أستاذ القانون الدولي العام وعضو الهيئة الاستشارية في مركز شاف
اثار فوز دونالد ترامب في انتخابات نوفمبر 2024 العديد من التساؤلات حول أسباب عودته القوية للمشهد السياسي، خاصة بعد فترة من التحديات السياسية والقانونية التي واجهها. في حين كانت الولايات المتحدة تمر بتحولات سياسية واجتماعية عميقة، جاء فوز ترامب ليعكس مزيجاً من العوامل الداخلية والتغيرات العالمية، ويؤكد قدرة ترامب على استغلال هذه الظروف لصالحه.
1. الوضع الاقتصادي والتضخم
على مدار السنوات الأخيرة، شهدت الولايات المتحدة ارتفاعًا في مستويات التضخم، مما أثر على مستويات المعيشة وزاد من عبء التكاليف على الأسر.
ورغم الجهود التي بذلتها إدارة بايدن في التعامل مع الأزمة الاقتصادية، بما في ذلك حزم التحفيز المالي وبرامج الدعم للمواطنين والشركات المتضررة من جائحة كورونا، إلا أن العديد من الأمريكيين شعروا أن السياسات المتبعة لم تكن كافية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. مع ارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار في السلع الأساسية مثل الغذاء والطاقة، كانت الفجوة بين الأجور والتكاليف تزداد، مما أثر على القدرة الشرائية للمواطنين. هذا الشعور بالإحباط الاقتصادي دفع العديد من الناخبين إلى اعتبار أن إدارة بايدن لم تتمكن من تقديم حلول ملموسة وفعّالة لمعالجة هذه القضايا، ما ساهم في تزايد الاستياء العام.
بالإضافة إلى ذلك، و رغم أن الحكومة الفيدرالية قد قامت بتوفير حوافز مالية، إلا أن بعض الأمريكيين شعروا أن هذه الإجراءات لم تكن كافية لمعالجة التحديات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد الأمريكي، مثل مشاكل سلسلة الإمداد، وارتفاع أسعار العقارات، والبطالة في بعض القطاعات. هذه العوامل كلها ساهمت في تعزيز القناعة لدى البعض بأن التغيير السياسي قد يكون هو الحل، وهو ما استغله ترامب في حملته الانتخابية لتقديم نفسه كبديل قادر على إعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح.
استغل ترامب هذا الشعور العام بالاستياء، مروجًا لخططه لخفض التضخم والضرائب وتعزيز النمو الاقتصادي، فركز خطاب ترامب في حملته على إعادة هيكلة الاقتصاد الأمريكي من خلال خفض الضرائب، وتقديم حوافز للشركات، وتقليل القيود التنظيمية، بهدف تحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة. وقد لاقت هذه الوعود استحسانًا كبيرًا من الناخبين، خاصةً أولئك الذين تأثروا سلبًا من التضخم وارتفاع الأسعار.
ترامب قدم نفسه كزعيم قادر على تحسين الظروف الاقتصادية بشكل ملموس، مما جذب شريحة واسعة من المواطنين القلقين بشأن قدرتهم على تحمل تكاليف الحياة اليومية. هذا الخطاب الشعبوي حول الاقتصاد لعب دورًا كبيرًا في استقطاب الدعم له خلال الانتخابات، خاصة بين الطبقات العاملة والمناطق الريفية.
2. الأمن والهجرة
لطالما كانت قضية الأمن الداخلي والهجرة محورًا رئيسيًا في سياسات ترامب. في حملته الانتخابية لعام 2024، أعاد التركيز على ضرورة تعزيز الأمن على الحدود والسيطرة على تدفقات المهاجرين غير الشرعيين، مما أكسبه دعمًا واسعًا من الناخبين المحافظين وسكان الولايات الحدودية.
ورغم أن بايدن اتبع سياسات تتعلق بالهجرة تستهدف موازنة الإنسانية والأمن، إلا أن ترامب استغل هذه القضية بوعده بتطبيق تدابير أكثر صرامة وفعالية ،هذه الوعود جاءت في وقت شهدت فيه البلاد زيادة في جرائم السلاح والاضطرابات الداخلية، ما عزز من شعبية ترامب باعتباره رجلًا قادرًا على فرض النظام.
3. عدم الرضا عن سياسات بايدن الخارجية
اعتمدت إدارة بايدن سياسة خارجية تراعي الدبلوماسية والتحالفات التقليدية، لكنها لم تكن محصنة من الانتقادات، خاصة فيما يتعلق بأفغانستان والعلاقات مع الصين وروسيا. انتقد ترامب هذه السياسات ووصفها بالضعف، متعهدًا بتبني سياسة أكثر حزمًا تجاه خصوم أمريكا وتعزيز موقف البلاد على الساحة الدولية.
رسائل ترامب في حملته الانتخابية لعام 2024 كانت موجهة بشكل واضح إلى الناخبين الذين يشعرون بالحاجة إلى زعيم قوي قادر على استعادة مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية. خلال فترة رئاسته السابقة، كان ترامب يروج لسياسة “أمريكا أولاً”، التي ركزت على تعزيز المصالح الوطنية، وتحقيق التفوق الاقتصادي، وحماية الأمن القومي. هذه الرسائل جذبت شريحة واسعة من الناخبين الذين يرون أن الولايات المتحدة قد فقدت جزءًا من قوتها ونفوذها على الساحة العالمية تحت إدارة بايدن.
أشار ترامب إلى ضرورة اتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه خصوم مثل الصين وروسيا، كما سعى لتقليل التدخلات العسكرية الأمريكية في مناطق النزاع بعيدا عن المصالح المباشرة للبلاد ،وعزز خطابه من خلال التأكيد على فكرة أن الولايات المتحدة يجب أن تتبنى سياسات أكثر استقلالية وتحفظًا في العلاقات الدولية، مع التركيز على تعزيز الاقتصاد الوطني.
هذه الرسائل لاقت صدى لدى العديد من الأمريكيين، الذين شعروا بأن مواقف ترامب من قضايا الأمن الدولي والتجارة ستحقق مصالح الولايات المتحدة وتعزز قوتها على المسرح العالمي ،كما أن وعده بإعادة الهيبة الأمريكية في السياسة الخارجية جعل منه رمزًا للثقة والقوة في أعين مؤيديه.
4. الشعبوية و”استعادة أمريكا”
رغم محاولات الديمقراطيين الحد من نفوذ ترامب، إلا أنه احتفظ بقاعدة شعبية كبيرة، لا سيما بين البيض من الطبقة العاملة والمناطق الريفية. هذا الدعم يعود إلى أسلوبه الشعبوي المباشر الذي يلامس مشاعر الأمريكيين العاديين ويخاطب مخاوفهم بطرق بسيطة ومؤثرة.
لاقت رسائل ترامب الشعبوية التي تنتقد النخب السياسية وتدعو إلى “استعادة أمريكا” صدى واسعًا بين الناخبين الذين يشعرون بالإحباط من النظام السياسي التقليدي. هؤلاء الناخبون، خاصة في المناطق الريفية والطبقات العاملة، يرون أن السياسات التي تتبعها النخب السياسية في واشنطن لم تحقق لهم أي تقدم أو تحسن في حياتهم اليومية. كانوا يشعرون أن اهتماماتهم ومشاكلهم تُتجاهل، وأن القرارات السياسية تُتخذ بعيدًا عن احتياجاتهم الحقيقية. ترامب قدم نفسه كمناهض لهذا النظام، ونجح في تصوير نفسه كصوت الشعب الذي يدافع عن مصالح الأمريكيين العاديين، ما جعله شخصية محورية في حملته الانتخابية.
5. الأزمات الثقافية والانقسام الاجتماعي
في السنوات الأخيرة، تعمقت الانقسامات الاجتماعية والثقافية داخل الولايات المتحدة، سواء حول قضايا الهوية أو حقوق الأقليات أو التعليم أو القيم الثقافية. ركز ترامب على هذه الانقسامات، منتقدًا ما أسماه “الليبرالية المتطرفة” ومعارضًا ما اعتبره سياسات تفرض على المجتمع قيمًا جديدة. هذه الاستراتيجية جعلت منه رمزًا للمعارضة المحافظة لهذه التحولات، وكسب بذلك دعمًا كبيرًا بين الناخبين المحافظين الذين يرون فيه زعيمًا قادرًا على حماية القيم التقليدية الأمريكية.
6. القضايا القانونية والإعلام
رغم مواجهته لقضايا قانونية متعددة، إلا أن ترامب استخدم هذه القضايا لصالحه، مقدّمًا نفسه كضحية لـ”مطاردة سياسية” من قبل النخب والمؤسسات الإعلامية. هذا النهج ساعده في الحفاظ على صورته كـ”مقاتل ضد الفساد والنخب”، ما أكسبه دعمًا متزايدًا من الناخبين الذين يشعرون بأن النظام القانوني والإعلامي منحاز. أسلوب ترامب في مهاجمة وسائل الإعلام واستخدام المنصات الاجتماعية جعل منه شخصية مقاومة للمؤسسة، وهذا أسهم في جذب شريحة من الأمريكيين الذين يرون في الإعلام التقليدي خصمًا لأفكارهم ومعتقداتهم.
7. فعالية حملته الانتخابية واستخدام التكنولوجيا
لعبت حملة ترامب الانتخابية دورًا محوريًا في عودته القوية. اعتمدت الحملة على تقنيات حديثة لجمع وتحليل البيانات، واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الناخبين بطرق مبتكرة وفعالة. فريقه الانتخابي ركز على مخاطبة القضايا المحلية واستهداف الناخبين في الولايات المتأرجحة بوعود واقعية تتعلق بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. استغلاله المتقن للإعلام الرقمي ساعده في توسيع قاعدته الجماهيرية وجعل رسائله أكثر وصولاً وتأثيرًا.
8. رفض الناخبين للسياسات التقليدية
أظهر فوز ترامب في انتخابات 2024 رغبة العديد من الأمريكيين في الخروج من نمط السياسة التقليدي، وتجربة نهج غير مألوف لمواجهة التحديات. الناخبون الذين اختاروا ترامب قد يكونون قد رأوا في السياسات التقليدية فشلًا في تحقيق تقدم ملموس، وشعروا بأن قيادة جديدة تمثل تغييرًا جذريًا قد تكون الحل الأمثل لمشاكل البلاد، فاستطاع ترامب استقطاب هؤلاء الناخبين بوعوده الجريئة وخطابه المفعم بالتحدي.
خاتمة
جاء فوز ترامب في انتخابات نوفمبر 2024 نتيجة لعوامل متعددة، أبرزها التوترات الاقتصادية والاجتماعية، القضايا الأمنية، والنفور من السياسات التقليدية، بالإضافة إلى شخصيته الشعبوية وقدرته على استغلال الأحداث والقضايا لصالحه. هذا الفوز يمثل استمرارًا للانقسام في المشهد السياسي الأمريكي، ويعكس رغبة جزء من الشعب الأمريكي في تبني قيادة تعكس طموحاتهم ومخاوفهم، وإن كان ذلك عبر شخصية مثيرة للجدل كالتي يمثلها ترامب.
