إعداد: أحمد محمد فهمى
باحث متخصص فى الشؤون التركية والإقليمية
مع تصاعد تطورات الأوضاع فى قطاع غزة وتأثيراتها الواسعة على الساحة الإقليمية، تظهر التأثيرات على علاقات الدول وكيف يمكن للأحداث الراهنة أن تحدد مسارات التفاعل الدولى. وفى هذا السياق، يبرز التساؤل حول مستقبل العلاقات بين تركيا وإسرائيل فى ضوء التطورات الحالية فى قطاع غزة. فتركيا وإسرائيل، على مر العقود، شهدتا فترات من التوتر والتقارب، إلا أن الأحداث الحالية فى قطاع غزة تضعهما أمام تحديات جديدة قد تؤثر فى العلاقات المستقبلية.
وكدلالة على تحول العلاقات بين الدولتين وتأثيرها بتطورات الأوضاع الراهنة، قام الرئيس التركى أردوغان فى مرحلة بداية الأزمة الحالية بالتواصل هاتفيًا مع نظيره الإسرائيلى إسحاق هرتسوغ، وناقشا التطورات الأخيرة، وتبادلا آخر المستجدات المتعلقة بها على الصعيد الإقليمى.
وفى مرحلة لاحقة، أعلن أردوغان أن تركيا مستعدة لكل أشكال الوساطة، بما فى ذلك تبادل الأسرى فى حال طلب الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى ذلك، وصولًا إلى مرحلة التصعيد الإسرائيلى العنيف ضد أهالى قطاع غزة، حيث أعلن أردوغان أن إسرائيل تُعتبر “دولة إرهابية” ترتكب جرائم حرب وتنتهك القانون الدولى فى غزة.
واقع العلاقات التركية الإسرائيلية قبل السابع من أكتوبر
فى أغسطس عام 2022، شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية تحسنًا وعودة للعلاقات الدبلوماسية الكاملة بين الدولتين، وتبادل للسفراء، وذلك بعد سنوات من التوتر نتيجة لاستشهاد العشرات فى مسيرات العودة فى غزة على أيدى قوات الاحتلال ونقل السفارة الأمريكية للقدس فى عام 2018، والتى أدت إلى سحب أنقرة لسفيرها فى تل أبيب وإعلان السفير الإسرائيلى لديها شخصًا غير مرغوب فيه.
ومنذ عام 2022، شهدت العلاقات بين البلدين تطورًا فى عدة مجالات، خاصة العلاقات الاقتصادية، حيث بلغ حجم التبادل التجارى بينهما 9.5 مليارات دولار، ووصلت هذه العلاقات إلى مرحلة هامة بعد لقاء الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، برئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، فى نيويورك فى العشرين من سبتمبر الماضى، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك. وتم حينها الاتفاق على قيام أردوغان بترتيب زيارة إلى إسرائيل، والتى كانت مقررة فى نوفمبر الحالى، تزامنًا مع الاحتفالات بمئوية الجمهورية التركية، ورغبة أردوغان أن يكون من ضمن فعاليات الاحتفالية أداء الصلاة فى المسجد الأقصى.
كما كانت هناك زيارة مقررة لوزير الطاقة التركى، ألب أرسلان بيرقدار، إلى إسرائيل فى أكتوبر الماضى، لمناقشة مشروع خط الأنابيب الذى سينقل الغاز الطبيعى من إسرائيل إلى أوروبا عبر تركيا، لكن الزيارتين تم إلغاؤها لاحقًا جراء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
العلاقات الحالية: تصاعد وليس تصعيد
لعدد من العوامل المرتبطة بشكل أكبر بالضغوط والحسابات الداخلية بالشعب التركى، دخلت العلاقات التركية الإسرائيلية مرحلة تصاعد، وصلت إلى مرحلة إطلاق الرئيس التركى أردوغان تصريحات موجهة ضد إسرائيل، ووصفها بأنها “دولة إرهابية” و”مجرم حرب”، كما استهدف شخص رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ثم قررت أنقرة فى وقت لاحق سحب سفيرها من تل أبيب للتشاور.
فى المقابل، كانت إسرائيل قد سحبت سفيرتها فى أنقرة بسبب تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد إسرائيل بعد القصف الإسرائيلى للمستشفى الأهلى المعمدانى فى قطاع غزة. ومع ذلك، لاحقًا، وكنتيجة للموقف الرسمى وتصريحات الرئيس التركي، قامت إسرائيل باستدعاء طاقمها الدبلوماسى من تركيا، بهدف إجراء إعادة تقييم للعلاقات بين إسرائيل وتركيا.
ثم دخلت العلاقات بين البلدين فى مرحلة توتر جديدة، ولكن لابد من الإشارة هنا إلى أن مرحلة التصاعد الحالية بين البلدين قد لا تصل إلى التصعيد الكامل بينهما، وصولاً إلى القطيعة مرة أخرى، على غرار الخلافات بينهما خلال جولات التصعيد السابقة، نظرًا لعدة مؤشرات تشير فى مجملها إلى أنه على الرغم من التوتر الحالى، إلا أن هناك مجالًا لعودة العلاقات، والتى يمكن توضيحها كالتالى:
- إن التصريحات التى أطلقها الرئيس التركى أردوغان ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، والتى أشار فيها إلى أنه لم يعد يمكن الحديث معه بأى شكل من الأشكال، وأنه يثير غضب الشعب الإسرائيلى أيضًا، وقد فقد دعم مواطنيه، يمكن قراءتها فى سياق مواجهة الضغوط الشعبية، خاصةً لأنصاره من حزب العدالة والتنمية. فأردوغان يعلم جيدًا أن المسيرة السياسية لنتنياهو قد شارفت على الانتهاء، وأن رحيله من الحكومة سيكون بعد الانتهاء من الحرب فى قطاع غزة كحد أقصى. بالتالى، ينتظر وجود حكومة جديدة يستطيع التعاون معها بهدف استئناف العلاقات مرة أخرى، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من تصريحه خلال كلمته فى اجتماع الكتلة النيابية لحزبه “العدالة والتنمية” فى البرلمان التركى، حيث أكد أن تركيا ليس لديها مشكلة مع الدولة الإسرائيلية، إلى جانب تأكيده على أن تركيا لن تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل.
- قيام أنقرة بسحب سفيرها من تل أبيب جاء بهدف التشاور وليس قطع العلاقات، كما لم تصدر الحكومة التركية أى قرارات بشأن السفيرة الإسرائيلية فى أنقرة، التى تم سحبها بالفعل من بلادها مسبقًا خوفًا من وقوع اعتداءات على الدبلوماسيين الإسرائيليين، لكن لم تقم الحكومة التركية بطردها، ويمكن النظر إلى تلك الخطوات التركية على أنها تعد “أقل حدة” من المواقف السابقة كحرب غزة عام 2018، حيث قامت تركيا آنذاك بطرد السفير والقنصل الإسرائيليين من أنقرة وإسطنبول، مع إجراء السلطات التركية فحصًا أمنيًا دقيقًا للسفير الإسرائيلى فى مطار إسطنبول قبل مغادرته وأمام عدسات الكاميرا.
- إن المواقف الرسمية التركية التصاعدية لم تخرج خارج نطاق التصريحات وإبداء المواقف، دون اتخاذ “خطوات عملية”، فهى لم تأخذ إجراءات متشددة تؤثر بشكل بالغ على العلاقات بين البلدين، على غرار قيامها مثلاً فى سبتمبر 2011 بإلغاء جميع الاتفاقيات العسكرية مع إسرائيل، وأيضًا بعد حرب غزة 2018 وتهديد أردوغان بأنه سيجرى تقييم العلاقات التجارية والاقتصادية مع إسرائيل.
لكن وفيما يتعلق بالحرب الحالية، وعلى الرغم من إعلان تركيا أنها لن تبحث أى مشروع للطاقة مع إسرائيل ما لم يتم وقف إطلاق النار فى غزة، فإن الموقف التركى يأتى فى إطار تجميد التعاون وليس إلغاءه. بالتالى، فهى تأتى فى إطار كونها رسالة موجهة إلى سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية، ومن الممكن استئنافها بعد تعيين حكومة جديدة.
هل من دور لمصر كوسيط فى التوتر الحالى؟
يمكن لمصر، كدولة رائدة فى المنطقة ذات تأثير إقليمى ودولى بارز، والتى تتمتع بعلاقات مُحسنة مع تركيا وعلاقات جيدة مع إسرائيل، أن تلعب دورًا كوسيط للتهدئة وإصلاح العلاقات بين الدولتين، نظرًا لخبرتها فى التعامل مع القضايا الإقليمية والنزاعات، وذلك فى مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الحالية على قطاع غزة.
ويحمل الدور المصرى كوسيط عدة انعكاسات هامة، أولها على مصالحها فى المقام الأول. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للدور المصرى فى تحسين العلاقات بين تركيا وإسرائيل أن يسهم فى تحقيق الاستقرار فى المنطقة، وذلك من خلال العمل نحو تخفيف التوترات وتعزيز العلاقات الإقليمية، مما يعود بالفائدة على جميع الأطراف المعنية، والتى من أبرزها:
- الاستفادة من الوساطة المصرية من أجل البناء عليها كخطوة لإنهاء الخلافات فى منطقة شرق المتوسط، وحل أزمة الغاز.
- التوصل إلى تفاهمات مشتركة، وربما مبادرة بين الدول الثلاث حول سبل حل القضية الفلسطينية، وبالأخص فى قطاع غزة، لوضع خارطة طريق تأسيسية للبناء عليها، يأتى هذا نظرًا لتدهور العلاقات التركية الإسرائيلية، الذى يعود فى جذوره إلى الخلافات المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
- تعزيز التعاون بين الدول الثلاث على عدة أصعدة، أبرزها الصعيد الاقتصادى، من خلال خلق بيئة إقليمية تعزز التبادل التجارى والاستثمار، تهدف إلى تعزيز الروابط الاقتصادية وتعزز الاستقرار.
السيناريوهات المتوقعة:
بناءً على المحاور السابقة، فأن مستقبل العلاقات بين تركيا وإسرائيل تواجه اثنين من الاحتمالات، وهما:
السيناريو الأول: استمرار التوتر الحالى فى العلاقات دون تصعيد كبير، مع تأجيل استئنافها حتى تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، ويُعتبر هذا السيناريو الأكثر احتمالًا.
فمن المتوقع استمرار التوتر الحالى فى العلاقات بين البلدين، مع قيام القيادة التركية بتجاهل ردود الفعل الإسرائيلية الأخيرة تجاه تصريحاتها ومواقفها، انتظارًا لمرحلة انتهاء إسرائيل من حربها فى قطاع غزة وتشكيل حكومة جديدة، يأمل أردوغان من خلالها فى أن يتسنى له، بحث عودة العلاقات من جديد.
والتى يمكن أن تتزامن هذه الجهود مع انتهاء الانتخابات المحلية فى مارس المقبل، بالنظر إلى أحد جوانب التصريحات المتصاعدة لأردوغان والتى تستهدف الناخب التركى فى الانتخابات المقبلة.
لكن مرحلة إصلاح العلاقات، فى حال عودتها، من المتوقع أن تتم ببطء نظرًا لحاجتها لفترة زمنية طويلة، خاصة بعد التداعيات العميقة لعملية “طوفان الأقصى” على المواطن الإسرائيلى، والذى أصبح له موقف سلبى تجاه الدول والحكومات والشعوب التى ساندت حركات المقاومة الفلسطينية خلال الحرب الحالية. وبالإضافة إلى ذلك، ستحتاج مرحلة إصلاح العلاقات إلى رسم مسار جديد، مع مراعاة موقف الطرفين التركى والإسرائيلى من القضية الفلسطينية التى أصبحت تمثل عقبة رئيسية أمام تطوير وتعميق العلاقات بينهما.
ومن المؤكد أن التداعيات الاقتصادية للحرب على الاقتصاد الإسرائيلى بجانب الرغبة التركية فى استمرار العلاقات الاقتصادية مع تل أبيب، سوف تكون من أبرز العوامل المحفزة لاستئناف العلاقات بين البلدين فى المرحلة اللاحقة، والتى سوف يكون على رأسها استئناف الخطة الإسرائيلية بربط أنبوبها للغاز والذى واجه عقبات كبيرة بسبب تكاليف الإنشاء والممتد من حقوق شرق المتوسط إلى قبرص ثم اليونان ثم إيطاليا، بالشبكة التركية المربوطة بالخطوط الأوروبية، لكون هذا الممر هو الأنسب والأقل تكلفة بالنسبة لإسرائيل.
وعلى الرغم من تصريح وزير التجارة التركى، عمر بولاط، بانخفاض التبادل التجارى بين بلاده وإسرائيل بأكثر من 50% منذ اندلاع الحرب فى قطاع غزة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضى، إلا أنه لابد من الإشارة أنه بالرغم من المشاكل والتقلبات المختلفة التى شهدتها العلاقات التركية الإسرائيلية بعد عام 2010، إلا أن العلاقات الاقتصادية والتجارية لم تتأثر فى مجملها إلا قليلًا.
هذا فضلًا، عن وجود رغبة تركية قوية على عدم العودة تحت أى شكل من الأشكال مرة أخرى إلى أن تكون معزولة من جديد خاصة فى منطقة شرق المتوسط، لإدراكها لحجم التداعيات الكبيرة للتوترات السابقة، على وضعها الاقتصادى والعسكرى وعلى مصالحها الجيوسياسية، كما تريد تركيا أن تقول للدول التى قامت بتحسين علاقاتها معها مثل مصر ودول الخليج إنها طرف جدير بالثقة، وأنها قادرة على مواجهة العقبات التى قد تنشأ فى المستقبل أمام الاستمرار فى تطوير العلاقات، كما أن تركيا تعلم أنه فى حالة استمرار علاقاتها المتوترة مع تل أبيب، سوف ينعكس ذلك على العلاقات التركية بالغرب خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، والتى تحسنت أيضًا فى الآونة الأخيرة.
أما السيناريو الثاني: فيتضمن العودة إلى مرحلة القطيعة مرة أخرى، ويُعتبر هذا السيناريو الأقل احتمالًا.
وهذا السيناريو، وإن كان غير مرجح وضعيف، يظل قائمًا فى حالة توفر عدة عوامل، منها نجاح الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو فى إحراز نصر أو مكسب ما فى الحرب الحالية فى قطاع غزة، مما يعيد إليها شعبيتها وبالتالى استمرارها، وهذا يعنى بشكل كبير القطيعة بين أردوغان ونتنياهو.
كما أنه من الممكن وفى حالة خروج حكومة نتنياهو، أن تصبح الحكومة الإسرائيلية المقبلة أكثر تشددًا تجاه فكرة استئناف العلاقات مع تركيا، وذلك نظرًا للتداعيات العميقة لعملية “طوفان الأقصى” على مستقبل التعاون بين إسرائيل والدول التى لم تظهر المساندة والدعم لها فى الحرب الحالية.
وختامًا
يظهر بوضوح أن التحولات الحالية فى المنطقة تشكل تحديات جديدة أمام العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وبينما يستمر التصاعد الحالى فى التوترات بين البلدين، إلا أنه يجب أن نشير إلى أن هذا التصاعد لا يعنى نهاية العلاقات بينهما، فالخلافات الحالية هى نتيجة لتفاعلات فورية تتعلق بأحداث غزة، ولكن مكانة الدولتين ووضعهما فى المنطقة يجعلهما ينظران إلى الأفق البعيد لفهم أهمية مستقبل هذه العلاقات.
كما ينبغى التأكيد على أن مستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية لا يتوقف على الأحداث الراهنة فقط، بل يستند إلى الاستمرار فى تقييم التحولات والتفاعلات المستمرة، لكن على الرغم من التصريحات الحالية والتصاعد فى مستوى التوتر، إلا أن هناك فرصة للعودة إلى حوار بناء والبحث عن حلول تلبى مصالح البلدين.