المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > الدراسات الأمنية والإرهاب > سياقاتٌ تاريخيةٌ: متى وكيف ظهر التطرف والإرهاب؟
سياقاتٌ تاريخيةٌ: متى وكيف ظهر التطرف والإرهاب؟
- نوفمبر 1, 2024
- Posted by: Maram Akram
- Category: إصدارات دورية الدراسات الأمنية والإرهاب
لا توجد تعليقات
إعداد: إلهام النجار
باحث مساعد في وحدة الإرهاب والتطرف
المُقدمة:
التطرف آفةُ عصرنا لما يُسببه من آثارٍ سلبيةٍ في المجتمعات بشكلٍ عام، وهو اللبَنة الأولى للإرهاب، لأن الإرهاب يلتزمُ بعقيدة تنحرف عن الطريق الصحيح، ويُصاحب تمسكه بهذه العقيدة مع قناعته التامة بأنه دائمًا على حق وأن من حوله على خطأ وأن هذا الخطأ يجبُ تصحيحه بكل الجهود الممكنة، ويستخدمُ الإرهابي كلماتٍ تتوافق مع أهوائه وميوله الفكرية، وإذا لم يستجبْ من حوله لدعوته وأفكاره، فإنه يبدأ بالانتقال إلى المستوى الثاني، الذي يتضمن الجمع بين هذا التفكير المتطرف والعمل العنيف لفرض أفكاره فوق الآخرين.[1]
وتُعتبر مُشكلة التطرف والإرهاب من أخطر المشاكل التي تواجهها المجتمعات المختلفة في العالم، سواء كانت تعتنقُ الإسلام أو المسيحية أو أي دين آخر وينعكس ذلك في البِنية الاجتماعية للمجتمع ويكون له تأثير قوي وسلبي على العلاقات، والمشكلات الإنسانية والاجتماعية والسلوكية بين فئات وطوائف المجتمع والعديد من المجتمعات…
لذلك وإيمانًا بأهمية الدور والتثقيف السياسي لدى مراكز الفِكر البحثية، والمسئولية التي تقع على عاتقنا بأهمية نشر الوعي ، يُقدم مركز شاف للدراسات المُستقبلية وتحليل النزاعات والصراعات في أفريقيا هذه السلسلة التي تتضمن تقريرًا شهريًا عن التطرف والإرهاب، وكذلك تصحيح المفاهيم والأفكار المغلوطة التي تم تصديرها من الغرب عن التطرف والإرهاب، وأن هذه المجموعة من التقارير المتنوعة تُسلط الضوء على العديد من العوامل والتأثيرات المُتعلِقة بجذور الإرهاب والتطرف.
وعليه، يُقدم التقرير الأول عرضًا شاملًا عن السياقات التاريخية لنشوء الأفكار المتطرفة والتي أدت إلى الإرهاب، وكذلك فَهم الخلفيات التاريخية للتطرف وتحليله بشكلٍ أعمق، وتوضيح العلاقة بين التطرف والإرهاب.
أولًا: مفهومُ التطرف
ويُقصدُ بالتطرف الجنوح فكرًا وسلوكًا، وهو ينشأ من التناقض في المصالح أو القيم بين أطراف تكون على وعيٍ وإدراك لما يصدر منها، مع توفر الرغبة لدى كل الأطراف للاستحواذِ على موضع لا يتوافق بل وربما يتصادم مع رغبات الآخر مما يؤدي إلى استخدام العنف لتحقيق الهدف المنشود. [2]
ولقد عرفتْ كافة المجتمعات ظاهرةَ التطرف، ولكن بصورةٍ مختلفة، وترجع أسباب اختلاف تعرُّف المجتمعات على ظاهرة التطرف إلى وجود آليات وأساليب فعالة للتعامل مـع هـذه الظـاهرة مـن عدمـه، ومـن ثَّـم فالتطرف لـيس سـمةً لصـيقة بمجتمـع معـين دون غيره من المجتمعات أو الشعوب.[3]
والتطرف بمستوياته وأشكاله ظاهرة ليست وليدةَ العصرِ الحاضر بل لها جذورٌ تاريخية قديمة قِدم التاريخ، فعلى مر العصور ظهرت العديد من المِلَل والنِحَل والفِرق التي حاولت نشر أ فكارها، وكسب التأييد الشعبي، والإطاحة ببعضها مهما كلفها الأمر من تخطيط وتدبير وتدمير للنفس والاقتصاد والأرض والعِرض، ومن ثَّم ظهرت الإغتيالات السياسية والدينية والتصفيات البدنية، ومردُّ ذلك كله ظهور اتجاهات تعصبية دينية أو حزبية أو قومية أو عرفية متطرفة فكرية أو سلوكية.[4]
ثانيًا: مفهومُ الإرهاب
من خلال التعريف الوارد في قاموس اكسفورد “Oxford Dictionary” فإن كلمة “Terrorist” بمعنى “الإرهابي” هو الشخص الذي يستعمل العُنف المُنظم لضمان نهاية سياسية والاسم (Terrorism) بمعني “الإرهاب” يُقصد به “استخدام العُنف والتخويف (قتل وتفجير) وبخاصةً في أغراض سياسية”.[5]
والإرهاب (Terrorism ) هو التطرف في استخدام أو التهديد باستخدام العُنف لأغراضٍ سياسيةٍ، وتتضح أهمية العُنف المُصاحِب للإرهاب في أنه يخدم كرمز أكثر من كونه فعلًا ماديًا مُجردًا ، أي أن تلك الأهمية تُقاس من الناحية العملية بمدى ما يمكن أن يُحدِثَه العُنف من تأثير نفسي لدى الطرف المُستهدَف به، وبصورة أكثر تحديدًا بالمدى الذي يجري فيه إجباره على تغيير سلوكه أو إبدال موقفه من قضية مُعينة بالشكل الذي يتم مُسبقًا التخطيط له من قِبَل الضالعين في استخدام هذا العُنف الإرهابي.[6]
ويُمكن الإشارة إلى أن لفظَ “الإرهاب” لا يزالُ يكتنفه الغموض والتداخل ولم ينتهِ على المستوى الدولي إلى تحديد مفهومه وتعيين مضمونه، وقد يكون تعويم مفهومه مفيدًا لبعض الجهات حتى يمكنها إلصاق تُهمة الإرهاب بكل من يرونه مُعاديًا لهم وفي سلوكه خطرٌ عليهم وإذا أضفنا إلى ذلك وجود جرائم تتوافق مع الإرهاب وتتشابه معه فبعضهم ينظر إلى الأهداف كي يصلَ إلى تعريف مُقنع، وبعضهم يُركز على الوسائل المُستخدمة، وبعضهم ينظر إلى الأضرار الواقعة، وآخرون يجعلون مدى تأثيره في نفوس الضحايا المباشرين وغير المباشرين.
ثالثًا: علاقةُ التطرفِ بالإرهاب
يُعدُ موضوع التطرف والإرهاب من المواضيع التي أحدثت أكبر قدرٍ من الجدل والاهتمام في العالم المُعاصر، خاصةً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وأصبح مُصطلح الإرهاب يُستخدم على نطاقٍ واسعٍ ويُنسَب إلى أي ظاهرة دون أي مُبرر ، ولذلك فهو يُحدد العلاقة القائمة بين الإرهاب والتطرف، وهذا ليس أمرًا يسيرًا ، لكثرة استعمالها كمرادفات لمعنى واحد، لذا فإن التمييز بينهما ضروري، وبِناءً على ما سبق، فإن التطرف يرتبط بمعتقدات وأفكار بعيدة كل البُعد عما هو شائع ومُعترف بها سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا، دون ربط هذه المعتقدات والأفكار بالسلوك المادي العنيف تجاه المجتمع أو الدولة، أما إذا ارتبط التطرف بالعنف الجسدي أو التهديد بالعنف فإنه يتحول إلى إرهاب.
أما الإرهاب في مفهومه العام هو استخدامُ العنف غير المشروع لخَلْق حالة من الخوف والرعب بقصد تحقيق التأثير أو السيطرة على الفرد والجماعة، أو هو كل فعل من أفعال العُنف، والتهديد به، أيًا كانت بواعثه أو أغراضه، يقع تنفيذًا لمشروعٍ إجرامي فردي أو جماعي ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو ترويعهم بإيذائهم، أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر، وإلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق، أو الأملاك العامة أو الخاصة، أو احتلالها أو الاستيلاء عليها، أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر.[7]
وبالتالي يُمكن القول إن التطرفَ يكون في دائرة الفكر أما إذا تحوَّل هذا الفكر الى أنماطٍ عنيفة من السلوك واعتداء على حريات أو ممتلكات أو أرواح أو تشكيل تنظيمات مُسلحة لمواجهة الغير فهُنا يتحول هذا التطرف إلى إرهاب.[8]
ويرتبطُ التطرف بالتعصب وعدم التسامح مع الآراء ورفض وكراهية الآخرين، وهذا المتطرف، الذي قد يكون فردًا أو جماعةً، يرفض الحوار والتعايش مع الآخرين ومع أفكارهم لأنه لا يؤمن بتعدد الآراء والأفكار ووجهات النظر، ولا يُعرب عن استعداده لتغيير رأيه، ويؤدي هذا الأمر إلى تكفير الآخرين دينيًا وسياسيًا، وينتقل التطرف من مستوى الأفكار والمعتقدات والوعي النظري إلى الممارسات والأفعال المتطرفة التي تظهر ماديًا من خلال وسائل عنيفة مثل القتل وتزيد معه حِدة العنف .
رابعًا: سياقاتٌ تاريخية
التطرف والإرهاب ليسا ظاهرتين جديدتين في التاريخ البشري، بل يعود ظهورهما إلى العصور القديمة، وقد تطورا على مرّ الزمن من حيث الأهداف، الأيديولوجيات، والأساليب المُستخدمة لتحقيق غاياتهما، عبر العصور، شَهِدَ العالم نماذج متنوعة من التطرف والإرهاب، التي غالبًا ما ترتبط بالدوافع السياسية، الدينية، والاجتماعية.
1- في العصور القديمة:
يختلف الباحثون حول ما إذا كان الإرهاب يعودُ إلى القرن الأول الميلادي ممثلاً بجماعة “السكاري الزيلوت”، الـ”Zealots“، أو إلى القرن الحادي عشر ممثلاً “بطائفة الحشاشين” ، أو إلى القرن التاسع عشر ممثلًا في ” فينيان والمنظمة السياسية الروسية نارودنايا فوليا “، أو إلى عصورٍ أُخرى.
وتُظهِر البردياتُ المصرية القديمة الصراع الدموي بين الكهنة وصور الذُعر والقسوة التي سادت بينهم، كما حظرت قوانين الحضارتين اليونانية والرومانية الإرهاب والجرائم السياسية المُعادية للأمم، وخاصةً طائفة (الزيلوت)، ضد الإمبراطورية الرومانية وأول مُنظمةٍ إرهابيةٍ عرفها التاريخ هي المنظمة الدينية (سيكاري)[9] في فلسطين، فكانت السيكارى أولَ حركةٍ إرهابية ظهرت في التاريخ وهي حركة يهودية نشأت في عهد الحكم الروماني في القدس في الفترة ما بين 73- 66 ق.م ولقد تميزت هذه الحركة السياسية الدينية المتطرفة باستخدامها لوسائل غير تقليدية للقتال ضد الرومان ، من حيث طريقة ارتكابها لأفعالها، والتي كانت تتمُ باستخدام سيوفٍ قصيرة تُسمى “سيكا” والتي استمدوا منها اسم منظمتهم، كانوا يخبئونها تحت عباءاتهم لينفذوا عملياتهم في وضح النهار وأثناء الاحتفالات العامة وفي الزحام.[10]
والتي شكّلها المتطرفون اليهود الذين وصلوا إلى هناك في نهاية القرن الأول قبل الميلاد بغرض إعادة بناء المعبد الذي كان موجودًا فيها والذي سُمي بـ (الهيكل الثاني)، واستمر المتعصبون في رفضهم للاستعمار، واستمرتْ الزيلوت في رفضهم للاستعمار الروماني إلى حد ارتكاب أعمال عُنف ضد أي شيء مُرتبط بالإمبراطورية الرومانية، مثل مهاجمة المباني العامة، وإتلاف القصور والمؤسسات، وتدمير وثائق الإمبراطورية وارشيفها، كما عرف الآشوريون الإرهاب في القرن السابع قبل الميلاد واستخدموا الوسائل الإرهابية ضد أعدائهم مثل قتل الرجال والنساء والشيوخ والأطفال دون تمييزٍ في المدن التي يستولون عليها، كما عرفَ الفراعنةُ الإرهابَ في عام 1198 قبل الميلاد وأطلقوا عليه اسم “جريمة المرهبين” حيث كانت هناك محاولةٌ لاغتيال الملك رمسيس الثالث عُرفت “ بالمؤامرة الجريمة الكبرى” ، أما الإغريق فكانت الجريمةُ السياسية عندهم مرتبطةً بالمفهوم الديني وذلك لخلطهم بين الآلهة التي كانوا يعتقدون بها والبشر لكن هذه النظرة بدأت تتغير بظهور الحضارة اليونانية لينفصل تدريجيًا مفهوم الجريمة السياسية عن الجريمة الدينية، واعتبرت الجريمة السياسية تلك التي تستهدف الدولة وبناءَها الاجتماعي أو ضد سيادة الشعب، ويمكن القول إن المجتمعات القديمة لم تعرفْ الإرهاب على صورته الدولية الحالية إلا أنه كجريمة تبقى جذوره مُمتدة عبر التاريخ الإنساني.[11]
كما ظهرتْ العديدُ من الطوائف والجماعات الدينية والسياسية التي مارست الإرهابَ كوسيلةٍ لتحقيق أهدافها، وكان الشرق الأقصى في ذلك الوقت مسرحًا لعملياته وأهمها “الخناقين” وهي مجموعة في الهند والصين واليابان، وجميع أعضائها يخنقون خصومهم بشريط حريري ويعتبرون ذلك قُربانًا في نظر الآلهة، وخلال فترة الصراع الذي تطور بين سُلطة الأباطرة والحُكام في أوروبا وسُلطة الكنيسة، بدا أنهم يباركون أعمال الإرهاب التي تُرتكب باسم الآلهة، و بالديانة المسيحية، ويمكنُ الاستشهادُ بأمثلة كثيرة في هذا الصدد، خاصةً مذابح عيد القديس بارثولوميو، وعلى الرغم من هذا التاريخ الحافل للمسيحية واليهودية كممارسة، لم يحاولْ أحدٌ أن يبنيَ نظريةً عن الإرهاب المسيحي واليهودي من هذا التاريخ، وربما للسبب نفسه، لا يمكن لأي عالِم أن يقبلَ ولا يقبل الاستنساخ الكاذب على أساس أن الإسلام هو دين إرهابي، والإسلام يستمد سُلطته من الإرهاب وهيمنته، فهم يستندون في حُكمهم هذا على الأعمال التاريخية المنسوبة إلى الحشاشين، ولقد أنشأت الشريعة الإسلامية قبل 14 قرنًا أولَ تشريعٍ قانونيٍ مُتكامل يصفُ الجرائمَ الإرهابية ويحدد شروطها وأركانها وعقوباتها بشكلٍ يكاد يكون منسجمًا تمامًا مع التشريعات الحديثة لاتجاه الإرهاب الدولي وتعريفه وتجريمه وأشد العقوبات المفروضة عليه جرائم التعدي على الممتلكات واللصوصية (أي أخذ المال أو القتل أو التخويف بالعلانية والغطرسة، واستخدام القوة دون طلب تعويض).[12]
2- الإرهابُ في العصور الوُسطى
استخدمَ النبلاءُ الأوروبيون في العصور الوسطى العصابات الإرهابية لزعزعة أمن معاقل خصومهم، كما حدثت ثورات العبيد الذين تركوا مقاطعات أسيادهم و شكلوا عصاباتٍ للانتقام والقتل والسرقة وبثِّ الفوضى في أرض المُلاك بغرض توزيع الثروة وإعطائها للعباد، وفي القرن الحادي عشر، ظهرت جماعة دينية في الشرق، وخاصةً في إيران وسوريا، تُعرف باسم “ الحشاشين”، وهم من نَسل المسلمين الإسماعيليين، وأرادوا الحفاظَ على معتقداتهم الدينية وعاداتهم الاجتماعية، فاصطدموا بالسلاجقة حكام إيران في المنطقة في ذلك الوقت، الذين أرادوا تصفيتهم، فبدأوا في زَرْعِ العنف والإرهاب من خلال اغتيال القادة والمسؤولين، ولم يترددوا في قتل أحد الخلفاء المسلمين وتصفية ملك القدس الصليبي “كونراد ذي مونغيرا”.
وكذلك مجموعة “أبناء الحرية”، وهي مجموعةٌ سرية تشكلت في بوسطن ونيويورك في سبعينيات القرن الثامن عشر، كان لديها أجندة سياسية لاستقلال المستعمرات الأمريكية عن بريطانيا العظمى، وقد شاركتْ المجموعة في عددٍ من العمليات التي يُمكن اعتبارها إرهابيةً وتمَّ استخدام أعمالها لأغراض دعائية.[13]
في 5 نوفمبر 1605، قامت مجموعة من المتآمرين بقيادة “روبرت كاتسبي” بتدمير البرلمان الإنجليزي خلال حفل تنصيب الملك جيمس الأول، وقد خططوا سرًا لتفجير كميةٍ كبيرة من البارود تحت قصر ويستمنيستر، تمَّ صُنع البارود ووضعُه بواسطة جايفوكس، وخططت المجموعة للقيام بانقلاب باغتيال الملك جيمس الأول وأعضاء في مجلسي البرلمان، خطط المتآمرون لجَعْل أحد أبناء الملك قائدًا “دُمية” يعمل لتحقيق مآربهم على استعادة الإيمان الكاثوليكي في إنجلترا، كما استأجر المتآمرون قبوًا للفحم تابعًا لمجلس اللوردات وبدأوا بتجميع الفحم هناك في عام 1604 ، وبالإضافة إلى أغراضه الرئيسية، يُقال إن الانفجارَ أودى بحياة المئات، إن لم يكنْ الآلاف من سكان لندن، ليُصبحَ الحدثُ الكارثي الأكثر فظاعة في التاريخ البريطاني، حيث حطّم الأمة في حربٍ دينيةٍ، اكتشف الجواسيس الإنجليز المؤامرة وألقوا القبض على جاي فوكس المخبأ تحت البرلمان، وفر باقي المتآمرين إلى هولبيتش في ستافوردشاير، وأدى اشتباك مع السلطات في 8 نوفمبر إلى مقتل روبرت كاتسبي وتوماس بيرسي والأخوين كريستوفر وجون رايت، فيما تم اعتقال آخرين، وتمت محاكمة فوكس وسبعة آخرين وإعدامهم في يناير 1606، وأصبح الهجومُ المُخطط له معروفًا باسم مؤامرة البارود، يتم الاحتفال به كل عام في بريطانيا العظمى في 5 نوفمبر بالألعاب النارية والنيران الضخمة، وغالبًا ما يكون مصحوبًا بحرق دمى جاي فوكس والبابا، غالبًا ما تتم مقارنة مؤامرة البارود بالإرهاب الديني الحديث، مثل الهجمات الإرهابية الإسلامية في 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة.[14]
3- الإرهابُ في العصر الحديث
عَرَفتْ العصورُ القديمة صورَ العنف السياسي، إلا أن هذه الصور بأشكالها المختلفة كانت بعيدةً كل البُعد عن مصطلح الإرهاب بمفهومه الحالي، ولا شك أن مصطلحَ الإرهاب اخترعته الثورةُ الفرنسيةُ التي اندلعت سنة 1789 وطرحت أفكارًا وأيديولوجيةً سياسية ذات مضامين ودلالات واضحة، وبدأ الإرهاب كنظام استخدمته الثورة الفرنسية في شكل أسلوب عمل سياسي تبنته الحكومة الشرعية بعد سقوط لويس السادس عشر، ومرت فرنسا بمرحلة اليعقوبيين خلال الفترة (1792-1794) وتأثرت بخُطب روبسبيير وكتابات سان جوست وأفكار جان جاك روسو، كما استُخدِمَ الإرهابُ كأسلوب عمل سياسي. وصدر في 28 أغسطس 1792 مرسومٌ يسمحُ بمداهمة المنازل لنَزْع سلاح كل المشتبه بهم، وتم اعتقال ثلاثة آلاف مشتبه بهم بتهمة معارضة الثورة وأُلقي بهم في السجون، وقد عُرفتْ تلك الفترة بعهد الإرهاب، وتُعرف تاريخيًا بأنها الفترة ما بين 10 أغسطس 1792 وتاريخ سقوط روبسبيير سنة 1794، إلا أن ممارسة الإرهاب لم تتمْ قانونيًا بشكل علني وواضح إلا في 10 مارس 1793، وقد شهد عهد روبسبيير أبشع العمليات الإرهابية، حيث تم قَطْعُ رؤوس 140 ألف فرنسي وسجن 300 ألف آخرين.[15]
وخلال القرن التاسع عشر حدثت ثورة في مركز الإرهاب حيث انتقل من أيدي السلطة والدولة إلى أيدي الأفراد والمحكومين على شكل حركتين ثوريتين هما الحركة “الأناركية والحركة العدمية” وقد ارتبطت الحركتان بالأفكار الاشتراكية التي سادت في القرن التاسعَ عشَرَ وتحولت الحركتان إلى الإرهاب كوسيلةٍ لنشر الرعب بهدف تدمير السلطة الحاكمة وزعزعة استقرارها وقد انتشرت هذه الحركات في فرنسا وإنجلترا وأسبانيا ومع هاتين الحركتين وأصبحَ الإرهابُ وسيلة تُستخدمُ ضد الحكومات والسُلطات باللجوء إلى وسائل غير مشروعة وأن الحركات الأناركية والعدمية لجأت إلى الإرهاب كوسيلة يستخدمها الحُكام بشكل غير مشروع ضد الحكام الذين يمارسونه بشكل قانوني والإرهاب هنا هو إرهابُ الضعفاء ضد السُلطة الحاكمة بهدف إزالتها والقضاء عليها وهو بذلك إرهاب مضاد.[16]
كما شهدتْ هذه الفترة ولادة العديد من الحركات الثورية في أوروبا والتي لا تزال تداعياتها على النشاط الإرهابي حتى يومنا هذا، ومن أهمها “حركة الاستقلال الأيرلندية” التي بدأت عام 1891، ونشاط المنظمات الإرهابية التي انتفضت ضد الاحتلال التركي عام 1890، وكذلك حركة الباسك الإسبانية التي بدأت قبل الحرب العالمية الأولى ولا تزالُ مستمرةً، ويمكن القول إن الحركات الأناركية والعدمية عملت على إخراج الإرهاب من إطاره الرسمي الذي تمارسه السُلطة الحاكمة إلى نوعٍ ثانٍ من الإرهاب غير الرسمي الذي يمارسه الأفراد، وفي بداية القرن التاسع عشر ألقت الثورة الفرنسية بظلالها على جيرانها في روسيا ومقدونيا وإيطاليا وإسبانيا، وخاصة في القارة الأمريكية، وظهرتْ عدةُ حركات إرهابية في الولايات المتحدة عام 1816، ومن أهمها جماعة “كلو كلوكس” التي اتسمت بالعنف الشديد ضد السكان السود.[17]
4- الإرهابُ المُعاصر
لقد تطورَ الإرهابُ من حيث النوع والنطاق خلال القرن العشرين، وهذا امتداد طبيعي لشكلّي الإرهاب اللذين تم تناولهما ، الرسمي وغير الرسمي، بحيث لم يعُد مُقتصرًا على إرهاب الأقوياء، بل أصبح أوسعَ نطاقًا في مواجهة الضعفاء بالمعنى المحلي، بل بدأ بالتعبير عن العلاقة بين الدولة ومعسكرات وفي مواضعَ أخرى بين الحضارات وهنا يمكن أن نُشيرَ إلى الإرهاب الشيوعي الذي سبقَ الثورةَ البلشفيةَ وأدى إلى ثورة 1917، وبحسب مُنّظِر الثورة البلشفية الروسية (لينين)، أصبح الإرهابُ المُنَظَم وسيلة للعمل السياسي، وأصبح الإرهاب الشيوعي مرحلة تكتيكية، تَصورها وخطط لها لينين، استمر الحزب حتى عام 1917 ولم تنتهي مسألة الإرهاب السياسي مع اندلاع الثورة عام 1917، بل تفاعلت معها وأصبحت مجالًا لا جدال فيه.[18]
كما عرفت الحرب العالمية الثانية الإرهاب من خلال أعمال التدمير والإرهاب التي أثارتها في نفوس المدنيين من خلال استخدام الأسلحة المُحرّمة والتي بلغت ذِروتها بإلقاء الولايات المتحدة قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان في أغسطس 1945 وهو ما اعْتُبر إرهابًا لا مثيل له، كما قامت الدول الاستعمارية بغزو أراضي الشعوب الضعيفة واضطهادها وتجويعها وتعذيبها باسم الحضارة وضمن أُطرٍ رسمية نظمتها عُصبةُ الأمم في عهدها ومن خلال نظام الانتداب المفخخ ثم الأمم المتحدة بنظام الوصاية، ولم يتجاوزْ هذا أو ذاك كونه إرهابًا مُشرعًا، فقد عرفت الدول الغربية الإرهاب اليميني الذي عُرف بالإرهاب الأسود والإرهاب الذي مارسته (منظمة الفهود السود) في الولايات المتحدة ضد البيض الذين تمسكوا بالتمييز العنصري والعرقي، كما ظهر مصطلح الإرهاب الأبيض الذي ارتبط بالمنظمات الفاشية والنازية في ألمانيا وإيطاليا والنمسا والمنظمات اليمينية المتطرفة في فرنسا، ولقد اتبعت أمريكا اللاتينية نفْسَ النَهج، وخاصة في أوروجواي والسلفادور ضد السُلطات، فقد اتخذت الطبقة الحاكمة الموالية للولايات المتحدة، والإرهاب في السبعينيات أشكالاً أساسية تمثلت في مجموعات سياسية مُحددة تستخدم العنف المُنظم ضد الحكومات، وتتحدد استراتيجية هذه الحركات بجذب الرأي العام من خلال نشر قضاياها.[19]
وفي الثمانينيات، شَهِدَ الإرهابُ تحولاً خطيرًا ليس فقط في استراتيجيته، بل وأيضًا في نوعية من ينفذونه، حيث كانت العمليات الإرهابية عملياتٍ وطنيةً أو داخليةً تقتصر على مجموعات تواجهُ السُلطة الحاكمة أو العكس، ولكن خلال هذه الفترة، تدخلت قوى خارجية لمساعدة الحركات الإرهابية ضد حكوماتها، فأصبح الإرهاب يُمارَس من قِبَلِ أجهزة استخبارات بعض الدول الكبرى أو الصغرى من خلال عمليات مباشرة تنفذها قوات حكومية أو خاصة، وتغيرت استراتيجية الإرهاب من مجرد نشر الذعر إلى إحداث الدمار وإلحاقِ خسائرَ فادحةٍ بالخِصم بهدف التأثير على القرارات السياسية وإظهار عجز الحكومات عن حماية مواطنيها، الأمر الذي يضطرُ الدولةَ المستهدفة في كثير من الأحيان إلى اتخاذ إجراءات قَمْعية، الأمر الذي يضع الرأي العام تحت الضغط، كما تغيرت تكتيكات الإرهاب من العمليات والتهديدات التقليدية إلى أسلوب جديد في الاستخدام قديم في الأصل وهو أسلوب الانتحار.[20]
في التسعينيات من القرن الماضي، لم يعدْ للإرهاب نفسُ الخصائص الواضحة، لأن الاستراتيجيات الإرهابية في هذا العِقد انتقلت من الدعاية إلى العمل إلى التدمير الكامل للخِصم، أو على الأقل إلى الانتهاك المستمر لقوات الدولة، إذ حاول الإرهابيون في الماضي إدراك مخاوفهم والإعلان عنها وهم يفعلون ذلك من خلال تصرفاتٍ مثيرةٍ لجذْب الانتباه دون التسبب في خسائر كبيرة ودون إعلان مسؤوليتهم عن هذه التصرفات حتى لا يفقدوا تعاطف مؤيديهم، لكنهم في حربٍ حقيقية مع الدولة المقابلة “الخِصم”، ومن هُنا هدفهم هو تدمير هذه الدولة والتسبب في أكبر عدد من الخسائر.[21]