رابعة نور الدين وزير
يشهد العالم في الوقت الحالي تغيرات كبرى، تتمثل في إعادة تشكيل القوى المؤثرة على الساحة العالمية، وما يترتب على ذلك من تغير ترتيب القوى المؤثرة في النظام العالمي، واندلاع حروب أهلية وقبلية وتصاعد الصراعات في عدة دول مع اتساع رقعته، ما يعلنا نعيش في حالة من الغموض، وفي ظل عدم وضوح الرؤية حول النموذج الأوحد القادر على فرض سيطرته بدون منازع، فقد أدى صعود التطور التكنولوجي إلى خلق نوع من التشابك بين الكيانات للمختلفة سواء على مستوى الدول او المنظمات أو غيرها وهذا التطور أدى إلى تحقق نوع من الانكشاف بينهم وبالتالي يؤدي إلى درجة من الكشف عن التفاوت وعدم التساوي في القدرات والامكانيات وهو ما يعتبر مصدرًا محتملًا للصراع.
فقد شهدنا الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وتنظيم الانسحاب من العراق، وتغيير الاستراتيجية الامريكية نحو الشرق الأوسط، وبدء الاتجاه نحو آسيا، في محاولة لتحجيم النفوذ الصيني المتصاعد، بالإضافة إلى انتشار التحديات على المستوى الدولي والتي تتعلق بالتغيرات المناخية، والتحديات المتعلقة بالأمن الغذائي، والمجاعات وانتشار الفقر، وغيرها من التحديات، التي تنذر معها بتغيرات تتعلق بسبل الوقاية من هذه المخاطر، او محاولة إيجاد حلول لها.
وفقًا للتغيرات السابقة فلابد معها أن تتغير أولويات القوى كلًا طبقًا لأولوياته والكيفية التي تتفاعل بها مع المتغيرات الحالية، لذا فمن المتوقع أن يشكل البعد التكنولوجي دورًا كبيرًا فيها خاصة الذكاء الاصطناعي، والذي أصبح أساس في صناعة الأسلحة العسكرية والدفاعية، كما يمكن أن يضاف أبعاد أخرى للصراعات وأشكال متعددة، بل أن الأسباب التي تدفع لنشوب الصراعات والأزمات نفسها من الممكن ان تتغير فبدلًا من النزاعات التقليدية على السلطة أو الجغرافيا أو غيرها، من الممكن ان يأخذ الصراع نمط أخر وبالتالي يتغير نطاقه وساحاته.
وعليه فهناك العديد من التصورات حول ما يمكن ان تكون عليه الصراعات في المستقبل، فمن الممكن أن ترتكز على خطوط الصدع الحالية وأهم التطورات التي يشهدها النظام العالمي، ومحاولة الخروج بمقاربة حول ما يمكن أن تكون عليه الصراعات في المستقبل.
قراءة في أبرز التحديات العابرة للحدود في القرن الحادي والعشرين
إن التحديات التي نشهدها في القرن الحادي والعشرين لها سمة مشتركة فعادة ما تتسم بقدر كبير من الترابط والتشابك، ولعل تعقد العلاقات الدولية والمصالح الثنائية والمتعددة وانتشار التحالفات والتكتلات على مستوى العالم هو ما خلق هذا القدر من الترابط والتشابك، فالدول في الوقت الحالي تواجه تهديدات لا متماثلة ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما يلي: –
التنظيمات المسلحة
التنظيمات والمليشيات والحرب بالوكالة، والجيوش المرتزقة، وشركات الأمن، وغيرها من التكتيكات التي باتت تشكل أخطر أنماط الحروب اللامتماثلة، فقد امتلكت هذه الجيوش من السلاح والعتاد والتدريب ما يجعلها تضاهي الجيوش النظامية للدول، ولم ينقصها شيء سوى امتلاك أنظمة القتال الجوي، ووضع الخطط العملياتية لتصبح بنفس الوزن بالنسبة للجيوش النظامية، الأمر الذي يجعله تحديًا بالغ الخطورة على أمن واستقرار الدول بل والامن العالمي بشكل عام، وبالتالي لابد من العمل على مجابهته.
الحروب السيبرانية
تعتبر الحروب السيبرانية نمط من أنماط التهديدات غير التقليدية التي تواجه العالم في الوقت الحالي، التي تعتبر من أهم التهديدات التي تواجه العالم، كنموذج للحروب غير النظامية من الجيل الخامس والسادس، والتي أصبحت أحد أخطر مظاهر التهديدات الاستراتيجية للأمن الوطني للدول في القرن الحالي.
الإرهاب العابر للحدود والجريمة المنظمة
تشكل الجريمة العابرة للحدود الوطنية والإرهاب من أبرز التحديات في القرن الحادي والعشرين لأنها تهدد التنمية المستدامة وسيادة القانون، وهي شكل من أشكال الاجرام الجسيم الذي يشكل خطرًا كبيرًا على أجهزة الدول الأمنية، وقد ظهر هذا التحدي بفعل التوسع التجاري وعولمة الاقتصاديات بين الدول وما أرتبط بذلك من عولمة ثقافية وكذلك الجريمة التي أصبحت تجني أموالًا طائلة من مصادر غير مشروعة كالاتجار في البشر، أو الأسلحة، أو استغلال النساء والأطفال، أو غسيل الأموال وإدخالها في إطار الاقتصاد الرسمي لتصبح أموال مشروعة، وغير ذلك من الأنشطة الإجرامية.
الطموحات التوسعية
تعتبر الطموحات التوسعية لبعض القوى التي تحاول استغلال الاضطرابات السائدة في عدة مناطق حول العالم، من أجل توسيع نفوذها والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، من أجل السيطرة على مواردها أو حماية مجالها الحيوي، وأمنها القومي.
تصاعد خطر انتشار الأسلحة
يتصاعد خطر انتشار الأسلحة وخاصة النووية، حيث عجز نظام منع الانتشار النووي حتى الىن عن إيقاف جهود التسلح النووي، بالإضافة إلى عدم وجود آليات دولية فاعلة لحظر التجارب الصاروخية التي باتت تشكل تهديدًا كبيرًا للعالم في وقتنا الحالي.
التغير المناخي
يعتبر التغير المناخي من أهم التحديات التي أفرزتها التغيرات التي شهدتها الساحة الدولية مؤخرًا سواء على المستوى الصناعي أو الاقتصادي أو التكنولوجي، ويعتبر التغير المناخي من أشد المخاطر التي يمكن أن تقود إلى صراعات شديدة في المستقبل حول مصادر المياه أو غيرها من الموارد الطبيعية.
خطر الفقر ونقص الغذاء
وفقًا لمنظمة الأغذية العالمية “الفاو”، في تقرير 2021 عن وضع الغذاء حول العالم تبين أن أسعار الغذاء حول العالم قفزت لمستويات غير مسبوقة منذ ما يقرب من 7 سنوات، ما أدى إلى تفاقم معدلات الجوع وانعدام الأمن الغذائي على مستوى العالم، نتيجة لبعض العوامل الاقتصادية العالمية، وانتشار الصراعات، وما يرتبط بها من فقر ومجاعات، ونزوح ولجوء لأعداد كبيرة، وقد لفتت “الفاو”، أن الأزمات الاقتصادية الخانقة، وظروف “جائحة كورونا” وانتشار الصراعات بالضافة إلى التغيرات المناخية الحادة، أدت هذه العوامل إلى وجود ما يزيد عن 155 مليون شخص يعانون من انعدام الامن الغذائي، بزيادة تصل لأكثر من 20 مليون شخص عن عام 2019.
خطر الأوبئة والامراض وسياسات الاستجابة السريعة
يعتبر انتشار الأمراض والاوبئة من اهم التحديات التي تواجه العالم في القرن الحادي والعشرين والتي تزايد أهمية وجود سياسات استباقية للتعامل معها خصوصًا بعد انتشار “جائحة فيروس كورونا”، ولا تكمن خطورة انتشار الامراض والاوبئة في التأثير على الصحة العامة للمواطنين بل أن التكلفة الاقتصادية للأمراض والأوبئة بالإضافة إلى تصاعد الصراعات المتعلقة بتوفير الخدمات وتوفير الغذاء.
النزوح ووصول محدود للخدمات
يعتبر النزوح واللجوء من أهم التهديدات الناتجة عن التغيرات والمخاطر التي تعج بالعالم، وتمثل في حد ذاتها تهديدًا مباشرًا على الأمن العالمي لارتباطها بتهديدات أخرى كتصاعد الصراعات، وتزايد الفقر والجوع، ونقص أو انعدام الخدمات.
ما سبق طرحه يمثل أبرز التهديدات التي يشهدها العالم في وقتنا الحالي، والتي تتصاعد بسببها أنماط وتغيرات نوعية تتعلق بالفاعلين الداخليين والخارجيين حول الصراعات، ومن هنا ننتقل إلى الحديث عن التحولات التي شهدتها الصراعات في الوقت الحالي.
كيف تحولت الصراعات من الاستراتيجية التقليدية إلى استراتيجية لعبة ريسك؟
خلال فترة الحرب الباردة أخترع المخرج السينمائي الفرنسي “ألبرت لاموريس” لعبة عرفت باسم “ريسك” تقوم فكرتها بالأساس على رسم خريطة العالم على لوحة في شكل غير نمطي، وعليه فنجد أن هذه اللوحة توضح بشكل ما الدينامية العالمية التي بدأت تسود في ذلك الوقت، وتعتمد هذه اللعبة على تقسيم العالم إلى مناطق مختلفة –تقسم وفقًا لأهميتها الاستراتيجية-، ويجب على المشاركين فيها والذين يمتلكون جيشًا خاصًا، غزو مناطق العدو والمشاركة في المعارك التي تشن ضده، على أن تبدأ اللعبة برمي حجر النرد.
ولا تعتمد كافة الاستراتيجيات المستخدمة في هذه اللعبة على نقل عناصر الجيش من مكان إلى أخر من أجل المشاركة في الحرب على العدو أو الحصول على مكاسب استراتيجية مستغلين في ذلك الصراعات الدائرة في مناطق مختلفة في العالم، بل من الممكن توقيع اتفاقيات للشراكة أو الاستعانة بجيش أحد الأطراف أو بقوى أخرى من الممكن ان يساهم تدخلها في الصراع إلى ضبط الموازين وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للفاعلين، والتي تتمثل في السيطرة على جزء من رقعة اللعبة.
من خلال هذا التصور يمكننا قراءة التغيرات التي طرأت على طبيعة الصراع وتحوله من الشكل التقليدي الذي يعتمد على وجود فاعلين داخليين وأخرين خارجيين –فاعلين تقليديين-، يتدخلون بشكل مباشر في الصراعات من اجل حصد مكاسب معينة، ولكن بفعل التغيرات التي تشهدها الساحة الدولية تغيرت معها طبيعة الصراعات ومسبباتها، وبالتالي تغير الفاعلين وأشكالهم ومساحات تواجدهم في ساحة الصراع ولكن من المؤكد أن لكل فاعل مصلحة ما يسعي لتحقيقها من خلال لعب دور في الصراعات.
تطور الحروب في القرن الحادي والعشرين والقفز على مفهوم الدولة الوطنية
ما سبق يجعلنا نذهب إلى أن النظام الدولي يتعرض في القرن الحالي لاختبار حقيقي ومصيري بسبب تجدد تهديدات جديدة ومتعددة ونصاعد الصراعات وما ترتب على ذلك من وجود فاعلين غير نمطيين، وهه التغيرات عرضت مفهوم الدولة الوطنية للتهديد حيث تم اختراق سيادة عدد كبير من الدول وغابت دول من على خريطة العالم جراء الفوضى التي تجتاح العالم بفعل التهديدات التي تشكلها المليشيات المسلحة، والإرهاب العابر للحدود والجريمة المنظمة وغيرها من التهديدات التي تمثل اشكال مختلفة للحرب بالوكالة.
وقد أثر ما سبق على المؤسسات الخاصة بالدول وبالتالي ضعفت السيادة الوطنية للدول وحل محلها عناصر إرهابية أو مليشيات او جماعات مسلحة، والتي استولت على أجزاء من الدول ثم زعمت بعدها أنها تنشئ دولة أو إمارة أو غيرها مثلما فعل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا “داعش”، وقد اتسعت التغيرات التي يشهدها العالم حتى طورت حروب في اشكال إلكترونية فيمكن أن تقوم حرب بين دولتين أو أكثر ويتداخل الفاعلين والأسباب والأدوات دون إطلاق رصاصة واحدة، وبالتالي فيمكننا التوصل إلى فكرة أن الحروب في القرن الحادي والعشرين تقترب من القفز على مفهوم الدولة الوطنية، فمع التطور التكنولوجي والتحديات المتنوعة التي يتعرض لها عالمنا في الوقت الحالي أدت لتراجع مفهوم جغرافيا الحرب، أو ما يعرف بالعوامل الجيوبوليتيكية في الصراعات، فلطالما كان للمكان دور هام في اتخاذ مجمل قرارات الحرب، وذلك لأن الصراعات في الوقت الحالي والحروب أصبحت غير مقيدة بإطار مكاني واحد بل من الممكن ان لا يوجد لها إطار مكاني وتصبح حرب أو صراع في الفضاء الإلكتروني.
وهنا ننتقل إلى بعد آخر يتعلق بما يمكن أن يصبح عليه الفاعلين في صراعات المستقبل، وهل سيقتصر الأمر على الكيانات الرسمية أو الدولية فقط؟ أم أن الأمر سيشمل فاعلين من غير الدول أو الكيانات السياسية؟
هل تتطور الصراعات لتصبح مناخ لجذب فاعلين غير نمطيين؟
من الواضح أن الصراعات المسلحة في الحاضر أو المستقبل، تشارك في معظمها جهات فاعلة سواء داخلية أو خارجية أو الاثنين معًا، وعادة ما يكون لهذه الجهات مهما اختلفت مبرراتها مصالح سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو غيرها داخل الدولة محل الصراع، وفي بعض مراحل الصراع من الممكن ان تلجأ هذه القوى الخارجية بعض القوى الداخلية التي ستخدم مصالحها وتتحالف معها، على الجانب الآخر هناك صراعات تتفوق فيها الديناميكيات الخارجية التي تتفاعل حوله الصراع نفسه، وبناءً على ذلك تصبح الجهات الخارجية في موقع قوة.
وهنا ننتقل إلى الحديث عن فاعلين محتملين في حروب المستقبل
الحرب بالوكالة نموذج لفاعلين غير نمطيين في الصراعات
الحرب بالوكالة تعتبر من أشهر المتغيرات التي تشهدها الساحة الدولية فيما يتعلق بالصراعات ويقصد بها من الناحية المفاهيمية “نشوب صراعات بين دول أو أطراف مختلفة –تنظيمات أو مليشيات- ويعمل كل منها أو بعضها بشكل منفرد أو ثنائي أو جماعي، من أجل تحقيق مصالح استراتيجية مباشرة أو غير مباشرة، قائمة أو محتملة في منطقة الصراع، بحيث تتولى الدول المعنية بهذا الصراع تأمين الرواتب أو تمويل الانفاق العسكري للأطراف المتنازعة وتقديم كافة اشكال الدعم المعلوماتي أو اللوجستي”.
وجدير بالذكر أن استراتيجيات الحرب بالوكالة ليست طارئة في المشهد الدولي، فقد كان لها دور في فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي، حيث لجأ كلًا منهم للحرب بالوكالة لحزم الصراع الدائر بينهم على أراضي دول أخرى، ويعتقد بعض الباحثين أن هناك ما يقرب من أربعين حرباً بالوكالة نشبت بينهم طيلة فترة الحرب الباردة حتى انهيار الاتحاد السوفيتي السابق نهاية ثمانينيات القرن العشرين، ومن أشهر تلك الحروب ما دار في نيكاراجوا وأنجولا وأفغانستان والصومال.
ولم يقتصر دور الحرب بالوكالة على هذا النموذج فقط بل أن استراتيجيات الحرب بالوكالة تضاعف ظهرها في الوقت الحالي ولعل أبرز الأمثلة على ذلك العراق واستخدام عديد من الأطراف لاستراتيجيات الحرب بالوكالة لتحقيق أهدافها –الولايات المتحدة الأمريكية، إيران-، بالإضافة إلى سوريا، وليبيا وغيرها من الدول التي أصبحت ساحة للحرب بالوكالة من قبل القوى الخارجية.
العوامل التي ساهمت في تنامي استراتيجيات الحرب بالوكالة
مؤشر الهشاشة وضعف الدولة: ويعتبر مؤشر هشاشة وفشل الدولة من أهم المتغيرات التي ساهمت في تنامي الحرب بالوكالة، تنامي نماذج وأشكال آخري للأطراف الفاعلة في صراعات المستقبل، حيث أن محدودية قدرة الدولة على السيطرة على أطرافها وضعف المؤسسات وغيرها من عوامل الهشاشة الداخلية للدولة تعتبر مناخ ملائم لاستراتيجيات الحرب بالوكالة.
استراتيجيات الحرب بالوكالة أكثر جاذبية وأقل تكلفة: من جانب ثان تبدو الاستراتيجيات العسكرية القائمة على الاضطلاع في مهام تتعلق بالحروب بالوكالة، جذابة من حيث أن تكلفتها تعتبر منخفضة جدًا مقارنة بأشكال التدخل الأخرى، كما أنها تجنب الدول أو الأطراف التي تلجأ إليها من تحمل تكاليف بشرية نتيجة للدخول لفي صراعات أخرى، كما تعتبر هذه القوى أن قيام التنافس على مناطق خارج حدودها أمر مريح وأقل تكلفة، ويحد من أي تدخل عسكري محتمل في سيادتها.
الضعف الهيكلي للجيوش والأجهزة المحلية، حيث أن وجود الدولة في حالة من الصراع يؤدي بالضرورة إلى استنفاذ قدراتها العسكرية ومواردها ويضعف من حجم تأثير مؤسساتها وبالتالي تضطر الدول إلى الاستعانة بالتنظيمات أو الشركات الخاصة أو حتى قوات من دول مجاورة.
التكلفة السياسية المنخفضة: حيث أن لجوء الدول إلى استخدام أحد استراتيجيات أو اشكال الحرب بالوكالة لا يترتب عليه مسؤولية سياسية عن أي اضرار أو مخاطر تنتج عن سلوكيات هذه الشركات، حيث تتمكن الدول من التنصل من المسؤولية بسهولة،
وتأخذ الحرب بالوكالة عدة أشكال وأنماط للتدخل في الصراعات وتحقيق الأهداف الاستراتيجية الخاصة بالقوى التي تلجأ إليها وعلى سبيل المثال: –
العصابات والجماعات الإرهابية
تعتبر العصابات الجماعات الإرهابية من أشهر أنماط الفاعلين في الصراعات الحالية، وعلى الرغم من أنه يصعب التمييز بين العصابات والجماعات الإرهابية في كثير من الأحيان إلا أن المنظمات الإرهابية التقليدية كثيرًا ما يكون لديها هيكل تنظيمي وهيكل عمل، وهذا لا ينفي وجود نقاط مشتركة بينهم، وعادة ما تلجأ بعض القوى للتحالف مع بعض التنظيمات للتدخل في الصراع مثلما حدث بين إيران وحزب الله للتدخل في الصراع السوري، وتعتمد تكتيكات هذا النمط على تجنيد التنظيمات داخل أو خارج الدولة محل الصراع، واستخدام عناصرها لتحقيق مخططاتهم، وعمل تفجيرات ممولة بشكل مباشر أو غير مباشر.
الجيوش المرتزقة والشركات العسكرية
أصبح استخدام المرتزقة والتعاقد مع الشركات العسكرية أو الأمنية لأداء بعض المهام العسكرية في مناطق الصراع من اجل تحقيق استراتيجيات لبعض القوى أحد التوجهات الأكثر رواجًا في صراعات القرن الحالي، وعلى الرغم من ان بواكير هذه الشركات الخاصة بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، وكان للحركة الصهيونية السبق في هذا المجال فقد قامت بإنشاء شركة “هاشميرا” ولكن ازدهار هذا النوع من الشركات بدأ فعليًا بعد انتهاء الحرب الباردة التي كانت اهم ساحات استخدامه، وقد لجأت الولايات المتحدة الامريكية لاستخدام هذا النوع من الشركات في حربها ضد مهربي المخدرات بأمريكا الجنوبية، ومن ثم توسعت في اللجوء إليها في البقلان مع تفكك يوغسلافيا، وظهر بشكل أكبر مع حرب الخليج وأفغانستان.
ويعتبر تصريح وزير الخارجية الروسي في الأمم المتحدة في سبتمبر 2021 من قيام دولة مالي باستدعاء بعض القوات من شركات الأمن الخاصة للتدخل في الصراع ضد المتمردين في الداخل وهذا يؤكد على تصاعد دور هذه الشركات.
ولعل شركة “فاجنر الروسية” وشركة “الرجال الخضر الصغار” التي استخدمتها السلطات الروسية في حرب القرم ضد أوكرانيا وتمكنت من إنكار أي دور عسكري لها في هذا الصراع، كذلك لجأت الولايات المتحدة الامريكية لاستخدام شركات الامن الخاصة في العراق “شركة بلاك ووتر الأمنية” والتي عرفت فيما بعد باسم “أكاديمي”، وتمكنت من تبرير الجرائم التي ارتكبت في حق المدنيين في العراق، ولم يقتصر الأمر على هذه الأمثلة فقط بل هناك عدد كبير من الشركات الأمنية حول العالم على سبيل المثال شركة “سادات التركية” وهو ما يؤكد أن هذه الظاهرة تتنامي بشكل كبير ومن الممكن أن تساهم التحديات العابرة للحدود في استمرار تناميها.
استدعاء القوى
يعتبر “محمد العرابي” وزير خارجية مصر الأسبق، من أوائل المتخصصين في طرح هذا المفهوم في إشارة إلى أنشطة الدول التي تستهدف الاستعانة بقوات أو جيش من الدول المجاورة لها من أجل احتواء الصراع على أراضيها ولعل أبرز النماذج على ذلك “استعانة الحكومة الإثيوبية بجيش إريتريا للمساهمة في احتواء الصراع في الداخل الإثيوبي ضد إقليم “تيجراي، كما استعانت دولة جنوب السودان من خلال شراكة أمنية ببعض القوات الأوغندية للتدخل في الحرب الأهلية في الجنوب.
وقد بدأ مفهوم استدعاء القوات في الانتشار في الوقت الحالي حيث تعتمد القوى على قوات وجيوش دول أخرى للتدخل بشكل غير مباشر في الصراعات في دول أخرى، تجنبًا للتكلفة الاقتصادية والعسكرية والبشرية التي ترتب على الدخل المباشر في الحروب، ولرغبة بعض القوى في نقل ساحة الصراع خارج حدودها لتنفرد بخطتها الخاصة، ويعتبر شكل من أشكال الحرب بالوكالة.
لعل القاسم المشترك بين ما سبق هو اعتماد قوى خارجية على عناصر أخرى لعمل تحولات في خريطة الصراع في دولة ما، وهذا لا يعني أن الأنماط التي أفرزتها لتحديات العابرة للحدود في مجملها خارجية بل هناك أنماط داخلية للحرب بالوكالة مثل الأحزاب السياسية أو استغلال الأدوات الإعلامية لشن حروب نفسية ودعائية لصالح قوى أخرى لقلب موازين الصراع.
مخاطر استخدام أنماط الحرب بالوكالة
على الرغم من أن استخدام أنماط الحرب بالوكالة لها العديد من المزايا على المستوى العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي إلا أن الأمر له تكلفة كبيرة ومخاطر محتملة يمكن ذكرها كما يلي: –
الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان: يرتبط وجود هذه النماذج بارتفاع حجم المخاطر على المستوى الإنساني، حيث أن هذه الشركات أو الكيانات تلجأ لأساليب عنيفة في التعامل مع المدنيين في الصراعات مثل التهجير القسري، أو القتل أو ممارسة العنف ومع ذلك لا تتعرض لمسؤولية ما عن هذه الانتهاكات، على سبيل المثال ما ارتكبته شركة “فاجنر” من انتهاكات في افريقيا الوسط ولم يتم محاكمتها عن ذلك حتى وقتنا الحالي.
إضعاف سيادة الدول: حيث تتمكن هذه الأدوات من اعاف أجهزة الدول الأمنية والكشف عن المخططات الخاصة بها وتتحول إلى أداة استخباراتية للقوى التي تعمل معها، وبالتالي يصبح لديها القدرة والقوة لتنفيذ اجندات تخص الدول المتعاقدة معها بما يضعف قوة وسيادة الدولة محل الصراع.
استنزاف موارد الدول: إن وجود هذه الشركات أو التنظيمات او القوى الخارجية داخل حدود الدول في بعض الأحيان يرتبط بحصولها على عدد من الامتيازات مثل حق التعدين أو استغلال بعض الموارد ما يعني استنزاف موارد الدول لصالح شركات، بالإضافة إلى أنه يفتح الباب أمام تكالب شركات وتنظيمات وقوات أخرى للحصو على نفس الامتيازات.
تسليع الصراع: حيث يؤدي الاستعانة بهذه القوات إلى تسليع الصراعات وتكثيفها، وتصبح الصراعات بيئة أو سوق لهذه الشركات كما حدث عندما اقترح مؤسس “بلاك ووتر” على الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الانسحاب من أفغانستان وتسليمها لشركات أمن خاصة تعمل فيها.
صعوبة السيطرة: إن وجود هذا النوع من القوات يساهم في وضع فرضية تتعلق بضرورة وجود حماية إقليمية واشراف على أنشطتها، لأن أنشطتها خارج الحدود لا تكون تحت سيطرة القوى المستعينة بها، كما حدث بين القوات الامريكية “وقوات فاجنر الروسية” في سوريا عام 2018 عندما هاجمت قوات الشركة مصنع “كونوكو” ما أدى إلى استثارة العناصر الامريكية وشنت ضدهم معركة طاحنة راح ضحيتها 200 مقاتل ما أدى إلى غضب الجانب الروسي.
الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة…… بين التجريم والتأطير
وفقًا للاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتدريبهم وتجنيدهم، والتي تأتي كتأكيد على ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة وإعلان مبادئ القانون الدولي، يجرم القانون الدولي الارتزاق، إلا أن المرتزقين في الوقت الحالي وجدوا من شركات الامن الخاصة ملاذًا وغطاءً قانونيًا لوجودهم، بالإضافة إلى أن استعانة الدول الكبرى والقوى أدى إلى إضفاء جانب من الشرعية على وجودهم وأنشطتهم، كما أن اتفاقيات جنيف التي وقعت عام 1949 تناولت الحديث عن المرتزق ولم تنفي أو تجرم وجودهم بل عملت على تأطير وجودهم والصلاحيات الممنوحة لهم –مثل أن لا يحق للمرتزق أن يقتل أو يأسر- وأن تتوفر فيهم بعض الصفات والمعايير لاعتبارهم مرتزقة، وهو ما أتخذ كغطاء لهذه الأنشطة.
الخاتمة
إن قراءة مفردات الساحة الدولية والإقليمية الراهنة تفرز استنتاجات تتعلق بتنامي ظاهرة الحرب بالوكالة ليس هذا فقط بل وتحور أنماطها وتطورها بما يتماشى مع تحقيق الأهداف الاستراتيجية لبعض القوى، ومن المؤكد في ظل التحديات العابرة للحدود فإن هذه الظواهر ستستمر في التنامي بشكل مطرد في المستقبل كأحد أهم أشكال حروب الجيل الرابع، وذلك بالتوازي مع تراجع مفهوم الحرب التقليدية التي انطوت على تكلفة اقتصادية وعسكرية وبشرية هائلة للدول.
بداهة، ومن هنا فإن الحرب بالوكالة أصبحت خيارًا استراتيجيًا مطروحًا بقوة في قدرتها على تحقيق الأهداف بتكلفة زهيدة ودون وجود مسؤولية سياسية أو قانونية على الأطراف التي تلجأ لها، ولكن ما يبعث القلق هو صعوبة المخاطر التي تنتج عن استخدام الحروب بالوكالة لصعوبة السيطرة عليها وتفاقم حجم الانتهاكات الإنسانية المرتبطة بها، ولكن من الممكن القول بأنه مع تنامي استخدام هذه الأنماط فمن الممكن أن يتم تأطيرها في ظل قواعد قانونية ملزمة تحدد شكل وحجم تدخلها والاستعانة بها كمتغير جديد في القرن الحادي والعشرين لابد من التعامل معه بحكمة ورشادة، خاصة أن هذه الأنماط في بعض الأحيان تستمر في كثير من الأحيان في لعب دورها دون وجود تمويل أو دعم من الرعاة معتمدة في ذلك على الامتيازات التي تحصل عليها أو قدرتها على السيطرة على موارد الدول المستهدفة، أو البحث عن وكلاء أخرين، كما حدث في الحرب الصومالية، وعليه فلابد من إيجاد صيغة قانونية مناسبة لهذا النمط خاصة مع تداخل بعض أنطتها مع أنشطة تنظيمات وجماعات إرهابية ما يعني مضاعفة الخطر.