تشهدُ السَّاحةُ الليبيةُ منذُ سنواتٍ حالةً من عدم الاستقرار؛ نتيجة تفكُّك موازين القوة وتفتُّت مراكز القرار، وهو ما يرجع إلى استمرار الانقسام السياسي والعسكري بين الشرق والغرب، وغياب مؤسساتٍ مُوحَّدةٍ قادرةٍ على إدارة المرحلة الانتقالية، وقد زاد هذا التعقيد بفِعْل التنافُس الحادّ بين الفاعلين المحليِّين، وتضارُب مصالح القوى الإقليمية والدولية؛ ما جعل ليبيا ميدانًا مفتوحًا لتجاذُباتٍ خارجيةٍ متشابكةٍ تتجاوز حدودها الجغرافية.
في هذا السياق، برزت زيارةُ صدام حفتر، رئيس أركان القوات البرية التابعة للقيادة العامة في شرق ليبيا ونجل المشير خليفة حفتر، إلى العاصمة التركية أنقرة، كحدثٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ لافتٍ، استدعى اهتمامًا واسعًا على الصعيديْن المحلي والدولي؛ فقد التقى صدام برئيس أركان القوات البرية التركية، الفريق أول سلجوق بيراكتار أوغلو، في مقرِّ رئاسة القوات البرية بمنطقة جانكايا، وسط مراسم استقبالٍ رسميةٍ رفيعة المستوى، وهو ما منح الزيارةَ دلالاتٍ تتجاوز الطابع البروتوكولي، وأوحى باعترافٍ تركيٍّ ضمنيٍّ بمكانة صدام حفتر. [1]
وتُعدُّ هذه الخطوةُ مؤشرًا على توجُّه تركي جديد نحو الانفتاح على شرق ليبيا؛ بما قد يُمهِّدُ لانطلاق علاقات إيجابية بين أنقرة والقيادة الشرقية، رغم أن تركيا كانت حتى وقتٍ قريبٍ في مواجهةٍ مباشرةٍ مع قوات حفتر.
وعليه يعكس هذا الانفتاح رغبةً تركيةً في إعادة صياغة مواقفها؛ بما يُعزِّزُ حضورها ونفوذها في المشهد الليبي بمختلف أطرافه.
توقيت الزيارة
يحمل توقيتُ زيارة صدام حفتر إلى أنقرة دلالاتٍ سياسيةً لافتةً، ليس فقط لأنها جاءت في سياق تطوُّرات داخلية وإقليمية حسَّاسة، بل أيضًا لأنها تمَّتْ في الرابع من أبريل، وهو تاريخ له رمزية خاصَّةً في الأزمة الليبية؛ ففي مثل هذا اليوم من عام 2019، أطلقت قوات القيادة العامة بقيادة خليفة حفتر عمليةً عسكريةً لدخول العاصمة طرابلس، وهو ما شكَّل نقطة تحوُّلٍ مِفْصَلِيةٍ دفعت تركيا حينها إلى التدخُّل العسكري المباشر إلى جانب حكومة الوفاق؛ ما غيَّر موازين القوى على الأرض وأوْقف التقدُّم نحو العاصمة.
وتكتسب الزيارةُ أهميةً إضافيةً؛ كوْنها تزامنت مع تحرُّكات تقودها بعثة الأمم المتحدة بالتنسيق مع مجلسي النواب والدولة، تهدف إلى تشكيل سلطة تنفيذية مُوحَّدة تشرف على المرحلة الانتقالية المقبلة، وتُمهِّدُ الطريق لأول انتخابات رئاسية مباشرة في تاريخ البلاد.
في هذا الإطار، فإن الاستقبال الرسمي الذي حَظِيَ به صدام حفتر في أنقرة بصفته العسكرية، والذي شَمِلَ عرْضًا عسكريًّا وعزْفًا للنشيد الوطني، لا يمكن اعتباره مُجرَّد إجراءٍ بروتوكوليٍّ، بل يعكس تحوُّلًا في مقاربة أنقرة تجاه معسكر الشرق، ويبدو أن تركيا تتجه نحو اعتماد سياسةٍ أكثر واقعيةً وشمولًا في التعامُل مع مختلف الأطراف الليبية؛ بما يضمن استمرار نفوذها وحضورها كطرفٍ فاعلٍ في رسْم ملامح المرحلة القادمة.
محتوى الزيارة
تتجاوز زيارةُ صدام حفتر إلى أنقرة حدودَ المجاملة الدبلوماسية أو البروتوكول الرسمي، لتدخل في عُمْق مسار تعاونٍ عسكريٍّ متقدِّمٍ بين تركيا والقيادة العامة في شرق ليبيا؛ فرغْم الغياب النسبي للبيانات الرسمية التفصيلية، كشفت تقارير إعلامية متقاطعة، من بينها ما نشرته مجلة “جون أفريك”، عن بنود عمليةٍ أُدْرِجَتْ ضمن الزيارة، تعكس توجُّهًا إستراتيجيًّا تركيًّا نحْو شراكةٍ عسكريةٍ متوسطة الأمد مع صُنَّاع القرار العسكريِّين في بنغازي.
وقد شملت هذه البنودُ تنظيمَ أكثر من 30 برنامجًا تدريبيًّا خلال السنوات الخمس المقبلة، تُغطِّي مجالات الدفاع والصيانة والدعم الفني، وتأتي هذه البرامج في إطار مساعٍ تركيةٍ لرفع كفاءة القوات البرية في شرق ليبيا، وإعادة هيكلتها؛ بما ينسجم مع المعايير العسكرية الحديثة، كما تضمَّن التعاون العسكري تدريب عناصر ليبية على تشغيل الطائرات التركية المُسيَّرة من طراز Bayraktar TB2 وAkıncı؛ ما يعكس مستوى الثقة الفنية ونقْل التكنولوجيا بين الجانبين، ويُعزِّزُ من قدرات الرَّصْد والرَّدْع الجوي لدى قوات القيادة العامة.[2]
وعلاوةً على ذلك، طُرِحَتْ مبادراتٌ لإجراء مناورات عسكرية مشتركة على الساحل الليبي الشرقي، وهو ما يُعدُّ سابقةً في العلاقات بين تركيا والقيادة العامة، بالنظر إلى طبيعة العلاقة المتوترة السابقة بين الطرفيْن، كما تمَّ أيضًا بحْث إمكانية توسيع الاستثمارات التركية في البِنْيَة التحتِيَّة العسكرية، لا سيما في المنطقة الجنوبية الغنية بالموارد الطبيعية؛ بما يشير إلى اهتمام أنقرة بتأمين مواقع إستراتيجية متقدمة في العُمْق الليبي، وليس فقط على السواحل.
في هذا السياق، يمكن قراءة هذه الشراكة الوليدة بوصفها امتدادًا للبراغماتية التركية، التي تتعامل مع ليبيا بوصفها ساحة نفوذ متعددة الأبعاد، وليست مُجرَّد ملف دعْمٍ سياسيٍّ لأحد أطراف الصِرَاع؛ فبعد سنواتٍ من الانحياز الحصْري لمعسكر الغرب، تسعى تركيا اليوم إلى خلْق تموْضعٍ أكثر توازنًا، يضمن مصالحها الإستراتيجية على المدييْن المتوسط والبعيد، عبْر شراكاتٍ واقعيةٍ مع الفاعلين العسكريِّين على الأرض.
رسائل الزيارة
تحمل زيارة صدام حفتر إلى أنقرة في طيَّاتها عدة رسائل ضمنية وصريحة، تتجاوز السياق الثنائي “الليبي – التركي”، وتعكس جُمْلَةً من التحوُّلات في إدراك أنقرة لدورها في ليبيا والمنطقة.
يمكن تلخيص هذه الرسائل على النحو الآتي:
1- توجيه إشارة إقليمية لليونان:
يعكس توقيت الزيارة وتفاصيلها موقفًا تركيًّا محسوبًا تجاه التحرُّكات اليونانية في البحر المتوسط، خصوصًا بعد ورود تقارير عن سعْي شركة “شيفرون” الأمريكية للتنقيب في منطقة متنازع عليها جنوب جزيرة كريت. [3]ومن خلال الانفتاح على معسكر الشرق الليبي، والذي كان من أبرز معارضي مذكرة التفاهم البحرية المُوقَّعة بين أنقرة وطرابلس عام 2019، تسعى تركيا إلى تعزيز موقفها التفاوضي عبْر إشراك بنغازي مستقبلًا في ترتيباتٍ تعطي للاتفاقية بُعْدًا وطنيًّا ليبيًّا أشمل، وعليه فإن القبول المبدئي بالتعاون العسكري من جانب صدام حفتر، خاصَّةً في مجالات التدريب وتسليح الطائرات المُسيَّرة، قد يُعدُّ تمهيدًا لهذا المسار، ويمنح تركيا أدوات ضغط إضافية في مواجهة تحرُّكات اليونان في المنطقة.
2- التحرُّك في مساحة التنافُس مع روسيا:
يُمثِّلُ هذا الانفتاح التركي على معسكر الشرق أيضًا محاولةً لإعادة التوازُن داخل ساحة شرق ليبيا، خصوصًا في ظلِّ استمرار النفوذ الروسي الآخذ في التصاعُد؛ إذ لا تهدف أنقرة إلى استبدال موسكو، لكنها تسعى للتموْضع كشريكٍ بديلٍ أو مُكَمِّلٍ في الوقت ذاته؛ ما يسمح لها بالتدخُّل في منطقة نفوذ روسي دون صدام مباشر، وبتقديم نفسها كذراعٍ للحِلْف الأطلسي القادر على التعامُل مع قضايا أمنيةٍ مُعقَّدةٍ.
وينسجم هذا التوجُّه مع توجُّهات الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب، التي يبدو أنها أكثر انفتاحًا على توسيع الدور التركي الإقليمي في مواجهة أدوار منافسة لكُلٍّ من روسيا والصين، كما أن دول الاتحاد الأوروبي قد تدعم تقارُب أنقرة مع معسكر الشرق الليبي؛ لأنه سيساهم في تقليص اعتماد حفتر على الدعم الروسي.
3- إعادة ضبْط قواعد التعامُل مع الداخل الليبي:
يبعث الاستقبال الرسمي لصدام حفتر في أنقرة برسالة داخلية واضحة، مفادها؛ أن تركيا باتت تميل إلى الشراكة مع المؤسسات العسكرية المستقرة، مثل القيادة العامة في الشرق، بَدَلًا من الاعتماد على تشكيلات مسلحة متفرقة وغير منضبطة، كما هو الحال في بعض مناطق الغرب.
هذا التوجُّه لا يعني القطيعة مع حكومة الوحدة الوطنية أو الفاعلين في طرابلس، بل يعكس مقاربةً تركيةً أكثر براغماتيةً وتوازُنًا، تستند إلى مبْدأ “الشراكة مقابل الانضباط”، في إشارةٍ إلى أن الفُرَص مفتوحة أمام جميع الأطراف؛ شرْطَ توفُّر الجِدِّيَّة والقدرة المؤسساتية، وهو ما قد يدفع الأطراف الغربية إلى إعادة تقييم علاقاتها الإقليمية وتكتيكاتها السياسية.
4- فتْح المجال أمام توسيع النفوذ الاقتصادي:
وبالحديث عن البُعْد الاقتصادي للزيارة، والذي لا يقِلُّ أهميةً عن جانبها العسكري، تنظر أنقرة إلى التعاون الأمني كمدخلٍ لتعزيز حضورها في ملفات إعادة الإعمار، وتشغيل الموانئ والمطارات، ومشروعات الطاقة، خصوصًا في الجنوب الليبي الغني بالموارد، خاصَّةً أن تركيا تتبنَّى نهْجًا مُعْتَادًا في مناطق الصراعات والأزمات؛ حيث توظف الحضور العسكري كبوابةٍ للاستثمار طويل الأمد؛ ما يمنحها نفوذًا مُرَكَّبًا يصْعُبُ تجاوُزه.
وعليه قد يتيح تقارُب تركيا مع قوات الشرق فُرَصًا جديدةً خارج المناطق التقليدية لنفوذها في الغرب الليبي، ويمنحها ميزةً تنافسيةً في مواجهة أطراف إقليمية ودولية أخرى تتسابق على حِصَّةٍ من عقود إعادة الإعمار.
صدام حفتر وديناميات القيادة القادمة
زيارة صدام حفتر إلى أنقرة ليست مُجرَّد مهمةٍ بروتوكولية لقائدٍ عسكريٍّ، بل تُمثِّلُ في جوهرها تتويجًا لتحوُّلاتٍ أوسع في شخصية الرجل ومساره السياسي المتصاعد داخل معسكر الشرق؛ فمنذ سنوات، يسعى صدام إلى التمايُز عن صورة والده الصلبة والمغلقة، عبْر تبنِّي نهْج أكثر مرونةً وانفتاحًا، يقوم على البراغماتية وبناء علاقات خارجية متعددة المسارات، وقد برز ذلك تدريجيًّا من خلال مشاركته في معرض “ساها إكسبو 2024” الدولي للدفاع والفضاء بمدينة اسطنبول، في أكتوبر الماضي؛ حيث التقى وزير الدفاع التركي يشار غولر، قبل أن ينتقل إلى موقع صانع الشراكات الأمنية مع أنقرة في إطارٍ رسميٍّ رفيعٍ.
وتكشف هذه الديناميكية عن أمريْن أساسيِّيْن:
أولًا، أن معسكر الشرق بات يُعيدُ إنتاج نفسه عبْر قيادات أكثر تكيُّفًا مع الواقع الإقليمي والدولي.
ثانيًا، أن صدام حفتر، تحديدًا، يطرح نفسه كشخصية وسطية يمكنها لعب دور في مشاريع “توسيط” الفجوة بين الشرق والغرب؛ نظرًا لعلاقاته غير المعلنة مع شخصيات من حكومة الوحدة الوطنية، ولقدرته على تقديم خطابٍ أكثر مرونةً تِجَاه الشركاء الخارجيِّين.
داخليًّا: تمنح هذه الزيارة صدام موقعًا تفاوضيًّا أقوى داخل بِنْيَة القيادة العامة، لا سيما في علاقته بالمُكوِّنات القبَلِيَّة في الجنوب.
أمَّاخارجيًّا: فتمنحه بُعْدًا إضافيًّا كفاعلٍ سياسيٍّ صاعدٍ، قد يُهَيَّأُ – تدريجيًّا – لتصدُّر مشهد القيادة المستقبلية، سواء في إطار إعادة هيكلة القيادة العامة أو ضِمْن ترتيبات سياسية أكثر شمولًا في ليبيا.
وبهذا المعنى، لا يمكن قراءة زيارته إلى تركيا بمعْزلٍ عن مسعاه طويل الأمد لبناء صورة “القائد الجديد”، الذي يُتقن لغة التوازُنات الإقليمية، ويستثمر الموقع العسكري في تعزيز شرعية سياسية محتملة.
مآلات محتملة ومجالات مفتوحة
في الختام، تُمثِّلُ زيارة صدام حفتر إلى أنقرة لحظة تحوُّلٍ لافتةٍ في مقاربة تركيا تجاه الملف الليبي؛ حيث لم تعُدْ أنقرة تكتفي بتموْضعها في معسكر الغرب، بل بدأت بالتحرُّك ضمن رؤيةٍ أوسع تسعى لإعادة التوازُن إلى أدوارها في ليبيا، وتوسيع شبكتها من الشراكات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وعلى الرغم من أن هذا الانفتاح لا يزال في مراحله الأوَّلِيَّة، إلَّا أن مؤشرات عديدة تُوحي بإمكانية تطويره إلى ترتيبات أكثر عُمْقًا، سواء على مستوى التعاون العسكري المباشر، أو عبْر إعادة إحياء الاتفاقيات البحرية والاقتصادية بصيغةٍ أكثر شمولًا.
استشرافيًّا: من المُرجَّح أن تُعيدَ تركيا تموْضعها كقوة واصلة بين الفرقاء الليبيين، مستفيدةً من علاقتها المتينة بحكومة طرابلس، ومن الانفتاح الجديد على القيادة العامة في الشرق، وإذا ما وُضِعَتْ هذه التحرُّكات في إطار التغيُّرات الإقليمية والدولية، فإن أنقرة تبدو وكأنها تُجهِّزُ نفسها للعب دور الوسيط في أيِّ تسويةٍ قادمةٍ، خاصَّةً في ظلِّ تراجُع فاعلية الفاعلين الأوروبيِّين، وبحْث واشنطن عن شركاء موثوقين في إدارة ملفات النفوذ والطاقة في جنوب المتوسط.
لكن هذا السيناريو يظلُّ مشروطًا بقدرة الأطراف الليبية على التقاط الرسائل الإقليمية والتعامُل معها كفُرْصةٍ لتقليص الانقسامات، لا كمجالٍ جديدٍ للتنافُس؛ فاستدامة هذا النوع من الشراكات يتطلب بيئةً داخليةً أكثر استقرارًا، وإرادة سياسية قادرة على تحويل التوازنات المتغيرة إلى فُرَصٍ لإعادة بناء الدولة، لا مُجرَّد تحريك بيادق النفوذ الخارجي.
