احتضنت العاصمة الروسية موسكو “أسبوع الذرة الدولي” في الخامس والعشرين من سبتمبر 2025، والتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في سياق تقارُبٍ متجدِّدٍ يعكس عُمْق العلاقات التاريخية بين البلدين التي تمتدُّ لأكثر من قرنٍ، وفي ظِلِّ تحديات التنمية المتسارعة وتزايُد الحاجة إلى مصادر طاقة موثوقة ومتنوعة، يبرز هذا الحدث كخطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز التعاون التقني والاقتصادي بينهما، عبْر تدشين مشروع بناء محطة طاقة نووية بأديس أبابا؛ ما يعكس رؤية مشتركة نحو تعزيز الأمن الطاقي والتنمية المستدامة في إثيوبيا، وتوسيع النفوذ الروسي في منطقة القرن الأفريقي بشكلٍ خاصٍّ والقارة السمراء بشكلٍ عامٍ.
تسلسل تاريخي للعلاقات الروسية الإثيوبية
ترجع بدايات الارتباط “الروسي – الإثيوبي” إلى عام 1898؛ حيث بدأت كعلاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين تحت الحُكْم الإمبراطوري، وقد شهدت هذه العلاقات تحوُّلاتٍ جمَّةً يتخلَّلُها فترات من الانقطاع، أبرزها بعد الثورة الروسية في 1917، التي أدَّت إلى توقُّفٍ مؤقتٍ للعلاقات، وسعى الاتحاد السوفيتي المستجد لإعادة استئنافها في العشرينيات، لكن هذه المحاولات واجهت معارضة من قوى غربية وأدَّت إلى تأجيل التقارُب، إلَّا أن هذا الترابط استُؤْنِفَ مجدَّدًا عام 1942، واستمرَّ مع بعض التقلُّبات؛ حيث ساهم الاتحاد السوفيتي في بناء منشآت صناعية وتنفيذ استكشافات جيولوجية في إثيوبيا، خلال فترة حُكْم السوفييت، كما تلقَّى آلاف الإثيوبيين تعليمًا وتدريبات مهنية به؛ مما أسهم في تعميق الروابط بين البلدين.
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي في 1991، شهدت العلاقات تراجُعًا نِسْبِيًّا، لكن في منتصف التسعينيات، بدأت خطوات إحياء الحوار السياسي بين موسكو وأديس أبابا، وفي ديسمبر 2001، وقَّع رئيس الوزراء الإثيوبي السابق، ميليس زيناوي، إعلان مبادئ العلاقات الودية والشراكة مع روسيا؛ مما شكَّلَ نقطة تحوُّلٍ نحْو تعزيز التعاون.
تاريخيًّا؛ كافح الروس لتعزيز نفوذهم في القرن الأفريقي، وكانوا من الداعمين لإثيوبيا في مواجهة تهديدات خارجية، مثل العدوان الإيطالي في ثلاثينيات القرن العشرين، وقد تقاربت العلاقات بشكلٍ خاصٍّ في فترة حُكْم النظام الماركسي (الديرج) في إثيوبيا، خلال السبعينيات والثمانينيات؛ حيث قدَّمَ الاتحاد السوفيتي دعْمًا عسكريًّا واقتصاديًّا كبيرًا، ومع حلول الألفية الجديدة، بدأت روسيا تتبع استراتيجية لتعزيز تواجُدِها في أفريقيا بوجهٍ عامٍ، وتوسيع تعاونها مع إثيوبيا، خاصَّةً في المجالات الاقتصادية والسياسية.
وفي السنوات الأخيرة، تحديدًا في عام 2013 فصاعدًا، كُثِّفَتْ الزيارات الرسمية بين الجانبيْن واتسع نطاق التعاون في مجالات متعددة؛ مما يعكس اهتمام روسيا بالانفتاح على القارة الأفريقية بوجْهٍ عامٍ، دون تركيزٍ خاصٍّ فقط على إثيوبيا.[1]
زيارة آبي أحمد إلى موسكو
توجَّهَ رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى روسيا 25 سبتمبر الجاري؛ للمشاركة في “أسبوع الذرة الدولي بموسكو”، والتقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وخلال اللقاء، أعرب بوتين عن اعتزازه بالعلاقات بين البلدين، والتي تشهد تطوُّرًا مستمرًا في مختلف المجالات؛ مشيرًا إلى ارتفاع مُعدَّل التبادُل التجاري بينهما، والتأكيد على رغبة روسيا في توسيع التعاون المشترك بما يخدم مصالح الشعبين، على الجانب الآخر، أكَّد آبي أحمد على، أن هذا اللقاء كان فرصةً سانحةً لإجراء مناقشات صريحة وبنَّاءَة لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإثيوبيا في ميادين عدة.
اتفاق نووي “روسي- إثيوبي”
على هامش القِمَّة النووية الرُّوسية، قام بوتين وآبي أحمد بالتوقيع على وثيقة تدعو إلى تخطيط وبناء محطة للطاقة النووية بأديس أبابا، في خطوةٍ تهدف إلى تطوير البنية التحتية للطاقة النووية بها، وقد وُقِّعَتْ هذه الاتفاقية بين شركة روس آتوم الروسية النووية الحكومية وهيئة الطاقة الكهربائية الإثيوبية، وتتضمن خطة عمل لتطوير وبناء المحطة، بالإضافة إلى برامج لتشغيلها وتوفير تدريبات لتأهيل الكوادر المحلية، وتزويد إثيوبيا بالخبرة اللازمة في القطاع النووي، ووصف آبي أحمد الاتفاق، بأنه ضروري لأمن الطاقة والتنمية طويلة الأجل، وأوضح أن النمو الاقتصادي السريع وإثيوبيا التي يزيد عدد سكانها عن 130 مليون نسمة، يتطلب مزيجًا من الطاقة متنوعًا يتجاوز المصادر الحالية، مثل الطاقة الكهرومائية والشمسية والرياح، كما أن التقنية النووية تُوفِّرُ طاقةً موثوقة ومنخفضة الانبعاثات وتُعزِّزُ الأمن الغذائي وتُحسِّنُ إدارة المياه، وذلك وفْقَ تصوُّرِه المُعْلَن.
وتتضمن الاتفاقية أيضًا، إعداد دراسة جدْوَى تقنية واقتصادية، وتشكيل فريق عملٍ متخصصٍ لوضْع خارطة طريق تنفيذية، مع التأكيد على تطبيق أعلى معايير السلامة، وبما يتوافق مع القواعد الدولية، وبدعْمٍ من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.[2]
الدَّلَالَات
لقد أعطى السَّدُّ الإثيوبيُّ أديس أبابا دفْعةً للتوجُّه نحْوَ الأقطاب الدولية؛ مستغلِّةً إياه كورقةٍ يمكن من خلالها لعب أدوارًا عديدةً في الملفات المختلفة، ومن هذا المنطلق، تُعَدُّ خطوة الإقدام على توقيع اتفاق نووي مع الشريك الرُّوسي جُزْءًا من توجُّه إثيوبيا، ليس فقط لتنويع مصادر طاقتها، بل لتنويع قائمة الشركاء الإقليميين والدوليين، ولكن التهديد في هذه الحالة يكْمُنُ في اعتياد حكومة أديس أبابا على كسْر حواجز القوانين الدولية.
وبالتالي؛ فإن الإقدام على مِثْل هذا الاتفاق قد يجعلها تستغلُّه في الجوانب غير السِّلْمِيَّة واستخدامه كسلاح ردْعٍ في المستقبل، فمثلما ادعت بناء السد الإثيوبي لأغراض التنمية وتوليد الكهرباء- والواقع عكس ذلك، وثبتت نوايا المساومة والتعدِّي على حقوق مصر والسودان في مياه النيل واتخاذ خطواتٍ أُحَادية منذ وضْع اللبنات الأولى للسَّدِّ- يُمْكِنُها أيضًا فِعْل ذلك.
من ناحية أخرى، سيُمكِّنُ هذا الاتفاق روسيا من تعزيز نفوذها الجيوسياسي ليس في شرق أفريقيا فحسب، بل في كافَّة أنحاء القارة، بخاصَّةٍ مع توجُّه الدول الأفريقية نحْوَ تطوير قدراتها النووية للاستخدامات السِّلْمِيَّة، كما أن الاتفاق سيُعمِّقُ الشراكة بين إثيوبيا وروسيا؛ مما يتيح للأخيرة التأثير في السياسة والأمن والاقتصاد الإقليمي لإثيوبيا ودول الجوار، ويُعزِّزُ من حضورها كقوةٍ داعمةٍ للاستقرار والتنمية في المنطقة، ونظرًا لأن شركة روساتوم النووية ستلعب دورًا رئيسيًّا في تنفيذ المشروع، فإن ذلك سيُمكِّنُها من تقوية مكانتها كمزودٍ رائدٍ للتكنولوجيا النووية حول العالم، وفتْح أسواقٍ جديدةٍ أمام روسيا لتصدير التكنولوجيا.
ختامًا:
بعد اتفاقية الطاقة النووية المُوقَّعَة بين موسكو وأديس أبابا، تدخل العلاقات “الروسية – الإثيوبية” طوْرًا جديدًا من التعاون الاستراتيجي، ليس فقط في المجال التقني والاقتصادي، بل في التأثير السياسي والإقليمي، وتُمثِّلُ هذه الخطوة فرصةً لروسيا لتأكيد حضورها ونفوذها في أفريقيا، ومع ذلك، يظَلُّ تطبيق أعلى معايير السلامة والشفافية الدولية شرْطًا أساسيًّا لضمان الاستخدام السِّلْمِيِّ للتكنولوجيا النووية، وتجنُّب أيِّ توتُّرٍ إقليميٍّ أو تصعيدٍ سياسيٍّ، وبالرَّغْم من أن هذه الشراكة تعتبر رُؤْيةً مشتركةً لتحقيق التنمية المستدامة، إلَّا أنها تُعَدُّ أيضًا اختبارًا حقيقيًّا لقُدْرة البلديْن على إدارة مخاطر الطاقة النووية بحكمة ومسؤولية.
[2] “روساتوم” وهيئة الطاقة الكهربائية الإثيوبية توقعان خطة عمل لبناء محطة طاقة نووية في إثيوبيا، ار تي، 25 سبتمبر 2025، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/ptht4
