المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشؤون الدولية > زيارة وزير الخارجية الباكستاني إلى بنجلاديش: قراءةٌ في الدوافع والتأثيرات الإقليمية
زيارة وزير الخارجية الباكستاني إلى بنجلاديش: قراءةٌ في الدوافع والتأثيرات الإقليمية
- أغسطس 26, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية
لا توجد تعليقات

إعداد: أكرم السيد
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
تُعَدُّ زيارة وزير الخارجية الباكستاني إسحاق دار إلى العاصمة البنجلاديشية دكا حدثًا استثنائيًّا في مسار العلاقات بين البلديْن؛ إذ جاءت بعد أكثر من عقْدٍ من الجمود؛ لتُعيد فتْح ملفٍ ظَلَّ مُعلَّقًا لسنوات طويلة؛ حيث لم تقتصر الزيارة على توقيع سلسلة من الاتفاقيات الثنائية، بل عكست أيضًا رغبة متبادلة في إعادة بناء جسور الثقة في توقيتٍ إقليميٍّ شديد الحساسية.
وتكتسب هذه الزيارة أهميتها من عدة زوايا، فمن جهة، ترتبط بالسياق التاريخي المُعقَّد الذي حكم العلاقات بين باكستان وبنجلاديش، منذ انفصال الأخيرة عام 1971، وما تلاه من توتُّرات سياسية عميقة.
ومن جهة ثانية، تأتي الزيارة في وقتٍ يشهد فيه الإقليم تحوُّلات متسارعة، سواء نتيجة التغييرات الداخلية في دكا بعد الإطاحة بحكومة الشيخة حسينة، أو بسبب التطوُّرات الأمنية الإقليمية؛ بما في ذلك الحرب الأخيرة بين باكستان والهند. كما أن تزامنها مع انفتاح بنجلاديش على شركاءَ جُدُد، مثل “الصين” يُعزِّزُ من أبعادها الاستراتيجية.
وعليه؛ فإن قراءة هذه الزيارة لا تقتصر على بُعْدِها الثنائي فقط، بل تمتدُّ لتشمل تداعياتها المحتملة على الهند ودورها التقليدي في جنوب آسيا، وهو ما يجعلها محطةً مهمةً لفهْم ملامح المرحلة المقبلة في الإقليم.
خلفية العلاقات “الباكستانية – البنجلاديشية”
تعود جذور العلاقة بين باكستان وبنجلاديش إلى مرحلة ما قبْل استقلال الأخيرة عام 1971، حين كانت بنجلاديش تُعْرَف بباكستان الشرقية، وتُشكِّلُ مع باكستان الغربية كيانًا واحدًا منذ عام 1947، بعد تقسيم الهند، إلا أن التباينات اللغوية والثقافية والاقتصادية والسياسية بين الجانبيْن سُرْعَان ما تراكمت، لتتحوَّلَ إلى أزمات عميقة انتهت بحرب الاستقلال البنجلاديشية عام 1971، وهي الحرب التي لعبت الهند فيها دورًا محوريًّا عبْر دعم الحركة الاستقلالية في دكا،؛ لتظهر بنجلاديش على الخريطة كدولةٍ مستقلةٍ، تاركةً وراءها جروحًا سياسيةً وإنسانيةً لم تلتئم بشكلٍ كاملٍ حتى اللحظة[1].
ومنذ ذلك التاريخ، ظلَّتْ العلاقات بين البلدين محكومة بثقل الذاكرة التاريخية؛ إذ تطالب بنجلاديش باكستان، بالاعتراف الكامل بجرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الباكستانية خلال حرب الاستقلال، وهو ملفٌ ظلَّ يُعيق مسار التطبيع الكامل لعقود[2].
ورغم أن باكستان اعترفت ببنجلاديش كدولة مستقلة عام 1974، وسعت لاحقًا لفتْح قنوات دبلوماسية معها، إلا أن هذه الجهود اصطدمت مرارًا بالماضي المُؤْلِم وبالتوازنات السياسية الداخلية في دكا، التي كثيرًا ما استندت إلى خطاب “شرعية الاستقلال” في مواجهتها مع إسلام آباد.
وعلى مدار العقود التالية، شهدت العلاقة محطات متباينة، ففي الوقت الذي جرتْ فيه محاولات للتقارُب عبْر إطار رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي أو عبْر التعاون الاقتصادي المحدود، بقيت حالة عدم الثقة هي السِّمَة الغالبة؛ فكلما أبْدَتْ إحدى الحكومات في بنجلاديش؛ استعدادًا للتقارُب مع باكستان، كانت المعارضة الداخلية أو ضغوط الهند تدفعها للتراجع، وزاد الأمر تعقيدًا مع إصرار بنجلاديش على محاكمة بعض الشخصيات السياسية المتهمة بالتعاون مع الجيش الباكستاني خلال حرب 1971، وهو ما أثار حفيظة إسلام آباد ودفعها في مراحل عديدة لتجميد قنوات الحوار[3].
وخلال السنوات الأخيرة، تراجعت وتيرة التواصُل رفيع المستوى بين الجانبيْن بشكلٍ ملحوظٍ؛ حيث لم تشهد دكا زيارات رسمية بارزة من مسؤولين باكستانيين على مدى أكثر من عقْدٍ من الزمن، وهذا الجمود الدبلوماسي عكس بدوره حجم الفتور العالق، كما كشف عن أولوية بنجلاديش لترسيخ تحالفاتها مع الهند على حساب أيِّ انفتاح مع باكستان.
إلا أن التطوُّرات الإقليمية والضغوط الاقتصادية التي تواجهها باكستان دفعتها مؤخرًا إلى إعادة النظر في استراتيجيتها تِجَاه دكا.
ومن ثَمَّ، جاءت زيارة وزير خارجية باكستان الأخيرة؛ لتشكِّلَ أول زيارة من نوْعها منذ أكثر من عشر سنوات، وهو ما يُضْفِي عليها رمزيةً خاصَّةً ويجعلها محطةً محوريةً في مسار العلاقات الثنائية؛ حيث تعكس رغبة إسلام آباد في كسْر حالة الجمود وفتْح نافذةٍ جديدة ٍللتقارُب مع دولةٍ لعبت – ولا تزال – دورًا محوريًّا في التوازنات الجيوسياسية بجنوب آسيا.
تفاصيل الزيارة
شهدت العاصمةُ البنجلاديشية دكا القمة التي جمعت بين ممثِّلي البلديْن، والتي تزامنت مع وصول نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الباكستاني إسحاق دار؛ حيث قام بأول زيارة لمسؤول باكستاني بهذا المستوى منذ عام 2012، وقد اعتُبرت هذه الزيارة “تاريخية” و”محطة بارزة” في مسار العلاقات الثنائية، لا سيما أنها تأتي بعد التغيُّرات السياسية التي شهدتها بنجلاديش العام الماضي مع الإطاحة بحكومة الشيخة حسينة وصعود إدارة مؤقتة برئاسة محمد يونس.
وبدأت الزيارة في 23 أغسطس 2025، وذلك بعد يوميْن فقط من زيارة وزير التجارة الباكستاني جمال كمال خان، وهو ما عكس زخمًا دبلوماسيًّا متصاعدًا بين البلديْن، وخلال سلسلة من الاجتماعات مع مسؤولي الحكومة المؤقتة في دكا، جرى توقيع مجموعة من مذكرات التفاهم التي هدفت إلى إعادة إحياء قنوات التعاون وتوسيع نطاقها.
وشَمِلَتْ هذه الوثائقُ اتفاقًا على إعفاء المسؤولين والدبلوماسيين من متطلبات التأشيرة، إضافةً إلى إنشاء مجموعة عمْل مشتركة في مجال التجارة، وتعزيز التعاون بين الأكاديميات الدبلوماسية ووكالات الأنباء الوطنية، فضْلًا عن إرساء شراكة مؤسسية بين معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية في بنجلاديش ونظيره في إسلام آباد.
ومن أبرز النتائج العملية للزيارة، الإعلان عن خطة لبدْء رحلات جوية مباشرة بين البلدين؛ حيث حصلت شركتان باكستانيتان بالفِعْل على الموافقة المبدئية لتسيير هذه الرحلات، وهو ما يُتوقع أن يُسْهِمَ في تسهيل التواصُل التجاري والإنساني بشكلٍ غير مسبوقٍ.
كما أكَّدَ الجانبان على أن المحادثات “تركزت على تعزيز التجارة والاستثمار”، مع التوافُق على ضرورة “البقاء قريبين في القضايا الثنائية ومتعددة الأطراف”.
ولم تقتصر الزيارة على البُعْد المؤسسي، بل شملت أيضاً لقاء “دار” مع رئيس الحكومة المؤقتة محمد يونس؛ حيث ناقشا سُبُل “إحياء الروابط القديمة”، وتوسيع نطاق التعاون في مجالات الشباب، وتعزيز الاتصال الإقليمي، وزيادة الشراكة الاقتصادية.
كما تَمَّ التطرُّق إلى أهمية التعاون داخل رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي[4].
دوافع الزيارة
تحمل زيارةُ وزير خارجية باكستان إلى بنجلاديش جُمْلَةً من الدوافع المتباينة، تعكس في جانب منها احتياجات باكستان الاستراتيجية، وفي جانب آخر،حسابات بنجلاديش الدقيقة في إدارة علاقاتها الإقليمية، ويمكن إيضاح ذلك في السياق الآتي:-
بالنسبة لباكستان، تأتي الزيارة في وقتٍ تعيش فيه البلاد ضغوطًا مركبةً؛ فالأزمة الاقتصادية المتفاقمة وارتفاع مُعدَّلات التضخُّم وضعْف الاحتياطي النقدي تجعل إسلام آباد بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى تنويع شركائها التجاريين وفتْح أسواق جديدة أمام صادراتها.
كما أن العُزْلة الإقليمية التي واجهتها باكستان، خاصَّةً بعد تراجُع دور رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي؛ بسبب التوتُّر مع الهند، دفعتها إلى البحث عن إعادة تنشيط قنواتها الدبلوماسية مع العواصم المجاورة. وإلى جانب ذلك، هناك بُعْدٌ سياسيٌّ ورمزيٌّ مهمٌ، يتمثَّلُ في رغبة باكستان في إرسال رسالة للهند، مفادها؛ أنها قادرة على اختراق المجال الحيوي لـ”نيودلهي”، وعدم ترْك السَّاحة البنجلاديشية حِكْرًا على النفوذ الهندي.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى إسلام آباد إلى استمالة بنجلاديش داخل أُطُر التعاون الإسلامي الأوسع، سواء في منظمة التعاون الإسلامي أو في المحافل الدولية التي تناقش قضايا العالم الإسلامي؛ من أجل تعزيز موقفها في ملفاتٍ حسَّاسة، مثل “قضية كشمير”.
أمَّا بالنسبة لبنجلاديش، فإن قبولها بهذه الزيارة يعكس بدوره اعتبارات داخلية وخارجية؛ فمن جهةٍ، تحاول دكا استثمار الانفتاح الباكستاني كوسيلة لتوسيع خياراتها الدبلوماسية وتعزيز موقعها التفاوضي مع الهند، خصوصًا في القضايا العالقة، مثل “تقاسم مياه الأنهار والحدود البرية”. ومن جهةٍ أُخرى، تدرك الحكومة البنجلاديشية، أن الانفتاح الاقتصادي على باكستان قد يفتح فُرَصًا للتجارة والاستثمار.