في زيارةٍ دولةٍ تاريخيةٍ تُعَدُّ الأولى من نوعها، استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي الملك فيليبي السادس، ملك إسبانيا، في قصر الاتحادية، خلال زيارة رسمية استمرت أربعة أيام، منذ الثلاثاء 16 سبتمبر 2025، وقد حملت الزيارة ثِقَلًا تجاوز الطابع البروتوكولي؛ إذ جاءت لتعكس مستوى جديدًا من التلاقِي الاستراتيجي بين القاهرة ومدريد، سواء على الصعيد الثنائي أو في مقاربة القضايا الإقليمية والدولية، فإلى جانب المباحثات المُعمَّقَة التي تناولت سُبُل تطوير التعاون الاقتصادي والاستثماري والثقافي، تركَّزَت النقاشات على تطوُّرات الأوضاع الإقليمية، وعلى رأسها الحرب في غزة؛ مما جعل هذه الزيارة محطَّةً أساسيةً لاختبار قدرة البلدين على تطوير شراكة أكثر شمولية وفعالية في ظلِّ بيئة دولية متغيرة.
دلالة التوقيت:
حملت زيارة الملك الإسباني فيليبي السادس إلى القاهرة في الفترة من 16 إلى 19 سبتمبر 2025 ، ليس فقط من حيث كونها أول زيارة دولة رسمية يقوم بها العاهل الإسباني إلى مصر منذ اعتلائه العرش عام 2014، وإنما أيضًا بالنظر إلى السياقات الزمنية التي تزامنت معها؛ فالزيارة تأتي بعد نحو ستة أشهر فقط من زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى مدريد، والتي أثمرت عن توقيع اتفاق “التحالف الاستراتيجي”؛ هذا الاتفاق شكَّلَ نقطة تحوُّلٍ نوعيةٍ نقلت العلاقات بين البلدين من مستوى التعاون التقليدي إلى شراكة شاملة؛ ما جعل الزيارة الملكية الراهنة بمثابة تتويج سياسي ورمزي لترسيخ هذا الفصْل الجديد في العلاقات.
إلى جانب ذلك، أضفت الظروف الإقليمية وزْنًا إضافيًّا على الزيارة، فقد جاءت بعد انعقاد القمة “العربية – الإسلامية” الطارئة في الدوحة، التي دعت إليها الدول الأعضاء، ولعل أهمية التوقيت تكمن في أن مدريد باتت من أكثر العواصم الأوروبية انتقادًا للسياسة الإسرائيلية، بعدما مضت قُدُمًا في الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى جانب عددٍ من الدول الأوروبية، وهو ما جعلها أقرب إلى الرؤية المصرية التي تركز على وقْف العدوان وفتْح مسارات إنسانية وسياسية متوازية.
هذا التوجُّه المصري يتقاطع مع خطاب إسبانيا داخل الاتحاد الأوروبي، ويمنح للزيارة وزْنًا مضاعفًا قُبَيْل انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الشهر؛ حيث ستُطرح القضية الفلسطينية على نحوٍ واسع.
يُضافُ إلى ذلك أن الزيارة تزامنت مع تصعيد الموقف الإسباني ضد إسرائيل؛ حيث ألغت مدريد – قبل يوم واحد فقط من وصول الملك فيليبي إلى القاهرة – صفقة أسلحة بقيمة 700 مليون يورو مع تل أبيب، في خطوة تعكس إرادة سياسية واضحة لعدم المساهمة في دعم العمليات العسكرية الإسرائيلية؛ ما يُضيف بُعْدًا سياسيًّا مهمًا إلى زيارة الملك.[1]
علاوةً على ذلك، جاءت هذه الزيارة في ظل الدعوات المتجددة لإحياء “عملية برشلونة” بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على إطلاقها، بوصفها المبادرة التاريخية التي سعت لجعل منطقة المتوسط فضاءً مشتركًا للسلام والتنمية. في هذا السياق، تبرز القاهرة كشريك رئيسي يمكنه دفْع هذا المسار للأمام عبْر تعزيز التعاون مع دول شمال أفريقيا أو صياغة ميثاق أورومتوسطي جديد يضُمُّ مؤسسات أكثر فاعلية في الحُكْم والتنسيق.[2]
الأبعاد الثنائية للزيارة:
تُعَدُّ زيارة ملك إسبانيا إلى مصر محطَّةً بارزةً تعكس تحوُّلًا نوعيًّا في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين؛ إذ جاءت لتُكرِّسَ الزَّخَمَ الناتجَ عن توقيع اتفاقية “التحالف الاستراتيجي” خلال زيارة الرئيس المصري إلى مدريد في مارس 2025، والذي وضع الأساس لمرحلة جديدة في العلاقة بين البلدين؛ حيث انتقل التعاون من إطار تقليدي إلى شراكة شاملة تستند إلى فهْم مشترك لطبيعة التحديات المشتركة التي تواجه الدولتين.
من ثَمَّ تُعزِّزُ هذه الزيارة هذا التحوُّل وتؤكد وجود إرادة سياسية واضحة لدى الجانبين للعمل على تحويل التحالف إلى إطار عملي يُثْمِرُ مشروعات ملموسة في مجالات متداخلة تشمل الاقتصاد والأمن والثقافة.
فيما يتعلق بالأبعاد السياسية والأمنية؛ فإن القاهرة ومدريد تتقاطعان في مقاربة متوازنة لملفات المتوسط، وعلى رأسها الأزمة الليبية، وأمن البحر المتوسط، والهجرة غير النظامية؛ فبالنسبة لإسبانيا، التي تُمثِّلُ الخط الجنوبي الأول للاتحاد الأوروبي، فإن التعاون مع مصر يُعَدُّ أمرًا حيويًّا لضبْط التدفُّقات غير الشرعية ومواجهة شبكات التهريب، في المقابل، تُعوِّلُ مصر على الدور الإسباني في صياغة موقف أوروبي أكثر تفهُّمًا لأولويات الأمن القومي المصري، خاصَّةً فيما يتعلق باستقرار ليبيا ومحاربة الإرهاب في شمال إفريقيا.
بالتالي؛ كانت الزيارة بمثابة فرصة لتعزيز التنسيق الأمني والدبلوماسي بين البلدين من خلال آليات تعاون منتظمة تخدم مصالحهما المشتركة.[3]
على المستوى الاقتصادي، تنظر مصر إلى إسبانيا كشريكٍ أوروبيٍّ صاعدٍ يمتلك مؤهلات تُمكِّنُه من لعب دور استراتيجي في خطط مصر للتحوُّل إلى مركز إقليمي للطاقة؛ فمدريد تسعى إلى تعزيز مكانتها داخل الاتحاد الأوروبي، باعتبارها محورًا رئيسيًّا للطاقة النظيفة، وتدرك أن التعاون مع القاهرة في مجالات، مثل “الغاز الطبيعي، الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة” سيفتح أمامها فرصًا لدخول أسواق جديدة في أفريقيا والشرق الأوسط، ومن أبرز المجالات الواعدة لهذا التعاون المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، بالإضافة إلى الاستثمار في “البنية التحتية، النقل، والسياحة”، ومن شأن هذه الشراكات أن تمنح العلاقات الثنائية بُعْدًا استراتيجيًّا يتجاوز الأُطُر التجارية التقليدية.[4]
أمَّا المستوى الثقافي والإنساني، فقد حملت الزيارة أبعادًا رمزيةً لا تقلُّ أهمية، تمثَّلَتْ في إعادة إحياء الروابط التاريخية بين ضفتيْ البحر المتوسط، فتُعَدُّ إسبانيا أحد الأسواق السياحية المهمة بالنسبة لمصر، كما تعتبر القاهرة بالنسبة لمدريد جِسْرًا للحوار الحضاري مع العالم العربي والإسلامي، ويعمل الطرفان على تطوير برامج التبادل الأكاديمي والثقافي لتعزيز التفاهم المتبادل وترسيخ الأُسُس المجتمعية للشراكة الاستراتيجية.
الزيارة في سياق الموقف الإسباني من حرب غزة:
أحد أبرز العوامل التي منحت زيارة العاهل الإسباني الملك فيليبي السادس إلى القاهرة ثِقَلًا خاصًّا، هو أن الحرب الإسرائيلية على غزة لم تعُدْ مجرد ملف إقليمي، بل تحوَّلَتْ إلى محور لتقاطع المصالح والرُّؤَى بين مصر وإسبانيا، فمنذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، برزت القاهرة كطرف محوري في إدارة الأزمة من خلال جهودها المُكثَّفة للتوصُّل إلى وقْفٍ لإطلاق النار وفتْح المسارات الإنسانية والسياسية.
في المقابل، اتسم النَّهْج الإسباني داخل الاتحاد الأوروبي بخصوصية جعلت من مدريد أقرب إلى وِجْهة النظر المصرية.
فإسبانيا، التي اعترفت بالدولة الفلسطينية في مايو 2024 إلى جانب آيرلندا والنرويج، تحوَّلت إلى أحد أكثر الأصوات الأوروبية انتقادًا لإسرائيل، إلى حدِّ دخول العلاقات الثنائية بين مدريد وتل أبيب في حالة جمودٍ تامٍّ؛ تجسَّدَ في استدعاء مدريد سفيرتها في إسرائيل مرتين، بينما لا يوجد لإسرائيل سفير في إسبانيا منذ العام الماضي، كما أعلنت حكومة “بيدرو سانشيز” وقْف جميع أشكال التعاون العسكري مع تل أبيب وإلغاء صفقات تسليح ضخمة، آخرها إلغاء الحكومة الإسبانية عقدًا تُنَاهِزُ قيمته 700 مليون يورو؛ لشراء قاذفات صواريخ إسرائيلية التصميم في سبتمبر الجاري، معتبرةً أن التعامل مع إسرائيل يُمثِّلُ “تواطؤًا مع الإبادة الجماعية”، كما اتسقت هذه المواقف السياسية مع موْجةٍ من الحراك المجتمعي في المدن الإسبانية؛ حيث شهدت تجمُّعات تضامنية ضخمة مع غزة، وصولًا إلى إطلاق بلدية برشلونة اسم “غزة” على أحد أحيائها كتعبير رمزي يحمل دلالات عميقة.[5]
هذا التماهِي بين الدور المصري الذي يُركِّزُ على تثبيت الهُدْنة وإحياء مسار حلِّ الدولتين، والموقف الإسباني الذي يسعى إلى إعادة التوازن للموقف الأوروبي بمنْح الأولوية للقانون الدولي والأبعاد الإنسانية، خلْق أرضية جديدة للتعاون بين البلدين. وهكذا باتت زيارة الملك الإسباني للقاهرة فرصة لتعزيز هذا التقارب السياسي وترجمته إلى شراكة استراتيجية أوسع، لا تقتصر فقط على دعم غزة في ظلِّ الظروف الإنسانية المأساوية، بل تمتدُّ نحو إعادة تعريف الدور الأورومتوسطي في التعامل مع الصراع “الفلسطيني – الإسرائيلي”.
ومن ثَمَّ؛ فحرب غزة – رغم مأساويتها – أصبحت عنصرَ تقارُبٍ موضوعيٍّ بين القاهرة ومدريد؛ حيث بات الطرفان ينظران الى الأزمة كتهديد مباشر للاستقرار الإقليمي والأوروبي على السواء، وأيضًا كفرصة لإعادة صياغة تحالفات أكثر عدالة وفعالية ضمن إطار التعاون الأورومتوسطي.
مخرجات الزيارة:
أثمرت الزيارة الملكية الإسبانية إلى القاهرة عن مجموعة من النتائج العملية، التي عكست متانة العلاقات الثنائية واتجاهها نحو المزيد من الترسخ، ويمكن إبرازها على النحو الآتي:
سياسيًّا: (حرب غزة)، برزت تصريحات العاهل الإسباني حول حرب كأحد أهم المخرجات الرمزية للزيارة، ففي كلمته من القاهرة، وصف الملك الوضع الإنساني في القطاع، بـأنه “غير محتمل، معاناة لا توصف لمئات الآلاف من الأبرياء، ودمار شِبْه كامل”، وأكَّدَ على ضرورة الحلِّ الشامل القائم على إقامة دولة فلسطينية مستقلة تشمل غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، تعيش بأمن وسلام بجوار إسرائيل، وتكتسب هذه التصريحات أهميتها من كونها تُمثِّلُ خروجًا عن حياد المؤسسة الملكية الإسبانية؛ حيث اعتاد الملك فيليبي السادس الالتزام بالصمت تجاه الملفات الدولية؛ ما جعل كلمته من القاهرة محطَّ اهتمام واسع في الأوساط السياسية والإعلامية الإسبانية.[6]
كما شدَّدَ الرئيس عبد الفتاح السيسي والملك فيليبي السادس خلال لقائهما في قصر الاتحادية، على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة، واستئناف عملية سياسية جِدِّيَّة تُحيي آمال حلِّ الدولتين، وتَمَّ التوافق على تعزيز التنسيق بين البلدين في بما يعكس تقارُبًا غير مسبوق في الرُّؤَى السياسية بين البلديْن.
اقتصاديًّا،أبْدَتْ مدريد اهتمامًا واضحًا بتوسيع استثماراتها داخل مصر، خصوصًا في مجالات الطاقة المتجددة والبنية التحتية، وتَمَّ الاتفاق على تنظيم منتدى اقتصادي مشترك، مطلع العام 2026، بمشاركة رجال أعمال من البلدين؛ لبحْث الفرص الاستثمارية، كما شهدت الزيارة توقيع عددٍ من مذكرات التفاهم والاتفاقيات، التي شملت التعليم، السياحة، الطاقة المتجددة، والأمن، كذلك تمَّ الاتفاق على تعزيز التعاون في مواجهة تهريب البشر عبر البحر المتوسط، مع كوْن مصر دولة عبور رئيسية وإسبانيا إحدى الوجهات الأوروبية الكبرى المتأثرة بتلك الظاهرة[7].
على الصعيد الثقافي والرمزي، حضرت الأنشطة الحضارية بقوة ضمن برنامج الزيارة؛ حيث تضمَّنَتْ جولة للملك والملكة في منطقة الأهرامات وزيارة للمتحف المصري الكبير الذي تستعدُّ القاهرة لافتتاحه قريبًا؛ ما أسهم في إضفاء زَخَمٍ ترويجيٍّ للمقصد السياحي المصري، باعتباره مقصدًا آمنًا وغنيًّا بالتراث الإنساني العالمي، وتُعَدُّ هذه الإطلالة بمثابة رسالة ثقة للأسواق الأوروبية في مرحلة تشهد فيها السياحة المصرية تعافيًا متسارعًا، ومن شأنها أن ترفع من معدَّلات التدفُّق السياحي الإسباني والأوروبي نحو مصر خلال الأشهر المقبلة[8].
في الختام:
يمكن القول: إن زيارة الملك فيليبي السادس إلى القاهرة لم تكن مجرد حدث بروتوكولي يعكس دِفْءَ العلاقات الثنائية، بل جسَّدَتْ تحوُّلًا استراتيجيًّا عميقًا في مسار الشراكة “المصرية –الإسبانية”.
فاللقاء بين القيادتين لم يقتصر على تعزيز التعاون الثنائي، بل أرْسى أرضيةً صلبةً لتنسيقٍ أشملَ في القضايا الإقليمية، وعلى رأسها الحرب في غزة وما تُفْرِزُه من تداعيات على الأمن الإقليمي والدولي، ومثلما بدت الزيارة مؤشرًا على أن مدريد باتت ترى في القاهرة بوابة أساسية لفهْم وإدارة ملفات الشرق الأوسط، فإنها أيضًا أكدت أن مصر تنظر إلى إسبانيا، باعتبارها شريكًا أوروبيًّا قادرًا على مدِّ جسور التوازن بين ضفتيْ المتوسط.
ومن ثَمَّ؛ يبدو أن ما بعْدَ الزيارة يُمهِّدُ لإطلاق مرحلة جديدة من التعاون المشترك، تعتمد على توافقِ المصالح ووعْيٍ متزايدٍ بأن مواجهة التحديات العابرة للحدود لا يمكن تحقيقها إلا من خلال شراكات استراتيجية راسخة، وهو ما يجعل القاهرة ومدريد مرشحتين لأن تكونا محورًا فاعلًا في معادلة المتوسط في السنوات المقبلة.
المصادر:
[1] حسن رمضان، إسبانيا تلغي عقدا بـ700 مليون يورو لشراء قاذفات صواريخ إسرائيلية، جريدة الوطن، سبتمبر 2025.
