المقالات
قراءةٌ في مشروعِ القبّةِ الذهبية: أبعادُ الردعِ الأمريكي وتحدياتُ النظام الدولي
- يونيو 18, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية

إعداد: إسراء عادل
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
في خضمِّ مشهدٍ دوليٍ مضطربٍ يتسمُ بتسارع سباقات التسلح وتآكل منظومة الردع التقليدية وتصاعد التهديدات العابرة للحدود، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إطلاقِ مشروعٍ دفاعيٍ جديدٍ تحت مسمى “القبة الذهبية”، باعتباره درعاً استراتيجياً لحماية الولايات المتحدة من أي هجماتٍ صاروخيةٍ أو فضائيةٍ محتملةٍ. وقد لا يقتصر هذا المشروع على كونه استجابةً للتهديدات العسكرية فحسب، بل يعكس أيضاً طموحاً جيوسياسياً لإعادة تشكيل موازين القوة في وقتٍ يتزايدُ فيه التنافس مع قوى دولية كبرى مثل الصين وروسيا، ويتعمق فيه الانقسام داخل التحالفات الغربية بشأن أولويات الأمن الجماعي، وهو ما يضع واشنطن أمام مواجهةٍ مفتوحةٍ مع القوى الكبرى؛ فبينما تروجُ له الإدارة الأمريكية كحائطِ صدٍّ لمواجهة التهديدات القادمة، ترى فيه أطرافٌ دوليةٌ أخرى خطوةً استفزازيةً تهدد التوازنات الاستراتيجية وتشعل سباق التسلح الفضائي، وتعيدُ رسْمَ خرائط التحالفات والنفوذ. وفي هذا السياق، يبرز السؤال المحوري:
إلى أي مدى يُمثّل مشروع “القبة الذهبية” نقلةً نوعيةً في منظومة الدفاع الأمريكي، وهل يُمكن اعتباره خطوةً لتعزيز الأمن القومي، أم أنه يفتح الباب أمام سباق تسلحٍ جديدٍ وتوتراتٍ جيوسياسيةٍ متصاعدةٍ؟
أولاً: خلفية مشروع “القبة الذهبية” وأهدافه
تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية بناء منظومةِ دفاعٍ صاروخيةٍ متكاملةٍ تحت مسمى “القبة الذهبية”، تهدف إلى حمايةِ المجال الجوي والفضائي الأمريكي من التهديدات الصاروخية والهجمات الفرط صوتية، بما في ذلك القادمة من خصوم استراتيجيين كالصين وروسيا. وهو ما أعلن عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 20 مايو 2025، باعتباره حجرَ الأساس في العقيدةِ الأمنيةِ الجديدة لإدارته خلال ولايته الثانية، وامتداداً لتوجّهاتٍ سابقةٍ في تطوير منظومات الدفاع الصاروخي. ووفقاً للخطة المعلنة، قُدرت التكلفة الأولية للمشروع بنحو 175 مليار دولار سيتم خصمها من ميزانية الدفاع خلال السنوات الثلاث المقبلة، مع خطط لبدء التنفيذ الفعلي في أوائل 2026 والانتهاء منه مع نهاية ولاية ترامب الثانية في يناير 2029.[1]
وترتكزُ الفكرةُ الأساسيةُ لمشروع القبة الذهبية على دمجِ تقنيات الذكاء الاصطناعي، والأقمار الاصطناعية، ومنصات الليزر الأرضية والفضائية، في نظامٍ دفاعيٍ متكاملٍ قادرٍ على رصْد واعتراضِ الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة في مراحل مبكرة من الإطلاق. كما يُروجُ للمشروع كأداةٍ لتعزيز الردع، واستعادة الهيبة الأمريكية في مواجهة تصاعد قدرات الخصوم في مجالات الصواريخ فرط الصوتية والأسلحة المضادة للأقمار الصناعية.[2]
ورغم الطابع الدفاعي المعلن لمشروع “القبة الذهبية”، إلا أنه يتضمنُ أهدافاً سياسيةً أخرى تتجاوز الاعتبارات الأمنية التقليدية، وذلك على النحو التالي:
– تعزيزُ الخطابِ الشعبوي وتعبئة الداخل الأمريكي: حيث يُروج للمشروع كأداةٍ لإظهار القوةِ الأمريكية في وجهِ التهديداتِ الخارجيةِ، وهو ما يتماشى مع خطاب ترامب الشعبوي الساعي لحشد الرأي العام، خاصةً مع تفاقم القلق القومي من ملف الهجرة، والخلافات مع الصين، والتهديدات العالمية. وهو ما يُسهمُ في تقديم الرئيس ترامب كحامي أمن المواطنين الأمريكيين في ظل الأزمات الداخلية والخارجية المتعددة.
– تقويضُ خصومِ الداخل السياسي الأمريكي: يأتي المشروع في لحظةِ استقطابٍ سياسيٍ حادٍ بين البيت الأبيض والولايات الديمقراطية، مثل كاليفورنيا ونيويورك، وفي هذا السياق يبدو أن إدارة ترامب توظّفُ المشروعَ ذا الطابعِ القومي كأداةٍ لإعادة مركزية القرار الأمني في يد الحكومة الفيدرالية، وتهميش المبادرات الدفاعية المستقلة التي قد تنشأ من حكوماتٍ محليةٍ معارضةٍ.
– دعم الصناعات الدفاعية الأمريكية: حيث يوفرُ المشروعُ فرصاً حقيقيةً لتوسيع الإنفاق الدفاعي، ويفتح المجال أمام عقود تسليح وتكنولوجيا ضخمة، بما يحقق أهدافاً اقتصاديةً داخليةً تتعلق بتحفيز قطاع الصناعات العسكرية ودعم تحالف ترامب مع المجمع الصناعي العسكري.
وعلى الجانبِ الآخرِ، ربما يُستخدم المشروع كورقةِ ضغطٍ لفرْضِ الهيمنة التكنولوجية والعسكرية على الحلفاء عبر مشاركتهم في تمويل المشروع أو القبول بتركيز منصاته داخل أراضيهم، مما يعزز من نفوذ واشنطن في معادلة الأمن العالمي.
– توجيهُ رسائل استراتيجية للخصوم: يأتي مشروعُ القبةِ الذهبية في توقيتٍ بالغِ الخطورةِ نظراً للتوترات القائمة مع روسيا والصين، بالإضافة إلى تفاقم الأوضاع في الشرق الأوسط في إطار التصعيد الإيراني – الإسرائيلي الحالي، وهو ما يعكسُ رسالةً محوريةً مفادها أن الولايات المتحدة تعود إلى سياسة التفوق الاستراتيجي عبر الهيمنة التكنولوجية بدلاً من التوازن والتسويات السياسية.
ثانياً: ردودُ الفعل الدولية على المشروع
أثار إعلان الولايات المتحدة عن مشروعِ القبة الذهبية موجةً واسعةً من ردود الفعل الدولية، تفاوتت بين التحفظ والقلق والترقّب، ففي حين وصفه البيت الأبيض بأنه حاجزٌ دفاعيٌ استراتيجيٌ لحماية أمريكا، رأت قوي دوليةٌ أخرى أن المشروع ينطوي على تحولٍ نوعيٍ في توازنات الردع العسكري، ويُهدد بإطلاق سباقِ تسلحٍ جديدٍ على المستوى العالمي. وذلك على النحو التالي:
روسيا: إعتبرت موسكو أن مشروع القبة الذهبية يشكّل انتهاكاً لمبدأ التوازن الاستراتيجي القائم منذ الحرب الباردة، ومحاولةً أمريكيةً لتقويض الردع النووي الروسي. كما لفتت وزارة الدفاع الروسية إلى إمكانية تطويرِ منظوماتِ ردْعٍ خارقةٍ قادرةٍ على اختراق أي درعٍ دفاعيٍ، بما في ذلك القبة الذهبية. وهو ما ظهر جلياً في تصريحات المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا” ، والتي وصفت المشروع بأنه “خطوةٌ استفزازيةٌ تهدفُ إلى تحويل الفضاء إلى ساحة مواجهة عسكرية جديدة”، معتبرةً أنه “تقويضٌ مباشرٌ لأركان الاستقرار الاستراتيجي”، وأضافت أن النظامَ الأمريكي المُزمعَ يتضمن تطوير “وسائل استهداف مسبق تهدد الردع النووي الروسي”، واعتبرت هذه الخطوة “مغامرةً خطيرةً تستلزمُ رداً دفاعياً مضاداً من موسكو”.[3]
الصين: أعربتْ بكين عن قلقها إزاء ما وصفته بـ”عسكرة الفضاء” والهيمنة التقنية التي يسعى إليها المشروع، محذرةً من أنه يشكّل تهديداً للاستقرار العالمي ويضربُ بمبادئ الاستخدام السلْميِ للفضاء عُرضَ الحائط. كما نددت المتحدثة باسم الخارجية الصينية ماو نينغ، بأن الولايات المتحدة تسعى للحصول على أمانٍ مطلقٍ لنفسها وهو ما ينتهك مبدأ عدم المساس بأمن جميع الدول، ويقوّضُ من التوازن الاستراتيجي والاستقرار العالمي. مشددة أيضاً على أن المشروع يحمل تداعياتٍ هجوميةً قويةً ويزيد من مخاطر عسكرة الفضاء الخارجي وسباق التسلح.[4]
كوريا الشمالية: أدانتْ وزارةُ خارجية كوريا الشمالية مشروع الدرع الصاروخي الأمريكي، واعتبرته بمثابة “سيناريو حرب نووية في الفضاء الخارجي يدعم استراتيجية واشنطن لتحقيقِ هيمنةٍ أحاديةِ القُطبِ عبر إنشاءِ قاعدةٍ عسكريةٍ فرعيةٍ استباقيةٍ في الفضاء”، واتهمت الولايات المتحدة بأنها سببٌ رئيسيٌ في سباق التسلح النووي والفضائي العالمي، وتحويلِ الفضاءِ إلى ساحةِ معركةٍ نوويةٍ محتملةٍ، وإثارة المخاوف والتهديدات الأمنية بين القوى الكبرى.[5]
كندا: إتخذت موقفاً حذراً ومتوازناً تجاه مشروع القبة الذهبية، حيث أبدت استعدادها للانضمام إلى المشروع، ولكن أعلن ترامب أن تكلفة انضمام كندا إلى منظومة القبة الذهبية ستبلغ 61 مليار دولار، موضحاً أن هذا المبلغ سيتقلص إلى الصفر إذا اختارت كندا أن تصبحَ الولايةَ الأمريكية الـ51. وبينما ربط الرئيس ترامب فكرة الدفاع بسيادة كندا، أكد رئيس الوزراء الكندي مارك كارني، أن كندا تدرس بالفعل الاستثمار في مشروع الدفاع الصاروخي، ولكنه شدد على أن بلاده لا تنوي بأي حال التخلي عن سيادتها.[6]
ثالثاً: التداعياتُ المحتملةُ لمشروع القبة الذهبية
من المتوقع أن يُفضيَ مشروعُ القبة الذهبية إلى تداعيات استراتيجية واسعة، تمتد من الساحة الدولية والإقليمية، وصولاً إلى الداخل الأمريكي. وذلك على النحو التالي:
– على الصعيد الدولي: قد يؤدي المشروع إلى إطلاقِ سباقِ تسلحٍ فضائيٍ جديدٍ، حيث تسعى قوى دولية كبرى كالصين وروسيا إلى تطوير أنظمةٍ هجوميةٍ مضادةٍ للأقمار الاصطناعية الأمريكية، وهو ما يُنذر بتآكل منظومة الردع النووي التقليدي، وزيادة مخاطر التصعيد غير المسبوق خاصةً في حالة حدوث اختراقات أو هجمات إلكترونية على هذه المنظومة.
ومن جهةٍ أخرى، من المتوقّعِ أن يُسهمَ المشروعُ في تفكيك بعض الاتفاقات الأمنية القائمة التي تنظم استخدام الفضاء، مثل اتفاقية الفضاء الخارجي لعام 1967، خصوصاً في ظل غياب إطارٍ قانونيٍ دوليٍ حديث يضبط طبيعة الاستخدامات العسكرية للفضاء، وهو ما يتسبب في فوضى وسباقات تسلح تقنية غير مضبوطة.[7]
– على المستوى الإقليمي: من المحتمل أن يؤديَ المشروعُ إلى تعزيز حالة الاستقطاب الأمني، خاصةً في الشرق الأوسط وآسيا، فربما تلجأ الدول الحليفة للولايات المتحدة بهدف تطوير واقتناء أنظمةِ دفاعٍ مضادةٍ وأكثر تطوراً، بينما يلجأ الخصوم إلى الدخول في ترتيباتٍ أمنيةٍ جديدةٍ خارجةٍ عن سيطرة واشنطن، بما يُعيد رسمَ خريطةِ التحالفات العسكرية.
– في الداخل الأمريكي: فقد يواجهُ المشروعُ انتقاداتٍ من قِبلِ ولايات ديمقراطية تعتبره عبئاً مالياً ضخماً لا يراعي أولويات الإنفاق الاجتماعي، خاصةً في ظل تكلفته المقدرة من مكتب الميزانية في الكونغرس بحوالي 542 مليار دولار على مدى 20 عاماً، وهو ما يبرز الفجوة الواسعة في التقديرات، ويثيرُ الشكوكَ حول قابلية تنفيذ هذا المشروع في ظل معاناة أمريكا من عجز الموازنة البالغ 1.3 تريليون دولار حتى أبريل 2025، فضلاً عن الديون الأمريكية البالغة 36 تريليون دولار لعام 2024، الأمرُ الذي يُفاقمُ الخلافاتِ الداخليةَ ويحولُ المشروعَ من ملفٍ أمنيٍ إلى ملفٍ سياسيٍ داخليٍ.[8]
ختاماً يمكن القول، إن مشروعَ القبة الذهبية يُعد تحولاً جذرياً في العقيدة الدفاعية الأمريكية، ويعكسُ سعيَ إدارة ترامب إلى فرٍضِ هيمنةٍ أمنيةٍ جديدةٍ تُمدد نفوذ واشنطن من الأرض إلى الفضاء. وبينما تروج الإدارة للمشروع بوصفه درعاً واقياً ضد التهديدات المعاصرة، يرى فيه خصوم الولايات المتحدة بدايةً لحقبة صراع تكنولوجي غير مسبوق.
فالرهان على الأمن الفضائي قد يعيدُ ترتيبَ ميزان القوة العالمية، ولكنه في الوقت نفسه يهدد بإشعالِ سباقِ تسلحٍ تتعاظم مخاطره في ظل غيابِ أُطرٍ قانونيةٍ دوليةٍ رادعةٍ. كما أن المشروع يحمل في طياته أبعاداً سياسيةً داخليةً، توظفها إدارة ترامب لتعزيز سلطتها الفيدرالية في مواجهة الولايات المعترضة، وهو ما يعمق حالة الاستقطاب الأمريكي ويزيد من هشاشة التوازن الداخلي.
وعليه، فإن مستقبلَ القبةِ الذهبيةِ لا يتوقفُ فقط على جدواها التكنولوجية أو قدرتها على الردع، بل على مدى التوازنِ بين تحقيقِ الأمنِ الاستراتيجيِ والحفاظِ على الاستقرار الدولي والتماسك، وهو رهانٌ ما زالَ محفوفاً بالكثير من التحديات.
المصادر:
[1] CNBC، مشروع القبة الذهبية.. درع فضائي أمريكي يعيد تشكيل سباق التسلح العالمي، 23 مايو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/tuovS
[2] BBC NEWS، القبة الذهبية.. نظام دفاع صاروخي جديد لحماية الولايات المتحدة.. ما قدراته وكيف يعمل؟، 21 مايو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/JDPxy
[3] مصراوي، روسيا: مشروع “القبة الذهبية” الأمريكي يُزعزع الاستقرار العالمي، 27 مايو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/ZRJfG
[4] RT، الصين تعرب عن بالغ قلقها إزاء مشروع “القبة الذهبية” الأمريكية وتدعو واشنطن للتخلي عنه، 21 مايو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/SlckT
[5] KBS WORLD، كوريا الشمالية تصف مشروع القبة الذهبية الصاروخي الأمريكي بأنه خطير، 28 مايو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/AXbru
[6] مونت كارلو الدولية، ترامب يبتز كندا “دفاعياً” .. “تكلفة صفر” للانضمام إلى قبة واشنطن الذهبية مقابل السيادة، 28 مايو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/rJTLX
[7] نهال أبو السعود، ترامب يبدأ العمل فى القبة الذهبية متسلحًا بقائد “قوة الفضاء” و175 مليار دولار، اليوم السابع، 22 مايو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/bZOAR
[8] لوسيانا باسم، “القبة الذهبية” الأمريكية.. سباق تسلح جديد أم تكرار لـ”حرب النجوم”؟، مركز ترو للدراسات والتدريب، 2 يونيو 2025، متاح على الرابط: https://truestudies.org/1898/