إعداد: دينا لملوم
باحثة متخصصة فى الشئون الإفريقية
لقد انتهى عصر الإليزيه بشكل شبه كامل فى النيجر عندما تم سحب آخر دفعة من القوات الفرنسية فى نيامى، على خلفية تدهور الأوضاع بين فرنسا والمجلس العسكرى النيجرى، حتى طالب الأخير جلاء القوات الفرنسية عن البلاد، وما إن تسارعت الأحداث التى لم تكن فى صالح باريس، حتى أعلن الرئيس الفرنسى سحب قواته من نيامى 22 ديسمبر الجارى؛ لتترك باريس إرثًا من العداء والكراهية لدى الشعوب الإفريقية، حيث وظفت سياسة الإليزيه؛ لاستغلال موارد القارة وثرواتها لخدمة مصالح بلادها؛ لتخطو بذلك بداية النهاية للرجل الأبيض فى القارة الإفريقية بأكملها، ويبدأ بعد ذلك فصلًا جديدًا للتوغل الروسى والصينى؛ يغطى حالة الفراغ التى ستتركها فرنسا، وإن كانت سياستها لم تقدم جديدًا يذكر للشعوب الإفريقية.
فرنسا تطوى صفحاتها الأخيرة فى النيجر:
أنهت باريس آخر عهدها بالنيجر 22 ديسمبر 2023، فغادر ما تبقى من قواتها العسكرية التى كانت قد نُشرت فى نيامى منذ قرابة عشرة أعوام؛ لمكافحة المتمردين، فى مقاربة تشير إلى أن الدولة النيجرية كانت آخر حلفاء باريس فى المنطقة، قبل وقوع الانقلاب العسكرى فى النيجر يوليو الماضى، ويأتى هذا الانسحاب فى إطار عملية فك ارتباط مع القوات الفرنسية فى منطقة الساحل الإفريقى، شملت 145 رحلة جوية، و15 قافلة برية، غادرت على إثرها آخر دفعة من الجنود الفرنسيين، قوامها 1500 جندى، وقد تم سحب دفعة أولية من هذه القوات في أكتوبر الماضى، ويأتى هذا التحرك ضمن انسحاب فرضته المجموعة العسكرية الحاكمة بعدما أطاحت بالرئيس محمد بازوم، وسارع قادة الانقلاب بطلب رحيل القوات الفرنسية عن البلاد، وهو ما دفع إيمانويل ماكرون لاتخاذ هذا القرار؛ لترسم بذلك ملامح ضعف وتراجع النفوذ الفرنسى فى منطقة الساحل الإفريقى، لا سيما مع قرار باريس بغلق سفارتها فى نيامى؛ نظرًا لعدم قدرتها على القيام بمهامها الدبلوماسية بسبب تأزم الموقف بين فرنسا والمجلس العسكرى، الذى سبق وأعلن أن السفير الفرنسى شخص غير مرغوب فيه، وفرض حصارًا على السفارة، وهو ما حال دون قدرتها على مباشرة عملها بشكل طبيعى، فكان لزامًا عليها إنهاء عمل بعثتها فى البلاد، وإغلاق السفارة لأجل غير محدد.
أسباب تراجع النفوذ الفرنسى فى النيجر:
ثمة حزمة من العوامل التى أسهمت فى تراجع النفوذ الفرنسى فى النيجر، والتى ضربت بهذا التواجد عرض الحائط، يمكن إجمالها على النحو التالى:
التأكد من عدم قدرة جماعة الإيكواس التى تقودها نيجيريا على إعادة المسار الدستورى وتمكين الرئيس المعزول من العودة إلى منصبه؛ وذلك نظرًا لأنها تواجه تحديات أمنية شديدة من قبل جماعة “بوكو حرام”، وتنظيم داعش فصيل غرب إفريقيا.
العزلة التى عانت منها فرنسا، سواء على المستوى الأمريكى أو الإفريقى أو حتى الأوروبى، حيث إن دفعها لتدخل الإيكواس عسكريًا فى النيجر لم يلقَ الدعم الكافى من حلفائها أو شركائها، حتى الولايات المتحدة التى كانت بمثابة الحليف تعاملت معها بدوغمائية، فأى كانت الشراكة إلا أن المصلحة الخاصة تتخطى أى اعتبار، وانسحاب باريس من النيجر يعمق من التواجد الإستراتيجى الأمريكى فى المنطقة، ويمكنها من بسط هيمنتها بشكل أوسع فى إفريقيا.
تمكن القيادة العسكرية فى النيجر من حشد وتعبئة الجماهير والشباب بصفة خاصة، ضد التواجد الفرنسى، وهو ما أتاح لها الفرصة فى تكوين غطاء شعبى واسع فى البلاد، لا سيما وأنهم أعلنوا إلغاء اتفاقيات التعاون العسكرى التى سبق ووُقعت مع فرنسا.
استغلال مورد اليورانيوم الذى تعتبر النيجر مصدرًا مهمًا له، حيث تحصل عليه فرنسا لاستخدامه فى الطاقة النووية وتوليد الكهرباء، فى حين أن النيجريين يعتمدون على 70 % من كهرباء نيجيريا، وترك الدولة تعانى الفقر، فلو تم استغلال هذا المورد بشكل صحيح يعود بالنفع على المواطنين، فما كان للعديد من المشاكل والتحديات الاقتصادية التى تعانى منها الدولة أن تستمر، ولكن باريس استئثرت بهذه الثروات، وتركت الشعب يعانى، حيث كانت سببًا فى تدهور الأوضاع الصحية والتعليمية، على الرغم من المحاولات الفرنسية لتوفير الحد الأدنى لمثل هذه الخدمات.
مؤشرات تراجع النفوذ الفرنسى فى القارة الإفريقية:
يحكم تراجع زخم التواجد الفرنسى فى القارة عدة مؤشرات سيتم التطرق إليها فيما يلى:
- الوصاية الفرنسية والإرث الاستعمارى:
لقد اتبعت فرنسا على مدار تاريخها الاستعمارى سياسة الوصاية الأبوية على الدول الإفريقية التى احتلتها، وكان ذلك سببًا فى تزايد حدة العداء الموجه لها، سواء من قبل النخب السياسية الحاكمة أو شعوب القارة بشكل عام، وهو ما جعل أبناء القارة يشعرون بالاستهانة بهم، فلقد استمدت هذه النظرة الاستعلائية أساسها من منظور الوصاية، باعتبارها الرجل الأبيض الذى يلعب دورًا تاريخيًا فى سبيل النهوض بالمجتمعات التى كانت نظرتهم لها على أنها متخلفة ورجعية، ومن هنا بدأ النفوذ الفرنسى يفقد مساره تدريجيًا، حيث ظهر قطاع من المثقفين الأفارقة الذين رفضوا هذه العلاقة الندية، خاصة وأن لولا موارد وثروات دول إفريقيا لما كانت لتقوم الحضارة الغربية.
- استغلال موارد ومقدرات البلدان الإفريقية:
مما لا شك فيه أن سيل التوجهات الغربية نحو إفريقيا، لن تحركه سوى المصالح؛ للاستفادة من الثروات الهائلة التى تحويها القارة السمراء، وعليه فقد كانت علاقة الدولة الفرانكوفونية فى مستعمراتها السابقة قائمة على الاستغلال الاقتصادى لموارد الدول الإفريقية، فعلى سبيل المثال فى النيجر تستحوذ فرنسا على قرابة 35% من احتياطى مخزون اليورانيوم لتلبية الاحتياجات الفرنسية من الطاقة الكهربائية، إضافة إلى ثروات النفط وخلافه من الثروات المدفونة فى باطن الأرض، فتزداد الشعوب الغنية ثراءً وتزداد الدول الفقيرة فقرًا وتراجعًا، وثمة اتجاه إفريقى يُرجع سبب الركود الاقتصادى الذى يواجه الدول الإفريقية، إلى ماهية الارتباط الاقتصادى بفرنسا، وذلك فى ظل وجود منطقة الفرنك الإفريقى، حيث أجبرت باريس عددًا من الدول الإفريقية التى نالت استقلالها على استخدامه كعملة موحدة، ويتم تداول الفرنك الفرنسى فى منطقتين مختلفتين جغرافيًا، حيث الفرنك الوسط إفريقى، الذى يستخدم فى دول الكاميرون والكونغو وغينيا الاستوائية والجابون وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد، ناهيك عن الفرنك الغرب إفريقى ويستخدم فى بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا بيساو ومالى والنيجر والسنغال وتودو، ومحصلة هذه العملية الارتباطية بين الفرنك الإفريقى ونظيره الفرنسى تمكن فى استغلال فرنسا للفوائض المالية من معاملاتها التجارية مع تلك الدول، بما أدى إلى ضياع فرص التنمية الشاملة على دول القارة، وإعطاء الشركات الفرنسية العاملة فى إفريقيا ميزة تنافسية ومزايا تفضيلية عن قرينتها المحلية، وهو ما شكل قوة دفع نحو حالة من التراجع والركود الاقتصادى.
- فشل السياسة الفرنسية فى مجابهة الإرهاب:
لقد رحلت القوات الفرنسية عن الأراضى المالية عام 2021، بعدما فشلت فى تحقيق الإستراتيجية التى ادعت على أساسها التدخل فى باماكو، ألا وهى دحر ومجابهة التنظيمات الإرهابية، على اعتبار أن مالى بمثابة رأس حربة للتصدى للجماعات الإرهابية والمتطرفة فى غرب إفريقيا، وقد استندت الإستراتيجية الفرنسية فى هذا الصدد على المواجهات الأمنية والعسكرية، بعد تزايد الأنشطة والعمليات الإرهابية، وتوغلها داخل الدول المختلفة فى المنطقة، ولكن ما لبث أن أخفقت هذه الآلية، حيث أثبتت عدم قدرتها على القضاء على محاولات التوغل النشطة لهذه التنظيمات، أو حتى الدفاع عن المصالح الفرنسية والإفريقية ضد هذا الخطر، وبما أن فرنسا لم تتمكن من تحقيق الهدف الذى ادعت على أساسه توغلها فى تلك المناطق، فقد كان انسحابها أقل ما يمكن تقديمه، لا سيما وأن القبول العام لها ولتواجدها فى القارة تراجع بشكل تدريجى.
- زيادة وعى الأجيال الجديدة:
القارة الإفريقية فى الوقت الحالى لم تعد مثلما كانت عليه قديمًا، حيث ظهر جيل من الشباب الذى يدرك مدى أهمية التنمية ويرغب فى بناء مجتمعاته على أساس التقدم والحداثة، وبخاصة أن القوة الشبابية تشكل حوالى 60% من العنصر البشرى الإفريقى “الثروة البشرية”؛ وإيمانًا وإدراكًا للدور الذى قد يشكله الشباب بعد تنامى مشاعر الكراهية إزاء فرنسا وتنظيم التظاهرات الرافضة للهيمنة الفرنسية، دعا الرئيس إيمانويل ماكرون لحوار مع الشباب والمجتمع المدنى الإفريقى خلال قمة عقدت لهذا الغرض فى مدينة مونبيليه الفرنسية أكتوبر 2021، حيث تمت دعوة 3000 شاب إفريقى لهذا الحدث، وتجدر الإشارة فى هذا السياق إلى أن ثمة رغبة شعبية مكثفة، لم تقتصر على الفئات الشبابية فحسب ترفض الإرث الاستعمارى فى القارة، وتبحث عن بديل لفرنسا التى أصبحت بمثابة رجل أوروبا المريض.
- زيادة النفوذ الروسى والصينى:
مؤخرًا شهدت إفريقيا تناميًا لأذرع روسيا والصين بها وزيادة وتيرة تدخلاتهما فى الدول الإفريقية، ولكن الفيصل الذى يقف بين النفوذين الروسى والصينى والآخر الفرنسى، يكمن فى الرغبة الصينية فى توسيع مسار التعاون الاقتصادى عبر الشراكات المختلفة مع دول القارة السمراء ودعم جهود التنمية بها، وذلك عبر الاهتمام بمشاريع البنية التحتية ومد الطرق وإنشاء الكبارى، والمساهمة فى بناء المستشفيات، وصولًا لتوسيع استثمارات الشركات الصينية فى إفريقيا فى مختلف المجالات، الأمر الذى دفع بالتعاون الصينى الإفريقى إلى آفاق واعدة، حتى بلغ حجم التبادل التجارى بينهم مطلع العام الجارى، نحو 140.9 مليار دولار، لتحتل المركز الأول كأكبر شريك تجارى مع إفريقيا، أما عن روسيا فقد لاقت المزيد من القبول لدى الشعوب الإفريقية؛ نظرًا لأنه ليس لديها رصيد استعمارى فى القارة وبدأت الأعلام الروسية ترتفع لتحل محل نظيرتها الفرنسية، وتتوغل موسكو عبر تعزيز تعاونها الاقتصادى، إضافة إلى جماعات فاجنر التى استند إليها بعض الدول الإفريقية عوضًا عن القوات الفرنسية، بما يجعل منها حليفًا إستراتيجيًا وفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة مع دول القارة، وقد ارتفع حجم التجارة المتبادلة بين روسيا وإفريقيا بنسبة 43.5% على مدى ثمانية أشهر لتصل إلى 15.5 مليار دولار، فى الفترة من يناير إلى أغسطس 2023.
مستقبل الدولة الفرانكوفونية فى إفريقيا:
إن تراجع وتيرة النفوذ الفرنسى فى القارة السمراء، يعكس معضلة الماكرونية التى سعت لاستعادة المكانة الفرنسية على المستويين الدولى والإفريقى، ولكنها لم تتمكن من ذلك؛ لتفتح المجال أمام توجهات رئيسية لزيادة نفوذ القوى الكبرى فى المنطقة، على رأسها روسيا والصين والولايات المتحدة، وقد تصل فرنسا إلى مرحلة الخروج التام من إفريقيا بأكملها؛ استكمالًا لسلسلة من الانسحابات المتكررة لها من العديد من دول القارة، وبالنظر إلى التطورات التى تشهدها منطقة غرب إفريقيا، فى ظل تنافس الفاعلين الدوليين على القارة، فإن حظوظ بقاء فرنسا بشكل قوى يواجه تهديدًا حقيقيًا، وربما تفقد ما تبقى لها من نفوذ فى القارة، وهو الأمر الذى تتوفر له كل الأسباب، ويحتمل بشكل كبير أن تشهد إفريقيا خلال الفترة المقبلة نشاطًا موسعًا لموسكو والصين وبعض القوى التى لها رصيد مقبول فى إفريقيا وهو ما يحدث بالفعل فى الوقت الحالى، ولكن علينا أن نتدارك جيدًا أن الشعوب الإفريقية لم تعد كما كانت عليه فى الماضى، فالوضع حاليًا لن يقبل استغلال مقدرات القارة، واقتصارها على القوى الكبرى، وأن يكون المعيار الأوحد لهذه التوجهات قائمًا على الشراكة المتبادلة ورعاية المصالح والمنافع المشتركة بدلًا من توظيف آليات الهيمنة والنفوذ الخارجى الذى يضر بمصالح الشعوب ونهضتها.
ختامًا:
يأتى الانسحاب الفرنسى من الأراضى النيجرية؛ ليكرس عدم فاعلية تأثير سياسة فرنسا فى منطقة الساحل، فلم يعد لفرنسا حضور قوى مثلما كانت عليه فى الماضى، ولكن فى حالة النيجر، لا يمكن تجاهل دورها فى مساندة البلاد فى حربها على الإرهاب، أو على الأقل كبح جماح الهجمات الإرهابية، والتى قد تتفحل بعد انسحابها، ويلوح المشهد باحتمالية إحلال واشنطن محل باريس لتعمل على تحقيق مصالحها، بجانب منع تغلغل قوى كروسيا فى المنطقة، وربما تظل الأوضاع كما هى عليه، وقد تتدخل الولايات المتحدة لحلحلة الأزمة، وربما تحاول موسكو إيجاد موطئ قدم لها، وفى هذه الحالة قد تصبح النيجر نقطة تمركز خارجية تتلاقى فيها واشنطن وروسيا بعيدًا عن الأراضى الأوكرانية، بما ينعكس سلبًا على الوضع الأمنى للنيجر.