تناول مقال منشور في صحيفة التليجراف البريطانية التحديات المعقدة التي تواجهها دول القارة الأوروبية في سعيها لتحقيق استقلال دفاعي عن الولايات المتحدة[1]، فعلى الرغم من تزايُد الأصوات المنادية بضرورة تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية، بعيدًا عن النفوذ الأمريكي، وإعلان بعض الدول الأوروبية عن خطط لزيادة مخصصاتها الدفاعية، إلَّا أن تحقيق استقلال عسكري كامل لا يزال هدفًا بعيد المنال. يرجع ذلك إلى مجموعةٍ من العوامل، أبرزها الفجوة الكبيرة في القدرات العسكرية بين أوروبا والولايات المتحدة، والاعتماد التاريخي للقارة الأوروبية على المظلة الأمنية الأمريكية، فضلًا عن تبايُن الرُّؤى والإستراتيجيات الدفاعية بين الدول الأوروبية نفسها؛ ما يعرقل أيَّ جهْدٍ منسقٍ لتحقيق هذا الهدف.
وصحيفة التليجراف هي واحدةٌ من أعرق الصحف في العالم، وتعرف بتقدميها لتحليلات سياسية مُعمَّقة، لاسيما في مجال العلاقات الدولية
أولًا: العرض العام للمقال
يتناول المقال تساؤلًا رئيسيًّا في سياق التغيرات التي تشهدها السَّاحة السياسية الدولية، وتحديدًا فيما يتعلق بالحرب “الروسية – الأوكرانية”، فمنذ بداية الولاية الرئاسية الجديدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أخذ هذا الملف منعطفًا مختلفًا تمامًا عن النَّهْج الذي كانت تتبعه الإدارة الأمريكية السابقة.
فعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، قادت واشنطن جهود التصعيد العالمي ضد روسيا، سواء على المستوى العسكري، من خلال تزويد أوكرانيا بالأسلحة والمعدات اللازمة؛ لتمكينها من الصمود أمام الجيش الروسي، أو على المستوى الاقتصادي، عبْر فرض عقوبات متتالية تهدف إلى عزْل موسكو عن النظام المالي العالمي، وإجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، كذلك، شهدت العلاقات “الأمريكية – الروسية” قطيعةً دبلوماسيةً شِبْه تامَّة؛ الأمر الذي جعل المكالمة الهاتفية الأخيرة بين ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين – والتي عبّرا خلالها عن رغبتهما في بدْء مرحلة جديدة من المفاوضات لإنهاء الحرب – اختراقًا واضحًا لحالة الجمود التي طغت على العلاقات بين البلدين خلال إدارة بايدن.
وفي ظل هذه التطورات الجديدة، لا يمكن الجزْم، بأن العلاقات بين واشنطن وموسكو ستعود إلى مسارٍ توافقيٍّ، إلا أن هناك مؤشرات واضحة على أن المرحلة القادمة ستشهد تحولات كبيرة في ديناميكيات العلاقة بين الجانبيْن مختلفة تمامًا عن جمود السنوات الماضية، ونتيجةً لذلك، تظهر العديد من التحركات الأوروبية التي تسعى إلى سدِّ الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتحدة إذا ما مضت قدمًا في نهْجٍ تعاونيٍّ مستقبليٍّ مع روسيا، وهو ما قد يلقي بأعباء كبيرة على الحلفاء الأوروبيِّين.
لذلك، فإنه ليس من المستغرب أن تشهد هذه الفترة تصريحات متزايدة من بعض المسؤولين الأوروبيِّين حول استعدادهم لزيادة ميزانياتهم الدفاعية وإرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا للفصْل بين القوات الروسية والأوكرانية؛ في حال التوصُّل إلى اتفاقٍ لإنهاء الحرب، وأمام التحركات الأوروبية الساعية إلى دور عسكري رائد، تبرز العديد من العقبات؛ حيث يشير المقال إلى فرضية أساسية، مفادها؛ أن أوروبا قد تجد صعوبةً كبيرةً في قيادة الجهود العسكرية في أوكرانيا دون دعم أمريكي. بل إن محاولة استبدال الدور الأمريكي بدور أوروبي خالص قد لا تحقق استقلالية إستراتيجية للقارة بقدْر ما قد تترتب عليها نتائج سلبية تؤثر على الأمن الأوروبي، وهذا ما يسعى المقال إلى تناوله.
ثانيًا: العرض التفصيلي للمقال
1- تغيُّر السياق يفرض تغير الإستراتيجيات
يشير المقال إلى أن ما كان يُنظر إليه يومًا ما كمصدر استقرار وترحيب أصبح اليوم يُشكِّلُ تحدِّيًا إستراتيجيًّا يستوجب إعادة التقييم، ويتجلَّى ذلك بوضوحٍ، من خلال الإشارة إلى الفترة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي؛ حيث مثَّلَ انهياره تطورًا إيجابيًّا للغرب؛ من حيث إنهاء حالة الصراع بين المعسكريْن الشرقي والغربي، لكنه في المقابل أدَّى إلى تغييرات غير محسوبة على المدى الطويل، خاصَّةً بالنسبة لأوروبا، فقد أسهم غياب التنافس بين قوتين عظمييْن في خلْق حالة من السلام والاستقرار داخل القارة الأوروبية، لكنه في الوقت ذاته تسبب في تراجع قدراتها الدفاعية؛ حيث لم تعُدْ هناك حاجة ملحّة للحفاظ على جاهزية عسكرية عالية المستوى، ورغم أن القارة شهدت بعض النزاعات المسلحة خلال التسعينيات، مثل حربي البوسنة وكوسوفو؛ ما دفع القوى الأوروبية للتحرُّك عسكريًّا، فإن هذه المواجهات كانت محدودةً، مقارنةً بالصراعات الكبرى التي تتطلب استعدادات إستراتيجية شاملة.
لكن مع اندلاع الحرب “الروسية – الأوكرانية”، عاد احتمال اندلاع صراعات بين القوى الكبرى ليطرح نفسه بقوة، وهو ما فرض على أوروبا إعادة التفكير في إستراتيجياتها الدفاعية؛ حيث لم يعُدْ من الممكن التعويل على الأوضاع الأمنية المستقرة التي سادت بعد انتهاء الحرب الباردة، بل بات من الضروري أن تواكب القارة التحديات الجديدة بقدرات عسكرية متطورة، وتحركات إستراتيجية أكثر فاعلية تتناسب مع طبيعة المرحلة الراهنة، بدلًا من الاعتماد على سياسات دفاعية تقادمت ولم تعُدْ تلائم الواقع الجديد.
2- الدعم الأوروبي مقابل الدعم الأمريكي
قدَّمت أوروبا دعمًا كبيرًا لأوكرانيا على مدار سنوات الحرب الثلاث؛ حيث بلغت المساعدات الأوروبية نحو 62 مليار يورو لتعزيز القدرات العسكرية الأوكرانية، وفقًا لما ورد في المقال، ومع ذلك، رغم أهمية هذه المساعدات، تظل المساعدات الأمريكية ذات ثقل إستراتيجي أكبر وتأثير أعمق على مسار الحرب؛ ما يجعل غيابها أو تراجُعها يُشكِّلُ تحدِّيًا كبيرًا أمام أوروبا، ومن الجدير بالذكر، أن المساعدات الأمريكية لا تقتصر على الدعم المالي والعسكري المباشر لـ”كييف”، بل تمتد إلى أدوات ضغط أكثر فاعلية؛ نظرًا للدور القيادي العالمي الذي تلعبه واشنطن؛ فهي تمتلك القدرة على توجيه المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي؛ لحثِّهِ على تقديم الدعم لأوكرانيا، كما يمكنها ممارسة ضغوط على حلفائها لمنْع أيِّ تعاملات مع روسيا قد تسهم في تقوية موقفها العسكري. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود الولايات المتحدة كطرفٍ فاعلٍ في هذا الصراع يمنح أوكرانيا ثقلًا دبلوماسيًّا أكبر على السَّاحة الدولية؛ حيث يضمن لها دعمًا سياسيًّا مستمرًا في المؤسسات الأممية، مثل الأمم المتحدة وحلف الناتو.
ونتيجة لذلك، فإن أيَّ مقارنةٍ بين المساعدات الأمريكية والأوروبية تميل بوضوحٍ لصالح واشنطن، حتى لو رفعت أوروبا إنفاقها العسكري ووسعت نطاق مساعداتها لكييف، ستظل هناك فجوة كبيرة في التأثير؛ نظرًا لافتقار أوروبا إلى النفوذ الجيوسياسي الذي تتمتع به الولايات المتحدة.
لذا يمكن القول: إن مجرد التفكير في أن تتولَّى أوروبا بمفردها ملف الدفاع عن أوكرانيا، دون غطاء أمريكي، سيحمل انعكاسات سلبية متعددة، فمن الناحية العسكرية، قد تجد الدول الأوروبية صعوبةً في تقديم دعم مستدام بالكفاءة نفسها، خاصَّةً في ظل تباين سياساتها الدفاعية.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن مواجهة روسيا دون الدعم الأمريكي قد تؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية الأوروبية، لا سيما مع استمرار ارتفاع تكاليف الطاقة والتضخُّم.
وسياسيًا، قد يؤدي غياب واشنطن إلى زيادة الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، حول كيفية إدارة الأزمة؛ ما قد يضعف التماسك الأوروبي في مواجهة موسكو.
3-التحديات الدفاعية الأوروبية في غياب الدعم الأمريكي
يشير المقال إلى أن الدفاعات الأوروبية ستواجه صعوبات كبيرة؛ في حال غياب الدعم الأمريكي؛ حيث لا تزال تعتمد أوروبا بشكلٍ مُكثَّفٍ على واشنطن في العديد من الجوانب العسكرية الرئيسية، وإذا أرادت أوروبا الاعتماد على نفسها بالكامل في هذا الملف، فإن الأمر لن يكون مُجرَّد قرار سياسي، بل سيتطلب سنوات طويلة من الإعداد والتجهيز لسدِّ الفجوات التي يملؤها الوجود الأمريكي.
ويوضح المقال، أنه لا تزال القدرات العسكرية الأوروبية غير مُهيَّأَةٍ لخوْض صراعات طويلة الأمد؛ إذ تعاني القارة من قصورٍ واضحٍ في الإنتاج العسكري؛ ما انعكس في فشل الاتحاد الأوروبي في تحقيق التزاماته، مِثْل تعهُّده بتقديم مليون قذيفة مدفعية لأوكرانيا خلال العام الماضي، قبْل أن يضطر إلى البحث في مخزونات الدول السابقة في حلف وارسو لتعويض النقص، علاوة على ذلك، فإن أوروبا لا تزال غير قادرة على الاستغناء عن واشنطن في العديد من المجالات العسكرية الحيوية، مثل القيادة والسيطرة، الاستطلاع والمراقبة، الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، وإعادة التزود بالوقود جوًّا، وهذه الجوانب ليست تفصيلات ثانوية، بل هي أسس ضرورية لأي تحرُّك عسكري فعَّال؛ ما يجعل الحديث عن استقلال عسكري أوروبي مجرد طموح بعيد المنال في الوقت الحالي.
4-اختلاف وجهات نظر دول القارة
تبرز مشكلة جوهرية عند الحديث عن رغبة أوروبا في إعادة هيكلة قوتها العسكرية، وزيادة مخصصاتها الدفاعية، والاضطلاع بدور إستراتيجي أكثر استقلالًا عن القرار الأمريكي. وتتمثل هذه المشكلة في أن دول القارة لا تتبنَّى رؤيةً مُوحَّدةً تجاه قضايا الدفاع والأمن؛ ما يعقّد المشهد ويجهض أيَّ محاولة لتعزيز الدور العسكري الأوروبي المشترك، ونتيجة لذلك، يصبح الحديث عن تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية أقرب ما يكون إلى توجُّهات فردية تصدر عن بعض المسؤولين الأوروبيِّين تعكس وجهة نظر دولهم، أكثر من كوْنها مشروعًا أوروبيًّا موحدًا يحظى بإجماع القارة.
ويتجسَّد هذا الاختلاف بوضوحٍ في تباين مواقف زعماء أوروبا، فعلى سبيل المثال، تدعو فرنسا إلى إنشاء “مظلة نووية أوروبية” تتيح للقارة هامشًا من الاستقلال عن الحماية الأمريكية، بينما تتبنَّى دول أخرى، مثل إيطاليا وألمانيا، رؤى مغايرة، وتزداد حِدَّة هذا التفاوت مع صعود اليمين في أوروبا؛ حيث تركز بعض الحكومات الأوروبية، مثل إيطاليا، على قضايا أخرى كالهجرة غير الشرعية والانكفاء على القضايا الداخلية، بدلًا من الاندماج في تحالفات أمنية إقليمية أو عالمية، وهذا التباين في الأولويات يضعف بدوره فرص التوصُّل إلى موقفٍ أوروبيٍّ مُوحَّدٍ بشأن تعزيز القدرات العسكرية للقارة، كما أن بعض الدول، مثل بولندا ودول البلطيق، لا تزال ترى في الدور الأمريكي في أوروبا عنصرًا حاسمًا في أمنها القومي، وترفض أيَّ خطوات قد تعني تقليل الالتزام الأمريكي تجاه القارة.
ويعني هذا التباين، أن الحديث عن إنشاء قوة دفاعية أوروبية مُوحَّدة يظل أمرًا نظريًّا أكثر منه مشروعًا قابلًا للتطبيق في الوقت الراهن، فبدون توافق سياسي بين العواصم الأوروبية الكبرى، ووضوح في الرُّؤية حول شكْل ومهام هذه القوة، تظل الجهود المبذولة لتعزيز الاستقلال العسكري الأوروبي مجرد مبادرات متفرقة تفتقر إلى الإطار المؤسسي الذي يضمن استدامتها وفعاليتها.
ثالثًا: النقد التحليلي للمقال
أولًا: نقاط القوة
1- الاستدعاء التاريخي كأداة تحليلة
اعتمد المقال على استدعاء محطَّات تاريخية مفصلية، مثل انهيار الاتحاد السوفيتي؛ لتوضيح التحوُّلات الكبرى التي أثَّرت على الواقع الدفاعي الأوروبي، فقد أشار إلى أن تفكُّك الاتحاد السوفيتي لم يكن مجرد حدث سياسي، بل كان إيذانًا بانتهاء الحرب الباردة، التي أدَّت إلى حالة من عدم الاستقرار في عدة مناطق حول العالم.
إن هذا التحليل التاريخي كان عنصرًا داعمًا لطرح المقال؛ حيث أبرز كيف أن نهاية الحرب الباردة ساهمت بشكلٍ غير مباشر في تآكل القدرات الدفاعية الأوروبية، فمع زوال التهديد السوفيتي المباشر، تراجع التركيز الأوروبي على الإنفاق العسكري، وبدأت العديد من الدول الأوروبية في تقليص جيوشها وتخفيف الاعتماد على التصنيع العسكري، كما أن استخدام هذه الخلفية التاريخية منح المقال بُعْدًا أعمق، وساعد في تفسير الجذور المتعلقة بالضعف الدفاعي الأوروبي الحالي؛ ما جعله تحليلًا أكثر شمولًا وارتباطًا بالسياق الجيوسياسي الأوسع.
2- واقعية التحليل في تقييم القدرات الدفاعية الأوروبية
اتسم المقال بقدْرٍ كبيرٍ من الواقعية في تحليله للفجوة العسكرية بين أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث لم يكتفِ بالإشارة إلى تفوق واشنطن العسكري، بل قدَّم تصورًا عامًّا عن حاجة أوروبا إلى وقتٍ طويلٍ من التحضير والإعداد وتعبئة الموارد؛ للوصول إلى قدرات دفاعية مستقلة.
ومع ذلك، كان من الأفضل أن يستند هذا الطَّرْح إلى إحصائيات دقيقة أو دراسات تحليلية، تحدد بشكل أكثر وضوحًا، الإطار الزمني اللازم لتحقيق هذا الهدف. فبدون أرقام تدعم الاستنتاجات، قد يبدو التقييم عامًّا أو غير محدد؛ ما يقلل من قوة الحجة المطروحة..
3- تباين الإستراتيجيات الدفاعية داخل أوروبا
كان من أحد الجوانب التي نجح المقال في تسليط الضوء عليها هو اختلاف إستراتيجيات الدفاع بين الدول الأوروبية؛ حيث لا تتبنَّى جميع الدول النهج نفسه، فيما يتعلق بتعزيز قدراتها العسكرية، فبينما تسعى بعض الدول، مثل فرنسا، إلى تطوير قدراتها الدفاعية ضمن إطارٍ أوروبيٍّ مشتركٍ، نجد أن دولًا أخرى، مثل بولندا ودول البلطيق، تميل إلى الاعتماد بشكلٍ أكبر على التحالف مع الولايات المتحدة كضامن رئيسي لأمنها.
وهذا الاختلاف في التوجُّهات يعكس التباين في المصالح الوطنية والمخاوف الأمنية لكل دولة، فالدول القريبة من روسيا، ترى أن تعزيز التعاون مع واشنطن أكثر فاعلية من بناء منظومة دفاعية أوروبية مستقلة، بينما تسعى القوى الكبرى في أوروبا إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وتعزيز السيادة الدفاعية الأوروبية.
ثانيًا: نقاط الضعف
1- التقليل من القدرات العسكرية الأوروبية
على الرغم من الثقل الإستراتيجي للولايات المتحدة كحليف رئيسي لأوروبا، فإن ثمَّةَ تجاهُلًا للإمكانيات العسكرية والتقنية التي تمتلكها القارة الأوروبية قد تضمنها المقال؛ حيث ظهر وجود مبالغة في إبراز الفجوة العسكرية بين الجانبيْن، دون الإشارة إلى قدرة أوروبا على تعزيز دفاعاتها، وفي هذا السياق، يمكن القول: إن امتلاك أوروبا لتكنولوجيا متقدمة واقتصادات قوية، يمنحها بطبيعة الحال، الأساس اللازم لتطوير قدراتها الدفاعية بشكلٍ مستقلٍ؛ إن أرادت، علاوةً على ذلك، فإن توجُّه بعض الدول الأوروبية نحو زيادة مخصصاتها الدفاعية سيدعم تحقيق هذا الهدف، وهو بمثابة عاملٍ محوريٍّ في نجاح الأهداف الدفاعية الأوروبية على المدى الطويل.
2- إغفال الدور الأوروبي في دعم أوكرانيا
على مدار السنوات الثلاث الماضية، تمكَّنت أوكرانيا من الصمود أمام الجيش الروسي، رغم الفجوة الكبيرة في الإمكانيات العسكرية بين الجانبين. فمن حيث القدرات القتالية والتفوق التكنولوجي وامتلاك جيش ضخم، تميل الكفة بوضوح لصالح موسكو، وهو ما كان يُفترض أن يمنحها تفوُّقًا ساحقًا في ساحة المعركة، ومع ذلك، فإن استمرار أوكرانيا في الدفاع عن أراضيها وعدم انهيار جبهاتها بالكامل يعود إلى عوامل عدة، من أبرزها الدعم العسكري والاقتصادي الذي قدَّمه الغرب، والذي لم يقتصر على الولايات المتحدة وحدها.
ففي الوقت الذي يُنظر فيه إلى المساعدات الأمريكية على أنها العامل الأكثر حسْمًا في تعزيز قدرة أوكرانيا على المقاومة، فإن الدور الأوروبي في هذا الصدد كان لا يقلُّ أهميةً؛ إذ أسهمت العواصم الأوروبية، سواء من خلال إمدادات الأسلحة أو الدعم المالي، في تمكين “كييف” من الاستمرار في مواجهة روسيا، وقد شكل هذا الدعم الأوروبي ركيزة أساسية موازية للجهود الأمريكية؛ حيث لم يكن مجرد عنصر تكميلي، بل لعب دورًا جوهريًّا في إطالة أمد الصراع ومنع سقوط أوكرانيا بشكلٍ سريعٍ، ورغم ذلك، فإن المقال يغفل هذا البُعْد إلى حدٍّ كبيرٍ، مكتفيًا بإبراز الدور الأمريكي باعتباره العامل الرئيسي في مسار الحرب، متجاهلًا أن أوروبا كانت أيضًا طرفًا فاعلًا لا يمكن التقليل من تأثيره.
3- غياب الإحصائيات والدراسات التقديرية
رغم أن المقال ركَّز بشكل كبير على إبراز الفجوة العسكرية بين أوروبا والولايات المتحدة، إلا أنه افتقر إلى إسناد استنتاجاته بإحصائيات دقيقة أو دراسات تقديرية توضح حجم هذه الفجوة بشكل رقمي، فقد أشار المقال إلى أن أوروبا بحاجة إلى سنوات طويلة من الإعداد والتعبئة للوصول إلى شكلٍ دفاعيٍّ مستقلٍ، إلا أنه لم يقدم تقديرات زمنية واضحة أو بيانات تستند إلى دراسات موثوقة لتحديد الفترة الزمنية اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
فمن خلال استناد المقال إلى تقارير صادرة عن مراكز أبحاث أو مؤسسات متخصصة في الشؤون الدفاعية لتحديد مدى احتياج أوروبا لتطوير قدراتها العسكرية، كان سيضفي مصداقية أكبر على التحليل، ويمنح القارئ تصوُّرًا أوضح عن المدى الزمني الذي تحتاجه أوروبا لتحقيق استقلاليتها الدفاعية.
إجمالًا:
بشكلٍ عامٍ، قدَّمت المقالة تحليلًا واقعيًّا يستند إلى حقيقة محورية، وهي الأهمية الحاسمة للدور الأمريكي في حسْم أي صراع داخل القارة الأوروبية، لا سيما الحرب “الروسية – الأوكرانية”، ولعل الانفراجة الأخيرة في العلاقات بين موسكو وكييف لم تكن لتتحقق دون ضوء أخضر من واشنطن، وهو ما تجاوبت معه روسيا بشكلٍ واضحٍ، دون أن يكون هناك إشراكٌ ملموسٌ لأوروبا في هذا المسار.
ورغم أن المقال لم يستند إلى أرقام أو إحصائيات تدعم تفوق الولايات المتحدة وصعوبة تحقيق استقلال دفاعي أوروبي كامل، إلَّا أن ذلك لا ينتقص من وجاهة الطرح الأساسي، الذي يبرز اعتماد أوروبا العميق على المظلة الأمنية الأمريكية، كما أن غياب الأرقام لم يؤثر بشكلٍ جوهريٍّ على قوة المقال؛ إذ ظل تحليله متماسكًا في تأكيده على الفجوة العسكرية بين الجانبيْن، وعلى الدور المحوري للولايات المتحدة في أي معادلة دفاعية تخُصُّ القارة الأوروبية في الفترة القادمة.
