يلفتُ التوجّه التركي للقوى الصاعدة غير الغربية انتباه المحللين السياسيين وتسعى العديد من الدراسات لدراسة أثر هذا التوجّهِ التركي على صياغة السياسات الغربية، وجاء حضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قمة منظمة البريكس باعتباره أولَ رئيسٍ لدولة عضو في حلف شمال الأطلسي يحضر قمة البريكس التي تقودها روسيا والصين والتي تشير لرغبة تركيا في تأكيد الاستقلالية الاستراتيجية، وبالتالي يظهر أن السياسات التركية غير متسقة مع سياسات الغرب المتمثلة في تقليل الاعتماد على بكين، فكيف يؤثر هذا التوجه على صياغة السياسات الغربية؟
تتناول دراسة بعنوان “Transatlantic Policies on China: Is there a Role for Türkiye” – المنشورة في مؤسسة كارينغي للسلام الدولي- الدور التركي في التأثير على السياسات العبر أطلسية تجاه الصين من خلال التركيز على التنافس الصيني-التركي في المناطق الاستراتيجية في منطقتي آسيا الوسطى وأفريقيا حيث تأتي السياسات التركية تجاه الصين غير متسقة مع السياسات الغربية فتقدم الدراسة بعض التوصيات لصانعي القرار في الغرب لاستيعاب تركيا في السياسات الغربية والاستفادة من التنافس الموجود بين تركيا والصين.
تَحوّلُ السياسةِ الخارجية التركية
كانت تركيا جزءاً من النظام المؤسسي الغربي وكانت سياستها تتسم بالتوافق مع السياسات الغربية ومع بدايةِ اتجاهِها لتحقيق الاستقلالية بدأت تعملُ على توازن سياستها بين القوى الغربية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبين القوى الغير الغربية مثل الصين وروسيا، حيث تمَّ رفْعُ العلاقات الثنائية بين تركيا والصين لمستوى “التعاون الاستراتيجي” منذ عام 2010 مما يوضح اعتماد تركيا على المرونة الاستراتيجية في علاقاتها الخارجية.
مع تعثّرِ انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي على الرغم من التوسعات في عضويته في الفترة الأخيرة بدأت تركيا تسعى لتعظيم دورها في المبادرات الإفليمية مثل البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، تشير الدراسة إلى الاعتقاد المترسخ لدى صناع القرار الأتراك أن الاتجاه للتعاون مع القوى الغير الغربية والصين بالأخص سيعظّمُ من المزايا الاقتصادية لتركيا وهو ما انعكسَ في تعاملات البلدين حيث أصبحت الصين شريكًا استراتيجيًا مهمًا لتركيا حيث تشير الدراسة أن الصين أكبر شريكٍ تِجاريٍ لها، ولكن عند النظر لبيانات هيئة الإحصاءات التركية نجد أن الصين هي ثالث أكبر شريك تجاري لتركيا في العالم ولكنها الأول في آسيا، وقد بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين 28.6 مليار دولار أمريكي في الفترة من يناير إلى أغسطس 2024.
بالإضافةِ إلى الشراكة الواعدة بين البلدين حيث وقّعتْ تركيا مبادرة الحزام والطريق في عام 2015 وتلقت تركيا حوالي 1.31% من إجمالي استثماراته حتى عام 2020، كما تشير الدراسة لتوسّعٍ استثمارات الصين في تركيا التي بلغت 9 مليار دولار في نهاية عام 2023، وبالتالي يظهر تحول النظرة التركية من الاعتماد في علاقاتها مع الغرب إلى نهجٍ أكثر توازنًا يتعزيز العلاقات مع القوى الصاعدة غير الغربية، وبشكل عام تعتمد السياسة التركية الخارجية على توازن علاقاتها مع كل دول العالم وعدم الاعتمادِ على طرفٍ واحدٍ بهدف تحقيق استقلاليتها فكان من الطبيعي ألا تنعزل عن القوى الصاعدة مثل الصين، ووجود التنافس بين البلدين يؤكدُ الرغبةَ التركيةَ في أن تكون فاعلاً مستقلاً غير خاضعٍ لأيٍ من القوى الكبرى.
التنافسُ التركيُ – الصيني في أفريقيا
تشير الدراسة إلى أن كلاً من تركيا والصين يشتركان في نظرتهما لأفريقيا باعتبارها أكبر سوقٍ للسلع والخدمات وباعتبارها مصدراً رئيسياً للموارد الطبيعية فكان من الطبيعي أن يظهر تنافسهم باعتبارهم لاعبين أساسيين في المنطقة، وتشير الدراسة أن التواجد الصيني في المنطقة منذ عام 2000 حيث أصبحت الصينُ أكبرَ شريكٍ تجاري لأفريقيا جنوب الصحراء حيث تجاوز حجم التجارة 280 مليار دولار في عام 2023، وبالفعل تُعتبرُ الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا على مدار 15 عامًا متتاليًا، كذلك الاهتمام التركي بأفريقيا بعد الألفية الجديدة حيث أعلنت في 2005 “عام أفريقيا”وبدأت بشكلٍ تدريجيٍ تتوسع في أفريقيا وأصبحت تتنوع استثماراتها في أفريقيا بالأخص في مجال البناء والطاقة والزراعة.
وكما تشير الدراسة تلعبُ القوةُ الناعمة دوراً كبيراً في نَهْجِ الدولتين لانخراطهما بشكل استراتيجي في المنطقة ويشتركان في الجهود الدبلوماسية والاستثمارات الاقتصادية حيث تقدم كلا الدولتين أنفسهم باعتبارهما بدائل أكثر جاذبية للمانحين الغربيين، ولكن في الوقت ذاته أكدت على وجود اختلافاتٍ جوهريةٍ في نهْجِ البلدين بالأخص في الأوزان التي تضعها كل منهما لتحقيق أهداف سياسة مقابل أهداف اقتصادية.
فهناك تخوّفٌ من أن تكون سياسات الصين تهدف بشكلٍ أساسي لاتباع سياسة “فخ الديون” على اعتبارها من أكبر الدائنين لأفريقيا وبالتالي تُصبح بكين قادرةً على الحصول على مكاسب سياسية من تلك الدول، على جانبٍ آخر تشير الدراسة أنه بسبب النفوذ المالية التركية المحدودة تفضل تركيا أن يكون انخراطُها مدفوعاً ببرامج المساعدات الإنمائية وهو ما يجعلها خياراً أفضل على اعتبار أنها تتماشى مع الاجندات الوطنية لدول أفريقيا، كذللك تتعامل الشركات التركية في أفريقيا بأساسيات السوق والهدف الأساسي لها هو تحقيق الربح في حين تسعى الشركات الصينية لتحقيق أهدافٍ سياسةٍ أوسع نطاقًا، وهنا اختلف مع الدراسة في أن كلا من الدولتين في تنافسهم تسعيان لتحقيق مكاسب سياسيةٍ واقتصاديةٍ أكبر من مجرد تحقيق الربح، وتركيا بتواجدها وتعزيز شراكتها مع دول أفريقيا هي تعزّز وجودها كلاعبٍ إقليميٍ قوي في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بعيدًا عن فكرة الربح الاستثماري.
التنافسُ التركيُ – الصيني في منطقة آسيا الوسطى
كلا البلدين استفادا من انهيار الاتحاد السوفيتي في تطوير علاقاتٍ قويةٍ مع دول آسيا الوسطى، وكانت تركيا من أوائل الدول التي أقامت علاقاتٍ رسميةً دبلوماسية مع الدول الناطقة بالتركية وكان لدول آسيا الوسطى دافع تنويع علاقاتهم الخارجية وكانت تركيا هي المثال الأفضل، ولكن تدهورت العلاقات في بدايات الألفية الجديدة بعد ظهور طموح تركيا كزعيمة للعالم التركي “من البحر الأدرياتيكي لسور الصين العظيم”، ولكن نتيجة اختلاف نهج تركيا في الفترات الأخيرة مما حفّزَ دولَ آسيا الوسطى على تنويع علاقاتها بالأخص بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وأصبح نفوذُ تركيا المتمثل في وجودها في الملفات الاقتصادية والثقافية والأمنية يظهرُ بشكلٍ بارزٍ بحيث أصبحت من بين أكبر الشركاء التجاريين لمنطقة آسيا الوسطى لعام 2023 وهو ما يمثّل زيادةً كبيرةً عن العقْدِ الماضي.
توفر تركيا فرصاً هائلةً لمنطقة آسيا الوسطى بالأخص في المجال الأمني ومجال الاتصال، حيث تُعتبرُ تركيا من أكبر مصدري الأسلحة والطائرات المسيرة لمعظم دول المنطقة، وفي مجال الاتصال تعتبرُ جميع دول آسيا الوسطى هي دول غير ساحلية وليس لديها وصولٌ مباشر بالموانئ والأسواق الدولية، ومازالت هذه الدول تعتمد على الطرق السوفيتية القديمة بشكلٍ كبيرٍ فمع العقوبات الغربية على روسيا أصبح البديل الممكن هو “الممر الأوسط” ووهو الممر الذي يمتد من الصين مرورًا بدول أسيا الوسطى إلى تركيا وبالتالي يعتبر بديل للمر الشمالي الذي يمر عبر روسيا، وتعتبر تركيا الداعم والمفاوض الأكبر لهذا الممر، وبالتالي هي تخلق لنفسها فرصاً تنافسيةً هائلةً، في حين يدعم الغرب ممراً يربطُ الهند بأوروبا ويتجاوز تركيا.
أضف للفرص التنافسية التركية، صعودها الإقليمي نتيجة للتطورات في منظمة الدول التركية التي أصبحت منصةً لتأثير تركيا المتزايد حيث أصبحت المنظمة منصة كبيرة للتعاون الاقتصادي ووفقًا لرؤية العالم التركي 2040 سيتعزز التعاون في مجالات مختلفة أهمها النقل والجمارك والطاقة.
التأثيرُ التركيُ في السياسات الغربية تجاه الصين
تشير الدراسة أن صناعَ القرار الأتراك بدأوا بالفعل تعميق علاقات بلادهم مع الصين على الرغم من وجود السياسات الغربية التي تهدف لتقليل الاعتماد على الصين، وتؤكد الدراسة هذا الرأي بالميل التركي للانضمام لمنظمة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي، وهذا تصرفٌ سياسيٌ ذكي حيث الاعتماد على الدبلوماسية المرنة عندما تواجه صعوبات في الاتفاق مع سياسات الغرب.
تشير الدراسة أن تركيا يمكنها أن تقدمَ فرصاً متعددةً في تقليل الاعتماد الغربي على الصين وأن موقف تركيا تجاه الصين قد يتبدل إذا تغيرت احتمالات التحالف مع الغربي في حين أنني أرى أن تركيا تتخذ خطواتها بشكل نفعي بحت فهى لن تخسرَ فاعلاً قوياً على حساب فاعلٍ أقوى إنما تسعى للموازنة التامة مع الميل لأحد الأطراف وفي حين قدّمَ الغربُ تنازلاتٍ لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي قد تتراجع عن اهتمامها بالانضمام لمنظمة البريكس الذي سيعارضه الغرب في أي من الأحوال.
تقدم الدراسة في هذا الإطار مجموعةً من التوصيات لإعادة تشكيل الحسابات التركية والاقتصادية مع الصين وأولى هذه التوصيات هو إعادة النظر في مفاوضات تحديث الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي بهدف إعادة بناء الثقة لتركيا في التكامل الاقتصادي مع الغرب، كما ترى الدراسة أن معارضة الغرب “للممر الأوسط” لن يعود بفوائده، لأن هذا الممر من شأنه أن يوازنَ النفوذَ الصيني بالنفوذ التركي ويقللَ اعتماد دول آسيا الوسطى على الصين وتتصل بالأسواق الغربية من خلال تركيا يجبُ على الغرب الاستفادة من ذلك بخلْقِ مواءمات حقيقيةٍ مع تركيا، والعمل على إشراكها في في مبادرات البنية التحتية في البلدان منخفضة و متوسطة الدخل لما تتمتع به الشركات التركية من مَيزةٍ تنافسيةٍ وسجلٍ قوي في مجالات البينة التحتية.
الاستنتاج
تؤكدُ الدراسة على التحولات الجارية في السياسة الخارجية التركية، حيث تتحول تركيا من الاعتماد على الغرب إلى تبنّي نهجٍ أكثر توازنًا يشمل تعزيز العلاقات مع قوى صاعدة مثل الصين، وتسلط الضوء على التنافس التركي الصيني في مناطق مثل آسيا الوسطى وأفريقيا، وكيف يستفيد كلا البلدين من هذه العلاقات لتعزيز نفوذهما.
تقدم الدراسة توصياتٍ مهمةً لصانعي السياسات في الغرب، حيث تشدد على أهمية إعادة النظر في العلاقات مع تركيا والاستفادة من التنافس بين تركيا والصين لتعزيز المصالح الغربية، ويمكن القول إن تركيا بشكلٍ أساسيٍ تعزّز تنافسها مع الصين من أجل الحصول على بعض المكاسب من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الناتو ولكن هذا لا يتنافى مع فرص التعاون بين الصين وتركيا حيث تتوافر مجالاتٌ عدةٌ يمكن للبلدين التعاون فيها بحيث أصبحت الصين أكبر شريكٍ تجاري لتركيا في منطقة آسيا، بشكل آخر تركيا تسعى لاتباع نهْجٍ نفْعيٍ بموازنة علاقاتها بين الغرب والقوى الصاعدة الأخرى وتستطيع من خلال ذلك التأثير على السياسات الغربية.
