تشهدُ اتفاقياتُ أبراهام في الآونة الأخيرة محاولاتٍ أمريكيةً لإعادة تفعيل مسار التوسع الإقليمي للتطبيع مع إسرائيل، وذلك عبر توجيه الأنظار نحو دول آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة، وتأتي هذه الجهود في إطار سعي إدارة الرئيس دونالد ترمب إلى توسيع قاعدة الشركاء المنخرطين في الاتفاقيات، لا سيَّما بعد تباطؤ فرص إدماج القوى الإقليمية الكبرى، وعلى رأسها المملكةُ العربيةُ السعودية، نتيجة تداعيات الحرب في غزة وما خلّفته من حساسياتٍ سياسيةٍ داخل العالم الإسلامي.
وتختلفُ موجةُ التطبيع المطروحة حاليًا عن الإطار الأصلي الذي شهدته المنطقة عامي 2020–2021؛ إذ لا تستهدفُ إقامةَ علاقاتٍ دبلوماسيةٍ جديدةٍ، بل تعميق وتوسيع العلاقات القائمة بالفعل بين إسرائيل وكل من دول آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، طاجيكستان، قرغيزستان) إضافةً إلى أذربيجان، وهي دولٌ تمتلكُ بالفعل قنواتِ اتصالٍ وتعاونٍ متدرّجٍ مع تل أبيب منذ سنوات عدة. ومن ثمَّ، فإن أي انضمامٍ مرتقبٍ سيكون ذا طابعٍ رمزيٍ في المقام الأول، ويركّز على تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني وتوسيع نطاق الشراكات التكنولوجية، أكثر من إحداثِ تحولٍ جوهريٍ في الوضع الدبلوماسي القائم.
مصالح واشنطن ودوافع الانضمام المطروحة:
تتعامل الولايات المتحدة مع توسيع اتفاقيات أبراهام باعتبارها أداةً لتعزيز حضورها الاستراتيجي والرمزي في آسيا الوسطى، في لحظةٍ دوليةٍ تتسم بتزايد حدة التنافس بين القوى الكبرى، فهذه المنطقة تمثّل مجالًا حيويًا بالغَ الأهمية جيوسياسيًا، نظرًا لموقعها الجغرافي الواقع بين روسيا شمالًا وإيران جنوبًا، فضلًا عن امتلاكها موارد طبيعية رئيسة مثل النفط والغاز، الأمرُ الذي يجعلها ساحةَ تنافسٍ مباشر بين واشنطن وموسكو وبكين.
ومن منظور الإدارة الأمريكية، فإن إدماجَ دولِ آسيا الوسطى في إطار الاتفاقيات – ولو بصورةٍ رمزيةٍ – يحقق مصلحتين متوازيتين: الأولى، تعزيزُ النفوذِ الأمريكي في بيئةٍ إقليميةٍ حساسةٍ ترتبط ببنية الطاقة العالمية وخطوط النقل والتجارة البرية؛ والثانية، إكسابُ إسرائيل مستوياتٍ إضافيةً من الشرعية في العالم الإسلامي عبر توسيع دائرة الشركاء المنخرطين في الاتفاقيات، حتى وإن كانت هذه الدول ترتبط أساسًا بعلاقاتٍ رسميةٍ مع تل أبيب.
كما تمنح هذه الخطوة الإدارة الأمريكية إنجازًا سياسيًا سريعًا في ظل تراجع فرص تحقيق اختراقاتٍ نوعيةٍ مع القوى الإقليمية الكبرى، مثل السعودية، خاصةً في ظل تأثيرات الحرب على غزة. ولذلك تنظر واشنطن إلى هذا التوسّع بوصفه “مكسبًا دبلوماسيًا منخفض التكلفة”، قادرًا على تثبيت حضورها السياسي وإظهار قدرتها على حشْدِ دعمٍ جديدٍ للاتفاقيات، حتى لو اتخذت طابعًا رمزيًا أكثر منه موضوعيًا.
أما من منظور دول آسيا الوسطى، فإن الانخراطَ – ولو شكليًا – في مبادرةٍ تقودها الولايات المتحدة قد يمثّل فرصةً لتوسيع خياراتها الاستراتيجية وتنويع تحالفاتها الخارجية بعيدًا عن الهيمنة الروسية أو التبعية الاقتصادية للصين، كما يمكن أن يوفّرَ انفتاحًا على خبرات إسرائيل في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، والأمن السيبراني، وإدارة المياه والزراعة، وهي مجالاتٌ ذاتُ أولويةٍ خاصة في دول مثل أوزبكستان وتركمانستان التي تواجهُ تحدياتٍ هيكليةً مرتبطةً بنُدرة الموارد المائية وتراجع الإنتاج الزراعي.
وعليه، يبدو أن دوافعَ الانضمام – أو القبول الرمزي به – تقومُ على تقاطعٍ براجماتٍي بين رغبة واشنطن في توسيع نفوذها الجيوسياسي، وبين سعي حكومات المنطقة إلى تحسين موقعها التفاوضي على الساحة الدولية وتعزيز حوافز التنمية عبر التعاون الاقتصادي والتكنولوجي.
مواقف دول آسيا الوسطى والتفاعل مع المبادرة:
تتباينُ استجاباتُ دول آسيا الوسطى إزاء المبادرة الأمريكية لتوسيع اتفاقيات أبراهام تبعًا لأولوياتها الاستراتيجية وحساباتها الجيوسياسية الداخلية والخارجية، وتُظهر القراءة المقارنة أن المنطقةَ لا تتحرك كتكتلٍ متجانسٍ، بل تتعاملُ كل دولةٍ مع الفكرة انطلاقًا من معادلةٍ دقيقةٍ تجمع بين مصالحها الاقتصادية واعتباراتها السياسية والدينية والإقليمية.
كازاخستان: الأكثر انفتاحًا واستعدادًا للانخراط
تبدو كازاخستان الدولة الأكثر قابليةً للانضمام الرمزي إلى اتفاقيات أبراهام، فقد عبّر الرئيس قاسم جومارت توكاييف في مناسباتٍ دوليةٍ عن دعمه للمسار التطبيعي باعتباره نموذجًا لـ”تعزيز الثقة والسلام”، كما انحازت أستانا إلى خطاب المصالحة في الشرق الأوسط، ودعّمت بصورةٍ علنيةٍ المقترح الأمريكي لتسوية النزاع في غزة، ما يعكسُ درجةً من التناغم مع الرؤية الاستراتيجية لواشنطن، ويُرجّح أن تكون كازاخستان المرشّحَ الأبرزَ للانضمام، خاصةً في حال اقتران الخطوة بحوافز اقتصادية واستثمارية أمريكية، وبما يعزّز مكانتها بوصفها شريكًا إقليميًا معتدلًا يوازن بين موسكو وواشنطن.
أوزبكستان: تبني الحذر الدبلوماسي وتفضيل التعاون الهادئ
تسلك أوزبكستان نهجًا أكثر تحفظًا، يقوم على الفصل بين التعاون الفني مع إسرائيل، والاصطفاف السياسي العلني ضمن اتفاقيات أبراهام. وقد أكدت وزارة الخارجية الأوزبكية أنها لم تتلق طلبًا رسميًا للانضمام، وأعادت التأكيد على دعمها المبدئي لحلّ الدولتين وإقامةِ دولةٍ فلسطينيةٍ على حدود 1967، فضلًا عن اتخاذ مواقفَ إنسانيةٍ تجاه غزة باستقبال جرحى فلسطينيين للعلاج، ويعكسُ هذا السلوكُ براجماتيةً محسوبةً، استمرار التعاون الثنائي مع إسرائيل في مجالات التقنيات والزراعة، مع تجنّب الإعلان السياسي الذي قد يُفهم بوصفه تحولًا في الموقف من القضية الفلسطينية أو اصطفافًا استراتيجيًا مع واشنطن على حساب موسكو أو بكين.
تركمانستان: الحياد الدائم كقيد مسبق على الانضمام
تنطلق تركمانستان من مبدأ “الحياد الدائم” الذي يشكّل حجر الزاوية في سياستها الخارجية، وهو ما يجعلها أقل ميلًا للانخراط في ترتيباتٍ إقليميةٍ ترعاها قوى كبرى، ورغم التطورات الإيجابية في علاقاتها مع إسرائيل، ومنها افتتاح سفارة إسرائيلية في عشق آباد عام 2023، إلا أن قربَها الجغرافي من إيران وتوازناتها مع موسكو يدفعانها إلى حصرِ التعاون في نطاقٍ ثنائيٍ هادئٍ. ومن ثمَّ، يبقى انضمامها الرسمي إلى أبراهام مستبعدًا في الأمد القريب، ما لم تحظ بضماناتٍ واضحةٍ بألا يمسّ ذلك حيادها أو علاقاتها بجوارها المباشر.
طاجيكستان: انفتاحٌ تدريجي محفوف بحسابات إقليمية
تسلك طاجيكستان مسارًا انتقاليًا بين الحذر والانفتاح، فقد شهدت العلاقات مع إسرائيل مؤخرًا تطورًا ملحوظًا عبر تعزيز التعاون الفني والاستثماري، بما في ذلك زيارة وزير السياحة الإسرائيلي في سبتمبر 2025 وتوقيعِ اتفاقيةِ تعاونٍ ثنائيٍ، غير أن استمرار تمثيل إسرائيل عبر سفيرٍ غير مقيمٍ يشير إلى أن مستوى العلاقة لا يزال في حدود التعاون المتخصص، ولم يتحولْ بعد إلى شراكةٍ سياسيةٍ موسّعةٍ، وتظل حساسية طاجيكستان تجاه إيران لاعبًا محددًا لخياراتها، ما يرجّح بقاء الخطوات التطبيعية في إطار التعاون الفني دون انضمامٍ رسميٍ للاتفاقيات.
قرغيزستان: الصمت الاستراتيجي والانحياز الواقعي نحو موسكو وبكين
أما قرغيزستان فتتبنّى سياسةً أقرب إلى “اللاموقف” حاليًا، فهي تُظهر تحفظًا واضحًا تجاه أي خطوةٍ قد تُفسر بأنها اصطفافٌ مع واشنطن أو تل أبيب على حساب علاقتها مع موسكو وبكين، خاصةً في ظل تصاعد التوجهات المؤيدة لروسيا داخليًا، وإغلاق القاعدة الأمريكية في 2014، ومحدودية التأثير الأمريكي في الداخل القرغيزي، كما تلعبُ الاعتباراتُ الشعبيةُ دورًا مهمًا، إذ أدى الغضب من أحداث غزة إلى تثبيطِ أي تقاربٍ علنيٍ جديدٍ مع إسرائيل، ما يجعل انضمامها للاتفاقيات غير مرجّح في المدى المنظور.
التحديات والمعوقات أمام الانضمام:
على الرغم من اندفاع واشنطن نحو إدماج دول آسيا الوسطى في اتفاقيات أبراهام، فإن البيئةً الإقليميةً والداخلية المحيطة بهذه الدول لا تزال تفرض قيودًا جوهريةً على إمكانية انخراطها الرسمي في هذه المبادرة، ويمكن تحديد أبرز العوامل المقيدة على النحو الآتي:
المناخُ الشعبي المعادي لإسرائيل في ظل حرب غزة
أفرزتْ التطورات في غزة حالةً من الغضب الشعبي في دول آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة، حيث يُنظر إلى العمليات العسكرية الإسرائيلية بوصفها استهدافًا غير مبررٍ للمدنيين الفلسطينيين، وقد أظهر الرأي العام المحلي تعاطفًا واسعًا مع الفلسطينيين، ما جعل التطبيع في هذه المرحلة مكلفًا سياسيًا حتى للأنظمة التي لا تخضع لضغوطٍ انتخابية مباشرةٍ، ويبدو لافتًا أن معظم دول المنطقة انحازت في الأمم المتحدة إلى القرارات المطالبة بوقْفِ إطلاق النار، وهو ما يعكس إدراك الحكوماتِ لحدود التسامح الداخلي مع أي خطوةٍ قد يُنظر إليها كتبريرٍ أو شرعنةٍ للسياسات الإسرائيلية.
القيود الجيو-اقتصادية المرتبطة بإيران:
تشكّل إيران رئةً لوجستيةً أساسيةً لدول آسيا الوسطى غير المطلة على البحار، وذلك عبر موانئها الجنوبية التي تمثّل معبرًا رئيسًا إلى الخليج والأسواق الآسيوية. ومن ثمَّ، فإن أي تصعيدٍ في المواجهة بين واشنطن/تل أبيب من جهة، وطهران من جهةٍ أخرى، سينعكس مباشرةً على خطوط التجارة والإمداد الخاصة بهذه الدول، كما أن التجربة السابقة مع إغلاق بعض المعابر أو تقييدها أثبتت هشاشة البدائل المتاحة عبر روسيا أو الصين بسبب الكلفة والتعقيدات التنظيمية. وبناءً عليه، يُنظر إلى الانخراط في مظلة تقودها الولايات المتحدة ضد إيران على أنه مخاطرةّ غير محسوبةٍ اقتصاديًا، ما لم ترافقها ضماناتٌ أو مساراتٌ تعويضيةٌ حقيقيةٌ.
تأثير العامل التركي والشرعية الرمزية داخل العالم التركي
تُعد تركيا المرجعية الثقافية والسياسية الأبرز بالنسبة لعددٍ من دول آسيا الوسطى، بحكم الروابط اللغوية والعرقية والمؤسسية في إطار “منظمة الدول التركية”، وبما أن أنقرة تبنّت موقفًا علنيًا معارضًا للسياسات الإسرائيلية في غزة، فإن أي خطوةٍ تطبيعيةٍ تصدر عن دول آسيا الوسطى قد تُفسر باعتبارها تحديًا للإطار القيمي والسياسي الذي تمثّله تركيا داخل هذا الفضاء الحضاري. ومن ثمَّ، فإن الحسابات لا تتعلق فقط باعتبارات السيادة، بل أيضًا بالرمزية السياسية والهوية الإقليمية المشتركة، وهو ما يدفع الدول إلى مزيدٍ من الحذر.
ضغط روسيا والصين وتوازنات المجال الحيوي
تعتبر كل من روسيا والصين أن آسيا الوسطى جزءًا من مجال نفوذها الاستراتيجي التقليدي، وترصدان بقلقٍ أي محاولةٍ أمريكيةٍ لتعميق وجودها داخل المنطقة عبر أدواتٍ سياسيةٍ أو رمزية، مثل اتفاقيات أبراهام. ورغم امتلاك موسكو وبكين لعلاقاتٍ رسميةٍ مع إسرائيل، إلا أنهما ترفضان أن يتحول التطبيع إلى منصةِ تمددٍ أمريكيٍ، ومن المرجّح أن تمارس القوتان ضغوطًا ناعمةً أو مباشرةً لتحجيم فرص هذا الانضمام، سواء عبر تقديم مزايا اقتصاديةٍ وأمنيةٍ بديلةٍ أو عبر تحذيراتٍ مبطنةٍ من الانخراط في الترتيبات التي يراد لها أن تُشكل كتلة موازنة للنفوذ الروسي-الصيني.
وختامًا:
في ضوء التحليل السابق، يمكن الاستنتاج أن فرصَ انضمام دول آسيا الوسطى رسميًا إلى اتفاقيات أبراهام لا تزالُ محدودةً في الأمد القريب، فبالرغم من الحراك الأمريكي الساعي إلى تسجيلِ اختراقاتٍ رمزيةٍ جديدةٍ، تظل المبادرة أقرب إلى مسعى سياسي ذي طبيعةٍ دعائيةٍ بالنسبة لواشنطن وتل أبيب، أكثر من كونها مسارًا استراتيجيًا قابلًا للتحقق في السياق الإقليمي القائم، وتشير التقديرات الحالية إلى أن أقصى ما يمكن بلوغه في المرحلة الراهنة هو مستوى متدنٍ من التعاون الفني أو الاقتصادي، إضافةً إلى خطواتٍ رمزيةٍ مثل إصدار بيانات دعمٍ عامة أو توقيع إعلانات نوايا، ولا سيَّما من جانب كازاخستان، دون أن يرقى ذلك إلى انخراطٍ مؤسسيٍ كاملٍ في مظلة الاتفاقيات.
وفي المقابل، تبدو دول آسيا الوسطى حريصةً على عدم الإقدام على أي خطوة من شأنها أن تفسّرَ كاصطفافٍ استراتيجيٍ مع المعسكر الأمريكي-الإسرائيلي، لما قد يسببه ذلك من كُلفةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ على توازن سياستها الخارجية، كما لا تزال هذه الدول متمسكةً بسياساتها التقليدية القائمة على “التوازن المتعدد” بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وتركيا وإيران، بما يضمن تنويع الشراكات دون الارتهان لأي محور بعينه.
وبناءً عليه، فإن المكاسبَ التي يمكن للإدارة الأمريكية تحقيقها في المدى المنظور تظل في معظمها رمزية، فيما تبقى أي تحولاتٍ جوهريةٍ مرهونةٍ بمتغيراتٍ إقليميةٍ أوسع، وفي مقدمتها إحرازُ تقدّمٍ ملموسٍ في مسار التسوية الفلسطينية، وتوفير ضماناتٍ اقتصاديةٍ ولوجستيةٍ قادرة على تعويض المخاطر المحتملة لدى دول المنطقة.
وعلى المستوى الكلي، يمكن وصف موقف آسيا الوسطى بأنه “اهتمامٌ براجماتيٌ منخفض السقف”، انفتاح محسوب على التعاون الثنائي مع إسرائيل، مقابل امتناعٍ مدروسٍ عن الانخراط في ترتيباتٍ تطبيعيةٍ تُدار تحت المظلة الأمريكية، وهذا يعكس إدراك حكومات المنطقة أن فوائد الانضمام لا تزال غير مؤكدة، بينما كلفته السياسية والاستراتيجية في السياق الراهن تبدو أعلى من مردوده المحتمل. ومن ثمَّ، سيظل توسيع اتفاقيات أبراهام في آسيا الوسطى مرهونًا بتغيراتٍ أعمق في البيئة الإقليمية، أكثر من ارتباطه بنوايا واشنطن أو رغبتها في تحقيق انتصاراتٍ دبلوماسيةٍ سريعة.
