تَحْظَى العلاقات «التركية – الإثيوبية» برصيدٍ ذاخرٍ وعلاقاتٍ تاريخية وطيدة، تُغذِّيها رغباتٌ ومصالحُ مشتركةٌ تدفع بمستوى هذه العلاقات وسعي الحكومة الإثيوبية، إلى الاستفادة من الرصيد المعرفي لخبرات تركيا في بناء واستغلال السدود على روافد الأنهار، وكما أن الجانب التركي تُحرِّكُه أهدافٌ ومصالحُ تدفعه للتقارُب مع أديس أبابا، فإن هذه الأخيرة أيضًا، تُحرِّكُها طموحاتٌ وتطلُّعاتٌ إزاء هذا التعاون، وقد سبق وتوسَّطت أنقرة في أزمة الفشقة بين أديس أبابا والخرطوم ٢٠٢١، كما أنها لعبت دوْرًا في دعْم جهود الوساطة التي جمعت الجانبيْن الصومالي والإثيوبي، يوليو الماضي؛ لمحاولة حلِّ أزمة أرض الصومال العالقة، وبناءً عليه؛ جاءت زيارة وزير الخارجية التركي إلى العاصمة الإثيوبية، ٣ أغسطس ٢٠٢٤.
ملامح التقارُب «التركي – الإثيوبي»:
تتسم السياسات التركية والإثيوبية بقدْرٍ كبيرٍ من التقارُب على أصعدة عِدَّة، سواء داخليًّا أو خارجيًّا، فكلاهما لديه تجربة إثْنِيَّة مُعقَّدة تفتقر للتجانُس والاندماج الاجتماعي؛ الأمر الذي يعمل على تهديد أمن واستقرار البلديْن، وهو ما اتضح في حالات التمرُّد والحروب الأهلية، فلعل التواصُل «التركي – الإثيوبي» أثناء حرب التيجراي التي أنْهَكَتْ إثيوبيا، كان من أجل الاستفادة من التجربة التركية في محاربة الأكراد، أيضًا تتشابه السياسات المائية لكلا البلديْن إلى حدٍّ كبيرٍ؛ ففي الوقت الذي تتخذ فيه إثيوبيا إجراءاتٍ أُحاديةً، فيما يخُصُّ مَلْء وتشغيل سد النهضة، تقوم تركيا بانتهاج المسارات نفسها بحقِّ سوريا والعراق، بشكلٍ يخالف الاتفاقيتيْن الدوليتيْن لعام 1966-1997، بجانب اختراق الاتفاقيات الثنائية التي وقّعت مع الجانب السوري والعراقي، وتُستمد هذه العقيدة حِيالَ الأنهار الدولية من منطلق وصْفها كأنهارٍ وطنيةٍ تُطبق عليها تركيا وإثيوبيا مبْدأ الملكية الخاصة؛ ما يُعطيها حرية التصرُّف فيها بشكلٍ منفردٍ على حدِّ اعتبارهما، وقد بلغ عدد السدود التركية على نهريْ دجلة والفرات 22 سدًّا، منهم 14 سدًّا على نهر الفرات، و8 على نهر دجلة.
وبالنظر إلى ملف سد النهضة، نجد أنه استنساخٌ ونقْلٌ لتجربة تركيا في سد أتاتورك، الذي تمَّ تدشينه عام 1992، والذي سبَّب أضرارًا مائيةً لسوريا والعراق؛ حيث حرمهما من قُرَابَةِ 75% من حصتهما من نهر الفرات، كما أن سد إليسو حَجَبَ حواليْ 60% من تدفُّقات نهر دجلة بالعراق، بشكلٍ تسبَّب في أزماتٍ اقتصاديةٍ طاحنةٍ لكلا البلديْن؛ أمَّا عن أديس أبابا، فثمَّةَ تشابهٌ في السياسات التي تتبعها في سلسلة السدود التي شرعت في بنائها، ليس فقط في مصر والسودان، ولكن أيضًا في الصومال وكينيا؛ فمؤخرًا تمَّ إطلاق سد جينال دوا على نهر جينال أحد روافد نهر جوبا، ونهر أومو أحد روافد بحيرة توركانا الكينية؛ وبالتالي فإن هذه السدود قد أثَّرت بشكلٍ سلبيٍّ على الحِصَصِ المائيةِ لتلك الدول، وبطبيعة الحال؛ التأثير على مسار الحياة الاقتصادية في البلدان المتأزمة نتيجةً لذلك، وقد كان هذا التقارُب بمثابة الدينامو الذي دفع بمسار هذه العلاقات إلى هذا المستوى المتعلق بوجود عددٍ من الملفات الحسَّاسة بينهما، ففي الوقت الذي تحتاج فيه تركيا جبهةً أفريقيةً قويةً تدعمها في الصراع الدائر في ليبيا، فإن إثيوبيا تتطلَّعُ إلى حليف شرق أوسطيٍّ قويٍّ يقابل التكتُّل العربي الداعم للمواقف المصرية.[1]
زيارة وزير الخارجية التركي إلى إثيوبيا:
استضافت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، السبت ٣ أغسطس ٢٠٢٤، زيارةً، لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، والذي كان في استقباله رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وناقش الطرفان عددًا من الملفات المهمة، في مقدمتها؛ الأزمة الأخيرة التي وَقَعَتْ بين الصومال وإثيوبيا، على خلفية إقدام الأخيرة بعقْد اتفاقٍ مع إقليم صومالي لاند الانفصالي؛ للحصول على منْفَذٍ على البحر الأحمر؛ ما يُعدُّ انتهاكًا صارخًا لسيادة مقديشو، وفي يوليو الفائت، دخلت تركيا وسيطًا بين البلديْن؛ من أجل إنهاء هذا الخلاف، إلَّا أن هذه المحاولة لم تُؤْتِ ثمارَها، ومن المفترض أن يتم عقْد جولةٍ ثانيةٍ، سبتمبر المقبل.[2]
دلالات الزيارة:
جاء هذا اللقاء بعد فشل الجولة الأولى من المفاوضات بين حكومتيْ مقديشو وأديس أبابا، وقبْل شهرٍ من انعقاد الجولة الثانية، فعلى ما يبدو أن تركيا تسعى لإقناع آبي أحمد بالتراجُع عن موقفه، أو إيجاد حلٍّ وسطٍ يُنْهِي الخلاف العالق بين الصومال وإثيوبيا؛ حتى لا تؤُول الجولة القادمة إلى المصير نفسه الذي لاقته الجولة الأولى؛ حيث إن تحقق ذلك سيمنح أنقرة ورقةً رابحةً، ويُمهِّد لها دورًا رائدًا في منطقة القرن الأفريقي، إلَّا أن الأمر ليس يسيرًا لهذه الدرجة، فما كان للجهود التركية في النزاع «الإثيوبي – السوداني»، أن تنجح وتحقق أهدافها؛ حتى تحقق هذه المساعي أهدافها المنشودة، خاصَّةً في ظل إصرار حكومة آبي أحمد على موقفها، واتباعها سياسةً متشددةً في القضايا المختلفة.
وساطة تركية في الأزمة بين الصومال وإثيوبيا:
في مطلع شهر يوليو الماضي، استضافت العاصمة أنقرة محادثات؛ للتوسُّط بين الجانبيْن الصومالي والإثيوبي، بعد أزمة اتفاق أديس أبابا مع إقليم أرض الصومال؛ للحصول على منْفَذٍ على سواحل البحر الأحمر، وهدفت هذه المحادثات إلى إعادة الهدوء للعلاقات الدبلوماسية بين هاتيْن الجارتيْن في شرق أفريقيا، والتي شابها التوتُّر حتى وصلت إلى حافَّة الهاوية، وهذه المحاولة كانت الجولة الأولى من التفاوُض، والتي عُقِدَتْ بين وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان”، ونظرائه الإثيوبي “تايي سيلاسي”، والصومالي “أحمد فقي”، في ظل تأكيدات على عزمهما حلّ هذا الخلاف بطريقةٍ سلميةٍ، ومواصلة الحوار؛ بهدف الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ومن المُزْمَع عقْد جولةٍ ثانيةٍ بالعاصمة أنقرة، في الثاني من سبتمبر المقبل.[3]
تجدر الإشارة إلى أن رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد”، كان قد زار تركيا مايو الماضي، التقى خلالها بالرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، وبعث إليه برسالة، مفادها؛ قيام أنقرة بالوساطة بين الصومال وإثيوبيا.[4]
وساطة تركية سابقة في النزاع «الإثيوبي – السوداني»:
استنادًا إلى نهْج التحرُّكات التركية، وفْق أجندة سياستها الخارجية في مناطق الأزمات بالشرق الأوسط، وجّهت أنقرة عدستها نحْو القارة الأفريقية؛ حيث قدَّمت نفسها كوسيطٍ في الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا “الفشقة المتنازع عليها”، من خلال مبادرة تقدَّمت بها تركيا ٢٠٢١؛ لحلحلة النزاع الحدودي، في ظِلِّ اتهاماتٍ مُوجَّهة من قِبَلِ الخرطوم لأديس أبابا بالتعدِّي على منطقة الفشقة، عبْر الزراعة والاستيطان، وتستند مرتكزات التحرُّك التركي في هذا الملف، في ضوْء المصالح «التركية – الإثيوبية» من جهةٍ، و«التركية – السودانية» من جهةٍ أُخرى[5]، واللافت للنظر في هذا الصدد، أن أديس أبابا هي من طلبت وساطة أنقرة في حلِّ الخلافات «الإثيوبية – السودانية» المتصاعدة، ذلك السيناريو الذي اتبعته في الخلاف مع الصومال؛ وكأنها تسعى للظهور بمظهر راعي السلام والاستقرار في المنطقة، وأنها من بادرت بطلب الوساطة؛ لإنهاء التوتُّر مع حكومة مقديشو، ومن ناحيةٍ أُخرى، تتبع أساليبها التعنُّتِيَّة التي تؤُول في النهاية إلى إفشال أيِّ محاولةٍ للوساطة أو التفاوُض، هذا ما اعتادت عليه الحكومة الإثيوبية.
ختامًا:
تسعى أنقرة لتعزيز توغُّلِها في القرن الأفريقي، عبْر التوسُّط في العديد من الأزمات، وهو ما حملته زيارة هاكان فيدان إلى أديس أبابا، واستكمال دوْر الوساطة في الأزمة الواقعة بين الصومال وإثيوبيا، والتي لم تتمكن فيها الجولة الأولى من المفاوضات في تحريك المياه الراكدة لهذا الخلاف، وبالنظر إلى مستقبل هذه المحادثات في جولتها الثانية المرتقبة، ربما تتمكن أنقرة من التوصُّل لحلٍّ وسطٍ، يُنْهِي هذا الخلاف، ولكن الاحتمال الأرجح في هذه الحالة، والتاريخ الذي يشهد على تعنُّت الحكومة الإثيوبية، وعدم خضوعها لأيَّةِ وساطة، أو مراعاة لحقوق الدول الأخرى، خاصَّةً أن هناك من يقف خلْف هذه التحرُّكات، يمكن القول: بأن التراجُع عن موقفها قد لا يكون بالأمر اليسير مطلقًا، إلا إذا حدث نوعٌ من المواءمات التي تضمن مصالحها.
المصادر:
[1] محمد الدابولي، التقارب التركي الإثيوبي الأخير.. لماذا؟، مركز فاروس، فبراير ٢٠٢١، متاح على الرابط الآتي:
