تستمرُّ الحربُ في السودان في الاحتدام، دون وجودِ أيِّ مؤشرٍ على أن قوات الدعم السريع أو القوات المسلحة السودانية قريبةٌ من نصْرٍ عسكريٍّ أو منفتحة على وقْف إطلاق النار، ووفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، نزح أكثر من عشرة ملايين مدني داخل السودان، أو إلى البلدان المجاورة، وأصبح اقتصاد البلاد في حالة تدهور، وتحوَّلت مراكز الأعمال إلى ساحات معارك، ويعاني نصف السكان من الجوع الشديد، مع ظهور المجاعة في دارفور، ولقد كان للحرب تأثير مُحفِّزٌ على الأسواق غيْر المشروعة الإقليمية؛ حيث لجأ المدنيون والمقاتلون إلى شبكات التهريب؛ للحصول على السِّلَع الأساسية، كما ازدهرت الأعمال غير القانونية، وخاصَّةً في المناطق الحدودية المهمشة تاريخيًّا بين “تشاد وليبيا والسودان”.
وفي هذا المقال الذي صدر تحت عنوان ” Sudan’s civil war fuels a new regional conflict economy” للكاتب ” Matt Herbert” على موقع معهد الدراسات الأمنية الأفريقي، في 8 يناير 2025م، وهو مؤسسة أكاديمية تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، أنشأها الكونجرس الأمريكي في عام 1999م؛ لدراسة القضايا الأمنية المتعلقة بأفريقيا، ويعمل كمنتدى للبحث الثنائي والمتعدد الأطراف والاتصالات والتدريب وتبادُل الأفكار التي تنطوي على مشاركين عسكريِّين ومدنيِّين، يعرض الكاتب تحليلًا مُتعمِّقًا، حول موضوع ” الحرب الأهلية في السودان تُغذِّي اقتصاد الصراع الإقليمي الجديد”[1].
التعريف بالكاتب
مات هربرت: هو رئيس قسم الأبحاث في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة عبْر الوطنية، ويُشْرِفُ على البحوث الميدانية التطبيقية والتحليلات المتعلقة بالاقتصاد السياسي للجريمة المنظمة في المنطقتين، كما يشارك في قيادة مبادرة لدراسة استخدام العقوبات ضد الجريمة المنظمة عبْر الوطنية والفساد، فضلًا عن مبادرةٍ أُخرى حول أخلاقيات البحث.
وقد عمل على نطاقٍ واسعٍ في قضايا إصلاح قطاع الأمن والهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة في جميع أنحاء شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، واستشار بشأن قضايا الأمن والتنمية والصحة العامَّة في شرق أفريقيا، وعمل في مجال الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية في ولاية نيو مكسيكو، وعمل مساعدًا سياسيًّا لحاكم نيو مكسيكو، السابق بيل ريتشاردسون.
أبرز محاور المقال
1- تهريب الغذاء والوقود إلى السودان إلى ما قبْل الحرب
إن تهريب الغذاء إلى السودان يعود إلى ما قبْل الحرب، ولكن الصراع أدَّى إلى تفاقُم هذه الظاهرة، فقد سجَّلت الأبحاث الأخيرة التي أجرتها المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة عبْر الوطنية زيادة ملحوظةً في حركة الغذاء السِّرِّيَّة على مدى الأشهر الثمانية الماضية، مع تفاقُم الجوع، وقال الأشخاص الذين تمَّت مقابلتهم: إن تهريب الأغذية في المناطق الحدودية السودانية كان غيْر مركزيٍّ إلى حدٍّ كبيرٍ؛ حيث كان العديد من المهربين الصغار نسبيًّا يتنقلون على الطُّرُق بين جنوب ليبيا وشمال تشاد وشمال غرب السودان.
ومثلها كمثل الغذاء، فإن تهريب الوقود على حدود السودان ليس بالأمر الجديد، فقد ظهرت تجارة ضخمة في البنزين والديزل المُهرَّب من شرق ليبيا إلى السودان في العام السابق للحرب، ويقال: إن هذه التجارة كانت تحت سيطرة القوات المسلحة العربية الليبية وقوات الدعم السريع، وقد أدَّى تعطيل إمدادات الوقود القانونية في السودان مُنْذُ بدْء الحرب الأهلية إلى توسيع أحجام هذه التجارة.
ويظلُّ الطريق الرئيسي يمُرُّ عبْر شرق ليبيا، وعلى هذا الطريق، تقوم بعض الجهات المرتبطة بالقوات المسلحة العربية الليبية بتهريب الوقود من المستودعات الساحلية إلى مدينة الكفرة الجنوبية، وعبْرها إلى المناطق التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية في السودان، وقد قدَّر أحد مصادر البحث، أن 500 ألف برميل من البنزين والديزل يتمُّ تهريبها أسبوعيًّا عبْر هذا الطريق.
وعلى مدار العام الماضي، ظهر طريق تهريبٍ آخرَ بين جنوب غرب ليبيا، الخاضع لسيطرة القوات المسلحة العربية الليبية، وشمال تشاد، ومنطقة دارفور بغرب السودان، وفي حين كان هذا الطريق في البداية ارتجاليًّا، ويقوده مهربون من المستوى المنخفض، فقد أصبح أكثر تنظيمًا، ويخضع لسيطرة مسؤولي القوات المسلحة العربية الليبية وقوات الدعم السريع.
2- انتشار تجارة الأسلحة والاتّجار بالبشر عبْر الحدود
نشأت تجارة أسلحة بطريقةٍ لامركزية، تتركز – في المقام الأول – حول الحدود بين تشاد والسودان، وتعتمد هذه التجارة في الأغلب على الأسلحة والذخائر الموجودة بالفعل في ليبيا أو مناطق الصراع الإقليمية الأخرى، ولكن في منطقة الحدود الثلاثية، تشير عملية ضبْط أربع مقطورات مُحمَّلة بالأسلحة المستوردة عبْر ميناء بنغازي والمتجهة إلى تشاد مؤخرًا إلى أن مسارات الاتّجار الدولية قد تكون ناشئة.
كما أدَّى الصراع إلى زيادة تهريب البشر على طول حدود السودان، ويهيمن على هذه الظاهرة اللاجئون الذين تقلَّصت سُبُل حركتهم القانونية والآمنة خارج البلاد، وقد وسعت شبكات التهريب عملياتها القائمة أو طوَّرت طُرُقًا جديدةً على طول الحدود “المصرية والليبية والتشادية”، وتعمل الحرب الأهلية على تنشيط وإعادة تشكيل نظام تهريب البشر جزئيًّا في السودان والدول المجاورة.
3- استمرار الأعمال الغير مشروعة بعد انتهاء النزاع
تُظهر الخبرةُ المكتسبةُ من صراعاتٍ إقليميةٍ أُخرى، وخاصَّةً ليبيا، أن التحوُّلات في الأسواق غيْر المشروعة واقتصادات الحرب قد تخلق تأثيرًا طويلًا بعد توقُّف إطلاق النار، ويحتاج الفاعلون الدوليُّون الذين يعملون على إنهاء الحرب في السودان، إلى فهْم ومراقبة تقاطُع الصراع مع هذه الأسواق.
ويعتمد المقاتلون بشكلٍ متزايدٍ على الأسلحة والوقود المُهرَّب من الخارج، كما أن الغذاء المُهرَّب يُشكِّلُ أهميةً بالغةً في مساعدة المدنيِّين الذين يعانون من المجاعة، ومن الممكن أن يُوفِّرَ فهْم كيفية تطوُّر هذه التدفُّقات إنذارًا مبكرًا بشأن المخاطر الناشئة، ويساعد أصحاب المصلحة في تصميم استجاباتهم.
وقد أدَّى الصراع إلى تقاطُع متزايد بين الجهات الفاعلة غير المشروعة والجهات الحكومية، وفي كثيرٍ من الأحيان، يحدث التهريب بعلم وحماية الجهات التابعة لقوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية في السودان والمسؤولين في الدول المجاورة، كما أن المسؤولين الذين يستثمرون ماليًّا في اقتصاد الصراع قد لا يرغبون في صُنْع السلام، وحتى لو تحقَّق السلام، فإن مثل هذه العلاقات قد تُقوِّضُ سيادة القانون، وتؤدي إلى تآكل قدرات المؤسسات العامة وتدهور ثقة المواطنين في الدولة.
وربما قد يؤثر هذا على تطوُّر الاقتصادات غير المشروعة في السودان، فحتى النهاية السريعة للحرب، من شأنها أن تترك البلاد في حالةٍ من الانهيار الاقتصادي وضعْفٍ في إنفاذ القانون، ومن غير المرجح، أن تحظى مكافحة الاقتصادات غير المشروعة بالأولوية.
والجدير بالذكر، أن الأسواق غير المشروعة القوية والشبكات الإجرامية قد تؤدي إلى تفاقُم الفساد وإضعاف قدرات الحكومات في البلدان المجاورة، وقد تنعكس تجارة الأسلحة التي تتدفق إلى السودان الآن في المستقبل؛ الأمر الذي من شأنه أن يُغذِّيَ عدم الاستقرار والعُنْف في المنطقة.
4- اقتصادات الحرب قد يكون لها تأثير طويل الأَمَد بعد وقْف إطلاق النار
من المرجح، أن ينْصَبَّ أغلبُ التركيز الدولي في السودان على التفاوض على وقْف إطلاق النار وبناء السلام، ولكن نظرًا للمخاطر، فإن اقتصاد الصراع وارتباطاته بالأسواق الإقليمية يحتاج إلى مزيدٍ من الاهتمام، مثل تتبُّع وتحليل اقتصاد الصراع، مع التركيز على الكيفية التي قد يؤدي بها إلى تأجيج عدم الاستقرار أو الفساد في السودان أو الدول المجاورة، بالإضافة إلى مكافحة أسوأ أضرار اقتصاد الحرب، مثل تهريب البشر والاتّجار بالأسلحة، وهذا من شأنه أيضًا، أن يُخفِّفَ من خطر أن تؤدي حملات القمْع على تهريب الغذاء والوقود إلى تفاقُم أوضاع السكان المُعرَّضِين للخطر عن غير قصْدٍ.
كما أن فرْض عقوباتٍ ماليةٍ وعقوبات سفرٍ مستهدفةٍ على أعضاء رئيسيِّين في النُّظُم الإجرامية التي تُغذِّي اقتصاد الحرب في السودان، من شأنه أن يساعد في ردْع النُّخب السياسية والتجارية عن المشاركة، ومن الممكن استخدام تدابير متعددة بالتوازي مع النَّهْج المُتَّبَع في الملاحقة القضائية، وبناء قدرات إنفاذ القانون، والضغط الدبلوماسي على الدول الإقليمية والجهات الفاعلة غير الحكومية، التي تُسهِّلُ التدفُّقات غير المشروعة، وتُشكِّلُ المساعدات الإنمائية للمجتمعات المتضررة من الحرب واقتصاد الحرب أهمية حيوية.
تحليلٌ نقديٌّ
من الصعب اعتبار ما يحدث في السودان مسألةً داخليةً معزولةً، فقد يلعب اللاعبون الخارجيون – عادةً – دورًا سلبيًّا، من خلال زعزعة استقرار البلاد وتعميق الكارثة، عند محاولتهم للحفاظ على مصالحهم الجيوسياسية في السودان؛ لذلك، لا يُفضِّلُ البعضُ تسميةَ ما يشهده السودان اليوم حربًا أهليةً، بل هي حربٌ بالوكالة بين أقطاب متنافسة، وقد كان للحرب تأثيرٌ مُحفِّزٌ على الأسواق غير المشروعة الإقليمية؛ حيث لجأ المدنيون والمقاتلون إلى شبكات التهريب؛ للحصول على السِّلَع الأساسية، كما ازدهرت الأعمال غير القانونية، مثل تجارة الأسلحة والاتّجار بالبشر وتهريب الوقود، خاصَّةً في المناطق الحدودية المُهمَّشة تاريخيًّا بين “تشاد وليبيا والسودان”.
وتأسيسًا على ما سبق، يبقى حلُّ النزاع الحالي في السودان أملًا ليس فقط للشعب السوداني، ولكن لكلِّ الشعوب الأفريقية، التي تأمل أن تعيش في دول مستقرة سياسيًّا، وبالتالي، تستطيع أن تُحقِّقَ لهم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة.
لينك المقال:
[1] Matt Herbert, Sudan’s civil war fuels a new regional conflict economy, institute for Security Studies, 8 January 2025, available at:
