تُعدُّ زيارة بايدن لقارة أفريقيا هي الأولى منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وتعكس الاهتمام الأمريكي بالقارة الأفريقية، في ظلِّ زَخَمِ توتُّر العلاقات الدولية بين القُوَى الكُبْرَى بشكلٍ عامٍ والعلاقات الأمريكية الأفريقية بشكلٍ خاص؛ حيث تسعى الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على الهيمنة وبقاء ميزان القُوَى العالمية لصالحها، خاصَّةً مع اشتداد المنافسة مع كُلٍّ من الصين وروسيا، وفي سبيل ذلك، تُعزِّزُ واشنطن من تواجُدها بالقارة الأفريقية؛ لما لها من أهمية جيوسياسية إلي جانب المصالح الإستراتيجية والاقتصادية والأمنية، وتأتي زيارة بايدن للدول الأفريقية محاولة لإعادة التموْضع الأمريكي بالقارة وتعزيز نفوذها بالمنطقة إلى جانب تعميق العلاقات مع الدول الأفريقية على كافَّة الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية؛ ما يُعيد للولايات المتحدة الأمريكية مكانتها داخل القارة.
الزيارة الأمريكية الأولى منذ عهد الرئيس باراك أوباما
زار الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” أفريقيا خلال فترة رئاسته ٣ مرات، ولم تكن لتلك الزيارات أهدافٌ محددةٌ وواضحةٌ، حتى اتجه البعض في تحليلهم لأهداف تلك الزيارة، إلى أنه مجرد حنين من الرئيس الأمريكي لأصوله الأفريقية، ما عدا زيارته الثالثة والأخيرة التي جاءت في نهاية ولايته للحُكْم، وحملت أهدافها أبعاد اقتصادية وتجارية وأمنية، أمَّا زيارة الرئيس “جو بايدن” تختلف كليًّا؛ حيث إنها أول زيارة يقوم بها لأفريقيا منذ تولِّيه فترة ولايته، وأول زيارة أمريكية للقارة السمراء منذ حوالي ١٥ عامًا، وجاءت تلك الزيارة في ظلِّ توتُّر العلاقات “الأمريكية – الأفريقية”؛ حيث قامت العديد من الدول الأفريقية بطرْد القوات الأمريكية من أراضيها واستعانت بقوات روسية عوضًا عنها، مثل “مالي والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطي وأنجولا وتشاد والنيجر” وغيرهم، وإن لم يتم الانسحاب بشكلٍ كاملٍ في بعض الدول، كان هناك تقليص للعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، في مقابل تعميقٍ للعلاقات مع روسيا من الناحية الأمنية؛ لذلك كان على الطرف الأمريكي أن يقف أمام تصاعُد النفوذ الرُّوسي والصيني بالمنطقة، أو حتى مواكبة هذا التصاعُد، وإعادة التموْضع مرَّةً أُخرى.[1]
عودة أمريكية للقارة الأفريقية
تُعدُّ هذه الزيارة بمثابة عودة للعلاقات “الأمريكية – الأفريقية”، ومحاولة لإعادة التموْضع مرَّةً أُخرى داخل القارة، خاصَّةً بعد زعزعة الوجود الأمريكي، والسبب الرئيسي في ذلك، هو تصاعُد النُّفوذ الرُّوسي والصيني واحتدام المنافسة بينهم؛ فالصين لديها وجودٌ قويٌّ في أفريقيا، من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، إضافةً إلى الاستثمارات الضخمة في البِنْيَة التحتِيَّة والموانئ، أمَّا بالنسبة لرُّوسيا؛ تُركِّزُ بشكلٍ أكبر على تقديم الدعم العسكري وإرسال القوات العسكرية، مثل “مجموعة فاغنر” فضلًا عن صفقات الأسلحة، أمَّا عن الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تسعى إلى تعزيز نفوذه، من خلال برامج المساعدات والاستثمارات وتقوية العلاقات الدبلوماسية، كما أن لانسحاب القوات الأمريكية من تشاد والنيجر أثرًا بشكلٍ سلبيٍ على الهيمنة الأمريكية للقارة؛ فجاءت تلك الزيارة لتعزيز الوجود الأمريكي، وإعادة تعميق العلاقات الأمريكية بالدول الأفريقية.[2]
سياق الزيارة
قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بزيارةٍ تاريخيةٍ إلى أنجولا؛ حيث وصل إلى الأراضي الأنجولية يوم الاثنين الماضي في الثاني من ديسمبر2024، والمُقرَّر أن تنتهي اليوم الخميس ٥ ديسمبر، وكان في استقباله الرئيس الأنجولي جواو لورينسو، وقام بايدن بعقْد جلسات مغلقة مع نظيره الأنجولي وعدد من الوزراء والمسؤولين، ركَّزت على تعزيز التعاون في مجالات البِنْيَة التحتِيَّة والطاقة المتجددة والتكنولوجيا، كما تمَّ توقيع اتفاقيات اقتصادية مرتبطة بمشروع “ممر لوبيتو”، أحد أبرز محاور الزيارة، كما قام بايدن بجولة تفقديةٍ في ميناء لوبيتو الإستراتيجي، الذي يُعدُّ نقطةً رئيسيةً لمشروع السِّكَك الحديدية المدعوم أمريكيًّا، والهدف من الجولة، هو التأكيد على التزام الولايات المتحدة بدعم التنمية المستدامة والبِنْيَة التحتِيَّة في أفريقيا، وألقى بايدن خطابًا ركَّز فيه على أهمية الشراكة بين الولايات المتحدة وأفريقيا، ودورها في مواجهة التحديات العالمية، مثل تغيُّر المناخ والتنمية الاقتصادية وتعزيز الاستقرار السياسي.[3]
دلالات زيارة جو بايدن
تعتبر زيارة بايدن لأفريقيا فريدةً من نوْعها؛ حيث إنها أول رئيس أمريكي يزور منطقة أفريقيا جنوب الصحراء منذ زيارة “باراك أوباما” في 2015، وتهدف هذه الزيارة إلى تعزيز العلاقات الثنائية، والتركيز على الاستثمار في البِنْيَة التحتِيَّة؛ حيث أعلن بايدن عن دعمه لمشروع “ممر لوبيتو”، وهو مشروع اقتصادي وإستراتيجي ضخم، يهدف إلى إنشاء ممرٍّ تجاري يربط الدول غير الساحلية في أفريقيا الوسطى والجنوبية بميناء لوبيتو على المحيط الأطلسي في أنجولا، ويتمثل الهدف الأساسي من الممرِّ في تحسين التكامل الإقليمي وتنشيط التجارة الدولية، مع تقليل الاعتماد على طُرُق التجارة التقليدية التي تهيمن عليها الصين، إضافةً إلى منافسة النفوذ الصيني في أفريقيا، خاصَّةً في مجال المعادن، مثل الكوبالت والنحاس الضروريين للتكنولوجيا الحديثة، كما تعكس تلك الزيارة تحوُّلًا في السياسة الأمريكية تِجَاه القارة؛ حيث تسعى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال هذه الزيارة إلى تعزيز شراكتها مع أفريقيا، عبر نهْجٍ يعتمد على التنمية المستدامة والمشاركة الاقتصادية، بدلًا من المساعدات التقليدية.[4]
العلاقات “الأمريكية – الأنجولية”
تُعدُّ العلاقات “الأمريكية – الأنجولية” نموذجًا للعلاقات الدولية التي تتمحور حول الأهداف الجيوسياسية والاقتصادية المشتركة؛ إذ إنها تطوَّرت عبْر العقود الأخيرة بشكلٍ ملحوظٍ؛ حيث إنها انتقلت من كوْنها مُجرَّد علاقات اقتصادية محدودة إلى شراكة إستراتيجية تشمل عِدَّة جوانب، منها:
أ- الجانب الاقتصادي:تُعدُّ أنجولا ثالث أكبر شريكٍ تجاريٍّ للولايات المتحدة في أفريقيا جنوب الصحراء، خاصَّةً في قطاع النفط؛ حيث تعتمد العلاقات بشكلٍ كبيرٍ على صادرات أنجولا من النفط الخام، ومع ذلك تسعى الولايات المتحدة إلى تنويع العلاقات الاقتصادية، من خلال الاستثمار في مشروعات البِنْيَة التحتِيَّة والطاقة المتجددة، مثل مشروع “ممر لوبيتو”، الذي يُعدُّ جزءًا من إستراتيجية واشنطن لمنافسة النفوذ الصيني في أفريقيا.
ب- الجانب الأمني: تلعب أنجولا دورًا مِحْوَريًّا في استقرار منطقة أفريقيا الوسطى؛ ما يجعلها شريكًا أمنيًّا مهمًا للولايات المتحدة، تسعى واشنطن لدعم جهود السلام والتنمية الإقليمية بالتعاون مع حكومة أنجولا.
ت- الجوانب الجيوسياسية:تعتبر أنجولا جزءًا أساسيًّا من إستراتيجية واشنطن؛ لتعزيز وجودها في القارة الأفريقية، خاصَّةً في ظلِّ تزايُد التنافُس الدولي مع الصين وروسيا، تستفيد الولايات المتحدة من الموقع الجغرافي الإستراتيجي لأنجولا ومواردها الطبيعية؛ لتعزيز شراكتها طويلة الأَمَد مع الدولة، والمساهمة في استقرار المنطقة.
ث- الجوانب التنموية: تعمل الولايات المتحدة على تعزيز شراكاتها التنموية مع أنجولا، بالتركيز على مجالات الصحة والتعليم والطاقة النظيفة، وتسعى واشنطن لتحويل سياساتها من المساعدات التقليدية إلى نهْجٍ قائمٍ على بناء القدرات المحلية والتنمية المستدامة؛ بما يُعزِّزُ الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.[5]
مُخْرَجات الزيارة
أظهر الرئيس الأمريكي جو بايدن في ختام زيارته التاريخية إلى أنجولا، التزام الولايات المتحدة بتعزيز شراكتها مع القارة الأفريقية، مع التركيز على التنمية المستدامة والتكامل الاقتصادي، كما تُمثِّلُ الزيارة محطَّةً مهمةً؛ لإعادة صياغة العلاقات الثنائية بين البلديْن؛ حيث تمَّ التأكيد على التعاون في مشاريع إستراتيجية، مثل “ممر لوبيتو” الذي يعكس رؤيةً طويلة الأمد؛ لتعزيز التجارة الإقليمية، وتقليل الاعتماد على قُوَى خارجية مثل الصين، كما جسَّدت الزيارة رغبة واشنطن في توسيع دورها في أفريقيا، عبْر نهْجٍ تنمويٍّ شاملٍ، يُعزِّزُ الاستقرار الاقتصادي والسياسي، هذه الخطوة تأتي كجزءٍ من إستراتيجية أمريكية أكبر؛ لتعزيز حضورها في القارة، في مواجهة التحديات الجيوسياسية المتزايدة.
في الختام:
أعادت الولايات المتحدة في هذه الزيارة تأكيد التزامها بتعزيز التعاون مع الدول الأفريقية، ليس فقط من أجل المصالح المشتركة، بل أيضًا لتأسيس علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والشراكة الحقيقية، وقد حملت الزيارة أبعادًا إستراتيجية مهمة، تتجاوز البُعْد الدبلوماسي التقليدي؛ إذ ركَّزت الزيارة على تعزيز الشراكات الاقتصادية ومواجهة التحديات الأمنية ودعم التنمية المستدامة في القارة، كما أكَّدت على الأهمية المتزايدة لأفريقيا في السياسة الدولية، ودورها المحوري في تشكيل مستقبل المجتمع الدولي، وتظلُّ نتائجُ هذه الجولة مرهونةً بترجمتها إلى مبادرات ملموسة تُحقِّقُ الفائدة لكلا الجانبيْن، وترسم آفاقًا جديدةً للتعاون في المستقبل.
المصادر:
[1] عادل السنهورى، زيارة أوباما الأخيرة إلى أفريقيا، اليوم السابع، ٢٩ يوليو ٢٠١٥، https://bit.ly/4f1TSBq ، ١٢ اكتوبر ٢٠٢٤.
[2] قاعدة روسية في أفريقيا الوسطى.. موسكو تثبت أقدامها في القارة، sky news عربية، 12 فبراير 2024، https://shorturl.at/eE2sr ، ٥ ديسمبر ٢٠٢٤.
بعد طردها من النيجر.. قوات أميركية تتمركز ببنين وكوت ديفوار،sky news عربية، ١١ سبتمبر ٢٠٢٤، https://shorturl.at/fHAtH، ٥ ديسمبر ٢٠٢٤.
رويترز”: بايدن سيزور أنجولا خلال الأسابيع المقبلة، الشرق، ١٣ سبتمبر ٢٠٢٤، https://shorturl.at/ivDn5 ٥ ديسمبر ٢٠٢٤.
[3] بايدن يزور أنجولا لتعزيز الشراكة الاقتصادية ومواجهة النفوذ الصيني، العربية، ٢ ديسمبر ٢٠٢٤، https://t.ly/F6Yjn ، ٥ ديسمبر 2024.
[4] بايدن سيزور أفريقيا جنوب الصحراء للمرة الأولى قبيل انتهاء رئاسته، الجزيرة. نت، ١٤ سبتمبر ٢٠٢٤، https://shorturl.at/yzhdK ، ١٢ اكتوبر ٢٠٢٤.
د. بدر حسن شافعي، لماذا أعلن بايدن زيارة أفريقيا في هذا التوقيت تحديدًا؟، الجزيرة. نت، ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤، https://shorturl.at/SLoU8 ، ١٢ اكتوبر ٢٠٢٤.
بلال المصري، المشروع الأمريكي لإقامة مــــمــر لـوبـيـتـو بين المنافسة الصــينيــة والـفســاد الأنجولي، المركز الديمقراطي العربي، ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٤، https://democraticac.de/?p=100121 ، ٥ ديسمبر ٢٠٢٤.
منى عبد الفتاح، البُعد الجديد في العلاقات الأميركية الأفريقية، الجزيرة نت، ٤ اغسطس ٢٠٢٤، https://t.ly/LahC1 ، ٥ ديسمبر ٢٠٢٤.
