إعداد: أحمد محمد فهمى
بعد وقوع الزلزال المدمر صبيحة يوم الاثنين، السادس من فبراير الجارى، والـذى ضرب تركيا وسوريا ووصل فيه عدد القتلى إلى أكثر من ٤٢ ألفًا، كانت له توابع جيولوجية وصلت فيها هزاته الارتدادية إلى أكثر من ٤٣٠٠ هزة، كذلك كان للزلازل توابع وتأثيرات سياسية بدأت معالمها تظهر منذ الساعات الأولى للحدث الجلل، ولكن لا تزال توابعه يتم رصدها يومًا بعد يوم، والتى من الممكن أن يصل تأثيرها بعد وقت لاحق إلى تغيير المشهد السياسى فى المنطقة.
وعلى الرغم من هول الكارثة الإنسانية وأعداد القتلى والمصابين والتى لا تزال غير نهائية، لكن الحسابات والمصالح السياسية قد استغلت ووظفت الحدث وفق أولويات وأهداف الفاعلين السياسيين سواء فى تركيا أو فى سوريا، فى محاولات لحصد أفضل المكاسب بعد خلط الأوراق وبروز مسارات جديدة على المستوى الداخلى للدولتين، وعلى مستوى المنطقة ككل.
على الصعيد السورى:
على الرغم من أن الخسائر السورية بسبب الزلزال لا تقارن بالخسائر التركية، والتى وصلت فى حصيلتها غير النهائية إلى أكثر من خمسة آلاف قتيل، وتضرّر خمس محافظات بشكل رئيسى أبرزها “إدلب” الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، و”حلب” الخاضعة جزئيًا لسيطرة قوات النظام المحاذية لتركيا، إلا أن ما يزيد من حجم المأساة فى سوريا هو تداعيات الزلزال المدمر، بجانب ما تعانيه البلد كذلك من تداعيات الحرب منذ عام ٢٠١١، والـتى أثرت بشكل كبير فى عمليات إيصال المساعدات ووصول فرق الإنقاذ، وخاصة فى الشمال السورى، بجانب تأثير العقوبات الدولية والحسابات السياسية للأطراف الداخلية مما أسهم فى تعقيد عمليات الإغاثة.
كذلك ما زاد من تعقيدات التعامل مع تداعيات الزلزال، هو تركيز جهود المساعدات الدولية على تركيا، وإهمال سوريا لفترة من الوقت لعدة أسباب منها البحث عن كيفية إيصال المساعدات لسوريا، سواء لمناطق النظام السورى القابعة تحت العقوبات الدولية “قانون قيصر”، وكذلك مناطق المعارضة المسلحة والتى كانت ترفض إمدادها بالمساعدات سوى عبر المعابر الحدودية مع تركيا فقط.
أولًا: أبرز المشاهد السياسية للزلزال:
1- الاستثمار السياسى للكارثة:
استغل الفاعلون السياسيون فى سوريا الزلزال، سياسيًا لتحريك المياه الراكدة للقضية السورية “كُل على طريقته”، ففى دمشق استطاع الرئيس السورى بشار الأسد استغلال الأزمة جيدًا[1] من خلال دعواته لفك العزلة الدولية المفروضة على سوريا، وذلك عبر مطالبته برفع العقوبات الدولية، مشيرًا إلى أن تلك العقوبات تعرقل وصول المساعدات الإنسانية، كما طلب إرسال المساعدات الدولية لبلاده، التى تعانى من أزمات اقتصادية متراكمة، بالتالى كان هناك تخوف من تحويل تلك المساعدات وتوزيعها حسب مصالح النظام السورى، كما استغل الرئيس السورى تداعيات الزلزال للترويج بشكل غير مباشر للتطبيع السورى مع المجتمع الدولى، وخاصة مع الدول العربية، وفتح صفحة جديدة للعلاقات وفك عزلة سوريا من خلال ترحيبه الشديد بالمساعدات وحملات الإغاثة العربية، هذا على الرغم من أن العديد من القوى الغربية قد أعلنت أن تقديمها المساعدات لدمشق لن يغير من موقفها وشروطها من دمشق، مع إشارة واشنطن بأن عقوباتها لا تشمل المساعدات الإنسانية.
وفى الشمال السورى، استطاع “أبو محمد الجولانى” زعيم هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقًا” استغلال الأزمة لإعادة الترويج لنفسه وتنظيمه وقدراته التنظيمية فى مواجهة تداعيات الأزمة الإنسانية، وقام من خلال “لجنة الاستجابة الطارئة” المُشكلة فى المناطق القابعة تحت سيطرته بمتابعة تداعيات الزلزال، والعمل على تشكيل فرق الإنقاذ وإنشاء ما يزيد على 40 مركزًا لإيواء الأهالى الذين فقدوا منازلهم، وتسهيل دخول وحماية الفرق الطبية والإغاثية من خلال المعابر الحدودية مع تركيا، وكذلك صرف المساعدات النقدية والإغاثية لجميع العوائل المتضررة، والتى بلغت قيمتها 20 مليون ليرة تركية.
وفى إطار الجولات الميدانية التى قام بها “الجولانى” فى مناطق الزلزال، استغل اهتمام العالم بتداعيات الزلزال من خلال إطلاق تصريحات انتقد فيها نظام الأسد والتواجد العسكرى الروسى بسوريا بقوله “أدلب تعيش فى زلزال مستمر منذ ١٢ عامًا”.
2- تسييس المساعدات الإنسانية:
خضعت المساعدات الإنسانية لصالح أجندات أطراف الداخل السورى، فنظام “الأسد” كان يرفض مرور المساعدات إلى شمال سوريا إلا عبر المناطق التى يسيطر عليها، وهو المسار الذى تبنته الأمم المتحدة فى بداية تدخلها على خط الأزمة، بهدف إنجاز إدخال مساعداتها إلى منطقة أدلب، إلا أن ذلك المسار تم رفضه من جميع الفصائل المسلحة[2] وهيئات الإغاثة السورية فى مناطق المعارضة ومن أبرزها “الخوذ البيضاء”، والتى نددت بخطوة الأمم المتحدة للسماح للرئيس “الأسد” بأن تكون له كلمة بشأن تقسيم المساعدات ما يمنحه “اعتمادًا سياسيًا مجانيًا”.
كما أعلن “أبو محمد الجولاني[3]” زعيم تنظيم هيئة تحرير الشام، والذى انتقد الأمم المتحدة لتأخر وصول المساعدات الدولية ودعم فرق البحث والإنقاذ للشمال السورى، رفضه القاطع لإرسال المساعدات إلا عبر المعابر الحدودية مع تركيا، وقد استطاعت الأمم المتحدة لاحقًا بعد تحركات معقدة وموافقة حكومة “دمشق” إلى إدخال مساعدات من خلال معابر (باب الهوى – باب السلامة – الراعى) الحدودية بين تركيا وبين مناطق المعارضة السورية لمدة ثلاثة أشهر.
كما رفضت فصائل المعارضة المسلحة قبول قوافل المساعدات القادمة من مناطق “الإدارة الذاتية” شمال شرق سوريا، وهى المناطق التى تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وذلك فى تعميق للخلافات بين القوتين البارزتين فى شمال شرق وشمال غرب سوريا، وهو ما يعكس عدم تأثرهم بهول الكارثة بجانب تعميق الخلافات بينهم، وقد قالت “الإدارة الذاتية” فى بيان عن سحب قافلة المساعدات، “بسبب إصرار تركيا ومرتزقتها لربط هذا الموضوع بأمور ومواقف سياسية على حساب الضحايا والمتضررين”، لكن فى مقابل ذلك قَبِل النظام السورى المساعدات التى قدمتها “الإدارة الذاتية” له، والتى تم توجيهها إلى المناطق المنكوبة فى مدينة “حلب” القابعة جزئيًا تحت سيطرته.
3- مشهد التضامن العربي:
تلقى الرئيس السورى بشار الأسد العديد من الاتصالات والمساعدات من قادة عدة دول عربية، فى تضامن عربى واسع لمساندة سوريا فى مواجهة تداعيات الزلزال المدمر، كما استقبل الأسد العديد من الوفود العربية وكان أبرزها زيارة وفد من حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، وزيارة وزير الخارجية الإماراتى “عبدالله بن زايد”، والذى تفقد أيضًا مناطق تضررت من الزلزال، وزيارة وزير الخارجية الأردنى “أيمن الصفدى”، كما تضاربت الأنباء عن احتمالية قيام وزير الخارجية السعودى “فيصل بن فرحان” بزيارة العاصمة السورية “دمشق” فى الأيام القليلة القادمة، فى المقابل علق الرئيس “الأسد” على التضامن العربى مع سوريا، قائلًا “الشعب السورى يرحب ويتفاعل مع أى موقف إيجابى تجاهه وخاصة من الأشقاء العرب”.
ومن أبرز عمليات الإغاثة العربية [4] إلى سوريا، إرسال مصر طائرات عسكرية محملة بمساعدات طبية، وإعلان صندوق «تحيا مصر» التابع للرئاسة تخصيص حساب لإغاثة سوريا فى كل البنوك المصرية، وإطلاق جمعية الهلال الأحمر المصرى حملة تبرع تحت شعار «سوريا تستغيث… أنقذ منكوبى زلزال سوريا»، فيما كان الأطباء المصريون أول من وصل إلى الشمال السورى لإنقاذ المصابين، كما أعلنت الإمارات بدء عملية “الفارس الشهم 2” والتى تضمنت إرسال مساعدات إنسانية إلى مطار دمشق ضمن الجسر الجوى الهادف لمساعدة المتضررين من الزلزال، كما أرسلت السعودية مساعدات عن طريق جسر جوى تم توجيهه إلى مطار “حلب”، بجانب العديد من الحملات الإغاثية العربية والتى تقدمت الجهود العالمية لإغاثة المتضررين من الزلزال المدمر.
ثانيًا: التأثيرات السياسية:
1- فك العزلة العربية عن دمشق:
كانت للتحركات العربية التضامنية مع سوريا ورأس نظامها بشار الأسد، نقاط إيجابية داعمة للنظام السورى تمثلت فى فك العزلة المفروضة عليه، بسبب تداعيات الحرب السورية منذ 2011، ومن أبزر تلك الإيجابيات إعلان الرئيس التونسى “قيس سعيد” رفع مستوى التمثيل الدبلوماسى بسوريا فى خطوة تمهد لإعادة العلاقات بشكل كامل مع “دمشق”.
كما أن زيارات الوفود العربية المتتالية إلى “دمشق”، والاتصالات الهاتفية من قادة الدول العربية لبشار الأسد، على الرغم من أنها تأتى بدافع إنسانى تضامنى، إلا أن ذلك له تأثير سياسى كذلك فى احتمالية بدء مرحلة جديدة بين “دمشق” والدول العربية، وهو ما يعتبر فرصة واعدة للرئيس السورى لتحقيق مكاسب سياسية من تداعيات الزلزال، من أجل محاولة إعادة العلاقات بين بلاده وبقية الدول العربية، تمهيدًا لعودة سوريا إلى مقعدها بجامعة الدول العربية، للانطلاق نحو فك الحصار والعقوبات المفروضة عليها من المجتمع الدولى وخاصة من الدول الغربية.
2- تأكيد القطيعة بين المعارضة المسلحة ونظام الأسد:
وهذا ينطبق على مسار العلاقات المستقبلية بين نظام “الأسد” والفصائل المسلحة الموجودة فى شمال سوريا، فالأخيرة رفضت دخول المساعدات من المعابر القابعة تحت سيطرة النظام السورى لعدة أسباب منها رفضها وجود أدنى تعاون بينها وبين النظام السورى، كذلك فإن موقف المعارضة المسلحة ينسف الجهود التركية التى روج لها سابقًا وزير الخارجية التركى “مولود تشاووش أوغلو”، وإعلانه قيام بلاده بالوساطة بين المعارضة المسلحة والحكومة السورية للوصول إلى تفاهمات للمصالحة بين الأطراف السورية، تمهيدًا لحل القضية السورية.
3- إعادة تأكيد النفوذ الإيرانى فى سوريا:
كانت “إيران” من أوائل الدول الحاضرة فى المشهد السورى لمعالجة تداعيات الزلزال، بوصول “إسماعيل قاآني” قائد “فيلق القدس” فى الحرس الثورى الإيرانى إلى مدينة “حلب” السورية، والذى زار المناطق المتضررة وأشرف على عمل كوادر الإغاثة الإيرانيين المتواجدين فى موقع إزالة الأنقاض، كذلك حضر إلى سوريا وفد من (الحشد الشعبى العراقى الموالى لإيران) وقام بتسيير مساعدات إلى المناطق المتضررة من الزلزال، وهذا الحضور لإيران “وحلفائها” فى سوريا لا يمكن فصله عن التأكيد الإيرانى أمام المجتمع الدولى بشكل عام، وأمام الطرفين التركى والروسى بشكل خاص، بأن كافة المسارات الساعية إلى تغيير المشهد السياسى السورى ومستقبله لن يمر سوى عبر “طهران”.
على الصعيد التركى:
إن الكارثة الطبيعية التى حلت فى الجنوب التركى والمستمرة حتى وقتنا الحالى فى توابعها هزت المشاعر الإنسانية، كذلك فإن توابعها السياسية قد هزت أركان الدولة التركية وعلى رأسها حكومة الرئيس “رجب طيب أردوغان”، مما وضعها فى موقف صعب للغاية، فمما لا شك فيه أن مواجهة ما خلفه الزلزال من أضرار يفوق طاقاتها وقدراتها، وهو ما دفع الحكومة التركية منذ الساعات الأولى لوقوع الزلزال لإصدار تحذير من الدرجة الرابعة يناشد دول العالم لتقديم مساعدات لها، كذلك قامت باستنفار كل طاقاتها فى محاولة لاحتواء الأزمة الإنسانية التى خلفتها الكارثة، ونتيجة لذلك ولاهتمام كافة وسائل الإعلام تقريبًا؛ تحول الاهتمام العالمى من صوب الأحداث الدائرة والنتائج المتلاحقة للحرب الروسية فى أوكرانيا، إلى صوب منطقة الشرق الأوسط والمعاناة الإنسانية الكبيرة والمشاهد المروعة التى تصدرت وسائل الإعلام، وصارت حكومة حزب العدالة والتنمية فى امتحان صعب للغاية قبل الانتخابات العامة القادمة خصوصًا فى حالة فشل إدارتها للأزمة.
أولًا: أبرز المشاهد السياسية للزلزال:
1- تلاعب سياسى بالمأساة:
من أبزر المشاهد التى برزت على الساحة التركية عقب الزلزال المدمر فى مدن الجنوب التركى، هو الاتهامات والتراشقات السياسية المتبادلة بين أركان نظام الرئيس “رجب طيب أردوغان”، وأطراف المعارضة بكافة انتماءاتهم الحزبية، فقد شن “أردوغان” ووزير داخليته “سليمان صويلو” هجومًا مركزًا على أحزاب المعارضة، فحذر “أردوغان” المعارضة من استغلال ما حدث لأغراض بعيدة عن المأساة ولحساب أجندات خاصة، كما اعتبر “سليمان صويلو” أنه لن يمر من يستغل الأزمة دون عقاب، مهددًا “سنحاسب من يقوم بالنهب ومن ينشر الشائعات”.
فى المقابل، قام “كليتشدار أوغلو” زعيم المعارضة وحزب الشعب الجمهورى، بزيارة المناطق المتضرّرة من الزلازال، وقام بشن هجوم على إردوغان، متّهمًا إياه بالفشل فى جعل تركيا متأهبة للزلازل، كما أشار إلى أن موظفى إدارة الكوارث والطوارئ لم يردّوا على اتصاله، كما ظهر مع الزعيم الموالى للأكراد فى “ديار بكر” المتضرّرة من الزلزال، والتى تعدّ المحافظة الوحيدة التى لم تصوّت لتحالف “إردوغان” فى انتخابات العام 2018.
فيما علق زعيم حزب المستقبل “أحمد داود أوغلو”، على تصريحات “أردوغان” خلال زيارته لمنطقة “كهرمان مرعش” المنكوبة والتى قال فيها إنه القدر وإنها أشياء فى خطة القدر”، بقوله “إنه ليس القدر، إنه ماس كهربائي، النظام الرئاسى قصير الدائرة!”، فى إشارة إلى تحميل الحكومة المسؤولية عن الدمار الكارثى بسبب فساد محتمل فى الصفقات العمومية فى البناء.
كما هاجمت “برفين بولدان” الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطى الموالى للأكراد، الحكومة بقولها إن “الحكومة تحت الأنقاض فى هذا الزلزال”.[5]
كذلك قام رئيسا بلديتى إسطنبول “أكرم إمام أوغلو”، وأنقرة “منصور يافاش” التابعان لحزب الشعب الجمهورى، بنشر صور لموظفى البلدية وهم يساعدون فى جهود الإنقاذ ورفع الأنقاض وتقديم الطعام الساخن للناجين.
2- تعاطف دولى واسع:
حالة كبيرة من التعاطف أبدتها دول العالم مع الحدث الجلل وتداعياته فى تركيا، حتى من الدول التى توترت علاقتها مع تركيا، وعلى رأسها مصر والإمارات واليونان وإسرائيل وغيرهم، وتم عرض المساعدة الإنسانية وفرق الإنقاذ المدربة، كما تلقى “أردوغان” العديد من الاتصالات من قادة دول العالم، من أبرزها اتصال الرئيس عبدالفتاح السيسى، والذى قدم خلاله واجب العزاء فى ضحايا الزلزال المدمر، مؤكدًا تضامن مصر مع الشعب التركى، وتقديم المساعدة والإغاثة الإنسانية لتجاوز آثار هذه الكارثة، كما أعلن رئيس وزراء اليونان “كيرياكوس ميتسوتاكيس” الذى تحدث مع الرئيس التركى “رجب طيب أردوغان” عن إرسال المساعدات من بلاده، مؤكدًا “وضع كل قواتنا فى تصرّف تركيا”.
وقد أثارت تلك الحالة والرسائل المتعاطفة والداعمة من مختلف أنحاء المنطقة ردود فعل إيجابية فى الداخل التركى، وتذكر بأن المآسى يمكن أن تخلق أيضًا إحساسًا بالتضامن فى أوقات الأزمات، وهو ما يمكنا من التقليل من حدة التوترات الإقليمية، كما أن النضال المشترك فى الكوارث الطبيعية مثل الزلازل يمكن أن يقدم مساهمات إيجابية فى تنمية العلاقات بين البلدان.[6]
3- السوريون من جديد:
من جديد يعود السوريون للظهور فى أحد مشاهد الأحداث التركية، فقد أثار الزلزال المدمر استياء بعض الأتراك تجاه اللاجئين السوريين والمتواجدين بكثرة فى مدن الجنوب التركى، بتحميل البعض دون دليل مسؤولية عمليات النهب وسط الدمار والفوضى، وقد جرى تداول شعارات مناهضة للسوريين على منصة التواصل الاجتماعى “توتير” مثل: “لا نريد سوريين” و”يجب ترحيل اللاجئين” و”لم تعودوا محل ترحيب”، كما تم طرد بعض السوريين من مخيمات الطوارئ، وفتح أحد السوريين ملجأ فى مدينة “مرسين” التركية لأبناء وطنه فقط بعد أن واجهوا إهانات عنصرية.[7]
ثانيًا: التأثيرات السياسية:
1- تغيير محتمل للمشهد السياسى الداخلى:
لقد تسبب الزلزال المدمر الذى ضرب تركيا وألحق ضررًا كبيرًا بعشر مدن وخلف عشرات آلاف القتلى وشرد مثلهم، فى خلط الأوراق السياسية للمعارضة التركية من جانب وأيضًا لحزب الرئيس التركى رجب طيب أردوغان من جانب آخر، فقد صار من الوارد أن تؤثر تداعيات ذلك الزلزال على مسارات الانتخابات العامة المقبلة، خاصة بعد إعلان المعارضة التركية تأجيلها لإعلان مرشحها للانتخابات الرئاسية أمام الرئيس التركى “أردوغان”، والذى كان من المقرر الإعلان عنه فى 13 فبراير الجارى، وهو ما قد يعطى فرصة أكبر للمعارضة لإعادة الحسابات من جديد، واستغلال تلك الأزمة فى إثبات وجودها لتعقيد موقف حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذى إن لم ينجح فى إدارته للأزمة وإثبات مدى قدرة الحكومة الحالية على تقديم حلول مرضية والكشف عن خططه المستقبلية فى المناطق المتضررة، فقد يخسر “أردوغان” كتلة تصويتية غاية فى الأهمية والتى طالما كانت أغلبية أصواتها محسومة لصالح الحزب الحاكم.
كذلك فقد صار من الممكن أن تؤدى تداعيات تلك الكارثة إلى تأجيل الانتخابات عن موعدها المقرر، لصعوبة إجرائها فى ظل الظروف الراهنة، خاصة فى ظل الأوضاع الكارثية التى تعانى منها مدن الجنوب التركى، بجانب التحديات اللوجستية التى فرضتها الكارثة، لا سيما أن معالجة الأزمة تحتاج إلى مزيد من الوقت، وهو ما قد يكون عائقًا أمام إجراء الانتخابات.
2- بوادر لمصالحة جديدة:
صرح وزير خارجية تركيا “مولود جاويش أوغلو” خلال استقباله لنظيره اليونانى “نيكوس ديندياس” فى مدينة أضنة بولاية “هاتاي” جنوبى البلاد وهى إحدى الولايات المتضررة من الزلزال، إنه يجب تطبيع العلاقات مع اليونان رغم تباين وجهات النظر، مضيفًا “الجار الجيد يظهر فى الأيام العصيبة”[8]،وهى التصريحات التى لاقت ترحيبًا كبيرًا من الوزير اليونانى الذى أكد وقوف بلاده مع تركيا فى مواجهة الأزمة التى تواجهها حاليًّا.
اليونان وعلى الرغم من خلافاتها مع تركيا والتى وصلت إلى تهديد الرئيس التركى بغزوها منذ وقت قريب، كانت من أوائل الدول التى قدمت مساعدات مباشرة لأنقرة، بجانب قيام فرق الإغاثة التابعة لها بالعديد من المهام الناجحة فى إنقاذ المواطنين الأتراك من تحت الأنقاض، وهو ما كان له صدى إيجابى واسع لدى أنقرة التى رحبت بالاستجابة اليونانية السريعة للكارثة وإغاثة جارتها رغم الخلافات السياسية بينهما.
بالتالى فإن تركيا لم تستطع أن تنكر أهمية المساعى الإنسانية اليونانية، ورأيها فرصة سانحة كبداية لتعزيز الخطوات التى بدأها الرئيس “أردوغان” بتطوير العلاقات الخارجية لبلاده مع الدول التى توترت علاقاتها بأنقرة، والتى بدأت بالمصالحة مع الإمارات والسعودية وإسرائيل ولا تزال فى طريقها مع مصر، بالتالى أوجدت الكارثة مسارًا لإمكانية حل الخلافات المعقدة مع اليونان وتراجع التوترات الإقليمية الجيوساسية، وعلى رأسها أزمتى جزر “بحر إيجة وغاز شرق المتوسط”، كما لا يمكن أن يتم فصل تصريحات وزير الخارجية التركى، عن الموقف الحالى للحزب الحاكم فى تعامله مع التداعيات الداخلية للزلزال، والتى من الممكن أن تؤدى مسار المصالحة مع اليونان إلى نقطة جديدة تضاف فى جعبته أمام اختبار الانتخابات العامة المقبلة.
3- إعادة هيكلة الأولويات والسياسات:
لقد صار من المؤكد أنه كنتيجة طبيعية لحادث الزلزال، حصول متغيرات على الأجندة التركية فى ترتيب أولوياتها وسياستها داخليًا وخارجيًا، فتركيا اليوم هى ليست تركيا قبل السادس من فبراير، فبحسب تقديرات أوردها اتحاد الشركات والأعمال التركي، فإن حجم خسائر الاقتصاد التركى جراء الزلزال قد تزيد على 84 مليار دولار أو 10 بالمئة من إجمالى الناتج المحلى موزعة بين 70.8 مليار دولار حجم الأضرار التى لحقت بالمبانى السكانية، و10.4 مليار دولار فى الدخل القومي[9]،بالتالى سوف تنعكس كافة التقارير السلبية الناتجة عن الزلزال على المواقف التركية تجاه العديد من الأصعدة، ومن أبرزها:
على الصعيد الداخلي، وفى ظل الدمار الذى لحق بمدن الجنوب التركى والملاصقة لحدودها مع سوريا، سيكون هناك ضغط من جانب القوات الأمنية فى ضبط الحدود المشتركة والتى كانت فى وضع متوتر جراء التهديدات التركية السابقة فى شن عملية عسكرية جديدة ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بشمال سوريا، كما أنه صار من الصعوبة قيام الجيش التركى بعمليات لوجستية فى تحريك أو نقل قواتها بمدن الجنوب نتيجة للضرر البالغ الـذى تعرضت له الطرق والمطارات.
كذلك قد تستغل قوات حزب العمال الكردستانى “بى كيه كيه” والتى تصنفها تركيا كحركة إرهابية، فى الالتفات من الحدود السورية لشن هجمات انتقامية ضد قوات الجيش التركى والتى كانت لا تزال الأخيرة تشن غاراتها الجوية على معاقل الحزب فى جبال قنديل بشمال العراق.
وعلى الصعيد الخارجى، وفى ظل انشغال تركيا بالأوضاع الراهنة، فهناك حالة ترقب لمصير ومستقبل الملفات الإقليمية التى كانت تلعب فيها تركيا دورًا فاعلًا، مثل الأزمة الليبية وملفات المصالحة، وكذلك فهناك غموض حول مستقبل الدور البارز الذى تلعبه تركيا كوسيط فى الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة بعد توليها ملف الحبوب الأوكرانية وملف مشروع مركز الغاز المقترح إنشاؤه فى تركيا لتصدير الغاز الروسى من خلاله لتصديره إلى أوروبا.
إن تركيا وبلا شك فى حاجة إلى تنظيم كل شيء فى إطار تنظيم الشأن الداخلى، خاصة قبل الانتخابات المقبلة، وقبل التركيز بشكل أفضل فى مصير الملفات الخارجية، والتى لا يمكن أن ينظر إليها بمعزل عن مشهد سياسى ملتبس قد تزداد قتامة فى حالة فشل الحكومة التركية على معالجة تداعيات الأزمة سريعًا.
وختامًا:
على الرغم من تعدد الرؤى الاستشرافية حول تداعيات زلزال شرق المتوسط وتأثيرها على الأوضاع السياسية للمنطقة، لكن من المبكر حسم مصير تلك الرؤى، خاصة وأن الدولتين المتأثرتين من الزلزال لم تحسما بعد مصير علميات الإنقاذ وحسم خسائرها البشرية والمادية، والتى بمجرد الانتهاء منها وإعلانها سوف تبدأ مرحلة الحسابات وحسم النقاشات حول أولويات المرحلة المقبلة، والتى اعتقد أن أبرزها على الصعيد السورى، البدء فى خطوات سريعة لبحث آليات تعزيز العلاقات مع الدول العربية، أما على الصعيد التركى فهو تأجيل الانتخابات العامة حتى يتم تهيئة البلاد لإجرائها.
كما أن الكوارث الطبيعية قد تؤدى إلى سلام واستقرار فى المنطقة، كالمتوقع على صعيد العلاقات التركية اليونانية، بعد التضامن اليونانى البارز مع تركيا فى الكارثة الإنسانية، أو اشتعال الأحداث مرة أخرى كالمتوقع فى إطار تصفية الحسابات بين المعارضة المسلحة والتنظيمات الإرهابية من جانب، والنظام السورى من جانب آخر، والتى ظهرت بوادرها بقيام تنظيم “داعش” الإرهابي[10] بقتل ٥٣ سوريًا فى ريف حمص الشرقى بعد أيام من هجوم آخر للتنظيم الإرهابى فى المنطقة نفسها وخلف ١٦ قتيلًا.
وهذا كما حدث بعد الزلزال وتسومانى المحيط الهندى عام ٢٠٠٤ فى جنوب شرق آسيا، فقد ساعدت الكارثة حكومة إندونيسيا على التوصل إلى اتفاق مع المتمردين أنهى الصراع فى إقليم “أتشيه”، بالمقابل فإن نفس الكارثة دفعت حركة “نمور التاميل” فى سريلانكا لتكثيف هجماتهم وتصعيد الحرب التى استمرت لخمس سنوات أخرى.[11]
[1] Ishaan Tharoor, “Syria’s Assad regime sees opportunity in earthquake aftermath”, 15/2/2023, The Washington Post, Available: https://wapo.st/3lDU6rR
[2] “Syria quake aid held up by hardline group, U.N. says”, 12/2/2023, Reuters, Available: https://reut.rs/3xs8lCI
[3] “Syrian rebel leader pleads for outside help a week on from earthquakes”, 13/2/2023, The Guardian, Available: https://bit.ly/3xsqQ
[4] “تعرف على الدول التي تحركت لإغاثة المنكوبين في سوريا وتركيا”، سكاى نيوز عربية، 8/2/2023، متاح على: https://bit.ly/3S6jfHJ.
[5] “حكومة أردوغان تحت الأنقاض والنظام الرئاسي ليس قدرا”، موقع احوال التركية، 14/2/2023، متاح على: https://bit.ly/3YTJyDb.
[6] طارق الشامي، “ما التداعيات السياسية لزلزال تركيا وسوريا؟”، اندبندنت عربية، 7/2/2023، متاح على: https://bit.ly/3XRkMTD.
[7] “الزلزال يُحرك مشاعر العداء للاجئين السوريين في تركيا”، موقع أحوال تركية، 13/2/2023، متاح على: https://bit.ly/3Ed0xZx.
[8] “بعد موقف اليونان من الزلزال.. وزير خارجية تركيا: يجب تطبيع العلاقات رغم تباين وجهات النظر”، الجزيرة نت، ١٢/٢/٢٠٢٣، متاح علي: https://bit.ly/3IzCZ3s.
[9] “فاتورة زلزال تركيا ستكون ثقيلة اقتصاديا وسياسيا”، موقع أحوال التركي، ١٣/٢/٢٠٢٣، متاح علي: https://bit.ly/3YXHN8f.
[10] ” مقتل أكثر من 53 سورياً في هجوم لـ«داعش» بريف حمص”، الشرق الأوسط، ١٧/٢/٢٠٢٣، متاح على: https://bit.ly/3Z33jsj.
[11] الكاتب محمد قواص، “الزلزال … تحولات السياسة!”، سكاي نيوز عربية، ١١/٢/٢٠٢٣، متاح على: https://bit.ly/3KgjWwe.