الإنمائية الإنسانية إلى منطقة القرن الإفريقي، بما يساعد على التخفيف من حدة الجوع في المناطق الأكثر تضررا من أزمات الغذاء العالمية الناتجة عن الحرب الأوكرانية، وخلال زيارة مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية للصومال، في يوليو 2022، أعلنت عن تقديم واشنطن ٤٧٦ مليون دولار كمساعدات إنسانية وتنموية للصومال، ودعم المحافظة على البيئة والتكيف المناخي والتحول العادل للطاقة، وذلك في ضوء معاناة دول القارة من آثار ظاهرة التغير المناخي، بينما فرنسا حاولت دون جدوى الحفاظ على تواجدها في منطقة الساحل، رغم إعلان ماكرون “استراتجية دبلوماسية جديدة” تجاه القارة، وبينما تركز ألمانيا على استثمارات الطاقة المتجددة في أفريقيا، فإن صدى ذلك لا يزال خافت.
فتح المجال للدول المتوسطة للدخول لأفريقيا لتحقيق أجندة أحادية الجانب
إن القوى المتوسطة في سعيها لكسب النفوذ تدرك الفرصة التي توفرها القارة، لأن القوى الكبرى لا تعطي الأولوية لهذا الجزء من العالم مع استمرار انشغالهم بأولويات متنافسة، بما في ذلك الحروب في أوكرانيا وغزة، أو الاضطرابات السياسية الداخلية، أو التباطؤ الاقتصادي، كما أن الساحة الافريقية تتسم بالحرية الجيوسياسية، فهي مكان يمكن لدولة غير أفريقية أن تنمي نفوذها دون استعداء قوة عظمى أو حتى أطراف أفريقية بشكل مباشر.
ومع تراجع القروض الصينية لأفريقيا وتقلص النفوذ الغربي، بدأت القوى المتوسطة
في الظهور لملء مثل هذا الفراغ مدفوعة بالمصالح الوطنية التي تتماشى مع مصالح الكثير من البلدان الأفريقية، وتقديم “خيار ثالث” لهم، كما يمكن للقوى المتوسطة توسيع اقتصادها بعيدًا عن التنافس الغربي الصيني وإبراز قوتها الخاصة وتطوير العلاقات العسكرية والدبلوماسية، بذلك تشترك العديد من القوى المتوسطة والدول الأفريقية في مصلحة جيوسياسية متبادلة.[17]
توفر تركيا بديلاً للولايات المتحدة وفرنسا وروسيا في مبيعات الأسلحة، حيث تقدم الأسلحة دون شروط دبلوماسية أو سياسية، كما تقدم إيطاليا خطة ماتي لمنع تدفق المهاجرين والحصول على الطاقة، بالإضافة إلى ذلك، هناك مساحات في أفريقيا حيث تكون لدول القوة المتوسطة اليد العليا، وتتنافس بشكل مباشر مع الدول الأكبر، وأحيانا تكون بعض تصرفات دول القوة المتوسطة مدفوعة بعلاقتها بالقوى العظمى، على سبيل المثال، تعمل مشاركة اليابان البحرية في جهود مكافحة القرصنة التي تقودها الولايات المتحدة قبالة القرن الأفريقي على تعزيز العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة واليابان في منطقة المحيط الهادئ.
وهناك أنماط أخرى تعبر عن تنافس تلك الدول بشكل مباشر، فمثلا تدعم بعض دول الخليج وتركيا الفصائل المتعارضة في الصراعات في ليبيا والسودان والصومال، كما تتنافس شركات الطيران مثل طيران الإمارات، والخطوط الجوية القطرية، والخطوط الجوية التركية لتكون الناقلات الجوية المفضلة، التي تربط القارة بخارجها.
الأزمة الإنسانية في السودان
تراجع الاهتمام بالصراعات في أفريقيا مقابل الاهتمام بالحرب الأوكرانية والتطورات
في الشرق الأوسط وحتى التوترات في بحر الصين الجنوبي، فيما يغرق السودان في أسوأ مجاعة شهدها العالم منذ أربعين عاما على الأقل، وقد حذر مسؤولو الأمم المتحدة من أن أكثر من مليوني سوداني معرضون لخطر الموت جوعا هذا الخريف، ويبلغ العدد الرسمي للأمم المتحدة لأولئك الذين يواجهون المجاعة حاليا 750 ألف شخص على الأقل، ويعاني 26.5 مليون آخرين من انعدام الأمن الغذائي، مما يتجه نحو مجاعة جماعية.
كما انهارت أنظمة الرعاية الصحية، وتعرضت مستشفيات البلاد لهجوم شرس، مما جعل ما لا يقل عن 80 بالمائة من المرافق الصحية غير صالحة للاستخدام. ويعيش خمسة عشر مليون شخص دون رعاية صحية حرجة، ومع تدهور الوضع الإنساني، لا تصل المساعدات التي تشتد الحاجة إليها، مما يشير إلى فشل تاريخي في نظام المساعدات العالمي.
كما تتعرض المنازل للحرق والنهب والقصف، وزادت الانتهاكات ضد النساء، مما يؤدي إلى نزوح الملايين من منازلهم، وقد نزح العديد من الأشخاص أكثر من مرة، وقال العديد من الخبراء وعمال الإغاثة السودانيين إنهم يعتقدون أن العدد الإجمالي الحقيقي للنازحين يزيد عن عشرة ملايين.
تشير التقارير إلى أن أمراض الملاريا والكوليرا والحصبة وحمى الضنك تنتشر، وأشار المدير العام لمنظمة الصحة العالمية “تيدروس أدهانوم غيبريسوس” إلى الاهتمام العالمي المنخفض، وأرجع ذلك إلى حد كبير إلى العرق، ويشير خبراء آخرون أيضًا إلى افتقار الدول الغربية إلى المصالح الجيوسياسية في هذه الحرب.
ويفرض أكثر من 2.7 مليون نازح فروا من السودان ضغوطا شديدة على البلدان المجاورة التي تعاني بالفعل، بما في ذلك جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان، فيما أغلقت تشاد حدودها أمام المزيد من اللاجئين، وتحتاج هذه البلدان نفسها إلى كميات هائلة من المساعدات، وقد طلبت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مبلغاً آخر قدره 1.5 مليار دولار لجيران السودان، ولكن ذلك لم يأت بعد، بذلك أصبح السودان مسرحًا لأسوأ أزمة إنسانية في العالم و”الحرب المنسية” في العالم. [18]
ولم يجمع النداء الإنساني الذي أطلقته الأمم المتحدة من أجل السودان العام الماضي سوى 16 في المئة من هدفه، مع تركّز الكثير من الاهتمام العالمي على غزة، حيث تحذر منظمات الإغاثة أيضا من مخاطر المجاعة.[19]
واستغرق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ما يقارب عاماً لتبني قرار في شأن السودان يدعو إلى الوقف الفوري للأعمال العدائية ووصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق، وإقليمياً لم يدرج مؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي الوضع في السودان كبند مستقل على جدول أعماله خلال قمته السنوية في فبراير الماضي، وهي القمة الأولى منذ اندلاع النزاع.
وفي أبريل الماضي تعهد المجتمعون في مؤتمر باريس الإنساني والدولي حول السودان بتقديم أكثر من ملياري دولار من المساعدات الإنسانية، لكن تلك التعهدات لم تنعكس في صورة تقديم المساعدات، أو تحد من الأضرار البشرية والمادية الكبيرة، كما أن الصراع في السودان لم يحظ سوى بقدر ضئيل من اهتمام المجتمع الدولي الذي لا يجد دافع للعب دوراً حاسماً في إنهاء الصراع[20]، عبر وقف الأعمال العسكرية.
وأشار تقرير لصحيفة “غارديان” البريطانية إلى أن هجمات الحوثيين في البحر الأحمر كان لها تأثير كارثي في تأخير ورفع كلف شحن المساعدات المهمة إلى السودان بسبب محاولة تجنب الهجمات البحرية، ونقلت الصحيفة عن مديرة اللجنة الدولية للإنقاذ في السودان أن عمليات الإغاثة باتت باهظة الثمن، وتستغرق شحناتها أشهراً بدلاً من أسبوع أو اثنين على الأكثر حتى تصل، فضلاً عن أن الوكالات التي تقدم المساعدات باتت تواجه نقصاً شديداً في التمويل بسبب الأزمة التي فجرها الحوثيون في البحر الأحمر[21]، وهو ما يسلط الضوء حول جدوي تحالف حارس الإزدهار المكون من القوات الأمريكية والبريطانية.
وضع التجارة الدولية
تتسم العلاقات التجارية مع أفريقيا عموما بعدم التكافؤ، حيث تظل السلع التي تصدرها الصين والغرب منتجات مصنعة وسلع رأسمالية، في حين تظل السلع التي تصدرها أفريقيا معادن خام ومنتجات زراعية بشكل أساسي.[22]
وخلال القمة الصينية الإفريقية في بكين سبتمبر الماضي، وعد الرئيس الصيني “شي جين بينغ” بفتح اقتصاد بلاده عبر تطبيق نظام الرسوم الجمركية الصفرية في التعاملات مع الاقتصادات الناشئة في العالم، ولكن التأثيرات تبدو شبه معدومة.
ويبدو أن هذه الخطوة، تهدف عمدا إلى مقارنة الصين بالولايات المتحدة التي تخلت إلى حد كبير عن دورها كبطل للتجارة الحرة مع انجرافها نحو الحمائية، وإلى مواجهة الانزعاج لدى الدول الناشئة من أن التحولات في التجارة العالمية حاليا تهدد بإغراق جزء كبير من الجنوب العالمي بالسلع الصينية الرخيصة وتقويض تقدمها الهش في الاقتصاد العالمي، وهو ما يشكل تحدي للدول الأفريقية التي لديها عدد قليل نسبيا من القطاعات الصناعية[23]، وهو ما يخلق معضلة استراتيجية كبرى للصين، حيث تهدد السياسات المصممة لإنقاذ اقتصادها المحلي بتقويض علاقاتها مع الجنوب العالمي، بعد أن قام قادة الولايات المتحدة وحلفائها بفرض تعريفات جمركية على عدد كبير من السلع الصينية.
المصادر:
[1] https://unctad.org/publication/world-of-debt
[2] https://unctad.org/publication/world-of-debt
[3] Africa demands fair deal from global finance.. https://linksshortcut.com/Bowji
[4] A look into the project linking 4 African countries; US’s response to China’s activities in Africa.. https://linksshortcut.com/UwxTr
[5] FOCAC 2024: Economic prudence and asymmetric partnership between China and Africa.. https://linksshortcut.com/tWrBI
[6] How One Port’s Struggle Reveals the Problems of Chinese Infrastructure Financing.. https://linksshortcut.com/GjQPV
[7] Climate Finance Regime, a Neo-Colonialist Tool?.. https://linksshortcut.com/rZfWA
[8] AFC leads on critical Lobito rail link project.. https://linksshortcut.com/EFRuK
[9] ممر لوبيتو .. حرب صامتة بين واشنطن وبكين في إفريقيا.. https://www.aleqt.com/2024/09/19/article_2750122.html
[10] The Lobito Corridor: A U.S. Bet on Africa’s Critical Mineral Development.. https://linksshortcut.com/yezHw
[11] The Lobito Corridor: Washington’s Answer to Belt and Road in Africa.. https://linksshortcut.com/tUjIY
[12] A look into the project linking 4 African countries; US’s response to China’s activities in Africa.. https://linksshortcut.com/UwxTr
[13] Chinese tech, ignored by the West, is taking over Africa’s cyberspace.. https://linksshortcut.com/mqpLM
[14] The Great Leap of China’s Tech Companies in Africa.. https://linksshortcut.com/YBidF
[15] لماذا تتعدد جولات وزير الخارجية الروسي إلى إفريقيا؟.. https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/9373
[16] US‑ Africa: The missing link in the age of great power competition.. https://linksshortcut.com/AdigM
[17] Grace Jones. Nils Olsen. The New Influencers. The Africa Futures Project. Belfer Center for Science and International Affairs. Harvard Kennedy School. AUGUST 2024.p.6
[18] Crisis in Sudan: War, Famine, and a Failing Global Response.. https://linksshortcut.com/QYdEe
[19] “أكبر أزمة إنسانية على وجه الكوكب”.. https://linksshortcut.com/wDUmO
[20] المجتمع الدولي والسودان… استجابة “متقطعة” وتفاعل “موجه”.. https://linksshortcut.com/DQtgb
[21] السودانيون بين انعدام الممرات الآمنة وأخطار المجاعة.. https://linksshortcut.com/zyLCr
[22] FOCAC 2024: Economic prudence and asymmetric partnership between China and Africa.. https://linksshortcut.com/tWrBI
[23] The Coming Clash Between China and the Global South.. https://linksshortcut.com/GPAjR