عودة فرنسية عسكرية لأفريقيا: إستراتيجية جديدة لاستعادة وزنها الدولي

إعداد: دينا لملوم

منسق وحدة الشؤون الأفريقية

شهدت فرنسا سلسلة من الانهزامات المتكررة في أفريقيا، لا سيما منطقة الغرب، حيث سحبت قواتها في العديد من هذه الدول، ولكن سرعان ما عادت مرة أخرى، تارة تتخذ بوابة الاستثمار والاقتصاد وتنويع الشركات كمدخل لها، وتارة تستغل حالة التراجع النسبي للنفوذ الأمريكي، مع تزايد أنشطة وتوغل روسيا في المنطقة، ومن هذا المنطلق وجدت باريس الفرصة سانحة لإعادة تموضعها في القارة السمراء، وهو ما ظهر في التعزيزات العسكرية مع كوت ديفوار، ومحاولة إثبات حضورها في المشهد الليبي؛ لاتخاذها بوابة نحو أفريقيا وموازنة النفوذ التركي والروسي، حيث ترى الدولتان في ليبيا امتداد لتأثيرهما الإقليمي.

اتفاق تعاون عسكري فرنسي مع كوت ديفوار

استكمالاً لجهود الشراكة العسكرية بين فرنسا وكوت ديفوار، انطلقت مناورات عسكرية في منطقة سان بيدرو جنوب غرب البلاد ٩ مارس ٢٠٢٥، ومن المقرر مواصلتها حتى ١٣ من الشهر ذاته، ويُحتمل أن تستمر خلال السنوات المقبلة في إطار التعاون الدفاعي المستمر بين البلدين، ووفقاً لما صرحت به وزارة الدفاع الإيفوارية، فإن هذه التدريبات تهدف إلى رفع مستوى الجاهزية القتالية للقوات المسلحة عبر محاكاة عمليات الإنزال البرمائي، والهجمات المضادة، فضلاً عن تأمين المناطق الساحلية من الهجمات الإرهابية والتسلل البحري، وتندرج هذه المناورات ضمن برنامج تدريبي طويل الأمد بين الجيشين الفرنسي والإيفواري.

أهداف مشتركة

في ظل التراجع العسكري الذي شهدته باريس بعد انسحابها من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وجدت أن تعزيز علاقاتها العسكرية مع الدول الأفريقية التي مازالت تربطهما علاقات قوية مثل كوت ديفوار، يضمن لها -حسب تصورها- تحقيق استقرارها الإقليمي ومصالحها الاستراتيجية، وأن تصبح ضمن فواعل المعادلة الأمنية في المنطقة؛ لهذا تعكس التدريبات التي تُجريها في أبيدجان استراتيجيتها الجديدة ومخطط العودة عسكرياً إلى أفريقيا.^[1]

تسليم القاعدة العسكرية الفرنسية إلى أبيدجان

لقد سبق اتفاق التعاون العسكري بين الجانبين الإيفواري والفرنسي قيام الأخير بتسليم القاعدة العسكرية بورت بوي الواقعة قرب أبيدجان ٢٠ فبراير الماضي، وذلك بحضور وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو ونظيره الإيفواري تيني إبراهيما واتارا، ووقع الطرفان وثيقة تنهي الوجود الفرنسي في القاعدة رسمياً، إلا أن لوكورنو أشار إلى أن باريس لن تغادر أبيدجان بشكل نهائي، فسيبقى ٨٠ جندي في القاعدة، وحينها أكد واتارا مواصلة التعاون بين البلدين بصفة عسكرية، وأن فرنسا ستظل شريكاً في مجالات التدريب العسكري والاستخبارات ومكافحة الإرهاب.^[2]

وبالنظر إلى تقديرات هذا الموقف، يلُاحظ أن ماكرون سعى لتغيير الاستراتيجية الاستعمارية السابقة، حيث التدخل العسكري المباشر، واتخاذ بوابة التدريب والدعم العسكري لمجابهة الإرهاب والتهديدات التي تمس دولة ككوت ديفوار ذريعة لترسيخ النفوذ الفرنسي في المنطقة، في ظل تقليص أعداد الجنود؛ لتثبت بذلك أهداف معلنة، ألا وهي مساندة الدولة أمنياً، ولكن في الواقع ثمة أهداف دفينة، تكمن في استعادة الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية.

مساعي الحصول على قاعدة عسكرية في الجنوب الليبي

بعد أن فقدت باريس مواقعها في مالي وتشاد ومناطق أفريقية أخرى، سعت لإيجاد موطيء قدم لها في ليبيا؛ لذلك تحاول التواجد في قاعدة “الويغ الجوية” في أقصى الجنوب الليبي على الحدود مع تشاد والنيجر^[3]؛ لموازنة النفوذ الروسي في المنطقة من جهة، ومن جهة أخرى التواجد عند المدخل الجنوبي لأفريقيا، وتسهيل عملية الاختراق الفرنسي للمنطقة ونشر تعزيزات لها، بذريعة مكافحة الإرهاب والأنشطة الإجرامية، وربما إعادة وضعها في دول الساحل والصحراء واستعادة نفوذها المتراجع في مجموعة إيكواس، التي كانت تتخذها كستار لتحريك عملياتها المختلفة في غرب أفريقيا.

تدخل ماكرون للإفراج عن معارض نيجري

خلال زيارة أجراها المشير خليفة حفتر إلى فرنسا ٢٦ فبراير المنصرم، تدخل الرئيس الفرنسي ماكرون لطلب الإفراج عن زعيم المعارضة النيجري محمود صلاح وعدم تسليمه للمجلس العسكري في نيامي، وهو الأمر الذي لباه حفتر، وقد أسس صلاح الجبهة الوطنية للتحرير التي ضمت مقاتلين من جماعات مختلفة بعضهم من أنصار النظام السابق وآخرون من جماعات منشقة عن الجيش، واستطاعت هذه الجبهة تنفيذ العديد من العمليات العسكرية ضد القوات النظامية.

 ووفقًا لتقارير فإن محمود كان يخطط لإعادة تنظيم صفوفه في طرابلس؛ مستغلاً حالة الفوضى الأمنية في البلاد، ويشير توسط ماكرون للإفراج عنه إلى أنه قد يكون ورقة رابحة لدى الإليزيه، يتمكن من خلالها اختراق الداخل الأفريقي عبر النيجر، والتواطؤ بينهما لإحداث حالة فراغ أمني تستفيد منها باريس للتوغل بقوة، أي توظيف سياسة “فرق تسُد”، وقد تعمل على إعادة ترتيب الأوراق وتحريض هذا المُعارض على الانقلاب على السلطة في نيامي، وربما تمكينه من الوصول إلى الحكم بعد ذلك؛ لتطويعه وتوظيفه لتحقيق أهدافها نحو انطلاقة جديدة بأفريقيا.

دلالات هامة

تأتي محاولات الإليزيه لاستعادة إمبراطوريته الاستعمارية في وقت يشهد تراجع أمريكي في القارة، حيث وقف المساعدات الإنسانية للعديد من الدول، وتقديم خدمات مشروطة، بمعنى دعم وتعزيز الأمن والاستقرار مقابل المعدن، وهو ما اتضح في اتفاق المعادن مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، ففي الوقت الذي تشهد فيه الأخيرة اضطرابات أمنية واسعة، تدخلت واشنطن لعقد اتفاقية للاستحواذ على معادن كينشاسا نظير المساعدة في تدريب وتجهيز القوات المسلحة الكونغولية.

هل تستعيد فرنسا نفوذها مرة أخرى في أفريقيا؟

المسار الأول

سيناريو العودة العسكرية: تدفع التطورات الحالية بباريس نحو مخطط العودة العسكرية، وفقاً لاستراتيجية ماكرون الجديدة في أفريقيا ومراجعة سياستها الاستعمارية السابقة، يغذيها رغبات التعاون بينها وبين بعض الدول الأفريقية، لا سيما التي تعاني من توترات أمنية وهجمات إرهابية، فتعول على القوات الفرنسية في ضمان تحقيق الأمن وردع هذه الحركات المتطرفة، وإن كانت فرنسا أثبتت تراجع سياستها في المنطقة، إلا أنها حققت نجاحات لا بأس بها في هذا الميدان، وهذا السيناريو مرجح بشكل كبير في ظل المعطيات الراهنة.

المسار الثاني

سيناريو العودة المشروطة: قد تتمكن فرنسا من استعادة نفوذها، ولكن ربما من بوابة الاقتصاد والاستثمار وعقد شراكات مع دول أفريقية جديدة بخلاف التي فشلت فيها، بخاصة وأن الشعوب الأفريقية أصبحت أكثر وعياً عن السابق، وباتت تطالب بالتحرر وعدم الرضوخ لأية قوة استعمارية من شأنها استغلال موارد بلادهم ومقدراتهم، دون تقديم مساعدة ملموسة، وهذا السيناريو مرجح تحققه بشكل نسبي.

المسار الثالث

سيناريو الانحسار: قد تفشل مساعي باريس للعودة إلى أفريقيا ثانيةً، خاصة وأنها لم تعد شريك مقبول لدى أغلب دول القارة، مع تصاعد قوى دولية أخرى باتت تحل محلها، كروسيا وتركيا وغيرها، بالأخص حال تمكن هذه القوى من تحقيق نجاحات ملموسة تُرضي الشارع الأفريقي، ولكن هذه الفرضية مستبعدة إلى حد ما في ظل حالة الإصرار من جانب ماكرون على استعادة تأثير بلاده والتواجد بقوة في القارة؛ ليصبح ضمن دائرة التفاعلات الدولية في المنطقة.

ختامًا

في وقت تشهد فيه أفريقيا إعادة تشكيل هيكل النفوذ الدولي، نهضت باريس للعودة مرة أخرى إلى القارة واستعادة درعها العسكري، وقد يساعدها على ذلك التراجع النسبي للوجود الأمريكي في القارة، ويفترض خلال الفترة القادمة أن يُكثف الإليزيه من مساعيه لتعزيز التعاون مع دول أفريقيا المختلفة، حيث الاستفادة من تجارب الماضي وتنويع الشركاء، وربما تتعثر مساعي العودة العسكرية وتقتصر على الشراكة الاقتصادية فحسب.

المصادر:

^[1] فرنسا وكوت ديفوار تعززان التعاون العسكري عبر مناورات واسعة، الجزيرة، ١١ مارس ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/rn2v2b

^[2] فرنسا تسلم قاعدة عسكرية في ساحل العاج للسلطات المحلية، ار تي، ٢٠ فبراير ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/smqf67

^[3] فرنسا – ليبيا: ما هي أبرز محاور لقاء ماكرون وحفتر في باريس؟، فرنسا ٢٤، ٢٧ فبراير ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/coset