المقالات
عامان من الحرب: كيف غيرت عملية “طوفان الأقصى” ملامح الشرق الأوسط؟
- أكتوبر 7, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط

إعداد: شيماء عبد الحميد
باحثة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط
لم تكن عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، مجرد هجوم عسكري غير مسبوق، بل كانت بمثابة نقطة تحول فاصلة في تاريخ الشرق الأوسط، فاليوم وبعد مرور عامين من اندلاع الحرب الإسرائيلية الغاشمة على قطاع غزة الفلسطيني، يتضح أن تداعيات هذا الهجوم الخاطف قد غيرت الكثير من ملامح الشرق الأوسط، سواء فيما يخص خريطة التحالفات السياسية والأمنية، أو موازين القوى، أو حتى فيما يخص أدوار الفاعلين الإقليميين والدوليين في المنطقة، ويمكن إيجاز أبرز التغيرات التي طرأت على الجغرافيا السياسية والأمنية لإقليم الشرق الأوسط على النحو التالي:
1- تحول الشرق الأوسط من زخم الفاعلين غير الدوليين إلى مساعي الدمج والتحييد:
مع اندلاع حرب غزة، اكتسب ما يُعرف بـ”محور المقاومة” الإيراني، الكثير من الزخم والتأييد الشعبي؛ نظرًا لأنه كان الطرف الأسرع استجابةً للإنخراط في الحرب، تحت شعار “إسناد ونصرة الفلسطينيين”، حيث[1]:
سارع حزب الله اللبناني، يوم 8 أكتوبر 2023، بشن ضربات على القوات الإسرائيلية المتمركزة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
كما شنت بعض الجماعات المعادية لإسرائيل، بعض الهجمات الصاروخية على تل أبيب من جهة الجولان السوري المحتل.
أعلنت جماعة الحوثي اليمنية، انخراطها أيضًا في الحرب دعمًا لغزة، من خلال استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل والمارة في مياه البحر الأحمر، وكانت البداية مع اختطاف سفينة “Galaxy Leader”، وأسر أفراد طاقمها في نوفمبر من العام ذاته.
وتحركت أيضًا الجبهة العراقية؛ حيث قامت فصائل المقاومة الإسلامية في العراق بشن ضربات على القواعد الأمريكية المتواجدة في المنطقة، وذلك على خلفية الدعم العسكري الواسع الذي قدمته واشنطن لتل أبيب.
وعلى الرغم من أن هذا المحور قد لاقى تأييدًا شعبيًا في ضوء الرأي العام العربي المؤيد للمقاومة وللقضية الفلسطينية، مما أكسب جماعات هذا المحور شرعية سياسية داخل بلادها، إلا أن هذا التحرك وضع أمن واستقرار الشرق الأوسط على المحك؛ حيث تسبب في جر لبنان إلى حرب موسعة مع إسرائيل، أسفرت عن احتلال تل أبيب لخمس مناطق بالجنوب اللبناني إلى الآن، حتى بعد أن توقفت الحرب وقبل الحزب باتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز النفاذ في نوفمبر 2024، ووفر ذريعة لإسرائيل حتى تحتل أجزاء من الجنوب السوري والمنطقة العازلة بينها وبين سوريا، كما كاد أن يجر العراق أيضًا إلى مواجهة عسكرية ضد الحليف الأمريكي، إلى جانب الضربات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية على اليمن وموانئها التي تقع تحت سيطرة الحوثيين، فضلًا عما سببه ذلك من تبعات اقتصادية كارثية جراء عرقلة حركة التجارة الدولية في البحر الأحمر، وعلى رأسها ارتفاع أسعار النفط والغاز، وارتفاع تكاليف الشحن البحري، وتخفيض إيرادات قناة السويس المصرية، وقد انعكس كل ذلك سلبًا، بزيادة معادلات التضخم.
وفي ضوء ذلك؛ قررت دول المنطقة أن تتخذ خطوات متسارعة تجاه دمج وتحييد تلك المليشيات العسكرية، ونزع سلاحها الذي يقع خارج سلطة هذه الدول الرسمية والقانونية، خاصةً مع الضغط الأمريكي المتزايد للقيام بهذا الأمر، ومن هنا؛ راح لبنان يطالب حزب الله بتسليم سلاحه، والعراق يحاول دمج الحشد الشعبي في الجيش النظامي للبلاد، مع تحييد فصائل المقاومة الإسلامية العراقية، هذا إلى جانب خروج حركة حماس من إدارة القطاع. وأيًا ما ستؤول إليه الأمور في هذا الملف، فلا شك أن غياب أو تراجع دور ونفوذ محور المقاومة، والذي كان من أبرز الفاعلين في المنطقة على مدار سنوات طويلة، عن المشهد الإقليمي في مرحلة ما بعد وقف حرب غزة، من شأنه أن يغير الكثير من معادلات وموازين القوى في الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة.
2- تحول إسرائيل من شريك محتمل لدول المنطقة إلى عدو معتدي معزول عن دول جواره:
اندلعت حرب غزة في ضوء سياق إقليمي داعم للتقارب الإسرائيلي مع دول الجوار العربي، حيث عملت الولايات المتحدة خلال السنوات التي سبقت هجوم 7 أكتوبر، على زرع إسرائيل في قلب الجوار العربي، سواء من خلال المشروعات الاقتصادية الكبرى وعلى رأسها مشروع ممر الهند الاقتصادي، والذي يستبدل قناة السويس المصرية بالموانيء الإسرائيلية، أو من خلال اتفاقات التطبيع الإبراهيمية، إلى جانب إتباع سياسة “شيطنة إيران” وتصويرها هي وبرنامجها النووي على أنهما العدو الأول والأخطر للشرق الأوسط وخاصةً دول الخليج العربي، ووصل الأمر إلى طرح فكرة إقامة ناتو إقليمي، يوحد القدرات العسكرية العربية والإسرائيلية للتصدي إلى الخطر الإيراني.
ولكن؛ جاءت حرب غزة لتغير الخريطة السياسية الشرق أوسطية التي تسعى واشنطن لتأسيسها، ولتعيد إسرائيل إلى مكانها الحقيقي كعدو وليس شريك، ولتؤكد مرة جديدة على وحشية الاحتلال الإسرائيلي، ولتثبت أن تل أبيب لا يمكن احتواءها أو بناء سلام حقيقي معها؛ حيث:
اتبعت إسرائيل على مدار العامين، سياسات توسعية تنتهك كل مقررات الشرعية الدولية والقانون الدولي، إذ شنت هجمات على لبنان وسوريا واليمن وإيران وأخيرًا قطر، التي تشاركت مع مصر ملف الوساطة منذ اللحظة الأولى للحرب، كما احتلت مناطق استراتيجية في الجنوب السوري واللبناني، ووافقت على بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، مما جعلها أكبر تهديد إقليمي لدول جوارها الجغرافي.
ارتكبت جرائم حرب وإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني، ضاربة بقواعد القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني عرض الحائط، ووفقًا لبيانات نشرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد تجاوز عدد الشهداء من الشعب الفلسطيني الأعزل 62122، وأُصيب أكثر من156758 شخصًا منذ اندلاع الحرب في7 أكتوبر 2023 وحتى 23 أغسطس 2025.[2]
اتبعت إسرائيل كذلك سياسة التجويع بحق الشعب الفلسطيني، من خلال منع دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، مما أدى إلى وفاة 269 شخصًا بسبب سوء التغذية، من بينهم 112 طفلًا.
سعت إسرائيل إلى تنفيذ تهجير قسري لفلسطيني القطاع نحو الضفة الغربية وسيناء المصرية، بل وصل بها الأمر إلى أن تتحدث عن مشروع “إسرائيل الكبرى” بكل جرأة، كما حاولت احتلال القطاع بالكامل.
أدت كل تلك السياسات إلى إظهار إسرائيل على أنها دولة تمارس إرهاب الدولة بحق جيرانها، وجعلها دولة تعاني من عزلة سياسية في إقليم الشرق الأوسط، حتى أن تلك السياسات كادت أن تدمر اتفاقات السلام التي وقعتها تل أبيب مع بعض الدول العربية وأولهم مصر، ولم تقف هذه الصورة عند حدود الرأي العام العربي فقط، بل امتدت إلى الرأي العام الإسرائيلي، وكذلك العالمي، ومن المؤشرات الدالة على ذلك:
شهدت العلاقات المصرية الإسرائيلية أكبر قدر من التوتر، بصورة لم يصل إليها البلدين مسبقًا منذ توقيع اتفاقات السلام، بل أنه وفي تطور غير مسبوق، وصفها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في خطابه بقمة الدوحة الاستثنائية التي جاءت بعد الهجوم الإسرائيلي السافر على قطر، بـ”العدو”، منوهًا إلى خطورة السياسات الإسرائيلية الراهنة على مستقبل اتفاقات السلام الموقعة أو المحتملة بين إسرائيل ودول المنطقة.
وعلى النحو ذاته؛ أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية؛ إذ أوقفت أنقرة التجارة مع تل أبيب، وأغلقت مجالها الجوي.
كما أظهرت استطلاعات رأي حديثة أجرتها مجموعة “الباروميتر العربي” البحثية، أنه لا يزال الدعم الشعبي للتطبيع مع إسرائيل منخفضًا للغاية في جميع أنحاء المنطقة، حيث لم تتجاوز نسبة التأييد لأي دولة الـ13%، بل انخفضت في بعض الدول على عكس ما كان الوضع قبل حرب 7 أكتوبر، فمثلًا انخفضت نسبة تأييد التطبيع في المغرب من 31% عام2022 ، إلى 13% فقط عام2023 .[3]
أما داخليًا؛ يعيش عشرات الآلاف من الإسرائيليين في حالة نزوح داخلي من المناطق الحدودية شمالًا وجنوبًا، وسط تآكل الثقة بالمؤسسة العسكرية وتراجع معنويات الجيش الإسرائيلي، كما تزايدت الدعوات داخل إسرائيل لإجراء انتخابات مبكرة بعد سلسلة احتجاجات واسعة طالبت برحيل حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتحميلها مسؤولية الفشل الأمني المتمثل في هجوم السابع من أكتوبر.
كان للحرب الإسرائيلية تبعات اجتماعية عميقة على الداخل أيضًا؛ حيث وفقًا لاستطلاع أُجري في أبريل 2025، هناك 27% من الآراء تؤكد أن إسرائيل على وشك حرب أهلية.
أما على مستوى الرأي العام الدولي؛ فقد تراجعت شعبية إسرائيل، وباتت تواجه عزلة سياسية دولية غير مسبوقة، وسقطت ذريعة المظلومية التي روجت لها لسنوات طويلة، حيث بحسب استطلاعات رأي أمريكية وأوروبية حديثة، تراجعت نسبة التأييد الشعبي لإسرائيل إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2006، وارتفعت نسبة من يعتبرونها دولة تمارس التمييز والعنف المفرط إلى 40%.[4]
كما أدت الحرب إلى اتساع نطاق التحقيقات والملاحقات القانونية الدولية بحق إسرائيل؛ حيث: في11 يناير 2024، انطلقت جلسات استماع محكمة العدل الدولية في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بارتكابها جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، وأسفرت تلك الجلسات عن قرار تاريخي أصدرته محكمة العدل الدولية في نوفمبر الماضي، يدين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، بإرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، بما يشمل استهداف المدنيين واستخدام التجويع كسلاح، كما أصدرت المحكمة أوامر باعتقال نتنياهو وجالانت، وملاحقتهما دوليًا من قبل الدول الموقعة على ميثاق روما.[5]
3- تحول الصراع الإيراني الإسرائيلي من حروب الوكالة إلى المواجهة العسكرية العلنية المباشرة:
دائمًا ما كان الصراع الإيراني الإسرائيلي يحتفظ بقواعد اشتباك واضحة ومحددة، تقوم بالأساس على تجنب الصدام المباشر، والاعتماد على المواجهات غير المباشرة، مثل حروب الوكالة، وحروب الظل التي تقوم أساسًا على حرب السفن، إلى جانب الأداة السيبرانية والتي كانت حاضرة بشكل دائم في الصراع بين الدولتين.
ولكن؛ جاءت حرب غزة لتغير قواعد الاشتباك وحدود الردع القائمة في الشرق الأوسط، وذلك من خلال التحول إلى الصدام العسكري المباشر، بدءًا من الغارة الإسرائيلية على قنصلية إيران في دمشق في أبريل 2024، والتي اعتبرتها طهران اعتداءًا مباشرًا على سيادتها، وهو ما استوجب ردًا إيرانيًا مباشرًا أيضًا، تمثل في إطلاق عملية “الوعد الصادق 1“، مرورًا بعملية “الوعد الصادق 2” في أكتوبر 2024، والتي شنتها طهران للرد على اغتيال إسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية وكذلك اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، وصولًا إلى حرب الـ12 يومًا التي وقعت في يونيو 2025، جراء عملية “الأسد الصاعد” التي شنتها إسرائيل بشكل مفاجيء على العمق الإيراني، لتستهدف بها المنشآت النووية والصاروخية الإيرانية، مما وضع المنطقة على شفا حرب إقليمية كبرى.
4- التحول من أساليب المواجهة العسكرية التقليدية إلى أنماط أكثر حداثة:
أدخلت حرب غزة أساليب وأنماط جديدة للعمليات الهجومية التي قد يكون الشرق الأوسط ليشهدها لأول مرة بهذا القدر، مما أثر بلا شك في العقيدة العسكرية الإقليمية، ومن ضمن هذه الأنماط؛ هجمات أجهزة البيجر التي وقعت يومي 17 و18 سبتمبر 2024، والتي تُعد أكبر اختراق أمني استخباراتي لمنظومة حزب الله؛ إذ تمكنت تل أبيب من تفجير آلافًا من أجهزة البيجر والوكي توكي اللاسلكية، والتي كان يستخدمها عناصر حزب الله اللبناني، حيث تمكنت الاستخبارات الإسرائيلية عن طريق وسطاء وشركات وهمية، من توريد آلاف أجهزة اللاسلكي المفخخة إلى الحزب، وقد أسفرت تلك التفجيرات عن مقتل 40 فردًا وإصابة ما لا يقل عن 4 آلاف آخرين، من بينهم السفير الإيراني في بيروت.
كما أظهرت حرب غزة، دور التكنولوجيا الحديثة في صراعات الشرق الأوسط، من خلال الهجمات السيبرانية التي تعرضت لها بعض المؤسسات الإسرائيلية خلال حربها مع إيران، إلى جانب دور الطائرات المسيرة “الدرونز” والصواريخ الباليستية بعيدة المدى، التي اعتمدت عليها طهران في مواجهتها لتل أبيب، والتي تمكنت من اختراق أكبر وأهم منظومات الدفاع الأمريكية والإسرائيلية، يُضاف إلى ذلك، سياسة الاغتيالات التي اتبعتها تل أبيب في تصفية كبار قادة محور المقاومة الإيراني، من خلال تنشيط خلايا تجسسية ظلت سنوات طويلة في حالة من الخمول، ولا شك أن كل تلك الأساليب الحديثة قد غيرت كثيرًا من مفهوم وأدوات الردع الإقليمي في المنطقة، والتي كانت تنحصر مسبقًا في الأداة العسكرية التقليدية، والتي تتمثل في العتاد العسكري بالأساس.
5- تحول الشرق الأوسط من مقدرات “الهلال الشيعي” إلى إرهاصات “إسرائيل الكبرى”:
عندما اندلعت حرب غزة، كان المشروع الإقليمي الإيراني والذي يُعرف بـ”الهلال الشيعي”، هو المشروع التوسعي الأهم والأكبر في المنطقة؛ حيث كان محور المقاومة الإيراني يسيطر على عواصم أربعة دول عربية؛ وهي بيروت عن طريق حزب الله ودمشق عن طريق التحالف الإيراني الوثيق مع النظام السوري السابق بشار الأسد، وصنعاء عن طريق جماعة الحوثي اليمنية وبغداد عن طريق الحشد الشعبي العراقي وغيره من الجماعات الموالية لإيران، وكانت تتمتع تلك الأذرع الإيرانية بنفوذ سياسي واقتصادي وأمني كبير للغاية، سواء في داخل دولها أو على الصعيد الإقليمي بشكل عام.
ولكن؛ بعد مرور عامين على الحرب، ومع تعرض المحور الإيراني لخسائر فادحة جراء الحرب الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا، يبدو أن الشرق الأوسط بات يميل أكثر إلى سياق إقليمي يخدم مشروع “إسرائيل الكبرى”؛ حيث خرجت سوريا، والتي كانت تُعد رأس الحربة بالنسبة لطهران، من إطار المشروع الإقليمي الإيراني، وذلك على خلفية سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، كما تراجع نفوذ حزب الله في لبنان بعد الضربات التي طالت كبار قادته ومعظم أسلحته، مما أجبره على قبول توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024، والذي نص على التزام الحزب بتسليم سلاحه، يُضاف إلى ذلك الخسائر التي تعرضت لها حماس وكتائب القسام وخروجهما من مستقبل المشهد السياسي في قطاع غزة في المرحلة المقبلة، وكذلك الخسائر التي تكبدها الحوثيين جراء الهجمات الأمريكية والإسرائيلية على مواقعها في اليمن، فضلًا عن نجاح الضغط الأمريكي على تحييد فصائل المقاومة الإسلامية العراقية، وإخراجها من المشهد، بالإضافة إلى تشديد العقوبات على إيران وإشغالها بملف برنامجها النووي عن دعمها لجماعات محور المقاومة، وبالتالي؛ حرمان تلك الجماعات من الدعم العسكري والمادي الذي كانت تقدمه طهران لها.
وفي ضوء ذلك؛ استغلت تل أبيب التغير الكبير الذي شهدته المعادلات السياسية الإقليمية، في خدمة مشروعها الإقليمي؛ حيث قامت إسرائيل في نفس يوم سقوط نظام الأسد بتجميد اتفاق فض الاشتباك الموقع عام 1974، واحتلت المنطقة العازلة الواقعة بينها وبين سوريا، كما احتلت مواقع استراتيجية في الجنوب السوري وعلى رأسها قمة جبل الشيخ، تحت ذريعة تأمين حدودها وتقديم الحماية الإنسانية للطائفة الدرزية المتمركزة في جنوب الدولة السورية، كما تمسكت بالبقاء في خمسة مناطق بالجنوب اللبناني بذريعة تأمين حدودها الشمالية مع لبنان، وبالتالي حماية أمن المستوطنات الشمالية وضمان عدم تكرار ما حدث في 8 ديسمبر 2023 مرة أخرى، فضلًا عن مواصلتها للضربات الصاروخية على الحوثي اليمني، وتوسعها الاستيطاني في الضفة الغربية، وكل تلك التحركات كانت تحت رعاية ومباركة أمريكية، وقد شجعها هذا السياق في الحديث بشكل علني عن تحقيق حلم “إسرائيل الكبرى” في إطار ما سبق وأن أعلنت عنه أمام الأمم المتحدة؛ وهو مشروع الشرق الأوسط الجديد.
6- التحول من أكذوبة “الردع الاستراتيجي” إلى حقيقة “المنظومة الأمنية الإسرائيلية الهشة”:
دائما ما كانت إسرائيل تصور نفسها على أنها قوة إقليمية لا تُقهر، وأن لديها من قوة الردع الاستراتيجي القادرة على حمايتها من جميع التهديدات الأمنية، وأن لديها من أجهزة الاستخبارات التي تجعلها على دراية كاملة بأي تهديدات قادمة، وأن لديها من منظومات الدفاع ما يحميها من أي صواريخ أو تهديدات جوية تأتيها من أي اتجاه في الشرق الأوسط.
ولكن؛ جاءت حرب غزة لتظهر الهشاشة الأمنية والعسكرية التي تعاني منها إسرائيل، فلا شك أن هجوم 7 أكتوبر 2023 هو أكبر فشل أمني واستخباراتي تتعرض له إسرائيل منذ فشلها الأهم والأكبر في تاريخها، وهو مفاجأة حرب السادس من أكتوبر عام 1973، هذا إلى جانب الضربات الموجعة التي تلقتها تل أبيب منذ اندلاع حرب غزة، جراء الاستهدافات الصاروخية التي تأتيها من الحوثي اليمني، وكذلك الضربات الصاروخية التي سببت لإسرائيل خسائر غير مسبوقة خلال حرب الـ12 يومًا مع إيران، مما أثبت أن نظام القبة الحديدية غير كافي لحماية أمن إسرائيل، وأن المنظومة الدفاعية الإسرائيلية تعاني من قصور حاد، بل أن الأمر وصل إلى حد اقتراب نفاذ مخزون إسرائيل الاستراتيجي من الصواريخ الاعتراضية خلال حربها مع طهران، مما استدعى تدخل أمريكي يرفع الحرج عنها، ولذلك؛ قررت الولايات المتحدة التدخل وإسناد جبهة تل أبيب، من خلال ضرباتها التي نفذتها على المنشآت النووية الإيرانية.
وما يزيد من اهتزاز صورة الردع الإسرائيلي في المنطقة؛ أن رغم الدعم الأمريكي المادي والعسكري اللامحدود، ورغم جرائم الإبادة التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، وتكبدها لخسائر اقتصادية تفوق الـ250 مليار شيكل على مدار عامين الحرب[6]، إلا أن إسرائيل فشلت في تحقيق أيًا من أهداف الحرب التي أعلنتها؛ فهي لم تقضي على حماس، ولم تحتل القطاع، ولم تنجح في الوصول إلى الأسرى بعد أن دمرت القطاع بشكل تام، وفشلت في تهجير الفلسطينيين خارج غزة، ورضخت في نهاية الأمر إلى قبول اتفاق مع حركة حماس في ضوء خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المقترحة، بعد أن كانت ترفض هذا الأمر وتتمسك بإنهاء الحرب عسكريًا وليس سياسيًا، ولذلك؛ مهما كانت الخطة الأمريكية تمنح تل أبيب امتيازات، ومهما كانت المكاسب الوهمية التي حققتها تل أبيب ميدانيًا في القطاع، فلا شك أن إسرائيل فشلت في حربها ضد المقاومة الفلسطينية، بل أنها في حقيقة الأمر، تخرج خاسرة لصورتها كقوة إقليمية جبارة لا تُهزم كما كانت تدعي.
7- التحول من وهم “السلام الإبراهيمي” إلى مركزية القضية الفلسطينية:
اندلعت حرب غزة في وقت كانت توارت فيه القضية الفلسطينية عن الأنظار، وتصدرت فيه الاتفاقات الإبراهيمية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، المشهد السياسي الإقليمي، منذ أن راعتها الولايات المتحدة في سبتمبر 2020، بل أن الحرب قامت بعد شهر واحد فقط من الحديث عن اتفاق وشيك لتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية برعاية أمريكية.
وقد روجت واشنطن لهذه الاتفاقات على أنها الطريق الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، زاعمة بأن تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجوارها العربي هو ما سيحمي الشرق الأوسط من الخطر الإيراني الذي يهدد الأمن الإقليمي للمنطقة.
لكن؛ جاءت حرب غزة لتؤكد وتثبت أن إسرائيل هي الخطر والتهديد الأمني الحقيقي لأمن واستقرار الشرق الأوسط، وأن السلام الإبراهيمي الذي راعته الولايات المتحدة فشل في تحقيق السلام والاستقرار، بل أنه زاد من حالة الاحتقان واليأس لدى الجانب الفلسطيني، وهو ما دفع إلى تنفيذ هجوم السابع من أكتوبر 2023، فاليأس هو ما يدفع إلى العنف، أي أن الحرب أكدت مرة أخرى أن الحل العادل للقضية الفلسطينية، والذي يتمثل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، هو السبيل الأمثل والأوحد ليس فقط لتحقيق السلام والاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، بل ولحماية أمن واستقرار إسرائيل نفسها.
كما نجحت الحرب في إحياء وإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة مجددًا، وأكسبتها زخمًا وتأييدًا دوليًا غير مسبوقين؛ حيث: شهدت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي على مدار عامين الحرب، سلسلة تحركات مكثفة، انتهت إلى ترقية مكانة فلسطين داخل المنظمة الدولية ومنحها حقوقًا إضافية كدولة مراقبة، فيما ارتفع عدد الدول المعترفة بفلسطين إلى157 دولة، فيما شهدت مدن كبرى مثل لندن وواشنطن ومدريد وأنقرة وكيب تاون، مظاهرات حاشدة، تؤيد القضية الفلسطينية، وتطالب بإنهاء الحصار الإسرائيلي، ووقف الدعم العسكري لتل أبيب، جراء جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة، هذا إلى جانب حملات المقاطعة لإسرائيل، وإنطلاق التضامن الشعبي الدولي المتمثل في أسطول الصمود، الذي يستهدف إغاثة الفلسطينيين الذين يعانون من بطش سياسة التجويع التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية.
8- تحول الشرق الأوسط من فردية “المظلة الأمنية الأمريكية” إلى تعددية التحالفات الأمنية:
منذ اللحظات الأولى لحرب غزة وحتى اليوم، تغيرت جميع الاعتبارات والمعادلات، ولكن بقى شيء واحد فقط ثابت دون أي تغيير؛ ألا وهو الدعم الأمريكي اللامحدود واللامشروط لإسرائيل، خاصةً مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث:
قدمت واشنطن لإسرائيل دعمًا سياسيًا، وخاصةً في أروقة الأمم المتحدة، وخصوصًا مجلس الأمن الدولي، إذ استخدمت الولايات المتحدة الفيتو لأكثر من 39 مرة، لتعطيل أي محاولة دولية لوقف إطلاق النار في غزة، أو حتى لإدانة التصعيد الإسرائيلي السافر.
وكذلك قدمت واشنطن لتل أبيب دعمًا عسكريًا، إذ بحلول يونيو 2025، كانت الولايات المتحدة قد شحنت أكثر من 90 ألف طن من المعدات العسكرية، عبر أكثر من 800 شحنة جوية و140 شحنة بحرية منذ بداية الحرب.[7]
يُضاف إلى ذلك، التدخل العسكري المباشر الذي أقدمت عليه الولايات المتحدة بغرض إسناد إسرائيل، حيث تدخلت واشنطن بشكل مباشر بشن ضربات صارمة على الحوثيين، وانتهي الأمر باتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين في 6 مايو 2025، ثم تحركت واشنطن أيضًا لنجدة تل أبيب، خلال حرب الـ12 يومًا ضد إيران، إذ شنت الولايات المتحدة هجومًا غير مسبوق في 22 يونيو 2025، استهدف المنشآت النووية الإيرانية.
وقد أدى هذا الدعم الأمريكي غير المشروط، إلى تشجيع إسرائيل إلى اتباع سياسة هوجاء، تغامر بأمن الشرق الأوسط، ضاربة بكل الخطوط الحمراء عرض الحائط، إدراكًا منها أنها تتمتع بحماية سياسية وعسكرية أمريكية مطلقة، وهو ما انعكس في الهجوم الإسرائيلي الغادر على الدوحة، والذي استهدف وفد حماس أثناء اجتماعه لبحث مقترح وقف إطلاق النار في القطاع.
ومن هنا؛ أيقنت دول الشرق الأوسط، وخصوصًا الخليجية، أنه لا يمكنها الاعتماد بشكل كلي على المظلة الأمنية الأمريكية، وأدركت تمامًا أنها تعيش تحت الخطر الإسرائيلي الذي لن تتصدى له منظومات الدفاع الأمريكية المتمركزة في المنطقة، ومن هنا؛ قررت دول المنطقة تغيير نمط تحالفاتها الأمنية من فردية الخيار الأمريكي إلى تعددية التحالفات البديلة، ومن المؤشرات الدالة على ذلك[8]:
الإجماع العربي والإسلامي الذي ظهر خلال قمة الدوحة الطارئة، على ضرورة إيجاد وتشكيل آلية موحدة، للتنسيق والتعاون بين دول المنطقة، مما يمكنها من التصدي لكافة التهديدات والتحديات، سواء السياسية أو الاقتصادية أو حتى الأمنية.
اتجهت بعض دول المنطقة مؤخرًا إلى بناء صناعات دفاعية محلية، وذلك بالتوازي مع التوجه نحو شركاء جدد مثل الصين وكوريا الجنوبية وباكستان وأوروبا، للتعاون في مجال الأسلحة والدفاع، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ وسعت السعودية تعاونها مع الصين في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة، وعملت على زيادة توطين الإنتاج الدفاعي، هذا إلى جانب اتفاق الدفاع المشترك الذي وقعته مؤخرًا مع باكستان، والذي اعتبره البعض أنه بمثابة نواة لنشأة ناتو إسلامي، تحت مظلة نووية باكستانية، ليكون بديلًا للمظلة الأمنية الأمريكية، التي أثبت هجوم الدوحة عدم كفايتها، وقصورها في حال كانت إسرائيل هي مصدر التهديد.
من جانبها؛ اشترت الإمارات طائرات مقاتلة فرنسية، ودخلت في شراكة مع كوريا الجنوبية في مجال الدفاع الصاروخي والطاقة النووية، معززة بذلك قدراتها التكنولوجية، بعيدًا عن الولايات المتحدة.
في السياق ذاته؛ كشفت تركيا عن نظام الدفاع الجوي المتكامل “القبة الفولاذية” في أغسطس 2025، والذي يضاهي نظام “القبة الحديدية” الإسرائيلي، وذلك بغرض الدفاع المضاد للصواريخ.
9- تحول الشرق الأوسط من “المحور الإيراني – الروسي” إلى هيمنة “المحور الإسرائيلي- الأمريكي”:
كما ذُكر سلفًا، أدت حرب غزة إلى تغيرات جذرية في الخريطة السياسية للشرق الأوسط، إذ تراجع نفوذ إيران وأذرعها بعد الخسائر الاستراتيجية التي تعرضت لها على مدار العامين الماضيين، كما فقدت موسكو نفوذها في سوريا التي كانت موطيء القدم الوحيد لها في المنطقة، وذلك على خلفية سقوط النظام السوري السابق برئاسة بشار الأسد، لتحل بدلًا منها تركيا التي باتت تتحكم في زمام الأمور في سوريا، على إعتبار أنها كانت الداعم الرئيسي للمعارضة السورية ولهيئة تحرير الشام، والتي تولى زعيمها أحد الشرع إدارة البلاد خلال المرحلة الانتقالية الراهنة، فيما برزت إسرائيل، المدعومة أمريكيًا، كقوة إقليمية مؤثرة وبارزة، بدلًا من إيران ومحور المقاومة.
ومن ثم؛ يمكن القول أن حرب غزة أدت إلى تغير موازين القوى في الشرق الأوسط؛ بمعنى أنه كان هناك رابحين وخاسرين في المنطقة، إذ بينما تراجع النفوذ الإيراني والروسي كفاعلين في المنطقة، برز المحور الأمريكي- الإسرائيلي، بإعتباره الطرف الإقليمي الأكثر قوةً وهيمنةً.
10- تحول الشرق الأوسط من سياسة “تصفير المشكلات” إلى سياسة “عسكرة العلاقات”:
جاء هجوم 7 أكتوبر في سياق إقليمي كان يسوده قدرًا من التهدئة، حيث شهدت الفترة التي سبقت حرب غزة، مجموعة من التفاهمات التي كان من شأنها أن تؤول بالشرق الأوسط إلى حالة من الهدوء والاستقرار، ومن بينها: بيان العُلا وإنتهاء أزمة الرباعي العربي، المصالحة التركية الخليجية، المصالحة التركية المصرية، عودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية برعاية صينية، إنطلاق محادثات سعودية حوثية لحل الأزمة اليمنية في ضوء الاتفاق السعودي الإيراني، عودة سوريا إلى الجامعة العربية، والاقتراب من توقيع اتفاق نووي مؤقت بين إيران والولايات المتحدة، واقتراب توقيع اتفاق لتطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب برعاية الولايات المتحدة.
ولكن؛ جاءت حرب غزة لتزعزع أمن واستقرار المنطقة، وتهدد كل تلك التفاهمات التي تم التوصل إليها، حيث أدت الحرب إلى تغيير قواعد الاشتباك والردع في الشرق الأوسط كما ذُكر سابقًا، حيث بات الردع الإقليمي يعتمد بالأساس على الردع العسكري الاستباقي، وبرز قانون القوة على حسب قوة القانون؛ وذلك على خلفية السياسات الإسرائيلية التي انتهكت كل قواعد القانون الدولي العام والإنساني الراسخة في ضمير الجماعة الدولية، إذ أثبتت الحرب أن الأمم المتحدة التي تأسست بغرض حفظ الأمن والاستقرار الدوليين، ومنع حدوث حرب عالمية ثالثة، وحل الخلافات بالطرق السلمية، باتت غير صالحة للقيام بهذه المهام، بل وباتت مؤسساتها مسيسة لخدمة مصالح وأهواء بعض الدول، بدلًا من خدمة قواعد القانون الدولي.
وفي ضوء ذلك؛ اتجهت دول المنطقة، وخاصةً الخليجية، تعزيز قدراتها الردعية، من خلال زيادة المخصصات المالية لميزانيات الدفاع، وهو ما انعكس في زيادة حجم الانفاق العسكري لدول الشرق الأوسط خلال العاميين الماضيين، هذا إلى جانب تحرك بعض الدول نحو إمتلاك قوة الردع النووي، بغرض تحقيق توازن القوى مع إسرائيل، التي باتت بالنسبة لدول الإقليم هي التهديد الأمني الأخطر، وخاصةً في ضوء احتكار تل أبيب لخيار الردع النووي دون غيرها من دول المنطقة، مما يضع الشرق الأوسط على شفا مرحلة من سباق التسلح، وخصوصًا النووي، بشكل يهدد كل التفاهمات السابقة، ويعرقل جميع رؤى ومخططات التنمية التي وضعتها بعض الدول، مثل السعودية ورؤية 2030، فهذه الرؤى تحتاج إلى أمن واستقرار، والسياق الإقليمي الراهن أبعد ما يكون عن ذلك.
11- تحول السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط من الانكفاء والعزلة للانخراط الفعال:
في الفترة التي سبقت هجوم 7 أكتوبر، كان هناك توجه أمريكي قائم على فكرة الانسحاب من الشرق الأوسط وصراعاته التي كلفت واشنطن الكثير دون جدوى، وتوجيه الاهتمام إلى منطقة آسيا وبحر الصين الجنوبي، لمواجهة الخطر الأكبر بالنسبة للرؤية الأمريكية؛ ألا وهو الصين، ولكن بعد أن يتم تهيئة الأوضاع لإسرائيل لتتحول إلى الذراع الأمريكي الذي سيتولى مهمة الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وسعت واشنطن إلى تحقيق هذا الهدف من خلال الكثير من الأدوات، تأتي في مقدمتها الاتفاقات الإبراهيمية.
وقد وفرت هذه الرؤية، الفرصة لإيران حتى تعزز علاقاتها مع جوارها العربي بشكل عام، والخليجي بشكل خاص، كما سمح للصين أن تكتسب نفوذًا في الشرق الأوسط على حساب واشنطن، سواء كان نفوذًا سياسيًا، وهو ما انعكس بشكل واضح في الرعاية الصينية للاتفاق السعودي الإيراني، أو كان نفوذًا اقتصاديًا عبر مبادرة الحزام والطريق، وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا التي عززت علاقاتها مع دول المنطقة، وحافظت على وجود عسكري دائم لها على سواحل البحر المتوسط من خلال قواعدها في الساحل السوري، واكتسبت زخمًا اقتصاديًا من خلال التنسيق مع دول الخليج العربي في ملف الطاقة، وذلك في إطار تحالف “أوبك+”.
ولكن؛ مع اندلاع الحرب في غزة، تغيرت السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، والذي عاد إلى قمة الأولويات الأمريكية؛ نظرًا لأن الحرب هددت بشكل مباشر أمن حليفها الاستراتيجي والذي لا غنى عنه؛ ألا وهو إسرائيل، ولذلك؛ سارعت واشنطن إلى تقديم الدعم العسكري لتل أبيب، وعززت من وجودها العسكري في المنطقة، من خلال نشر حاملات طائرات وغواصات نووية وقطع بحرية مختلفة في مياه البحر المتوسط، وكذلك الطائرات المقاتلة من طراز “إف-15″ و”إف-16″ و”إف-35” التابعة للقوات الجوية الأمريكية[9]، فضلًا عن تشكيلها، وبالتعاون مع عدد من الدول، لتحالف “حارس الازدهار” في ديسمبر 2023، بغرض حماية حركة الملاحة الدولية في مياه البحر الأحمر، من هجمات جماعة الحوثي اليمنية، هذا إلى جانب تدخلاتها العسكرية المباشرة في مواجهات عسكرية علنية خلال حرب غزة، مثل هجومها على منشآت النووي الإيراني، والضربات الصاروخية التي نفذتها على الحوثيين، وعلى فصائل المقاومة الإسلامية في العراق.
وإجمالًا؛ هناك حالة من الشكوك والضبابية التي تحيط بما ستؤول إليه الأمور في الشرق الأوسط خلال الأيام القليلة الماضية، وما إذا كانت الخطة الأمريكية ستنجح في إنهاء حرب غزة أم لا، وما إذا كانت عملية طوفان الأقصى ساهمت في إحداث إختراق يؤدي في نهاية الأمر إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة أم إنها ستكون بداية النهاية لهذا الحلم العربي.
ولكن في المقابل؛ هناك عدة حقائق واضحة للغاية، ويجب الوقوف عندها خلال الحديث عن حرب غزة وعملية “طوفان الأقصى”، وأهمها:
هجوم 7 أكتوبر حدث مفصلي في تاريخ الشرق الأوسط، فما بعده لن يكون كما قبله أبدًا.
عملية طوفان الأقصى لم تهدف إلى تحرير الأراضي المحتلة، بقدر ما كان هدفها الأساسي هو تحريك مياه القضية الراكدة، وكسر حالة الجمود التي أصابت القضية الفلسطينية، ورغم فجاعة الثمن الذي تكبده الشعب الفلسطيني، يبدو أن العملية نجحت في هذا الأمر؛ فقد أدت حرب غزة إلى إحياء القضية وعودتها للواجهة، وأكسبت القضية الفلسطينية دعمًا عالميًا وإقليميًا، سيظل راسخًا لسنوات عدة.
مهما حاولت الولايات المتحدة وإسرائيل، الترويج لأي أفكار فيما يخص مبدأ السلام في الشرق الأوسط، يبقى مبدأ “الأرض مقابل السلام”، والذي قامت عليه المبادرة العربية، هو السبيل الأوحد لتحقيق أمن واستقرار المنطقة، فالحل العادل للقضية الفلسطينية، والذي يتمثل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية، هو الضمان الوحيد لأمن واستقرار الإقليم.
لم تخرج إسرائيل من الحرب منتصرة، ولا مهزومة، فهي تخرج الآن من الحرب بندبات سيبقى أثارها على الجسد الإسرائيلي لسنوات طويلة، حيث تخرج تل أبيب وهي معزولة إقليميًا ودوليًا، وهي مهددة أمنيًا أكثر بكثير من فترة ما قبل الحرب، وهي خاسرة كل التفاهمات والتقاربات التي وصلت إليها مع دول جوارها الجغرافي، بوساطة الولايات المتحدة، قبل اندلاع حربها الإجرامية على قطاع غزة.
المصادر:
[1] رامي زين الدين، كيف غيّر “زلزال 7 أكتوبر” ملامح الشرق الأوسط؟، موقع الشرق للأخبار، 18/1/2025، متاح على الرابط: https://asharq.com/culture/107905/%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A
[2] هل تقود إسرائيل الشرق الأوسط إلى مواجهة كبرى؟، الجزيرة مباشر، 25/8/2025، متاح على الرابط: https://www.ajmubasher.net/opinions/2025/8/25/%D9%87%D9%84-
[3] “تشاتام هاوس”: حرب غزة تدفع مصر وتركيا ودول الخليج لتغيير استراتيجياتها الأمنية، ترك برس، 2/10/2025، متاح على الرابط: https://www.turkpress.co/node/107216
[4] عامان على أطول حرب في تاريخ الصراع، معهد سياسة الشعب اليهودي، موقع عربي 21، 29/9/2025، متاح على الرابط: https://arabi21.com/story/1710008/%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9
[5] رامي زين الدين، كيف غيّر “زلزال 7 أكتوبر” ملامح الشرق الأوسط؟، موقع الشرق للأخبار، 18/1/2025، مرجع سابق.
[6] بعد عامين على «طوفان الأقصى»… الفلسطينيون يعيدون رسم المشهد و”إسرائيل” تواجه أسوأ أزماتها، موقع الرسالة، 5/10/2025، متاح على الرابط: https://alresalah.ps/post/307129/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B9%D8%
[7] عامان على أطول حرب في تاريخ الصراع، معهد سياسة الشعب اليهودي، موقع عربي 21، 29/9/2025، مرجع سابق.
[8] سنام وكيل، غالب دالاي، الشرق الأوسط الناتج عن عدوانية إسرائيل يقوض هيبة الولايات المتحدة وستكون كلفته باهظة عليها، فورين أفيرز، جريدة القدس العربي، 1/10/2025، متاح على الرابط: https://www.alquds.co.uk/%d9%81%d9%88%d8%b1%d9%8a%d9%86
[9] محمود حمدي أبو القاسم، الصراع في الشرق الأوسط وملامح التغير في البيئة الإستراتيجية، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 5/12/2024، متاح على الرابط: https://rasanah-iiis.org/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-