المقالات
ضبابية مقاربة ترمب تجاه الحرب التجارية: تصعيد دون استراتيجية مكتملة
- يوليو 28, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية

إعداد: مصطفى مقلد
باحث فى العلوم السياسية
مقدمة:
ينتهي موعد تعليق الرسوم الجمركية الأميركية مطلع أغسطس 2025. في ضوء ذلك، تضغط إدارة ترمب على الشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة، ساعية لإبرام سلسلة من “الصفقات الثنائية” التي تستجيب لمصالحها الصناعية والتجارية. وقد أسفرت هذه الاستراتيجية عن توقيع ستة اتفاقات، إضافة إلى التوصل إلى إطار مؤقت مع الصين يجمّد الرسوم الجمركية مؤقتًا حتى منتصف أغسطس.
تمثّل السياسة التجارية للرئيس ترمب تجربة فارقة في استخدام الرسوم الجمركية كأداة ضغط تفاوضي، وليس فقط كأداة حمائية. فرغم الانتقادات الواسعة التي وُجّهت إلى هذا النهج، تعكس الاتفاقات المبرمة حتى الآن مكاسب ملموسة لواشنطن، خاصة في ما يتعلق بتقليص العجز التجاري وتعزيز صادراتها الزراعية. إلا أن هذه المكاسب، ورغم واقعيتها، جاءت في سياق يتّسم بغياب رؤية استراتيجية شاملة لكيفية إدارة التنافس مع بكين على المدى الطويل، فضلاً عن التوترات المتزايدة مع حلفاء تقليديين بسبب سياسات الرسوم.
لذا، لا تكمن الإشكالية في استخدام الرسوم بحد ذاته، بل في ضبابية ما بعد هذه الإجراءات، وما إذا كانت تُشكّل مسارًا نحو إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي، أم تمهيدًا لمأزق اقتصادي–استراتيجي جديد.
خلفية المفاوضات التجارية:
في الثاني من أبريل 2025، وبعد أقل من ثلاثة أشهر على عودته إلى البيت الأبيض، أعلن ترمب ما وصفه بـ”يوم التحرير”، كاشفًا عن حزمة تعريفات جمركية جديدة استهدفت قطاعات رئيسية من الواردات. هذا الإعلان مثّل تجسيدًا مبكرًا لتحول الإدارة الأميركية نحو مقاربة أكثر تصادمية في إدارة علاقاتها التجارية، حيث سعت واشنطن لإعادة تشكيل قواعد التجارة العالمية من موقع القوة التفاوضية لا من خلال الأطر المؤسسية متعددة الأطراف.[1]
علقت إدارة ترمب الرسوم الجمركية ومدت ذلك التعليق حتى الأول من أغسطس القادم بعد الفوضي التى أحدثتها في الأسواق. وعليه، تحوّل الأول من أغسطس إلى لحظة مفصلية، إذ يمثل انتهاء مهلة تعليق الرسوم الجمركية نقطة انفجار محتمل ما لم تُبرم تسوية. بالنسبة للإدارة الأميركية، يُعد هذا الموعد نقطة ضغط قصوى لتعزيز مكاسبها التفاوضية من خلال حشد الحلفاء وفرض عزلة استراتيجية على الصين.[2]
ودخلت العلاقات الاقتصادية الأميركية–الصينية مرحلة جديدة من التصعيد، وفي محاولة لاحتوائه، توصّلت واشنطن وبكين إلى اتفاق بتجميد التصعيد الجمركي في 26 يونيو الماضي، وهدفت المهلة إلى إتاحة فرصة للمفاوضات.[3]
ضمن هذا الإطار الزمني الضيق، كثّفت إدارة ترمب جهودها لإبرام اتفاقات تجارية ثنائية مع عدد من الحلفاء الرئيسيين مثل – الاتحاد الأوروبي، بريطانيا، اليابان، فيتنام، إندونيسيا، والفلبين – على نحو يُعزز موقفها قبيل المهلة.
ومع أن بعض هذه الاتفاقات لم يمس المصالح الصينية بصورة مباشرة، إلا أن اتفاقها مع بريطانيا حمل دلالة أمنية واضحة ضد بكين، ما جعله أشبه بإطار استراتيجي لمحاولة “أمننة التجارة الدولية”.[4] ورغم ذلك، تُظهر التجربة أن واشنطن لم تنجح حتى الآن في تحويل هذه الاتفاقات إلى تحالف تجاري–أمني واسع قادر على فرض قواعد جديدة ملزمة على الصين.
السمات العامة لرؤية ترمب:
تُظهر الاتفاقات التي جرى التفاوض حولها مجموعة من السمات المشتركة، مثل الطابع الثنائي، للاتفاقات التجارية، لتُعطي نفسها هامشًا أوسع لفرض أولوياتها مع كل دولة على حدة، وفقًا لموقعها في سلاسل القيمة العالمية. كذلك استخدام التعليق المؤقت للرسوم كوسيلة ضغط تفاوضي، لإجبار الشركاء التجاريين على تقديم تنازلات سريعة، تحت طائلة عودة الرسوم تلقائيًا إذا لم تُلبَّ الشروط الأميركية.
نجاحات مهمة:
حققت الاتفاقات الثنائية التي وقّعها ترمب بعض النجاحات مثل جذب استثمارات مباشرة ضخمة، كما يتضح من موافقة الاتحاد الأوروبي على شراء طاقة بقيمة 750 مليار دولار، واستثمار 600 مليار دولار إضافية في الاقتصاد الأميركي إلى جانب شراء معدات عسكرية[5]، تعهد اليابان بضخ نحو 550 مليار دولار في السوق الأميركية[6]، وتوقيع صفقة كبرى مع إندونيسيا لشراء 50 طائرة بوينغ وشراء طاقة أميركية بقيمة 15 مليار دولار، بالإضافة إلى منتجات زراعية بقيمة 4.5 مليار دولار[7]، ما عُدّ إنجازًا ماليًا سريعًا يعكس فعالية أسلوب الضغط المتبادل الذي اعتمده، ويُفسَّر كخطوة نحو تقليص جزئي في اختلال الميزان التجاري لصالح الولايات المتحدة.
أما في ما يخص الحواجز غير الجمركية، فقد حققت واشنطن بعض المكاسب النوعية، لاسيما مع إندونيسيا، التي وافقت على إزالة قيود متعددة شملت أنظمة الترخيص، وقواعد المحتوى المحلي.[8] من جهة أخرى، تضمنت اتفاقيات فيتنام والفلبين بنودًا تُقيِّد إعادة تصدير المنتجات الصينية إلى السوق الأميركية.[9]
نقاط الضعف أو المخاطر
رغم ما حققته إدارة ترمب من مكاسب، إلا أن هذه المقاربة لم تكن بمنأى عن عدد من نقاط الضعف والمخاطر البنيوية. فقد أدت سياسة “الضغط عبر الرسوم الجمركية” إلى خلق حالة من التوتر في العلاقات التجارية والدبلوماسية، فمثلا دافعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن الاتفاق التجاري، واصفة إياه بأنه “أفضل شيء كان يمكن الحصول عليه”، وشددت على ضرورة عدم التقليل من شأن الاتفاق في ظل التهديدات الأميركية بفرض رسوم جمركية 30% على التكتل[10].
كما أن رؤية ترمب القائمة على تفكيك الإطار المتعدد الأطراف وتفضيل الصفقات الثنائية ساهمت في إضعاف مكانة منظمة التجارة العالمية، وفتحت المجال أمام مزيد من السياسات الحمائية على المستوى العالمي. وبدلاً من تعزيز بنية النظام التجاري الدولي، قد تؤدي هذه المقاربة إلى مزيد من التنافسية غير المنظّمة، ما قد يضر في نهاية المطاف بالاقتصاد الأميركي نفسه.
حدود تأثير الاتفاقات التجارية على الاقتصاد الصيني
على الرغم من سعي إدارة ترمب لإبرام سلسلة من الاتفاقات التجارية بهدف تقليص الاعتماد المتبادل مع الصين وتضييق هامش استفادتها من قواعد التجارة الحرة، إلا أن هذه الاتفاقات لم تُحدث تأثيرًا جوهريًا على النفوذ التجاري الصيني في سلاسل القيمة العالمية. فحتى نهاية مهلة تعليق الرسوم الجمركية، لم تُبرم واشنطن سوى عدد محدود من الاتفاقات (7 من أصل 18 اتفاق مستهدف)[11]، وذلك باحتساب الاتفاق الإطاري مع الصين، وهو ما قلص من فعالية هذه المقاربة كأداة لاحتواء الصعود الاقتصادي الصيني.
ورغم أن اتفاقات واشنطن مع شركاء آسيويين كبار مثل اليابان وفيتنام والفلبين تضمنت التزامات استثمارية ضخمة، فإن معظم هذه الالتزامات تركز على دعم البنية التحتية الأميركية، لا على تفكيك التشابك الإنتاجي بين هذه الدول والصين.
كما أن الاتفاقات لم تُرفق بعد بخطط صناعية ممنهجة لإعادة توجيه سلاسل التوريد بشكل واسع خارج الصين. فعلى سبيل المثال، لا تزال اليابان تُعد من أكبر المستثمرين في السوق الصينية، ولا تزال قطاعات مثل الإلكترونيات والسيارات تعتمد على المكونات الصينية.
بجانب ما سبق، فإن الاقتصاد الصيني أظهر مرونة لافتة، حيث حقق الاقتصاد الصيني نمواً بنسبة 5.2% في الربع الثاني من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، متجاوزاً توقعات المحللين البالغة 5.1%، ومتفوقاً بذلك على الهدف السنوي الذي حددته بكين.[12]
بالتالي، فإن الاتفاقات حتى الآن تُسجَّل بوصفها تعزيزًا للتنسيق السياسي والاستثماري مع واشنطن أكثر منها تحولًا اقتصاديًا بنيويًا يُضعف موقع الصين في شبكة الإنتاج. مما يُبقي التهديد الاقتصادي الصيني قائمًا بالنسبة للولايات المتحدة، ويجعل من اتفاقات ترمب مجرد أدوات احتواء جزئي.
حدود استراتيجية فك الارتباط مع الصين:
رغم التصعيد الأميركي، فإن الواقع الاقتصادي يعكس استمرار اعتماد الشركات الأميركية الكبرى على السوق الصينية بوصفها مركزًا حيويًا للإنتاج والاستهلاك في آن واحد. فقد احتفظت شركات مثل Apple وTesla بحضور واسع في السوق الصينية، سواء من حيث التصنيع أو المبيعات أو الاعتماد على الموردين المحليين ضمن سلاسل الإمداد العالمية.[13]
ورغم بعض الخطوات المحدودة التي اتخذتها هذه الشركات باتجاه تنويع مراكز الإنتاج، سواء في الهند أو فيتنام أو المكسيك، فإن تلك التحركات لم ترقَ بعد إلى التحول الاستراتيجي بعيدًا عن الصين. يرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل البنيوية، أبرزها:
كفاءة البنية التحتية الصناعية والتكنولوجية الصينية، التي تظل أكثر تقدمًا وتكاملًا من معظم البدائل المتاحة في الأسواق النامية.
حجم السوق الاستهلاكي الصيني، الذي لا يمكن تجاوزه كأحد أكبر أسواق النمو عالميًا، وخصوصًا في قطاعات مثل السيارات الكهربائية والهواتف الذكية والمنتجات الفاخرة.
ترابط سلاسل التوريد الدقيقة، التي بُنيت خلال عقود، وتشمل مزوّدي قطع غيار، برمجيات، خدمات لوجستية، وعمالة ماهرة في مناطق متخصصة داخل الصين.
وبذلك، فإن التناقض بين الأهداف الجيوسياسية لواشنطن، التي تسعى إلى تقليص الاعتماد على الصين، وبين مصالح الشركات الأميركية الكبرى، التي تجد في الصين مركز ثقل اقتصادي لا يمكن تعويضه بسهولة، يُعد أحد أبرز المحددات التي تُقيد استراتيجية فك الارتباط. هذا التناقض البنيوي يعكس حدود ما يمكن أن تحققه السياسات الأميركية من تأثير اقتصادي مباشر على بكين، في ظل تشبك المصالح العابرة للحدود.
لذا، تقترب الرؤية الأمريكية إلى تقليل الاعتماد على الصين في المجالات الحساسة، وتنويع الشراكات لتقليل المخاطر الجيوسياسية، دون إحداث صدمة كبرى للنظام الاقتصادي العالمي أو للمصالح الأميركية نفسها. لكن هذه الاستراتيجية تواجه عدة حدود عملية، من أبرزها:
تعقيد سلاسل القيمة العالمية، واستحالة إعادة توطين بعض الصناعات بسرعة دون تكاليف باهظة.
رد الفعل الصيني، الذي بدأ يأخذ طابعًا هجوميًا (مثل فرض قيود على صادرات المعادن النادرة)، مما يهدد بتأجيج حرب اقتصادية متبادلة.
تعثر استكمال شبكة الاتفاقات
لا تزال شبكة الاتفاقات التي تسعى واشنطن إلى نسجها غير مكتملة، وتعاني من تباطؤ تفاوضي مع بعض الحلفاء، فمثلا انتهت المفاوضات مع سيول دون نتائج، وتواجه المفاوضات مع الهند والمكسيك وكندا وغيرهم تحديات.
هذا المشهد يُنذر بتعثر أهداف ترمب، خصوصًا إذا استمرت واشنطن في فرض رؤيتها دون تنسيق أعمق أو تقديم آليات تعويضية عادلة. وقد يكشف هذا حدود القدرة الأميركية على حشد تحالف اقتصادي منسجم في مواجهة الصين.
التداعيات في حال عدم استكمال الاتفاقات:
مع اقتراب مهلة تعليق الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب دون التوصل إلى اتفاقات تجارية نهائية مع شركاء أساسيين مثل كندا، والمكسيك، والهند، وكوريا الجنوبية، قد يواجه المسار التجاري الأميركي ارتباكًا.
ففي حال عدم تجديد تعليق الرسوم أو تحويله إلى اتفاق دائم، ستُستأنف تلقائيًا التعريفات، ما يُنذر باندلاع توترات تجارية مع دول يُفترض أنها حلفاء استراتيجيون في معركة إعادة تشكيل سلاسل التوريد وموازنة النفوذ الصيني.
هذا الفشل قد يقود الدول المتضررة من إعادة فرض الرسوم، إلى سياسات تجارية أكثر استقلالًا، بما في ذلك الانفتاح على التعاون مع بكين. ومن ناحية أخرى، قد يعني إضعاف مشروع إعادة بناء سلاسل التوريد البديلة للصين. بالتالي، فإن أدوات الضغط الأميركية تمثل سيف ذي حدين، بدلاً من أن تُستخدم لعزل الصين اقتصاديًا، قد تُفضي إلى توفير فرص استراتيجية لبكين.
ختاما، أظهرت استراتيجية إدارة ترمب لفك الارتباط الاقتصادي مع الصين طموحًا كبيرًا لإعادة هندسة سلاسل الإمداد العالمية، وتوجيه الاقتصاد الدولي نحو فضاء أكثر مواءمة للمصالح الأميركية. غير أن النتائج تكشف أيضا عن تحديات. فالاتفاقات الثنائية، رغم ما تحقق منها، ظلّت جزئية، ولم تُحدث اختراقًا جوهريًا في بنية الاعتماد المتبادل مع بكين.
في المقابل، تحافظ الصين حتى الآن على مركزها في التجارة الدولية. ومع اقتراب نهاية مهلة تعليق الرسوم الجمركية، تبدو واشنطن أمام مفترق طرق استراتيجي: إما إعادة التصعيد في مواجهة شركائها التقليديين، أو القبول بتوازنات تجارية تسمح باستمرار الدور المحوري للصين.
المصادر:
[1] ترامب يعلن عن رسوم جمركية جديدة في “يوم التحرير”.. ما تفاصيلها؟.. https://linksshortcut.com/rwrGd
[2] العالم يترقب مصير رسوم ترمب في الأول من أغسطس.. https://linksshortcut.com/XkXqi
[3] اتفاق تاريخي بين بكين وواشنطن يعيد تشكيل خريطة التجارة العالمية.. https://linksshortcut.com/hufZG
[4] اتفاق أمريكا وبريطانيا التجاري.. شروط صارمة تخنق سلاسل إمداد الصين.. https://linksshortcut.com/ZoXuV
[5] ترمب يعلن التوصل إلى اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي: “الأكبر على الإطلاق”.. https://linksshortcut.com/vreTb
[6] 550 مليار دولار حزمة استثمارات في الاتفاق الأمريكي الياباني.. https://linksshortcut.com/ePTrN
[7] ترامب يكشف عن تفاصيل الاتفاق التجاري مع إندونيسيا ويهدد روسيا بالرسوم.. https://linksshortcut.com/fWqCJ
[8] الاتفاق مع إندونيسيا يفتح فرصاً بـ50 مليار دولار أمام الصادرات الأميركية.. https://linksshortcut.com/EHdeR
[9] Vietnam’s tariff deal with Trump reflects balancing act between US and China.. https://linksshortcut.com/zDmKV
[10] ترمب يعلن التوصل إلى اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي: “الأكبر على الإطلاق”.. https://linksshortcut.com/vreTb
[11] “وول ستريت جورنال”: أمريكا تطلق مفاوضات تجارية مع 18 دولة لتنظيم الرسوم الجمركية.. https://www.alborsaanews.com/2025/04/26/1884080
[12] نمو الاقتصاد الصيني يفوق التوقعات في الربع الثاني.. https://linksshortcut.com/pHsVZ
[13] مأزق Apple وTesla في “أرض الفرص”.. الصين تحكم بأحكامها!.. https://linksshortcut.com/TxvgN