في سياق إعادة تشكيل أولويات الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب، برزت في 13 نوفمبر 2025 مبُادرةٌ إسرائيليةٌ جديدةٌ تهدف إلى الدفع نحو اتفاقٍ أمنيٍ جديدٍ مع الولايات المتحدة الأمريكية يمتد لعشرين عامًا[1]، ويُعدّ الأوسع نطاقًا مُقارنةً بمذكرات التفاهم السابقة، على أن يستمر هذا الاتفاق حتى الذكرى المئوية لقيام الدولة الإسرائيلية في عام 2048، ويأتي هذا التحرك في ظل اقتراب انتهاء العمل بمذكرة التفاهم الحالية المُوقعة عام 2016 في عهد إدارة الرئيس الأمريكي “باراك أوباما”، والتي تُقدّم بموجبها واشنطن مساعداتٍ سنويةً تبلغ نحو 4 مليارات دولار، ومع تزايد الشكوك داخل الحزب الجمهوري تجاه المُساعدات الخارجية، خصوصًا لدى التيار المُتأثر بسياسات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الانعزالية تحت شعار “أمريكا أولًا”، فقد استُؤنفت المُباحثات حول المذكرة الجديدة خلال الأسابيع الماضية بعد تأخرها بسبب تطورات الحرب في غزة، حيث عرضت تل أبيب إبرام اتفاقٍ يمتد لعقدين يتضمن توجيهَ جزءٍ من التمويل إلى مشروعاتٍ مُشتركةٍ في مجال البحث والتطوير، في محاولةٍ لاستيعاب الانتقادات الأمريكية الرافضة لزيادة المُساعدات العسكرية المُباشرة.
يأتي طرْحّ إسرائيل لاتفاقٍ أمنيٍ طويل الأمد مع الولايات المتحدة في سياق إعادة تعريف أولويات الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، حيث يُمكن إجمال بنود الاتفاق وخلفيته التاريخية على النحو الآتي:
1- الأساس المالي والاستراتيجي لمذكرة التفاهم الحالية (2016-2028): يأتي الاتفاق الأمني الجديد في إطار سلسلةٍ طويلةٍ من مذكرات التفاهم بين إسرائيل والولايات المتحدة، بدأت مُنذ عام 1998 وتطورت تدريجيًا لتعكسَ التغيرات الاستراتيجية والإقليمية في الشرق الأوسط، حيث جاءت مُذكرة التفاهم الثالثة المُوقّعة عام 2016 في عهد إدارة الرئيس الأمريكي أوباما، تقديم مساعداتٍ سنويةٍ تُقدّر بنحو وقُدرت قيمتها الإجمالية بـ 38 مليار دولار، وكان الهدفُ الأساسيُ من هذه المساعدات هو تمكينَ إسرائيل من الحفاظ على التفوق العسكري النوعي ، وتوفيرَ الاستقرار في التخطيط العسكري في منطقةٍ إقليميةٍ مُضطربةٍ، وكان التوزيع السنوي للمساعدات يبلغ 3.8 مليار دولار، هذا المبلغ كان يُقسّم إلى شريحتين رئيسيتين، وهما 3.3 مليار دولار في شكل تمويل عسكري أجنبي و500 مليون دولار لتمويل الصواريخ الدفاعية، هذا الدعم المالي سمح لإسرائيل بالحصول على أحدث المُعدات العسكرية الأمريكية، ومن أبرزها مقاتلاتُ الجيل الخامس أو “” F-35 Joint Strike Fighter [2] حيث كانت إسرائيلُ أولَ شريكٍ أجنبيٍ يتسلّمُ هذه الطائرات.
2- التحول الجيوسياسي وتداعيات حرب غزة (2023-2025): كانت حرب غزة بمثابةِ زلزالٍ استراتيجيٍ كشف عن العديد من نقاط الضعف في العقيدة الأمنية الإسرائيلية ولقد تطلّب ذلك دعمًا عسكريًا أمريكيًا غير مسبوق، وبالتالي كان عاملًا حاسمًا في تعجيل المفاوضات الأمنية الأمريكية- الإسرائيلية وتعديل بعض شروطها، حيث أدت الحرب إلى استنزافٍ هائلٍ للمخزونات العسكرية، ما دفع الجيش الإسرائيلي لتسلّم ما يقرب من 120 ألف طن من المُعدات العسكرية والذخائر من الولايات المتحدة مُنذ بدء الحرب[3]، هذا الطلبُ الهائلُ أدّى إلى قفزةٍ ماليةٍ حادة في المساعدات العسكرية المُقدّمة من واشنطن، ففي السنة المالية 2024، قفز التمويل العسكري الأمريكي إلى 6.8 مليار دولار، مُقارنةً بالمبلغ الأساسي البالغ 3.3 مليار دولار في السنوات السابقة، ويُمثل الارتفاع الحاد في مُساعدات عام 2024، الذي تجاوز بكثير المبلغ السنوي المُتفق عليه في مُذكرة التفاهم الحالية، دليلًا ماديًا واضحًا يُستخدم الآن من قِبلِ تل أبيب لتبرير طلبها لزيادة المبلغ السنوي الأساسي في الاتفاق الجديد، حتى وإن كان المُقترح الأولي يدور حول مبلغ الاتفاق السابق كحدٍ أدنى، إذ إن هذا يشير إلى أن الـ 3.8 مليار دولار السنوية لم تعدْ كافيةً لمواجهة صراعٍ إقليميٍ واسعٍ وطويل الأمد، وستعمل تل أبيب على استخدام الحاجة الملحّة التي أظهرتها الحرب كرافعةٍ للقيمة الإجمالية للاتفاق المئوي بحلول عام 2048 بشكلٍ ضمنيٍ أو صريح[4]، ولقد كانت المُحادثات حول المذكرة الجديدة مُؤجلةً مُنذ أشهر بسبب تطورات الحرب على غزة ، قبل أن تُستأنف مؤخراً في 13 نوفمبر عام 2025 ، مع تركيزٍ إسرائيليٍ على تأمين الدعم قبل انتهاء مدة الاتفاق الحالي في عام 2028.
3- بنود التمويل والمشروعات المُشتركة: يتضمن الاتفاقُ الجديدُ توجيه جزءٍ من التمويل إلى مشاريع بحثٍ وتطويرٍ مُشتركةٍ بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بما في ذلك مشاريع الدفاع التكنولوجي، الذكاء الاصطناعي الدفاعي، بالإضافة إلى تطوير وتمويل منظومة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية ثلاثية المُستويات، المُكونة من القبة الحديدية من خلال اعتراض الصواريخ قصيرة المدى، وديفيد سلينغ متوسطة المدى، وآرو طويلة المدى، وقد سمحتْ المُساعدات الأمريكية لتطوير هذه المنظومات بتعزيزِ قدراتِ إسرائيل على الحفاظ على تفوقها العسكري النوعي، بينما توفر للولايات المتحدة إمكانية الوصول إلى التكنولوجيا العسكرية المُتقدمة التي تمَّ تطويرها بالتمويل المُشترك، ويُمكن القول بأنه على الرغم من استمرار المساعدات الأميركية، شهدت إسرائيل نموًا ملحوظًا في ميزانيتها الدفاعية الداخلية، إذ بلغ إجمالي ميزانية وزارة الدفاع لعام 2025 نحو 136 مليار شيكل، منها 110 مليارات شيكل لقطاع الدفاع وحده[5]، وهو ما يعكسُ قدرةَ إسرائيل على دمْجِ الدعم الخارجي ضمن هيكلةٍ تمويليةٍ أكثر استقلالية من جانبها، وبالتالي تحقيق تكامل بين التمويل الذاتي والمُساعدات الأميركية.
ثانيًا: دوافع تجديد الاتفاق الأمني
إن المُبادرة الإسرائيلية لتمديد مذكرة التفاهم إلى 20 عامًا، وصولًا إلى الذكرى المئوية لقيام الدولة في 2048، ليست مُجرد طلبٍ لزيادة المدة، بل هي استراتيجيةٌ شاملةٌ للتحصين ضد المخاطر السياسية الداخلية والتهديدات الجيوسياسية المُتزايدة في المنطقة، وذلك على النحو الآتي:
أ- دوافع الردع الاستراتيجي في مواجهة التوترات الإقليمية
1- الخوف من التسلح المصري في سيناء:تزداد مخاوف إسرائيل نحو تنامي قدرات الجيش المصري، خاصةً في سياق تعزيزه لوجوده العسكري في سيناء كردِّ فِعلٍ على الحرب في غزة، وقد عبرّت عن ذلك الحكومة الإسرائيلية في مراتٍ عديدة حيث أشارت إلى حصول مصر على مُقاتلات “رافال” الفرنسية بأنه “نقطة تحول استراتيجية”، مُشيرةً إلى أن الجيش المصري بات من “أقوى وأحدث الجيوش في المنطقة”[6]، وبالتالي فإن تمديد الاتفاق يضمن قدرة إسرائيل على التخطيط الطويل المدى للحصول على أحدث أجيال الأسلحة الأمريكية مثل F-35 وأنظمة الدفاع الصاروخي المُتطورة ، مما يحافظ على تفوقها النوعي على الجيوش الإقليمية، وفي مُقدمتها الجيش المصري.
2- التحصين ضد الخطر الإيراني:ينصُّ التعاون التكنولوجي والاستراتيجي الأعمق بين الولايات المتحدة وإسرائيل على الالتزام المشترك بـ “استخدام كل عناصر القوة الوطنية” لمنع إيران من امتلاك سلاحٍ نوويٍ، وبالتالي فإن هذا الاتفاقَ المُمتد لـ 20 عامًا يرسّخ هذا الالتزام كجزءٍ ثابتٍ من العقيدة الأمريكية تجاه المنطقة، كما ترى واشنطن وتل أبيب أن إيران وحلفاءها في الشرق الأوسط الكبير يشكّلون الخطر الأكبر وبالتالي، فإن الدعم المستمر والمضمون للجيش الإسرائيلي يُعتبر ضرورياً لخدمة هذه المصالح القومية المشتركة في مواجهة النفوذ الإيراني، كما تعتقد إسرائيل أن هذا الالتزام الأمريكي العميق، والممتد لعقدين من الزمان، يساعدها في تفكيك التهديد الوجودي الذي تشكّله إيران وأذرعها في المنطقة.
ب- دوافع إعادة بناء الثقة في الداخل الإسرائيلي
1- تحويل التركيز من الفشل السياسي إلى النجاح الأمني:كشفت أحداث السابع من أكتوبر عن إخفاقاتٍ جسيمةٍ في المنظومة الإسرائيلية الخاصة بالإنذار المبكر والردع التقليدية ، حيث واجهت إسرائيل أزمةَ ثقةٍ داخلية عميقة، في هذا الإطار، يُمثّل تجديد الاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة أداةً استراتيجيةً مزدوجةً، فهو يعيد التأكيد على أن التحالف مع واشنطن لا يزال أبديًا وأن الدولةَ قادرةٌ على تأمين دعمٍ خارجيٍ غير مسبوقٍ ، ومن ناحيةٍ أخرى يحول التركيز من الفشل السياسي إلى ما يمكن تسويقه على أنه نصرٌ أمنيٌ ملموسٌ، كما أن الالتزام طويل الأمد، الممتد لعشرين عامًا، يمنح نتنياهو غطاءً دبلوماسيًا وأمنيًا يُمكّنه من استعادة شرعيته أمام الحكومة الإسرائيلية.
2- التحول نحو استراتيجية أمنية استباقية وتعزيز الشرعية السياسية: في أعقاب السابع من أكتوبر، تحولت إسرائيل نحو نموذجٍ أمنيٍ يعتمد على المنع الاستباقي وتعظيم الاستعداد لاستخدام القوة لمنع تطوير القدرات المعادية، وهو نموذجٌ يتطلب مواردَ ماليةً وتقنيةً ضخمةً ومستدامةً. ومن هنا، يمثّل الاتفاق الأمني طويل الأمد آليةً حيويةً لتوفير التمويل اللازم لتعزيز القدرات الهجومية والاستخباراتية المتقدمة.
ت- دوافع في مواجهة تقلبات السياسة الأمريكية
1- مخاوف من تيار “أمريكا أولاً” MAGA: الدوافع الأولية وراء تمديد الاتفاق هي دوافعُ سياسيةٌ داخليةٌ أمريكية. تهدف إسرائيل إلى ضمان استمرار الالتزام الأمريكي وتحصينه ضد تقلبات الإدارات الرئاسية في واشنطن، هذا القلقُ يتركز بالدرجة الأولى على صعود تيار MAGA أو ماجا المُتأثر بسياسات ترامب الانعزالية تحت شعار “أمريكا أولاً” والذي يُبدي شكوكًا مُتزايدةً تجاه المُساعدات الخارجية ويطالب بتقنينها، ومثل هذه الدعوات أدت إلى تخوف المسؤولين الإسرائيليين من أن تُعرقل تخفيضات ترامب الواسعة للمساعدات الخارجية إمكانية إقرار اتفاق طويل المدى بهذا الحجم. لذا، فإن تسرّع إسرائيل في استئناف المفاوضات في أواخر عام 2025، أي قبل سنوات من انتهاء الاتفاق الحالي في 2028، هو تكتيكٌ استباقيٌ يهدف إلى تأمين الاتفاق قبل أن تتمكنَ إدارة جديدة من فرْضِ مراجعاتٍ جذريةٍ على نهج المساعدات، كما أن تمديد الاتفاق يشملُ فترةً حساسةً وصولاً إلى الذكرى المئوية لقيام إسرائيل عام 2048 يحمل قيمة رمزية واستراتيجية هائلة، إذ يرسَّخُ التحالف كأمرٍ أبديٍ ودائم، إذ ربْطُ الاتفاق بالذكرى المئوية ليس مجرد رمزية، بل هو محاولةٌ لـتأميم الاتفاق داخل الذاكرة القومية الأمريكية، فالالتزامات العسكرية الطويلة الأمد تخلقُ شبكة مصالح عميقة داخل المؤسسات الدفاعية والكونغرس، مما يقلل من احتمالية تسييس العلاقة الثنائية في المستقبل القريب.
2- محاولة لاستيعاب الانتقادات: فبدلًا من الاكتفاء بكونها دعمًا عسكريًا تقليديًا، يتم تقديم الاتفاق على أنه استثمارٌ مشتركٌ في القدرات الأمريكية وليس مجرد منحة لإسرائيل، فإسرائيل تروج للفكرة بأنها تستطيعُ أن تدعم واشنطن من خلال دعم صناعتها العسكرية، وهذا التفكير يهدف إلى جعْلِ الاتفاق أكثرَ قبولاً لدى تيار “أمريكا أولاً” وقاعدة ترامب الانتخابية عبر ضمان استفادة الصناعات الدفاعية الأمريكية من هذه الأموال بشكل مباشر.
3- المصالح المشتركة والاستراتيجية التكنولوجية: إن تبنّي إسرائيل لآلية البحث والتطوير يخدم مصلحة واشنطن الاستراتيجية في الحفاظ على تفوقها التكنولوجي العالمي في ظل المنافسة مع القوى الكبرى حيث روسيا والصين هذا التعاونُ العميقُ يعزز قدرة الولايات المتحدة على دمج الابتكارات الإسرائيلية في مجالات الذكاء الاصطناعي والسيبراني والتي تمتلك إسرائيل فيهم ميزةً نسبيةً مُقارنةً بغيرها من الدول، وبالتالي فإن تمويل مثل تلك المشاريع سوف يعزز الصناعات الأمريكية ويُفيد بشكلٍ كبيرٍ المُقاولين الأمريكيين لهذه البرامج، مما يجعل الاتفاق أداةً لتعزيز ميزانية البحث والتطوير الأمريكية بشكلٍ غير مُباشرٍ في قطاعات حاسمة.
ختامًا:
يُمكن القول: إن مشروع تجديد الاتفاق الأمني الممتد لعشرين عامًا بين الولايات المتحدة وإسرائيل لا يُمثّل مُجرد امتدادٍ أمني لمُذكرة تفاهمٍ قائمةٍ، بل يعكس تحولًا بنيويًا في طبيعة التحالف ذاته، إذ يتقاطع فيه البُعد العسكري مع حسابات الردع الإقليمي، ويتداخل فيه العامل الداخلي الإسرائيلي مع مُتغيرات السياسة الأمريكية، كما يتشابك فيه الأمني بالتكنولوجي في لحظةٍ تتسم بإعادة تشكيل موازين القوة في الشرق الأوسط، وتُظهر القراءة التحليلية أن الحرب على غزة، وتنامي القدرات العسكرية الإقليمية، وصعود تيارات انعزالية في الداخل الأمريكي، كلها عواملُ دفعت تل أبيب إلى تبنّي مُقاربةٍ استباقيةٍ تهدف إلى تحصين التحالف وضمان استدامته حتى عام 2048 باعتباره ركيزةً لا يمكن الاستغناء عنها في بنية أمنها القومي.
[3] جيش الاحتلال: تسلمنا 120 ألف طن من المعدات العسكرية والذخائر منذ 7 أكتوبر، Quds Press ، تاريخ النشر: 20 نوفمبر 2025، متاح على الرابط: https://qudspress.com/230738/
[4] أكسيوس: إسرائيل تسعى لاتفاق أمني جديد مع واشنطن يمتد 20 عامًا، Ultrapalastaine ، تاريخ النشر: 13 نوفمبر 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/lFfeU
[5] تقرير/ الكنيست يصادق بالقراءتين الثانية والثالثة على ميزانية الدولة لسنة 2025، والتي تبلغ 619 مليار شيكل، منها نحو 110 مليارات لوزارة الدفاع، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تاريخ النشر: 26 مارس 2025، متاح على الرابط: https://mukhtaraat.palestine-studies.org/ar/node/36580
[6] تسليح الجيش المصري يفاقم هواجس إسرائيل من فقدان التفوق، Middle East Online ، تاريخ النشر: 15 أبريل 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/bXXyv
