يتنامى الحجمُ السياسيُ لمجموعةِ «البريكس» في الفترة الأخيرة لتحقيقِ الهدف الذي أُنشئتْ من أجله، وهو خدمةُ البلدانِ الناميةِ، وخلْقُ مؤسساتٍ ماليةٍ جديدةٍ، وتقليل هيمنة الدولار الأمريكي. وفي ظل التوترات الجيوسياسية على الصعيد الدولي، بدأتْ تحليلاتٌ سياسيةٌ عدة تُشيرُ إلى احتمالية ظهور قطبيةٍ جديدةٍ قد تنتج عن زيادةِ نفوذ هذه المجموعة. وفي الوقت ذاته، تتباين آراءُ المحللين الغربيين بشأن قدرة المجموعة على فرْضِ تحدياتٍ تُهدد النظام الغربي، وبين قدرتها أساسًا على تحقيق أهدافها، مثل إنشاء عملةٍ خاصة بها وتطوير بديل فعّال للمؤسسات الغربية القائمة، نظرًا للتحديات الكبيرة التي تواجهها.
ورغم التوترات الجيوسياسية على الساحة الدولية، فإن التكتلَ مستمرٌ في طموحه لضمِّ مزيدٍ من الأعضاء الجدد. وأصبح أهمية التكتل ليس فقط عددَ أعضائه، بل حجمه الاقتصادي، الذي أصبح يمثل أكثر من ربع الاقتصاد العالمي، أي حوالي 28% من الناتج الاقتصادي العالمي، وما يقرب من 47% من إنتاج النفط الخام العالمي. وبذلك، تزداد أهميةُ التكتل يومًا بعد يوم.
وفي حين أن هناك نحو 30 دولةً تقدمتْ بطلبٍ رسميٍ أو أبدت اهتمامها بالانضمام إلى التكتل، فإن امتناع كازاخستان عن التقدم بطلب للانضمام يثير التساؤلات، فباعتبارها لاعبًا اقتصاديًا هامًا في منطقة أوراسيا، تُطرح تساؤلات حول أسباب هذا الامتناع.
في هذا السياق، يوضح البروفيسور مايكل روسي، عضو هيئة التدريس بقسم العلوم السياسية في جامعة لونغ آيلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، في مقالته المعنونة “Why Kazakhstan is Refraining from Joining BRICS” العوامل التي تحول دون انخراط صناع القرار في كازاخستان في مجموعة البريكس.
كازاخستان بين مطرقةِ التعدديةِ وسندان التحالفات: تحدياتُ الانضمام إلى البريكس:
يشير الكاتب إلى أن أهدافَ السياسة الخارجية لكازخستان والمتمثلة في السعي الجاد للحفاظ على دورها كوسيطٍ محايدٍ في النزاعات الإقليمية، مستمدةًً قوتها من التزامها بمبادئ الأمم المتحدة ومبادئ التعددية، وقد أثبتت نجاحها في هذا الدور من خلال مشاركتها بمفاوضات الحرب الأهلية السورية، كما شاركت في المفاوضات بين أرمينيا وأذربيجان، إلا أن هذا الدورَ قد يتعرضُ للخطر في حال انضمام كازاخستان إلى مجموعة البريكس، والتي تضم قوى عظمى مثل الصين وروسيا، مما قد يضعها في موقفٍ حرج ويصعب عليها الحفاظ على حيادها، ولكن في اعتقادي أنه على الرغم من رغبتها لَعِبَ دور الوساطة والحياد إلا أن هذا الدور لم ينتجْ عنه نتائج فعالة تجعلها تتخوف من فقدانه.
من جهةٍ أخرى، يفرضُ الموقع الجغرافي لكازاخستان تحدياتٍ خاصة، حيث تقع بين قوى عالمية متنافسة، إن سعيها لتحقيق التوازن في علاقاتها مع هذه القوى يجعلها حريصةً على عدم الانحياز بشكلٍ كامل لأي طرف. والانضمام إلى البريكس قد يدفع كازاخستان نحو التقارب مع الصين وروسيا، مما قد يؤثر سلبًا على علاقاتها مع شركاء آخرين مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبالتالي، فإن قرار الانضمام إلى البريكس يمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة كازاخستان على الحفاظ على استقلاليتها واتباع سياسة خارجية متوازنة.
كازاخستان بين براجماتيةِ التعاون والمحافظة على التوازن:
يؤكد روسي على أنه لا يمكنُ قراءةُ قرار كازاخستان بعدم الانضمام إلى مجموعة البريكس بمعزلٍ عن سياق العلاقات الاقتصادية والجيوسياسية المعقّدة التي تشهدها المنطقة، فبينما تتمتع أستانا بعلاقاتٍ اقتصادية وثيقة مع كل من الصين وروسيا، فإن الانضمام إلى مجموعة البريكس قد يحدُّ من قدرتها على الحفاظ على توازنها في الساحة الدولية. فمن ناحية، تسعى كازاخستان إلى تعزيز التعاون الاقتصادي مع القوى الإقليمية الكبرى، كما يتضح من حجم التجارة المتزايد مع الصين وروسيا والمشاريع المشتركة العديدة.
ومن ناحيةٍ أخرى، تدرك كازاخستان أهمية الحفاظ على استقلاليتها واتخاذَ قرارات سياسية واقتصادية تستندُ إلى مصالحها الوطنية، لذا، فإن قرارها بالامتناع عن الانضمام إلى البريكس يعكس تقييماً دقيقاً للمكاسب والخسائر المحتملة، حيث قد يؤدي الانضمام إلى زيادةِ التبعية الاقتصادية والسياسية لدول معينة، وتقويض قدرة كازاخستان على لَعبِ دور الوسيط في المنطقة، ويرى أنه في حين تواجدها بالفعل في منظمات إقليمية مشتركة مع كل من الصين وروسيا فهي ليست في حاجهٍ ملحّةٍ للانضمام للبريكس.
تحليل قرار عدم الانضمام إلى مجموعة البريكس
يقر مايكي روسي بأن قرارَ كازاخستان بعدم الانضمام بأنه قرارٌ عمليٌ حيث يتسق مع إستراتيجيتها الجيوسياسية الأوسع، والتي تهدف إلى تعزيز دورها كدولة وصل بين آسيا وأوروبا، فموقع كازاخستان الإستراتيجي يجعلها شريكاً جذاباً للعديد من القوى الدولية، مما يتيح لها الاستفادةَ من المنافسة بين هذه القوى لتحقيق أهدافها التنموية، فمن خلال المشاركة في مبادراتٍ مثل الحزام والطريق وطريق النقل الدولي عبر بحر قزوين، تسعى كازاخستان إلى تحويلِ موقعها الجغرافي إلى ميزةٍ تنافسيةٍ، وتعزيز دورها في التجارة العالمية، وبالتالي، فإن قرارَ عدم الانضمام إلى البريكس يمثّل جزءاً من استراتيجيةٍ أوسع تهدف إلى تحقيق التوازن بين المصالح الوطنية والالتزامات الدولية، والحفاظ على مرونة كافية للتكيف مع التغيرات المتسارعة في البيئة الدولية.
ويؤكد أن قرارها يعكسُ نهجًا براجماتياً يوازن بين المصالح الاقتصادية والتطلعات الجيوسياسية، فبينما تُدرك أستانا أهميةَ تعزيز العلاقات التجارية مع القوى الاقتصادية الصاعدة مثل الصين وروسيا، فإنها تسعى أيضًا إلى الحفاظ على حيادها في المنافسات الدولية المتزايدة، انضمام كازاخستان إلى البريكس، في هذا السياق، قد يضعها في موقفٍ حرج ويحد من قدرتها على المناورة بين القوى الكبرى والتعرض لمناورات مع دول الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. لذا، فإن اختيارها المشاركة في قمة بريكس دون السعي لعضويةٍ كاملة يعكس رغبتها في الاستفادة من منصة البريكس للتفاعل مع أعضائها، مع الحفاظِ في الوقت نفسه على مسافةٍ آمنة تسمح لها بتنويع شراكاتها الدولية، وهذا النهْجُ الاستراتيجي لكازاخستان يعكسُ بوضوحٍ التحديات التي تواجهُ الدول المتوسطة الحجم في عالم متعدد الأقطاب، حيث يتعين عليها اتخاذ قرارات صعبة لضمان مصالحها الوطنية في بيئة دولية متغيرة.
يعتبر قرار كازاخستان بعدم الانضمام في الوقت الحالي لا يعني بالضرورة انحيازها ورغبتها للانضمام للمعسكر الغربي وعلى الرغم من التوترات البسيطة في العلاقات الاقتصادية بين أستانا وموسكو حيث ردت روسيا بشكلٍ سلبيٍ من خلال فرْضِ حظرٍ على الوارداتِ الكازاخستانية يمكن القول أنها ستتغلبُ على هذه التوترات نتيجة للعلاقةِ القويةِ بين البلدين والروابط الإقليمية بينهم ، وتأكيدًا أن قرارَها بالانضمام ربما كان توتراتٍ أكبر شدة مع الغرب.
استنتاج
يُمثلُ قرارُ كازاخستان بعدم الانضمام إلى مجموعة البريكس في الوقت الراهن نقطةً محوريةً في سياساتها الخارجية، حيث تعكسُ رغبةَ أستانا في الحفاظ على توازنٍ دقيقٍ بين القوى العالمية المتنافسة، فمن جهة، تسعى كازاخستان إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا، ومن جهة أخرى، تحرصُ على الحفاظ على استقلاليتها وعدم الانجرار إلى صراعاتِ القوى الكبرى، هذا القرار البراجماتي يعكسُ إدراك كازاخستان لأهمية موقعها الجغرافي الاستراتيجي، وكيف يمكنها الاستفادة منه لتعزيز دورها كوسيط ومحور للتجارة والتعاون الإقليمي.
ومع ذلك، فإن هذا القرارَ يُثير تساؤلاتٍ حول مستقبل العلاقات بين كازاخستان وروسيا والصين، خاصةً في ظل التوترات الأخيرة، فبينما تسعى كازاخستان إلى الحفاظ على علاقاتٍ جيدةٍ مع روسيا والصين، فإنها تواجه تحدياتٍ في تحقيق هذا الهدف في ظل التطورات الجيوسياسية المتسارعة.
ويمكن القول إن قرارَ كازاخستان بعدم الانضمام إلى البريكس هو قرارٌ معقّدٌ ومتعدد الأبعاد، ويعكس التحدياتِ التي تواجهُ الدولَ المتوسطة الحجم في عالم متعدد الأقطاب، فبينما تسعى هذه الدول إلى تحقيق التنمية الاقتصادية وتعزيز مكانتها الدولية، فإنها تواجهُ ضغوطًا متزايدةً من القوى الكبرى التي تسعى إلى توسيع نفوذها، وفي هذا السياق، يجب على كازاخستان أن تواصلَ تطوير استراتيجيةٍ خارجيةٍ واضحة ومتماسكة، تهدف إلى الحفاظ على استقلاليتها وتعزيز دورها الإقليمي.
