في أعقابِ انتخاباتِ البرلمانِ الأوروبيِ والتي شهدتْ صعودًا ملحوظًا للأحزابِ اليمينيةِ المتطرفةِ، أثار ذلك قلقًا كبيرًا في مختلفِ أنحاءِ العالمِ، بما في ذلك تركيا، في ظلِّ ترجيحِ التحليلاتِ أن لهذا الصعودُ تأثيراتٌ جسيمةٌ على مساعيِ تركيا للوصولِ إلى العضويةِ الكاملةِ في الاتحادِ الأوروبيِ، وعلى علاقاتهِا الثنائيةِ مع الدولِ الأوروبيةِ، وعلى مصالحهِا الإقليميةِ بشكلٍ عامٓ.
فمن الناحيةِ السياسيةِ، قد يُعيقُ صعودُ هذه الأحزابِ مساعيَ تركيا وتطلعاتِها، حيث تُعرفُ هذه الأحزابُ بمعارضِتها لتوسيعِ الاتحادِ وتشددِها في مواقفِها من قضايا الهجرةِ وحقوقِ الإنسانِ، وهي قضايا تُشكلُ عقباتٍ كبيرةً أمامَ انضمامِ تركيا. بالإضافةِ إلى ذلك، قد يُؤدي صعودُ اليمينِ المتطرفِ إلى ازديادِ مشاعرِ الإسلاموفوبيا في أوروبا، مما قد يُؤثرُ سلبًا على المجتمعِ التركيِ في الدولِ الأوروبيةِ وعلى صورةِ تركيا بشكلٍ عامٍ.
تغييرٌ سياسيٌ كبيرٌ
في أعقابِ انتخاباتِ الإتحادِ الأوروبيِ، ازدادَ نفوذُ وشعبيةُ الأحزابِ اليمينيةِ المتطرفةِ في أوروبا، حيث صعدتْ تدريجيًا لتحتلَ المشهدَ السياسيَ الأوروبيَ، مما سيؤدي إلى تأثيراتٍ هامةٍ على صعيدِ السياساتِ الأوروبيةِ الداخليةِ والخارجيةِ وعلى مصالحِ العديدِ من الدولِ وعلاقتِها مع الاتحادِ الأوروبيِ. في الأساسِ، ظهرتْ هذه الأحزابُ في انتخاباتِ الدولِ الأوروبيةِ على حدةٍ منذُ عامِ 2015، معتمدةً بشكلٍ أساسيٍ على توجهاتٍ عدةٍ أهمُها كراهيةُ الأجانبِ واللاجئين. وبالتاليِ، أكتسبتْ هذه الأحزابُ زخمًا في ظلِ الأزماتِ الاقتصاديةِ. لذا، في ظلِ الأزمةِ الاقتصاديةِ العالميةِ التي يمرُ بها العالمُ، وبالأخصِ أزمةُ الطاقةِ، ازدادَ نفوذُ هذه الأحزابِ.
وشهدتٰ انتخاباتُ البرلمانِ الأوروبِي خلالَ شهرِ يونيو الماضي، تغييرًا سياسيًا كبيرًا بصعودِ أحزابِ اليمينِ المتطرفِ وفوزِها بأكبرِ عددٍ من المقاعدِ في الدولِ الأكثرِ سكانًا مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا، حيثُ جاءتْ في المركزِ الأولِ في أكثرِ الدولِ تأثيرًا في الاتحادِ الأوروبيِ، هما إيطاليا وفرنسا، في حينِ جاءتْ ألمانيا في المركزِ الثانِي.[1] وهذا التغييرُ سيكونُ له مردودهُ الكبيرُ على جوانبَ ودولٍ عدةٍ، أهمُها تركيا، ولكن ما هي العواملُ التي ساعدتْ على صعودِ هذه الأحزابِ بهذا الشكلِ؟
عواملُ ساعدتْ على بروزِ وظهورِ هذه الأحزابِ
1- مكافحةُ الهجرةِ واللاجئين
تعدُ قضيةُ اللاجئين وملفُ الهجرةِ من أهمِّ الملفاتِ في المشهدِ السياسيِ الأوروبيِ والتركيِ على حدٍ سواءٍ، حيث تتزايدُ المشاعرُ المعاديةُ للمهاجرينَ في العديدِ من الدولِ الأوروبيةِ نتيجةً لدعايةِ اليمينِ المتطرفِ وأن لهم تأثيراتٍ سلبيةً على فرصِ العملِ وأسعارِ السلعِ والخدماتِ، ومجملًا على الرفاهيةِ الاقتصاديةِ للبلادِ، إضافةً إلى تأثيرِهم على البنيةِ الثقافيةِ والهويةِ القوميةِ. ولما كانتْ هذه الأحزابُ اليمينيةُ المتطرفةُ التي تتسمُ بالقوميةِ الشديدةِ تتبنَى خطابًا شديدَ العداءِ للمهاجرين، كان ذلك أحدُ العواملِ التي ساعدتْ على زيادةِ شعبيتِها. وليس هذا العاملُ الوحيدُ بالطبعِ، ولكنه يأتي في مقدمةِ هذه العواملِ ويسهمُ في انخفاضِ شعبيةِ الأحزابِ اليساريةِ التي يدعمُ بعضُها سياساتِ الهجرةِ من خلالِ الاستفادةِ من المهاجرينَ كقوةٍ عقليةٍ وأيدي عاملةٍ.
2- الأزمةُ الاقتصاديةُ والبطالةُ
ساهمتْ عواملُ عدةٌ على مدارِ السنواتِ الماضيةِ في تفاقمِ الأزمةِ الاقتصاديةِ وأزمةِ البطالةِ في العالمِ أجمعِ، وأهمُّ هذه العواملِ كانتْ جائحةُ كورونا والحربُ الروسيةُ الأوكرانيةُ وما نتجَ عنها من أزمةٓ عالميةٍ في قطاعِ الطاقةِ وغيرِها. وفي ظل هذه الأزمات، تجدُ الخطاباتُ الموجهةُ للشعبِ، وما تحملُه من سماتٍ تأمليةٍ، دعمًا من فئاتٍ عديدةٍ من الشعوبِ الأوروبيةِ، وبالأخصِ الشبابُ منهم، ومع ارتفاعِ نسبِ البطالة، تزدادُ التوجهاتُ لحمايةِ فرصِ العملِ المحليةِ. لذا، نعودُ مرةً أخرى إلى سياسةِ العداءِ للمهاجرينَ، وعلى هذا الأساسِ، أسهمتْ الأزماتُ الاقتصاديةُ في البلدانِ الأوروبيةِ في صعودِ اليمينِ المتطرفِ.
3- الهجماتُ الإرهابيةُ
مع زيادةِ المخاوفِ والتوجساتِ المرتبطةِ بارتفاعِ الهجماتِ الإرهابيةِ، يزدادُ نفوذُ الأحزابِ اليمينيةِ المتطرفةِ التي تتخذُ سياساتٍ أكثرَ صرامةٍ وحدةً ضد الأقلياتِ والمهاجرينَ، وتعززُ النعرةَ القوميةَ. وبذلك تكسبُ تعاطفَ الأغلبيةِ من الشعوبِ الأوروبيةِ وتهدئُ مخاوفهَا، نظرًا لاعتمادِها سياساتٍ لتأمينِ الحدودِ ومنعِ المهاجرينَ، وتقديمِ الوعودِ بمحاربةِ الإرهابِ وتحقيقِ مستوياتٍ عاليةٍ من الأمنِ.
هذه مجموعةِ من العواملِ لعبتْ دورًا شديدَ الأهميةِ في زيادةِ نفوذِ هذه الأحزابِ في ظلِ هذه الأحداثِ وهذا التوقيتِ الزمنِي، وترتبطُ هذه العواملُ بشكلٍ وثيقٍ بتأثيراتٍ على المصالحِ التركيةِ مع الدولِ الأوروبيةِ ومع الاتحادِ الأوروبيِ بشكلٍ أكثرَ خصوصيةٍ.
التأثيراتُ المحتملةُ على تركيا
1- عضويةُ الاتحادِ الأوروبي
وتأتي آمالُ العضويةِ في الاتحادِ الأوروبيِ من أكثرِ القضايا التي تكونُ في المقدمةِ، إذ من المعروفِ أن عضويةَ تركيا في الاتحادِ الأوروبيِ لاتزالُ تواجهُ الكثيرَ من العقباتِ حتى أصبحَ يُعتقد أنها حلمٌ صعبُ المنالِ. لذلك، ربما لا يمثلُ فوزُ اليمينِ المتطرفِ الصدمةَ الكبرىَ في هذا الصددِ، على اعتبارِ أن تركيا تسعَى منذُ سنواتٍ عديدةٍ للحصولِ على عضويةِ الاتحادِ الأوروبيِ على الرغمِ من كونها من أهمِ الدولِ المؤثرةِ في حلفِ شمالِ الأطلسِي. وعلى الرغمِ من أن أغلبيةَ هذه الأحزابِ اليمينيةِ لا تعارضُ توسيعَ الاتحادِ الأوروبيِ، إلا أن العديدَ من سياساتِها ستكونُ معارضةً للمصالحِ التركيةِ، وبالأخصِ حزبُ العدالةِ والتنميةِ على أكثرِ من صعيدٍ.
كونُ تركيا من أكثرِ الدولِ المستقبلةِ للاجئين حيثُ تستضيفُ حواليَ أربعةِ ملايين لاجئٍ،[2] وعلى الرغمِ من أن الحزبَ الحاكمَ يتخذُ خطواتٍ هامةً لإعادةِ اللاجئين بصورٍة طوعيةٍ، إلا أن الأحزابَ اليمينيةَ ستتطلبُ إجراءاتٍ أكثرَ صرامةً لترحيلِ اللاجئين.
على صعيدٍ آخرَ، ستلعبُ النزعةُ القوميةُ والعداءُ للمهاجرينَ، لا سيما المسلمينَ، دورًا في تشديدِ شروطِ العضويةِ، حيث تشنُ هذه الأحزابُ العديدَ من الحملاتِ المعاديةِ للمسلمين والتي تدعو للتمييزِ العنصريِ ضدَ الأفرادِ والمجتمعاتِ المسلمةِ. وبالتالي، في ظلِّ صعوبةِ تحقيقِ توافقٍ على عضويةِ تركيا في الاتحادِ الأوروبيِ، يكونُ صعودُ اليمينِ المتطرفِ عاملًا آخرَ لزيادةِ تعقيدِ الوضعِ. وبشكلٓ عامٍ، في اعتقاديِ أن الانقساماتِ داخلَ الأحزابِ اليمينيةِ ستعرقلُ عملياتِ الاندماجِ والتكاملِ داخلَ الاتحادِ الأوروبيِ.
ونتيجةً لهذه الظروفِ المواتيةِ، ستواجهُ تركيا صعوباتٍ أخرى بالإضافةِ إلى تلكَ التي كانتْ قائمةً بالفعلِ، وربما تقتربُ من الاستحالةِ في حصولهِا على عضويةِ الاتحادِ الأوروبِي، وهو ما سيهدرُ عليها العديدَ من الفرصِ والامتيازاتِ الاقتصاديةِ التي كانت ستحصلُ عليها. وتشيرُ تحليلاتٌ عدةٌ إلى أن تركيا قد فقدتْ آمالَها بالفعلِ في عضويةِ الاتحادِ الأوروبيِ وبدأتْ في التوجهِ نحو البريكس كبديلٍ اقتصاديٍ وتجاريٍ للاتحادِ الأوروبيِ في محاولةٍ منها لتحسينِ الأوضاعِ الاقتصاديةِ. ولكن البريكس لا يمكنُ أن يكونَ بديلًا تامًا للاتحادِ الأوروبيِ؛ فقد يحققُ لها العديدَ من المكاسبِ على الصعيدِ السياسيِ والاقتصاديِ، ولكن تركيا لا يمكنُها الاستغناءُ عن مصالحِها مع الغربِ، وبالأخصِ مع الاتحادِ الأوروبيِ.
2- ملفُ الهجرةِ
كذلك يعتبرُ ملفُ الهجرةِ من أكثرِ الملفاتِ التي يجبُ أن تقلقَ تركيا بشأنِها، حيث سيكونُ من أكثرِ الملفاتِ صدامًا بين تركيا والاتحادِ الأوروبيِ، حيث قد يتجهُ الاتحادُ الأوروبيُ إلى وضعِ مجموعةٍ من الشروطِ والقيودِ على تركيا لقبولِ المزيدِ من اللاجئين من أوروبا واليونان، وهو ما سيكونُ من الصعبِ على تركيا تقبلهُ في ظلِ الأزمةِ الاقتصاديةِ التي تعاني منها، حتى لو حصلتْ على دعمٍ ماديٍ من الاتحادِ الأوروبيِ. أو قد تستخدمُ تركيا هذا الملفَ مرةً أخرى لتهديدِ الاتحادِ الأوروبيِ بإرسالِ اللاجئينَ إلى أوروبا من أجلِ تحقيق بعضِ المكاسبِ في منطقةِ شرقِ المتوسط،ِ وهناك احتمالٌ آخرُ هو أن يحاولَ الاتحادُ الأوروبيُ حثَّ تركيا على اتخاذِ إجراءاتٍ أكثرَ صرامةٍ في ترحيلِ اللاجئين إلى سوريا.
من جهةٍ أخرى، سيكونُ اتفاقُ الهجرةِ بين تركيا والاتحادِ الأوروبيِ الموقعُ في عامِ 2016 موضعَ جدلٍ مرةً أخرى، وسيتمُ التشكيكُ في بنودهِ. ربما ستطالبُ تركيا بمزيدٍ من الدعمِ الماديِ لتحسينِ خططهِا تجاهَ المهاجرين وفقًا لبنودِ الاتفاقِ، أو ربما توظفُ ورقةَ المهاجرين لابتزازِ الدوائرِ الأوروبيةِ وتحقيقِ مكاسبَ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ. في هذا الإطارِ، كان يُفترضُ أن يسهلَ هذا الاتفاقُ حصولَ الأتراكِ على التأشيراتِ، وربما يعرقلُ هذا التغييرُ السياسيُ في أوروبا مرةً أخرى تسهيلاتِ التأشيراتِ للمواطنينَ الأتراكِ.
وفي حالِ تمَّ الاتفاقُ على إعادةِ الامتثالِ بشكلٍ دقيقٍ لاتفاقِ الهجرةِ الموقعِ بين تركيا والاتحادِ الأوروبِي من أجلِ استمرارِ الحصولِ على الدعمِ الماديِ والاقتصاديِ، قد يتسببُ ذلك في زيادةِ ترحيلِ المهاجرين إلى تركيا، وبالتاليِ زيادةُ الأوضاعِ سوءًا على النواحيِ الاقتصاديةِ وعلى مستوى الرضا الشعبيِ، حيثُ سيتزايدُ عدمُ الرضا عن سياساتِ وقراراتِ أردوغان. كما سيتسببُ في الضغطِ السياسيِ من أحزابِ المعارضةِ غيرِ المؤيدةِ لسياساتِ أردوغان في ملفِ الهجرةِ.
3- الاتحادُ الجمركيُ وإزالةُ العوائقِ
تحتلُ تركيا المرتبةَ الخامسةَ كشريكٍ تجاريٍ للاتحادِ الأوروبي، حيثُ بلغَ حجمُ التجارةِ الثنائيةِ في عامِ 2023 حوالي 206 ملياراتِ يورو[3]، وكانت هناك محادثاتٌ في مايو الماضيِ حولَ تحديثِ الاتحادِ الجمركيِ بينهما بمرحلتينِ؛ الأولى تتعلقُ بإزالةِ العوائقِ في الاتحادِ الجمركيِ الحاليِ، الذي يُطبقُ منذُ 1996، وقد نجحتْ العلاقاتُ الثنائيةُ في تخفيضِ عددٍ كبيرٍ من هذه العوائقِ، لكن لا تزالُ هناكَ بعضُ المشكلاتِ التي تتطلبُ التعاونَ لحلهِا. لذلك، على تركيا أن تحتاطَ في التعاملِ مع الاتجاهاتِ الجديدةِ المتصاعدةِ في الاتحادِ الأوروبيِ، بما في ذلك الأحزابُ اليمينيةُ وكذلك أحزابُ الوسطِ التي بدأَ خطابُها يتجهُ نحوَ اليمينِ.
أما المرحلةُ الثانيةُ من المفاوضاتِ، فهي متعلقةٌ بالحصولِ على الموافقاتِ اللازمةِ من مجلسِ الاتحادِ الأوروبيِ لتحديثِ الاتحادِ الجمركِي، وهو ما قد يواجهُ قدرًا من الصعوباتِ في ظل هذه التغييراتِ الطارئةِ على الاتجاهاتِ السياسيةِ والأيديولوجيةِ في أوروبا. كذلك يحتلُ الاتحادُ الأوروبُي النسبةَ الأكبرَ من صادراتِ تركيا، وهو ما يجبُ التعاونُ بشأنهِ حتى لا يتمَ الإضرارُ بالمصالحِ التركيةِ.
كذلك في ظلِ تصاعدِ اليمينِ المتطرفِ والانقساماتِ بداخلهِ تشيرُ تحليلاتٌ عدةٌ إلى أنه ربما تحدثُ تأثيراتٌ سلبيةٌ على الاتحادِ الأوروبيِ ومصالحهِ العالميةِ ومركزهِ في الاقتصادِ العالميِ مما سيعودُ بالسلبِ على سعرِ اليورو وبالتاليِ على الاقتصادِ التركيِ على اعتبارِ الاتحادِ الأوروبيِ يحتلُ المركزَ الأولَ في الصادراتِ التركيةِ كما تمَّ الذكرُ.
4- تأثيرُ النزعةِ القوميةِ Nativism
باعتبارِها أيدولوجيةٌ تُتَّبَعُها الأحزابُ اليمينيةُ المتطرفةُ، تُؤكِّدُ على فكرةِ أن الدولَ يجبُ أن تُقطَنَ فقط بأفرادٍ من نفسِ المجموعةِ العرقيةِ، وتعتبرُ السكانَ غيرَ الأصليينَ تهديدًا على مصالحِ الدولِ، وتسعىَ إلى الحفاظِ على التجانسِ الوطنيِ والقيمِ الوطنيةِ في الدولةِ القوميةِ. ترى الأحزابُ اليمينيةُ أن هذا التكاملَ القوميَ يتناقصُ في أوروبا نتيجةً للتعددِ الثقافيِ الذي يفرضهُ أعدادُ المهاجرين، وتُستَغلُ هذه القضيةُ من أجلِ جذبِ الأصواتِ والدعمِ الشعبيِ، مما يُغذي النعراتِ القوميةَ في كثيرٍ من المناطقِ، خاصةً في مناطقِ تمركزِ الأكراد، مما يشكلُ تهديدًا كبيرًا للمصالحِ التركيةِ وجهودهِا في حلِ المسألةِ الكرديةِ. لذلك، يتعينُ على تركيا التعاملُ بحذرٍ كبيرٍ مع المسألةِ الكرديةِ ومع خطواتِها تجاهَ حزبِ العمالِ الكردستانيِ، حيث لا يجبُ أن تُختَزَلَ المسألةُ الكرديةُ في حزبِ العمالِ الكردستانيِ، ويجبُ التعاملُ مع هذه المسائلِ العرقيةِ بحساسيةٍ كبيرةٍ.
كما يتزايدُ التوجسُ وظاهرةُ الإسلاموفوبيا في سياساتِ وأيديولوجياتِ الأحزابِ اليمينيةِ المتطرفةِ، والحملاتِ المعاديةِ للمهاجرين المسلمين، وعملياتِ التمييزِ العنصريِ والكراهيةِ ضدَ المسلمين، مما قد يؤثرُ على المصالحِ التركيةِ وعلى الأتراكِ في الدولِ الأوروبيةِ، خاصةً في ألمانيا والنمسا، حيثُ تشهدُ هذه الدولُ نسبًا كبيرةَ من جرائمِ الكراهيةِ والتمييزِ العنصريِ ضد المهاجرين المسلمين.
5- التغييرُ في الساحةِ السياسةِ التركيةِ
في ظلِ التغييراتِ السياسيةِ التي تحدثُ في تركيا، وتغييرِ النسبِ التصويتيةِ في الانتخاباتِ، وافتقادِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ لكثيرٍ من مؤيديهِ والخسارةِ التي حققَها في الانتخاباتِ المحليةِ الأخيرةِ، نجدُ أن هناك تشابهًا بين العواملِ التي أدتْ إلى صعودِ الأحزابِ اليمينيةِ في أوروبا والتي ظهرتْ في تركيا. فمثلًا، تعاني تركيا من أزمةٍ اقتصاديةٍ شديدةٍ، حيث بلغَ معدلُ التضخمِ في يونيو الحالي 75%. تُغذي هذه الأزمةُ الاقتصاديةُ بشكلٍ كبيرٍ بسببِ الأزمةِ العالميةِ وخاصةً أزمةَ اللاجئين، التي أدتْ إلى ارتفاعِ الأسعارِ والتكاليفِ المعيشيةِ والإيجاراتِ، خاصةً في المدنِ الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، وأدتْ إلى زيادةِ معدلاتِ البطالةِ والتنافسِ على فرصِ العملِ.
في ظلِ هذه الظروفِ، نشأتْ اتجاهاتٌ معاديةٌ لوجودِ اللاجئينَ في تركيا، ودعواتٌ لترحيلهِم إلى سوريا، وربما كانتْ هذه إحدى العواملِ التي ساهمتْ في فوزِ أحزابِ المعارضةِ في الانتخاباتِ المحليةِ الأخيرةِ، بسببِ سياستِها الأكثرِ صرامةً تجاهَ اللاجئين بالمقارنةِ مع حزبِ العدالةِ والتنميةِ.
وفي ظلِ حاجةِ الشعبِ التركيِ إلى أحزابٍ تلبي خطاباتٍ شعبويةّ تساهمُ في تهدئةِ مخاوفِ الأزمةِ الاقتصاديةِ، قد تؤدي هذه الظروفُ إلى زيادةِ نفوذِ الأحزابِ اليمينيةِ المتطرفةِ في تركيا، وصعودِها على الساحةِ السياسيةِ التركيةِ. ومن المحتملِ أن تشجعَ هذه المصالحُ الأوروبيةُ الظروف المواتية في تركيا، من تراجع الديمقراطيةَ والأزمةَ الاقتصاديةَ والنزعاتِ القوميةِ والمعادةِ للمهاجرين.
ختامًا:
نتيجةً للصعودِ الملحوظِ للأحزابِ اليمينية المتطرفة، من المتوقع أن يؤثر ذلك على مساعي تركيا للحصولِ على عضويةٍ في الاتحادِ الأوروبي، بالإضافةِ إلى مصالحِها وتطلعاتِها لتكونَ دولةً شريكةً مع الغرب. ولربما لهذا السببِ، تسعى تركيا بشكلٍ فعّالٍ لزيادةِ شراكتِها مع تحالفاتٍ أخرى، مثل مساعيِها للانضمامِ إلى مجموعةِ دولِ البريكس. بالطبعِ، لن يكونَ البريكسُ بديلًا للاتحادِ الأوروبيِ على الأقلِ في هذه الفترةِ، ولكن هذا لا ينفيِ أن توسيعَ شبكةِ شراكتِها سيوفرُ لها فوائدَ كبرىَ على الصعيدِ السياسيِ والاقتصاديِ.
سيكون لهذا التغييرِ أثرٌ على مختلفِ الملفاتِ المتشابكةِ مع تركيا، وأعتقدُ أن ملفَ الهجرةِ هو أحدُ الملفاتِ الأكثرِ تأثيرًا، خاصةً في ظل تناميِ مشاعرِ كراهيةِ الأجانبِ والمهاجرين في أوروبا وتركيا على حدٍ سواء، كما أن الملفَ الاقتصاديَ سيكونُ أيضًا ذا تأثيرٍ كبيٍر، خاصةً في ظلِ الأزمةِ الاقتصاديةِ التي تعاني منها تركيا، حيثُ سيؤدي أيُّ توترٍ في العلاقاتِ إلى نتائجَ سلبيةٍ على مصالحها الاقتصادية، هناك العديدُ من السيناريوهاتِ المحتملةِ، وقد تختلفُ التوقعاتُ بشكل إيجابي مع محاولات تركيا لحلِ المشكلاتِ على صعيدِ السياسةِ الخارجيةِ.
