رابعة نورالدين وزير
أعلنت فنلندا والسويد خلال هذا الأسبوع عن عزمهما الانضمام لعضوية “حلف الناتو” بدعم من بريطانيا، وعلى خلفية هذه الخطوة أعلنت فنلندا عن أتفاقًا أمنيًا فيما بينهما وبين بريطانيا، وتخلت عن عقود من اتلاع نظام عدم الانحياز العسكري الذي جنت فنلندا منه الكثير، وحاول الرئيس الفنلندي التأكيد على أن انضمام بلده إلى الحلف لا يعتبر إجراءً عدائيًا ضد روسيا وإنما جاء في إطار حق الدول في أن تتخذ كافة الإجراءات الفردية أو الجماعية في حماية أمنها واستقرارها بما يقتضي انضمامها إلى تكتلات أو تجمعات أمنية دفاعية وغيرها، ولعل هذه الإشارات إنما جاءت بالأساس لمنع إثارة الجانب الروسي حيث ترتبط روسيا وفنلندا باتفاق صداقة وقع في عام 1948، كما أن البلدين تربطهما حدود طويلة.
إن مثل هذه الخطوة في هذا التوقيت الحرج بالنسبة لروسيا بالفعل تؤثر على مجريات الأمور فيما يتعلق بتعامل روسيا مع أوكرانيا، كما أنه يؤثر بالضرورة على أمن المنطقة الأوروبية بالكامل ومن الممكن ان يفرض نمطًا دفاعيًا جديدا للمنطقة، خاصة وأن إقدام فنلندا على مثل هذه الخطوة سيتبعه تقدم سويدي في نفس السياق، وعليه فسنحاول الوقوف على أهم دوافع فنلندا والسويد للانضمام للحلف، وماذا نتوقع من روسيا حال وافقت الدول الأعضاء على انضمام الدولتين، ومن ثم ننتقل لشكل معادلة الامن الأوروبي فيما بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
أولًا: فنلندا والسويد تدقان أبواب الناتو …. الخلفية والدوافع
خلفية طلب الانضمام
أثارت تصريحات كل من رئيسة الوزراء الفنلندية، ونظيرتها السويدية، خلال مؤتمر صحفي مشترك بينهما في 13 أبريل 2022 جدلاً واسعاً في أوروبا وروسيا، إذ أكدت الأولى على أن قرار التخلي عن سياسة فنلندا بعد الحرب الباردة المتمثلة في عدم الانحياز، والانضمام إلى الناتو سيتخذ في غضون “أسابيع وليس شهور”. وبالمثل، أشارت الثانية، أن السويد، وبالتنسيق مع فنلندا، بدأت نقاشاً نشطاً حول الانضمام إلى الناتو.
وبالتوازي مع ذلك، أرسلت الحكومة الفنلندية تقريراً أمنياً للبرلمان، تشرح فيه الجوانب الإيجابية والسلبية للانضمام إلى الحلف، وبالنسبة للسويد، تشير التقديرات إلى أن حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي السويدي، عكف على دراسة كل الخيارات المتاحة في ظل تغير الخريطة الأمنية بعد الغزو الروسي في أوكرانيا.
وقد استمرت المباحثات والنقاشات لحوالي أربعة أسابيع حتى أعلن الرئيس الفنلندي في 12 مايو 2022، وبعد توقيع الاتفاق الأمني مع بريطانيا عزم بلاده والسويد أيضًا للانضمام للحلف، وهو ما أثار سخط الجانب الروسي وبعض الدول، ولاقى استحسان أطراف أخرى.
دوافع الانضمام للحلف
– تعتبر الحرب الروسية الأوكرانية السبب الرئيسي المعلن وراء إبداء رغبة فنلندا والسويد الانضمام إلى الحلف، حيث أن الوضع الأمني الأوروبي قد تغير بصورة كبيرة بعد هذا الحدث، وهو ما وضحته رئيسة الوزراء الفنلندية بقولها “الفرق بين كونك شريكا وكونك عضوا واضح للغاية وسوف يبقي كذلك”.
– الحصول على المظلة الأمنية التي يوفرها الحلف لأعضائه يعتبر أحد أهم دوافع طلب الانضمام، فبموجب المادة 5 من معاهدة شمال الأطلسي، يكون الهجوم على أي عضو في الحلف، هجوماً على جميع الأعضاء، يستوجب الرد الجماعي، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية ستكون ملزمة بتقديم المساعدات العسكرية للبلدين في حال تعرضها لأي هجوم.
– حماية جزيرة “جوتلاند” السويدية، “والتي تعتبر أهم حاملة طائرات غير قابلة للغرق”، إذ إنها تتمتع بموقع استراتيجي يضمن السيطرة البحرية والجوية على بحر البلطيق، وتخشى السويد من أن تقوم روسيا باحتلالها.، فقد قامت الحكومة السويدية بنقل فوج عسكري 2015 إلى هذه الجزيرة، وذلك في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا. كما تم إرسال تعزيزات ومدرعات لتسيير دوريات في منطقة فيسبي الريفية، في يناير 2022، عندما أصبح التهديد الروسي لأوكرانيا أكثر وضوحاً. ويعتقد أنه في سيناريوهات التصعيد بين روسيا والغرب، قد تقوم روسيا باكتساح جوتلاند.
– الدعم الغربي ومساندة الرأي العام حيث تسعى الولايات المتحدة والدول الغربية تدعم الانضمام إلى الحلف في محاولة للتأكيد على أن فنلندا والسويد ودولاً أخرى، على غرارهما، سوف تقوم بمعاقبة روسيا، والانضمام إلى حلف الأطلسي، أي أن سياسة روسيا في أوكرانيا سوف يكون لها نتائج عكسية متمثلة في انضمام الدولتين إلى الحلف، خاصة أن الحدود الروسية – الفنلندية المشتركة تمتد لنحو 1300 كيلومتر، مما يعني زيادة تهديد حلف الأطلسي إلى روسيا، وهذا الدعم بدوره يقوى مقوف هذه الدول.
وعلى صعيد الرأي العام فقد أظهر استطلاع رأي تم إجراؤه من قبل منتدى الأعمال والسياسة الفنلندي في مارس 2022، تبين أن 60% من الذين شملهم الاستطلاع أيدوا الانضمام إلى الناتو، بزيادة قدرها 34% عن عام 2021، وعلى الصعيد السويدي، كشف استطلاع للرأي، في 4 مارس 2022، أجرته شركة “ديروسياب” التابعة لإحدى الصحف السويدية الكبرى، أن 51% من السويديين يؤيدون انضمام بلادهم إلى حلف الناتو، وهو ما يعكس دعماً أقل للانضمام للحلف مقارنة بفنلندا.
– ردود الفعل حول إعلان
تباينت ردود الفعل حول انضمام فنلندا والسويد بين المؤيد والمعارض ولكل طرف حجته التي دفعته لتبني موقف بعينه، وهو ما سيتم تناوله في السطور التالية:
رد الفعل الروسي: مازال بوتين يطالب الناتو بوقف التوسع وكان أخر هذه التحذيرات في خطابه المتلفز في 9 مايو كما حمل الغرب مسؤولية الحرب في أوكرانيا، كما تعهد برد “عسكري وتقني” في حال انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، ولعل ذلك يرجع لمخاوف روسيا من تمدد الحلف بالقرب من أراضيها عبر فنلندا حيث تمتلك أطول حدود مع روسيا بطول 1340 كيلومتراً، وتعرضت للغزو من قبل الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب العالمية الثانية، كما أن انضمام فنلندا للحلف وكذلك احتمالية إقدام السويد على الخطوة ذاتها تحد صارخ لمطالب بوتين الخاصة بتقليص وجود الناتو في المنطقة، حيث سيضيف ذلك لأراضي الناتو 300 ألف ميل مربع باتجاه الشمال الشرقي، كما سيضاعف حدود الناتو مع روسيا إلى ما يقرب من 1600 ميل، وبالتالي ترى روسيا في الحلف تهديدا استراتيجيا على نفوذها في المنطقة، وتُطالب بعدم اقترابه من حدودها، بينما يدافع الحلف عن سياسة الأبواب المفتوحة أمام انضمام الدول إليه، وسيادة تلك الدول على ذلك القرار.
دول أخرى مؤيدة للانضمام: كما أيدت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرهما من دول أوروبا مؤيدة لقرار الانضمام في لإطار محاولة الضغط على روسيا وتوسيع قوة الناتو تجنبًا لحدوث حروب في المستقبل، بالإضافة إلى منع تحقق فرضية عزل روسيا وتقوية شوكتها في المنطقة الشرقية، وهو ما يخالف الهدف الأساسي من إنشاء الحلف المتمثل في مجابهة النفوذ السوفيتي ومنع تمدده.
دول ترفض انضمام فنلندا للحلف: كان من بين الدول التي اتخذت موقف رافض لانضمام فنلندا للحلف تركيا، حيث أكد الرئيس التركي، على أن تركيا ليس لديها وجهة نظر إيجابية في مسألة عضوية الدولتين في الحلف، لتكون تركيا بذلك أول دولة تعارض رسميا عضوية الدولتين، ولعل هذا الموقف يعود إلى اتهامات الرئيس التركي للدولتين بإيواء منظمات إرهابية.
بعد الوقوف على خلفية انضمام فنلندا ومن ثم السويد للحلف، وأهم دوافع البلدين وأبرز ردود الأفعال على ذلك ننتقل إلى فرص قبولهما في عضوية الحلف، وسيناريوهات الموقف الروسي، بالإضافة إلى توقعات النظام الأمني الأوروبي فيما بعد انضمام فنلندا والسويد للحلف.
ثانيًا: هل تمثل فنلندا والسويد قيمة مضافة للحلف؟ إمكانية قبول عضويتهما؟
حجم القدرات الفنلندية والسويدية
قبول فنلندا عضواً في الناتو هو قيمة مضافة للحلف، إذ إن لديها قدرة على تعبئة 280 ألف جندي، كما أنها تمتلك دبابات قتال أكثر من برلين، وتمتلك قوة جوية مكونة من 64 طائرة من طراز ” أف – 18″، ومن المتوقع أن تتسلم أيضاً 64 طائرة من طراز “إف – 35” بحلول عام 2026، ومن ناحية أخرى، فإن الجيش السويدي يحتل المرتبة رقم 25 بين أقوى 142 جيشاً في العالم، وفقاً لتقديرات موقع جلوبال فاير بور الامريكي لعام 2022، كما يعد أسطولها من أضخم 5 أساطيل بحرية في العالم، كما أوضحت فنلندا أنها حققت إرشادات الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو البالغة 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وتتوقع السويد أن تحقق الشروط المطلوبة عسكريا بحلول عام 2028.
كما تعدان أقرب شريكين لحلف الناتو، فقد تعاونتا بعمليات مختلفة للتحالف تاريخيا، وتفي البلدان بمعايير عضوية الناتو، فيما يتعلق بالديمقراطيات الفعالة، وعلاقات جيدة بالدول المجاورة إضافة إلى الحدود الواضحة والقوات المسلحة المتوافقة مع الحلفاء، كما يستفيد أعضاء الناتو وعددهم 30 دولة في الوقت الحالي، بحسب البند الخامس وهو المظلة الأمنية للتحالف العسكري بالحماية العسكرية في حال تم الهجوم على أي عضو.
إضافة إلى أن انضمام فنلندا والسويد سيشكل إلى جانب أيسلندا مثلث استراتيجي لمواجهة القوات الروسية المتجه من شبه جزيرة كولا الشمالية، كما سيصبح التخطيط العسكري لحلف الناتو أبسط بكثير كما سيسهل الدفاع عن المنطقة بشكل أكبر.
يمكن القول أن انضمام فنلندا والسويد للحلف يمثل فرصة للناتو لطبيعة وجغرافيا البلدين وقدراتهما العسكرية، وتتمتعان بتعاون دفاعي عميق قائم مسبقا على المستوى الثنائي فحسب، بل تتعاونان أيضا في منتديات متعددة الأطراف، مثل التعاون الدفاعي لدول الشمال الأوروبي، والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وكلاهما له مصلحة قوية في الحفاظ على الاستقرار في منطقة بحر البلطيق، وعليه فمن الممكن أن تحرص الدول الأوروبية على انضمامهما.
ثالثًا: توسع الناتو تأكيد على أهمية القوة الذاتية للدولة
خلال السطور التالية سنقف على أهم السيناريوهات المتعلق باضمام فنلندا والسويد للناتو، بالإضافة إلى الوقوف على نظام الأمن الأوروبي الجديد:
سيناريوهات التعامل الروسي مع تزايد تمدد حلف الناتو
– السيناريو الأول…. سيناريو الصدام
قد يتسبب انضمام كلًا من فنلندا والسويد للحلف في مشاكل أمنية واقتصادية للدولتين، خاصة أن لهما وضعهما الخاص، ولا يمكن مقارنتهما بأوكرانيا، والتي سعت للانضمام إلى حلف الناتو، ومن ثم نقل قواعد حلف شمال الأطلسي إلى الجوار المباشر لروسيا، بما يحمله ذلك من تهديد مباشر للأمن القومي لها، وبالتالي فمن المتوقع أن تنفذ روسيا بعض من تهديداتها المرتبطة بحظر بعض الأنشطة الاقتصادية، والتلويح باستخدام القوة، ولكن من غير المرجع أن تلجأ لمواجهه مباشرة مع فنلندا والسويد مثلما فعلت في أوكرانيا، لأن أي مواجهات مباشرة من شانها تحميل الجيش الروسي الذي كان يعتبر خطوط التماس مع فنلندا أمر مريح إلى حد ما، كما أنه من المرجح أن لا تقدم روسيا على أي عملية عسكرية أخرى في أوروبا، ولعل خطاب “بوتين” في يوم النصر الذي حمل ملامح اقتناع بالإنجازات التي حققها حتى الأن في أوكرانيا، وبالتالي فمن المستبعد أن تحدث مواجهة جديدة دون أن يحسم النتائج.
-السيناريو الثاني الحفاظ على مسافة آمنة
من الممكن أن تنضم الدولتين للحلف بالفعل، مع اتباع نهج حيادي يحافظ على علاقات طيبة بينهم وبين روسيا كما فعلت النرويج، فعلى الرغم من كونها عضواً مؤسساً في حلف الأطلسي، فإنها تعمل دائماً على الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا من خلال عدم سماحها بإنشاء قواعد عسكرية للحلف على أراضيها، وكذلك وضعها لقيود على تدريباته، ولعل هذا السيناريو والسيناريو السابق من الممكن أن يكونوا الأكثر ترجيحًا، فمن الممكن أن تسير الأمور في السيناريو الأول ثم تنتقل للسيناريو الثاني، وفي هذه الحالة فمن الممكن أن يطالب بوتين بوضع وثيقة أمنية جديدة تنظم وضع أمن روسيا في مواجهة الغرب.
-السيناريو الثالث ترجيح كفة روسيا
يذهب هذا السيناريو إلى وجود احتمالية لأن ترضخ دول الحلف لروسيا وتوقف انضمام أي دول من شرق أوروبا، أو أن تمنحهم عضوية شرفية فقط دون المشاركة الفعلية للوقوف على مسافة ثابتة من جميع الأطراف، هذا السيناريو مستبعد في ظل الرغبة الأوروبية والعالمية في تحجيم النفوذ الروسي، وفي ظل المعطيات الجديدة التي فرضها سياق الحرب الروسية الأوكرانية.
هل يتغير النظام الأمني للقارة الأوروبية بتوسع الناتو؟
من الممكن القول بأن “بوتين” سعى من خلال الحرب الأوكرانيةً لتغيير النظام الأمني في أوروبا، ولقد نجح بشأن هذا الهدف، ولكن ليس بالطريقة التي قصدها على الأرجح. فهجوم روسيا وحد حلف “الناتو” وجعل توسيعه مرجحاً أكثر بكثير، وإذا تم قبول عضوية فنلندا والسويد إلى “الناتو”، كما يبدو، فسترفدان الحلف بقدرات عسكرية جديدة وكبيرة، بما في ذلك قدرات متقدمة لجهة سلاح الجو والغواصات، ما سيغير البنية الأمنية لشمال أوروبا ويساعد على ردع أي عدوان جديد، كما سينشأ نظام أمني دفاعي جديد مغاير لنظام الحياد الذي أتبعته الكثير من الدول، فقد أكدت الحرب الروسية الأوكرانية على أن القوة الذاتية للدولة هي أمر في غاية الخطورة والأهمية في الوقت الحالي، فإذ لم تتمكن الدولة من الاعتماد على امكانياتها وقدراتها التسليحية والاقتصادية فإنها معرضة لأخطار كبرى في عالم شديد التنافسية والتغير.
ختامًا، من المؤكد أن تصريح فنلندا بطلب العضوية من حلف الناتو يمثل تحولًا كبيرًا لسياق الأحداث التي تشهدها القارة الأوروبية بعد أشهر على الحرب الروسية الأوكرانية، ووفقًا للمعطى المتعلق باشتراك الحدود بين فنلندا وروسيا فإننا أمام تحد أكبر يتمثل فكيف ستتعامل روسيا ودول الحلف مع هذه الخطوة، وسواء علقت عضويتها أو حصلت على عضوية شرفية في إطار سعي الحلف للحفاظ على مسافة أمنة مع روسيا فإن هذا التحرك قد أرسى قواعد جديدة للأمن الأوروبي، تتمثل في بداية انحسار مفهوم عدم الانحياز على الرغم من أن هناك دول جنت الكثير من اتباعها لهذه السياسة وعلى رأسهم فنلندا، كما أن التحركات الأخيرة تشير إلى عدم عزم روسيا على إتخاذ خطوات عسكرية في أوروبا تكبدها خسائر عدة، بل من الممكن ان تبدأ في البحث عن صياغة أمنية جديدة.