المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > الدراسات الأمنية والإرهاب > قراءةٌ تحليليةٌ في مُخرجاتِ اجتماعِ مجلس الأمن القومي التركي
قراءةٌ تحليليةٌ في مُخرجاتِ اجتماعِ مجلس الأمن القومي التركي
- مايو 29, 2025
- Posted by: mostafa hussien
- Category: الدراسات الأمنية والإرهاب تقارير وملفات
لا توجد تعليقات

إعداد: أماني السروجي
باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية
عقدَ مجلسُ الأمن القومي التركي اجتماعَه في 22 مايو 2025 في سياقٍ إقليميٍ ودوليٍ بالغ التعقيد، تتقاطع فيه التهديدات الأمنية التقليدية مع التحولات الجيوسياسية المتسارعة في الجوار المباشر لتركيا، وقد جاء الاجتماع برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان ليُعيدَ التأكيدَ على ثوابت السياسة التركية في مكافحة الإرهاب، ويكشفَ في الوقتِ ذاته عن تحوّلٍ لافتٍ في مقاربة أنقرة تجاه قضايا الإقليم، حيث لم تعدْ التهديداتُ تُفهم ضمن حدود الدولة فقط، بل باتتْ مرتبطةً بمشروعٍ تركيٍ أوسع يهدف إلى تصدير الاستقرار الإقليمي وإعادة تشكيل هندسة التوازنات الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط والقوقاز وشمال أفريقيا.
يحاول هذا التحليل تفكيك أبرز مضامين الاجتماع، ورصد أبعاد التحول في الرؤية التركية، عبر قراءةٍ متعمّقةٍ للغةِ الخطاب الرسمي، بما يُسهمُ في استشراف المسارات المحتملة للدور الإقليمي التركي في المرحلة المقبلة.
الأولويةُ الاستراتيجيةُ لملف الإرهاب
بدأ اجتماعُ مجلس الأمن القومي التركي بعرضٍ شاملٍ حول العمليات العسكرية والأمنية التي نفذتها تركيا داخل البلاد وخارجها، ضد ما وصفته بـ”جميع أنواع التهديدات والمخاطر”، مع التركيز على منظمات مثل PKK/KCK، PYD/YPG، تنظيم غولن، وتنظيم داعش، ويعكسُ هذا الترتيبُ في استعراضِ المعلومات أن ملفَ الإرهاب مازالَ أولويةً في الأجندة الاستراتيجية لأنقرة، ويشيرُ إلى أن الدولةَ التركيةَ تسعى إلى ترسيخِ صورة الاستباق والحسم في معالجة التهديدات التي تراها وجودية.
كما أن الجمعَ بين هذة التنظيمات في خطابٍ موحدٍ، يخدم أهدافًا سياسية أيضًا، من خلال تسويق الحرب على الإرهاب كقضيةٍ قوميةٍ جامعةٍ تتجاوزُ الانقساماتِ السياسيةَ الداخليةَ، ويُشكل التأكيد على “النجاح” في تنفيذ هذه العمليات، وذكر “الإصرار والعزم”، جزءًا من خطاب سيادي موجه للجمهور الداخلي والخارج، يراد منه تعزيز الثقة في الأجهزة الأمنية من جهة، وإرسال رسالة ردع واضحة إلى الفاعلين غير الدوليين من جهة أخرى.
وتم تسليط الضوء على “الخطوات المتخذة لإنشاء تركيا خالية من الإرهاب”، مع تأكيد على مواصلة عملية التصفية “بحساسية”، وإزالة الإرهاب “بشكل دائم” من الأجندة الوطنية، وذلك في إشارةٍ إلى التزامِ المجلسِ بمتابعة عملية تفكيك حزب العمال الكردستاني ونزْعِ سلاحه عن كثب، كما أن هذا التعبيرَ لا يعكسُ فقط حالةَ التقدم الأمني من وجهة نظر أنقرة، بل يشير أيضًا إلى مرحلةٍ جديدةٍ تسعى تركيا إلى تكريسها كواقعٍ سياسيٍ واستراتيجيٍ، وهي الانتقال من حالة المواجهة المستمرة إلى “نهاية الحرب” مع الإرهاب – وهو مفهومٌ محفوفٌ بالتحديات نظريًا وعمليًا.
كما أن عبارةَ “الوصول إلى تركيا أقوى وأكثر ازدهارًا من خلال تعزيز وحدة وتضامن أمتنا” تربط بين الأمن والتنمية، في محاولةٍ لتوسيعِ مشروعيةِ السياسات الأمنية من خلال ربطها بالمكتسبات الاقتصادية والاجتماعية المنتظرة، وهو توجّهٌ يُلاحظُ في خطابِ الرئيس رجب طيب أردوغان مؤخرًا، فقد أكدَ في عددٍ من الخطابات لا سيَّما مع مطلعِ عام 2025 أنه سوف تُفتح أبوابُ عصرٍ جديدٍ من الديمقراطية والتنمية عندما يتم القضاء على مشكلة الإرهاب.
“تركيا خالية من الإرهاب” كنقطة انطلاق لمشروع استقرار إقليمي
جاء البيان الختامي ليؤكدَ مجددًا على شعار “تركيا خالية من الإرهاب”، في خطوةٍ تعكسُ تطوراً نوعيًا في مقاربة أنقرة لهذا الملف من أولوية أمنية محلية إلى ركيزة أساسية في مشروع سياسي إقليمي أوسع، فالقضاء على الإرهاب لم يعدْ هدفًا منعزلًا، بل باتَ أداةً لإعادةِ تشكيل البيئة الأمنية للمنطقة، وقد حرصَ المجلس على تسليط الضوء على إنجازات تركيا ضد أطراف متعددة، بما يوحي بأنها باتت تمسكُ بزمام المبادرة في مسرح العمليات متعدد الجبهات.
وما يميز هذا الاجتماعُ تحديدًا هو طرحُ رؤيةٍ استراتيجية تقومُ على تطهير “الجغرافيا المشتركة” من الإرهاب، بما يمهدُ – وفق التصور التركي – لانطلاقةٍ سلميةٍ جديدةٍ في المنطقة، ويُروّج لهذا النجاح كمنصة لبناء شراكات أمنية إقليمية، خاصة مع العراق وسوريا وإيران، ضمن مسارٍ أوسع يشملُ أيضًا التحالف الأمني الخماسي الذي أطلقته تركيا بمشاركة لبنان والأردن، كترجمة عملية لمبدأ “الملكية الإقليمية للأمن”.
ويعكس هذا التوجّهُ الجديدُ في السياسةِ التركية محاولةً لتصدير الأمن كأداةٍ دبلوماسيةٍ، حيث لم تعدْ أنقرة ترى استقرارَ جوارها عاملًا مساعدًا فقط، بل امتدادًا مباشرًا وحيويًا لأمنها القومي، وفي هذا الإطار، تسعى تركيا إلى تثبيت نفسها كفاعلٍ مسؤولٍ في النظام الإقليمي، يعيد هندسة البيئة الأمنية من خلال آليات جماعية، وبمنأى عن الهيمنة الغربية التقليدية، كما يكشف البيان عن طموحٍ تركيٍ متصاعد لإعادة تعريف مفهوم “الأمن الوطني”، ليشمل الإقليم الأوسع في ظل ترتيبات تتولاها تركيا نفسها، مستندةً إلى نفوذٍ عسكريٍ وتحركاتٍ ميدانيةٍ تدعم رؤيتها للأمن الجماعي.
التأكيدُ على دعم وحدةِ واستقرار سوريا
وفيما يتعلق بسوريا، فقد ناقشَ المجلسُ أبرز التطورات والأوضاعَ الأخيرةَ في دمشق، وأكد على مواصلة دعم جهود الحكومة السورية لضمان الأمن والاستقرار في جميع أنحاء البلاد، كما أكد أهمية القضاء على المحاولات التي من شأنها المساسُ بسيادة سوريا وبنيتِها الوحدوية، ليبرزَ بذلك التزامَ أنقرة بلَعبِ دورٍ محوريٍ في دعم وحدة واستقرار سوريا، في ظل ما تتمتعُ به من نفوذٍ ميدانيٍ وسياسيٍ واسع بعد سقوط نظام الأسد، كما تسعى لتثبيت نفسها كفاعل رئيسي في صياغة مستقبل سوريا.
وقد أكد البيان على استمرار الدعم القوي لجهود الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، معبّرًا عن الارتياح إزاء التوجّه الدولي نحو رفع العقوبات المفروضة على سوريا، في إشارة إلى رغبة أنقرة في تهيئةِ بيئةٍ إقليميةٍ أكثر استقرارًا وانفتاحًا سياسيًا واقتصاديًا، ويعكس هذا الموقف تقاربًا متصاعدًا بين أنقرة ودمشق، وتوافقًا على جعْل استقرار سوريا ركيزةً أساسيةً في مشروع الأمن الإقليمي، كما يشيرُ هذا التوجّهُ إلى انتقال العلاقات من مرحلةِ التنسيق الأمني إلى بناء شراكات استراتيجية تشملُ ملفاتٍ حيويةً كإعادة الإعمار والطاقة والنقل، مع ما يحمله ذلك من دلالات على أولوية سوريا في الحسابات الإقليمية التركية.
ودعا البيان إلى اتخاذِ موقفٍ مناهضٍ لأي فعالية أو نشاطٍ من شأنه جرُّ سوريا إلى حالةٍ من عدم الاستقرار، ويأتي ذلك التصريح في ظل انتهاكات إسرائيل المتواصلة والمتصاعدة ضد سيادة سوريا، بما في ذلك الغاراتُ الجويةُ المتعددةُ على دمشق ومدن أخرى، فضلاً عن إعلان الجيش الإسرائيلي عن استعداده لحماية الدروز عقب الاشتباكات الأخيرة في مناطق درزية في سوريا، وتهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي بالتدخل إذا فشلت السلطات السورية في حماية الأقلية الدرزية.[1]
كما يأتي أيضًا في سياق مخاوف أنقرة من احتمالات عدم التزام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) باتفاقها مع الحكومة الانتقالية، والذي ينصُ على اندماجها في القواتِ المسلحة السورية، ورغم إشادةِ تركيا بالاتفاق، إلا أن وزير خارجيتها حذّر من إمكانيةِ وجود “مشاكل أو ألغام مستقبلية” في طريق الحل، مؤكدًا أن بلادَه ستبقى تتابعُ التطوراتِ من كثْب، ولا سيَّما ما يتعلق بأمنها القومي.[2]
وفي هذا الإطار يجدرُ الإشارةُ أنه في مقابل هذا البيان أعلن ألدار خليل، عضو المجلس الرئاسي لحزب الاتحاد الديمقراطي، أن الأحزابَ الكرديةَ السورية تستعدُ لإرسال وفد إلى دمشق قريباً، لإجراء محادثاتٍ بشأن المستقبل السياسي لمناطق شمال شرقي سوريا، وذلك “في إطار سعيها لتحقيق هدفها المتمثل في الحصول على إدارة ذاتية”، وهو ما يؤكد المخاوف التركية بشكل او بأخر.[3]
إدانةُ الإنتهاكاتِ الإسرائيلية
وفي سياق تأكيده على التهديدات التي تُعيق جهودَ إرساء الاستقرار في المنطقة، وجّه المجلس انتقاداتٍ صريحةً للسياسات الإسرائيلية، واصفًا إياها بأنها تمثّلُ عائقًا بنيويًا أمام السلام في الشرق الأوسط، نظرًا لما تحمله من طابعٍ توسّعيٍ ومنهجيٍ يشمل غزة وسوريا ولبنان واليمن، ويُلاحظ هنا تبنّي أنقرة خطابًا جديدًا أكثر شمولًا، لا يقتصرُ على إدانةِ العدوان في غزة، بل يربط بين جبهاتٍ متعددةٍ ضمن تصورٍ موحدٍ لسياسات إسرائيلية تُهدد البنية الأمنية لمنطقة الشرق الأوسط برمتها.
ويكشف هذا الطرح عن رغبةٍ تركيةٍ في توسيع نطاق الاستجابة لهذه التهديدات عبر تعزيز منطق “الأمن الجماعي الإقليمي”، والتأكيد على أن معالجةَ الخلل في موازين القوى لا يمكن أن تتمَ دون كبْحِ جماحِ السياسات الإسرائيلية، التي ترى فيها أنقرة العامل الأكثر تعطيلًا لمسار التسويات، كما يُعبّر هذا الموقف عن تبلورِ محورٍ إقليميٍ جديدٍ تعيدُ فيه تركيا التموضع كقوة توازن في مواجهة إسرائيل، عبر بناء شبكات تنسيق مع دول الجوار المتضررة مباشرة من التدخلات الإسرائيلية.
الوساطةُ بين روسيا واوكرانيا
أكد البيان على دور تركيا كمبادِرةٍ في مسارات الوساطة الدولية، خاصة فيما يتعلق بجهود إنهاء الحرب الروسية–الأوكرانية، التي وُصفت بأنها دخلت مرحلة “حساسة”، ويعكس هذا الموقفُ استمرارَ أنقرة في توظيف أدوات “الدبلوماسية متعددة المسارات” كأداة للتأثير العالمي، وهو ما يعززُ موقعها كطرفٍ قادرٍ على التواصل مع أطرافِ الصراع دون أن يُنظرَ إليها كخصمٍ أو حليفٍ تقليديٍ لأي منهما، وقد حرصت تركيا على التأكيد أنها لن تكتفي بلَعبِ أدوارٍ فنية، بل ستبقى طرفًا مباشرًا في الدفع نحو “سلام دائم وعادل”، بما يُعطي تحركاتِها طابعًا مؤسسيًا متصاعدًا في معادلات الأمن الأوروبي والدولي.
دعمُ مفاوضاتِ السلام بين أذربيجان وأرمينيا
وفي سياق موازٍ، أشار البيان إلى التقدم الذي أحرزته مفاوضاتُ السلام بين أذربيجان وأرمينيا، مؤكدًا أن الطرفين توصلا إلى مسودةِ اتفاقيةٍ تمهّدُ لتسويةٍ تاريخيةٍ، وقد جاء هذا التطور ليعززَ من تصوراتِ أنقرة حول بناء نظامٍ إقليميٍ قائمٍ على تسويات تُنتج “سلامًا وظيفيًا” يخدم المصالح الجماعية، بعيدًا عن منطق الاستقطاب.
وترى تركيا أن استقرار جنوب القوقاز يُعد امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي، وتعتبرُ نجاحَ الاتفاق المحتمل انعكاسًا لفعالية سياساتها الإقليمية، لا سيَّما أنها لعبتْ دورًا موازيًا للدبلوماسية الغربية من خلال دعمها المتواصل لباكو وسعيها في الوقت ذاته لاحتواء التصعيد مع يريفان ضمن مقاربات أكثر توازنًا.
تأكيدُ الدور التركي في أفريقيا
عكستْ مناقشاتُ المجلس للسياسات الخارجية استمرار التوجه التركي نحو ترسيخ نفوذها في القارة الأفريقية، ولا سيَّما في شمالها وشرقها، حيث أُكد التزام أنقرة بتعزيز دعمها للدول الشقيقة في مساعيها لتحقيق الأمن والاستقرار، ويأتي هذا الموقفُ في سياقِ استراتيجيةٍ تركيةٍ أوسع تقوم على توسيع التفاعل مع الفضاء الأفريقي عبر أدوات متعددة، تشملُ التعاونَ الأمنيَ والعسكريَ، والاستثمار في البنى التحتية، وتعزيز الدور الدبلوماسي والمجتمعي.
ويُلاحظ أن تركيا ركّزت بشكلٍ خاص على مناطق الأزمات في القرن الأفريقي وليبيا، حيث تنظر إلى استقرار تلك الدول باعتباره جزءًا من أمنها الإقليمي المتصل بامتدادات البحر الأحمر والمتوسط، كما تسعى أنقرة إلى تفعيلِ شراكاتٍ أمنيةٍ واقتصاديةٍ طويلة الأمد في المنطقة، بما يعزز من حضورها الجيوسياسي ويدعم رؤيتها لنظام دولي أكثر توازنًا وشمولية.
ختامًا
يُظهرُ اجتماع مجلس الأمن القومي التركي تطوراً نوعيًا في الرؤية الاستراتيجية لأنقرة، إذ لم يعدْ الأمنُ مسألةً داخليةً محضةً، بل أصبح مدخلًا لإعادة هندسة الإقليم وفق تصورات تركية للأمن الجماعي والاستقرار المستدام، ومن خلال دمْجِ أدواتِ القوة الصُلبة بالوساطة والدبلوماسية، تسعى تركيا إلى ترسيخ مكانتها كفاعلٍ مركزيٍ يعيدُ رسْمَ موازين القوى في جوارها المباشر، من القوقاز إلى سوريا وغزة. هذا التحوّل، وإن عكسَ طموحًا مشروعًا لبناء بيئةٍ إقليميةٍ مستقرةٍ بقيادة تركية، إلا أنه يظل مشروطًا بقدرة أنقرة على إدارة التعقيدات الميدانية، وتحقيقِ التوازنِ بين مشاريعها الأمنية وتحفظات القوى الإقليمية والدولية.
المصادر :
[1] الجيش الإسرائيلي يعلن استعداد قواته لحماية الدروز في سوريا، وتنديد واسع بالغارات الإسرائيلية، بي بي سي نيوز، 3 مايو 2025. https://www.bbc.com
[2] د. سعيد الحاج، لماذا تركيا حذرة من اتفاق الشرع مع قسَد؟، الجزيرة نت، 17 مارس 2025. https://www.aljazeera.net
[3] سعيد عبد الرازق، مخاوف متصاعدة في تركيا تجاه عدم التزام «قسد» باتفاقها مع دمشق، الشرق الاوسط، 23 مايو 2025. https://aawsat.com