في مقالٍ نشره البروفسور، يحي صايغ، في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، تحت عنوان “اهو اليوم التالي لإسرائيل؟”، يعرض تحليلًا مُتعمِّقًا للوضع الراهن في إسرائيل، بعد هجوم 7 أكتوبر، ويعكس على ما يبدو انتقال إسرائيل من حالة الاستقرار النِّسْبيِّ الذي كانت تتمتع به، إلى مرحلةٍ من الصراع المستمر والداخلي غير القابل للتسوية.[1]
يناقش المقال تحوُّل إسرائيل إلى “دولة حروب أبدية” تشبه في بعض جوانبها العديد من الدول العربية، التي تعاني من صراعاتٍ لا تنتهي، مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن، وفي هذه المراجعة النقدية، سيتمُّ تحليل الأُسُس التي يبني عليها صاحب المقال رؤيته، وتقييم تأثير هذه التحوُّلات على إسرائيل على المدى القصير والطويل، بالإضافة إلى تقديم بعض الملاحظات النقدية، حول كيفية تناول الكاتب لهذه القضايا.
الحروب الأبدية: من عواقب الهجوم إلى السياق الأوسع
يتصدر مقال “ما هو اليوم التالي لإسرائيل؟” مصطلح “الحروب الأبدية” الذي أصبح يشير إلى وضْعٍ غير قابلٍ للتسوية؛ حيث يتواصل الصراع العسكري والسياسي دون أُفُقٍ واضحٍ للنهاية أو الحلِّ، يبدأ المقال بتحليل الهجوم الذي شنَّتْه حركة حماس على إسرائيل، في أكتوبر 2023، والذي كان نقطة تحوُّلٍ في الصراع «الفلسطيني – الإسرائيلي»، ويعتبر الهجوم بمثابة شرارةٍ أضأت على مجموعةٍ من القضايا العميقة، التي لطالما كانت موجودةً، ولكنها لم تجد الاهتمام الكافي.
الكاتب في مقاله يُوسِّعُ دائرة النقاش لتشمل ليس فقط غزة ولبنان، بل يشير إلى الصراعات في الضفة الغربية، وحتى التدخُّلات العسكرية الإسرائيلية في سوريا والعراق واليمن، ويعتبر هذه الصراعات متشابكة، وتُشكِّلُ صورةً مُعقَّدةً لما يُسمى بـ “الحروب الأبدية”.
إلَّا أن النقد الذي يمكن توجيهه إلى هذا الطَّرْح، هو أن الكاتب في هذا السياق قد يُغْفِلُ بعض الجوانب الأخرى، مثل الصراع «الفلسطيني – الإسرائيلي» في الأراضي المحتلة أو تطوُّرات السَّاحة السياسية الداخلية في إسرائيل، وهي جوانب قد تؤثر بشكلٍ كبيرٍ في المدى الطويل، على قُدْرة إسرائيل على تحقيق السلام، أو على الأقل التوصُّل إلى تسويةٍ سياسيةٍ مستدامةٍ.
التحوُّلات الداخلية: (الجيش، المجتمع، والسياسة)
من أهمِّ النقاط التي يثيرها الكاتب في مقاله، هي التحوُّلات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي، لاسيما في جيش إسرائيل؛ حيث يعكس التغييرات الهيكلية والثقافية التي يشهدها الجيش الإسرائيلي، ويستشهد بما قاله الباحث الاجتماعي الإسرائيلي، ياجيل ليفي، عن “التثيوقراطية” التي اجتاحت المؤسسة العسكرية، وبحسب ليفي، فإن الجيش الإسرائيلي بدأ يشهدُ تحوُّلًا من مؤسسة علمانية إلى مؤسسة ذات طابعٍ دينيٍّ قوميٍّ متزايدٍ، وهو ما يراه الكاتب تحوُّلًا خطيرًا، يعكس التحوُّلات الأكبر التي تمُرُّ بها إسرائيل بشكلٍ عامٍ.
هذه الفكرة مثيرة للاهتمام، وتستحق الوقوف عندها؛ إذ إنَّ التحوُّلات داخل الجيش الإسرائيلي ليست مُجرَّد تغييرٍ في هيكلية المؤسسة العسكرية، بل قد تكون مؤشرًا على تغييرات أوسع في المجتمع الإسرائيلي بأسْره، هذه التحوُّلات قد تكون نتيجةً لعدة عوامل، من بينها تصاعُد التيار الديني في المجتمع الإسرائيلي، الذي أصبح له تأثيرٌ كبيرٌ على السياسة الداخلية، وعلى اتخاذ القرارات العسكرية بشكلٍ خاصٍّ.
لكن ما يثير الاهتمام هنا، هو أن الكاتب يعرض هذه التحوُّلات بشكلٍ هجوميٍّ، من دون أن يُقدِّمَ تفاصيلَ كافيةً، حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه التحوُّلات، أو كيفية تأثيرها على تماسُك الجيش الإسرائيلي، على سبيل المثال، هل يمكن لهذه التغييرات أن تؤثر سلبًا على فاعلية الجيش أو على إستراتيجياته في المستقبل؟ وكيف سيؤثر ذلك على العلاقة بين الجيش والمجتمع الإسرائيلي؟ هناك حاجةٌ للمزيد من التحليل العميق لهذه النقاط في المقال.
التفكُّك السياسي في إسرائيل: تهديدات داخلية وصراعات مستمرة
الجانب الأبرز في المقال، هو التركيز على التفكُّك السياسي الداخلي في إسرائيل، الذي قد يكون أخطر من التهديدات الخارجية التي تواجهها الدولة، يُشير المقال إلى أن إسرائيل تعيش حاليًا مرحلةً من “التدهور السياسي” على مستوى النُّخب الحاكمة، مع تزايُد سيطرة اليمين المتطرف على المشهد السياسي الإسرائيلي، خاصَّةً بعد الإصلاحات القضائية التي قام بها نتنياهو وحكومته، منذ أواخر 2022، وفقًا للكاتب؛ فإن هذه الإصلاحات تُمثِّلُ هجومًا مباشرًا على التسوية السياسية التي قامت عليها إسرائيل، منذ نشأتها في عام 1948.
ما يضيفه الكاتب من قيمةٍ هنا، هو ربْطُهُ بين هذه الإصلاحات القضائية وبين تآكل الأُسُس التي بُنيت عليها الدولة الإسرائيلية، بما في ذلك، محاولات تحويل إسرائيل من “دولة علمانية” إلى “دولة دينية قومية”، هذه النُّقْطة تستحقُّ اهتمامًا خاصًّا، في إطار قراءةٍ سياسيةٍ تاريخيةٍ لما يحدث في إسرائيل، ولكن من ناحيةٍ أُخرى، يمكن الإشارة إلى أن الكاتب يُبالغ قليلًا في تصوُّر خطورة هذه الإصلاحات على استقرار إسرائيل؛ إذ إن النظام السياسي الإسرائيلي، على الرَّغْم من الأزمات الحالية، لا يزال يحْظى بدعمٍ كبيرٍ من قِبَلِ بعض قطاعات المجتمع؛ ما قد يعوق تفكُّك الدولة بشكلٍ كاملٍ.
الصراع «الإسرائيلي – الفلسطيني» والعوامل الخارجية
من الأمور التي قد تُثير الجَدَلَ في المقال، هو العرْض المبالغ فيه لما يعانيه الفلسطينيون من حصارٍ وصراعٍ دائمٍ في غزة والضفة الغربية، في حين أن الكاتب يتجنَّبُ التطرُّق إلى التطوُّرات الأخيرة في المفاوضات «الفلسطينية – الإسرائيلية»، من المهم أن يُدْرَجَ هذا العنصر في التحليل؛ حيث إن المجتمع الدولي يتحرَّكُ بشكلٍ تدريجيٍّ نحْو دفْع الأطراف المعنيَّة للعودة إلى طاولة المفاوضات، وقد تساهم الضغوط الإقليمية والدولية، في إعادة تعريف “اليوم التالي” لإسرائيل، بطريقةٍ أكثر دبلوماسية وسياسية.
النقد المقارن: إسرائيل والدول العربية في حروب أبدية
الكاتب يقارن إسرائيل بالدول العربية التي شهدت صراعاتٍ لا تنتهي، مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق، وهذه المقارنة على الرغم من أنها مثيرة للاهتمام، إلَّا أنها قد تكون مُبسَّطةً بعض الشيء؛ فالتحديات التي تواجهها إسرائيل، تختلف عن تلك التي تواجهها هذه الدول؛ حيث إن إسرائيل تمتلكُ مؤسسات دولة قوية ومؤثرة على المستوى العسكري والاقتصادي، بينما يُعاني العديد من الدول العربية من انهيار مؤسسات الدولة أو صراعات داخلية مستمرة؛ لذا فإن هذه الفروق الكبيرة بين الحالتيْن، يجب أن تكون جُزْءًا من النقاش؛ فإسرائيل لا تُعاني من الظروف نفسها التي تشهدها بعض الدول العربية السالف ذكرها.
الخلاصة والتوقُّعات المستقبلية
في ختام المقال، يعرضُ الكاتبُ رُؤْيةً تشاؤميةً لإسرائيل في المستقبل القريب؛ حيث يرى الكاتب، أن إسرائيل على الرَّغْم من قوتها العسكرية، قد تكون قد اجتازت مرحلة “اللاعودة” نحو الاستقرار السياسي الداخلي، وعلى الرَّغْم من أن هذه الرُّؤْية قد تبدو صحيحةً في بعض جوانبها، إلَّا أنها لا تأخذ في الاعتبار، إمكانيات التغيير والتأقلُم التي تمتلكها إسرائيل، خاصَّةً مع إغفال الكاتب انعكاسات فوْز الرئيس الأمريكي الأسبق، دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية، الذي من المتوقع بأن يُقدِّمَ دعمًا أكبر وشاملًا لحكومة نتانياهو.
