المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الدراسات التركية > فرصُ وتحدياتُ عودة التقارب بين تركيا والاتحاد الأوروبي عبر مسار “العضوية التدريجية”
فرصُ وتحدياتُ عودة التقارب بين تركيا والاتحاد الأوروبي عبر مسار “العضوية التدريجية”
- نوفمبر 2, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الدراسات التركية
لا توجد تعليقات

إعداد أحمد محمد فهمي
منسق برنامج دراسات الدول التركية
مقدمة
تشهدُ العلاقاتُ بين تركيا والاتحاد الأوروبي خلال الفترة الراهنة بوادرَ تقاربٍ متجددٍ، بعد سنواتٍ من الجمود والتوتر السياسي والمؤسسي. وفي هذا السياق، برزت فكرة “العضوية التدريجية” باعتبارها مسارًا واقعيًا محتملاً لإعادة تنشيط ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بما يسمح بتجاوز العوائقِ المزمنةِ التي حالت دون تقدّم المفاوضاتِ منذ عقود.
تتزامن هذه التطورات مع جملةٍ من التحولات الجيوسياسية، في مقدمتها تداعياتُ الحربِ الأوكرانية على الأمن الأوروبي، والتي أدّت إلى إعادة تقييمٍ متبادلٍ لحدود المصالح المشتركة بين الجانبين، وإلى بروز إدراكٍ أوروبيٍ متزايدٍ بأن تركيا شريكٌ لا يمكن الاستغناء عنه في ملفات الطاقة، والأمن الإقليمي، والهجرة، والاستقرار الجيوسياسي، وبات خيار تهميش أنقرة أو عزلْها غير قابلٍ للتطبيق ضمن المعادلة الراهنة.
في المقابل، تؤكد أنقرة أن الانضمام الكامل للاتحاد الأوروبي ما يزال هدفًا استراتيجيًا ثابتًا في سياستها الخارجية، وإن أبدت استعدادًا للانخراط في صيغ انتقاليةٍ مَرنةٍ تقوم على مبدأ “التدرج”، من دون التراجع عن الهدف النهائي المتمثل في العضوية الكاملة.
الخلفية العامة لمسار العضوية التدريجية
ترتبط تركيا بالمشروع الأوروبي منذ عقودٍ طويلةٍ، إذ تعود محاولات انضمامها الأولى إلى عام 1959، قبل أن يتمَّ إقرار اتفاقية أنقرة عام 1963، التي أرست الأساس القانوني لمسار اندماجٍ تدريجيٍ لتركيا في “التجمع الاقتصادي الأوروبي” آنذاك، وقد تطور هذا المسار عبر مراحل متعاقبة، أبرزُها دخول الاتحاد الجمركي بين الجانبين حيّز التنفيذ عام 1995، بهدف تقليص الفجوة الاقتصادية والمؤسسية بين تركيا والسوق الأوروبية المشتركة، ورغم منْحِ أنقرة وضع الدولة المرشّحة رسميًا عام 1999، لم تُستأنفْ مفاوضاتُ الانضمامِ الفعلي إلا في أكتوبر 2005، دون تحديدِ إطارٍ زمنيٍ ملزمٍ لإنجازها.
شهدَ هذا المسارُ موجاتٍ متتاليةً من التقدم والتراجع، فمع بداية الألفية نفذت تركيا حزمةَ إصلاحاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واسعة النطاق انعكست إيجابًا على العلاقات مع بروكسل، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى فتْح فصولٍ تفاوضيةٍ جديدة عام 2013، غير أن محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016، وما تلاها من إجراءاتٍ أمنيةٍ، أدت إلى تجميد معظم قنوات التفاوض. وفي عام 2018 أعلن المجلس الأوروبي تعليق المفاوضات بحكم الأمر الواقع، على خلفية ما اعتبره تراجعًا في معايير الديمقراطية وسيادة القانون داخل تركيا، مع إبقاء الباب مفتوحًا نظريًا دون تقدم ملموس.
ضمن هذا السياق المتعثّر، برزت في الأوساط السياسية والفكرية الأوروبية مؤخرًا مقاربة “العضوية التدريجية” أو “العضوية على مرحلتين”، باعتبارها إعادةَ صياغةٍ لفلسفة التوسع الأوروبية، ويقومُ هذا النموذجُ على إدماج الدولة المرشحة بصورةٍ جزئيةٍ في مؤسسات الاتحاد وبرامجه في مرحلة أولى، دون منْحها كامل صلاحيات العضوية، ثم الانتقال لاحقًا إلى العضوية الكاملة بعد استيفاء المعايير السياسية والاقتصادية المطلوبة، ويهدف هذا النهج إلى تجاوز الثنائية الحادة التي حكمت مسارَ التوسّع سابقًا “إما عضوية كاملة أو لا عضوية”، عبر تبنّي مسارٍ أكثر مرونة وواقعية.
يحظى هذا الطرْحُ بدعمٍ متزايدٍ داخل بروكسل وبعض العواصم الأوروبية، خصوصًا في ظل التحولات الجيوسياسية التي فرضتها الحرب الأوكرانية، والحاجة إلى تسريع اندماج دولٍ مرشحةٍ ذاتِ ثقَلٍ استراتيجيٍ (مثل أوكرانيا ومولدوفا وتركيا)، كما يُنظر إليه كآلية عملية لتقليص تأثير العرقلة التي تمارسها بعض الدول الأعضاء عبر حق الفيتو، ولتعزيز قدرة الاتحاد على مواجهة النفوذ الروسي المتصاعد شرقي أوروبا.
بالنسبة إلى تركيا، تبدو المقاربة منسجمةً مع منطقها البراجماتي في إدارة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، فمن منظور أنقرة، تمثّل العضويةُ التدريجيةُ فرصةً لإعادة الارتباط المؤسسي مع المنظومة الأوروبية دون التخلّي عن الهدف النهائي، وهو العضوية الكاملة، كما أن التجارب السابقة – ولا سيَّما الاتحاد الجمركي – تظهر استعداد تركيا للقبول بصيغٍ مرحليةٍ طالما أنها تشكّل جسورًا نحو الاندماج الكامل، وفي ضوء ذلك يُنظر داخل أنقرة إلى هذه المقاربة كسبيلٍ لتجاوز حالات “الجمود السياسي المفتعل” داخل الاتحاد، عبر الدفع بمسارات تعاون عملية تُعيد بناءَ الثقةِ خطوةً بخطوةٍ، ومع ذلك يبقى نجاح المسار مرهونًا بمدى التزام الطرفين بتحويل المرحلة الانتقالية إلى مقدمةٍ حقيقيةٍ للعضوية الكاملة، لا إلى بديلٍ دائمٍ عنها.
التحديات والفرص
على الرغم من المناخ الإيجابي الحذر الذي عكسته التطورات الأخيرة، فإن مسار إعادة التقارب التركي–الأوروبي عبر مقاربة “العضوية التدريجية” ما يزال محفوفًا بجملةٍ من العقبات البنيوية والسياسية، وفي المقابل تبرزُ فرصٌ حقيقيةٌ يمكن البناء عليها لتحويل هذا التقارب من مجرد طرحٍ نظريٍ إلى مسارٍ مؤسسيٍ قابل للاستمرار، ويُستعرض فيما يلي أبرز التحديات القائمة:
أولًا: التحديات القائمة
ملف المعايير الديمقراطية: يُعد هذا الملفُ العائقَ الأبرز أمام أي تقدمٍ ملموسٍ في مسار انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فمنذ أحداث يوليو 2016 أشارت تقارير غربية أن هناك تراجعاً حادّاً في مؤشرات الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، تجلّى في الاعتقالات الواسعة النطاق، والقيود المشددة على وسائل الإعلام، وتنامي الهيمنة التنفيذية على المؤسسة القضائية، وقد دفعَ هذا التدهورُ المجلسَ الأوروبي عام 2018 إلى تجميد المفاوضات فعليًا، فيما أكد البرلمان الأوروبي عام 2023 أن استئنافَ المسار التفاوضي مشروطٌ بإصلاحاتٍ جوهريةٍ تضمّن استقلال القضاء، وتحرير المجال العام، وضبط التشريعات المرتبطة بمكافحة الإرهاب التي يرى الأوروبيون أنها تُستخدم لتقييد المعارضة السياسية، وتعتبر أنقرة جزءًا من هذه المطالب تدخلًا في شؤونها الداخلية ومساسا بسيادتها الوطنية، وهو ما يجعلُ الاستجابةَ لها معقّدةً سياسيًا داخليًا.
اعتراضات بعض الدول الأعضاء وحق النقض: حتى مع تبنّي الاتحاد الأوروبي لمبدأ العضوية التدريجية، تظلُ العقبة الكبرى في حق الفيتو الذي تمتلكه كلُ دولةٍ عضو، وتظل قبرص واليونان أكثر الدول اعتراضًا لأسبابٍ متعلقةٍ بالنزاع السيادي والعسكري في الجزيرة، كما سبق للاتحاد الأوروبي عام 2006 أن قرّرَ منْعَ فتح أو إغلاقِ ثمانية فصول تفاوضية ما لم تطبّقْ تركيا “بروتوكول أنقرة” على قبرص، وهو شرطٌ لا تزال أنقرة ترفضهُ في غياب حلٍ شاملٍ للمسألة القبرصية، إلى جانب ذلك تُبدي دولٌ غربيةٌ كفرنسا والنمسا تحفّظاتٍ أعمق تتصل بهوية الاتحاد وحدوده الثقافية، وتخشى أن يُفضيَ انضمام تركيا إلى خللٍ في آليات صنع القرار الأوروبي، ورغم أن النموذج التدريجي قد يخفّف حساسية هذه المواقف، إلا أن القدرة على تجاوزها ستبقى مرهونةً بحزمةِ تفاهماتٍ سياسيةٍ موازية.ٍ
الرأي العام الأوروبي وملف الهوية: يمثّل المزاج الشعبي داخل أوروبا أحد أهم العوامل المؤثرة في ملفات التوسع، إذ تُظهر استطلاعاتُ الرأي أن قطاعاتٍ واسعةً من الأوروبيين متحفظةً على انضمام تركيا لأسبابٍ تتراوح بين الاختلافات الثقافية والدينية، والخشية من الثِقَلِ الديمجرافي التركي، وصولًا إلى السرديات الشعبوية التي تُصور أنقرة كتهديدٍ “هوياتي” للاتحاد، كما يُتوقع أن تتصاعدَ هذه الخطابات مع صعود التيارات القومية واليمينية المتشددة في انتخابات البرلمان الأوروبي، وبدون تأمين قبولٍ شعبيٍ نسبيٍ، ستبقى الحكومات الأوروبية أقل استعدادًا لتحمل كلفة سياسية لدعم تقارب مؤسسي مع تركيا.
تباين أولويات السياسة الخارجية: تتبع تركيا سياسةً خارجيةً أكثر استقلالية عن الأُطر الغربية التقليدية، وهو ما يثيرُ تحفظاتٍ داخل بروكسل، فقد امتنعت أنقرة عن الانخراط في العقوبات الغربية ضد روسيا، واحتفظت بعلاقاتٍ استراتيجيةٍ مع موسكو في ملفات الطاقة والدفاع، كما تبنّت مواقفَ مخالفةً للاتحاد الأوروبي في ملفاتٍ إقليميةٍ مثل ليبيا، وقره باغ سابقًا، وغزة مؤخرًا. وفي المقابل، يطالب الاتحاد الدول الراغبة في الاندماج المتدرّج بأن تقتربَ أكثر من مواقفه المشتركة في السياسة الخارجية والدفاع، وهو ما سيحتاج إلى جولاتٍ تفاوضيةٍ دقيقةٍ وتوازناتٍ صعبةٍ بالنسبة لأنقرة.
تراكمُ انعدام الثقة وتضاربُ السرديات: شهدَ العقدُ الأخير تآكلًا واضحًا في الثقة المتبادلة، فتركيا ترى أن الاتحاد الأوروبي مارس ازدواجيةَ معايير، وعطّل فصولَ التفاوض لأسبابٍ سياسيةٍ، وتراجع عن وعودٍ مثل إعفاء التأشيرة وتحديث الاتحاد الجمركي. في المقابل، يرى الأوروبيون أن الوعود الإصلاحية التركية ظلت غير مكتملة، وأن تركيا تستثمر تحالفاتها مع روسيا وإيران كورقة ضغطٍ، وهذا الإرثُ السلبيُ يزيد هشاشة مسار التقارب، ويحيله عرضةً للانتكاس عند أول اختبار.
ثانيًا: الفرص المتاحة
على الرغم من التحديات العميقة التي تعيق مسار التقارب التركي–الأوروبي، فإن المرحلةَ الراهنةَ تشهد في المقابل بروز مجموعةٍ من الفرص الجيوسياسية والمؤسسية والاقتصادية التي قد تُسهمُ في تحويل هذا التقارب من إطار نظري إلى مسارٍ عمليٍ متدرجٍ، وأبرزها ما يلي:
تحولُ السياق الجيوسياسي لصالحِ انخراطٍ أعمق مع تركيا: أفرزت الحرب في أوكرانيا تحولًا جذريًا في رؤية الاتحاد الأوروبي للتوسع، إذ باتتْ الاعتباراتُ الأمنيةُ والاستراتيجية تتقدم على الحسابات البيروقراطية التقليدية، ومن هذا المنطلق تزايدت الدعوات إلى تسريع دمج الدول الواقعة على الجوار الشرقي للاتحاد بحلول 2030، بما في ذلك إحياءُ النقاشِ حول دور تركيا كفاعلٍ محوريٍ في العمارة الأمنية الأوروبية الجديدة، وتنسجم هذه التحولات مع الطرح القائل بأن تركيا ليست مجرد مرشّحٍ تقليديٍ للعضوية، بل ركيزةٍ جيوسياسيةٍ لا يمكن استبعادها من معادلات الأمن والطاقة والهجرة.
مرونة نموذج العضوية التدريجية: تمثّل الصيغة المقترحة للعضوية المرحلية فرصةً عمليةً لتجاوز المعضلات المؤسسية القديمة، حيث تسمح بإدماج تركيا تدريجيًا في السوق الموحدة والبرامج الأوروبية، مقابل تأجيل منحها حقوق التصويت الكاملة إلى مرحلةٍ لاحقةٍ، وتخفف هذه المرونة مخاوف بعض الدول الأعضاء من تأثير تركيا على موازين صنع القرار داخل الاتحاد، مع توفير مكاسب اقتصادية وسياسيةٍ ملموسةٍ للمجتمع التركي، كما أنها توفر للاتحاد الأوروبي بديلًا واقعيًا عن “العضوية الكاملة المباشرة”، دون الحاجة إلى تعديل معاهداته الأساسية.
تحسّن المناخ الثنائي مع القوى الأوروبية المفتاحية: شهدت الأشهر الأخيرة تحسنًا ملحوظًا في علاقات تركيا مع عددٍ من العواصم الأوروبية والأطلسية، وعلى رأسها اليونان، والولايات المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، هذا الانفراجُ خفّف بدرجةٍ معتبرةٍ من مناخ التوتر الذي كان يدفع بعض الدول إلى تعطيل الملف التركي داخل المجلس الأوروبي، كما أن احتمالات استئناف المفاوضات حول القضية القبرصية –ولو تدريجيًا– قد ترفع أحد أكبر العوائق أمام انطلاق مسار أكثر انفتاحًا تجاه أنقرة.
الدافع الاقتصادي المشترك: يشكّل الاقتصادُ أحد أهم روافع التقارب، إذ ينسجم تحديثُ الاتفاق الجمركي وتوسيعُ التعاون التجاري مع مصالح قطاعات واسعة من مجتمع الأعمال في كلا الجانبين، كما أن تركيا في حاجةٍ ملحّةٍ إلى جذْبِ استثماراتٍ أجنبيةٍ وتعزيز اندماجها في سلاسل القيمة العالمية، بينما ينظر الاتحاد الأوروبي إليها كسوقٍ واعدةٍ وشريكٍ صناعيٍ مهم في مرحلة ما بعد الحرب والأزمات الطاقوية، ويخلق ذلك لوبيًّا اقتصاديًا ضاغطًا لصالح إعادة تفعيل العلاقات.
تبدّل المزاج الديمغرافي والاجتماعي: تشير استطلاعات الرأي في تركيا إلى استمرار تأييد شريحةٍ معتبرةٍ – خصوصًا الشباب – لخيار الاندماج الأوروبي، ولو بصيغة تدريجية، وفي المقابل ورغم التحفظات الشعبية الأوروبية تجاه العضوية الكاملة، فإن الرأي العام يبدي استعدادًا أكبر لدعم شراكاتٍ وظيفيةٍ معمقةٍ، ويمكن توظيف أدوات القوة الناعمة وبرامج التبادل الثقافي والأكاديمي لتعزيز التفاهم المتبادل وتليين المواقف المجتمعية.
اعتبارات السمعة والمصداقية الأوروبية: يدرك صانعو القرار في بروكسل أن الإبقاء على تركيا في حالة “انتظار دائم” يمس بمصداقية سياسة التوسع الأوروبية، خصوصًا في ظل التنافس الدولي المتصاعد مع روسيا والصين، كما أن الإطار القانوني لانضمام تركيا لا يزالُ قائمًا من الناحية الشكلية، وهو ما يُسّهل إعادة إنعاشه بمجرد توافر قرار سياسي، دون الحاجة إلى مسار تفاوضي جديد من نقطة الصفر.