عقد ترامب وزيلينسكي لقاءً مليئًا بالمشادات في المكتب البيضوي the Oval office في البيت الأبيض، في 28 فبراير 2025، ناقشا فيه إمكانية وقْف الحرب “الروسية – الأوكرانية”، وكان من المفترض أن يُوقِّعَ زيلينسكي على اتفاقية المعادن مع الجانب الأمريكي، مقابل وقْف إطلاق نار وعملية سلام مع روسيا، وهو ما لم يحدث؛ نظرًا لحدوث اختلاف في وجهات النظر الأمريكية والأوكرانية، التي تحوَّلت إلى مشادة كلامية بين الطرفيْن، في مشهدٍ غير مسبوقٍ تجاوز الأعراف الدبلوماسية؛ حيث أوضح هذا اللقاء أهمية الدبلوماسية في العلاقات الدولية لإدارة وسيْر اللقاءات الرسمية، وقد تمَّ إلغاء المؤتمر الصحفي المشترك بعد المشادة الكلامية، وقام زيلينسكي بمغادرة البيت الأبيض، ولم يتم توقيع اتفاقية العناصر الأرضية النادرة، التي كان من المنتظر توقيعها أمس الجمعة، بين الولايات المتحدة وأوكرانيا.
وفيما يأتي يمكن استعراض أبرز ما قاله الرئيسان ورود الفعل حول هذا اللقاء، مع الانتقال إلى نقاطٍ تحليليةٍ لفهْم موقف الجانب الأوكراني والأمريكي الذي أوصلهم لهذا الخلاف، ومن ثمَّ الانتقال للسناريوهات المتوقع حدوثها في الأيام المقبلة.
مخرجات اللقاء:
اتهم ترامب الرئيس الأوكراني، بأنه “يقامر بإشعال حرب عالمية ثالثة”، وأضاف ترامب “لولا أننا أعطيناكم مُعدَّات عسكرية لكانت هذه الحرب انتهت في غضون أسبوعيْن اثنيْن، أو يومين”، وقال: “أنت – الآن – لست بموقعٍ جيِّدٍ جدًّا، لقد وضعت نفسك في وضعٍ سيِّئٍ جدًّا، لا تملك الأوراق في الوقت الراهن، معنا أصبحت تمتلك أوراقًا، أنت تجازف بحياة ملايين الأشخاص”، كما قال: ” لست في موقع يمكنك فيه أن تُمْلِي علينا ما الذي سنشعر به”.
وأضاف ترامب أثناء اللقاء ” إما أن تعقد صفقة أو نحن خارج اللعبة، وإذا خرجنا لا أعتقد أن الأمر سيكون لطيفًا، وستكتشف ذلك، لكنك لا تملك الأوراق، ولكن بمجرد توقيعنا على الصفقة، ستكون في وضْعٍ أفضل بكثير، لكنك لا تتصرف على الإطلاق وكأنك ممتن، وهذا ليس بالأمر الجيد”.
قال زيلينسكي: إنه يريد ضمانات أمنية لوقف الحرب؛ حيث إنهم وقَّعُوا صفقةً مع بوتين لكنه “انتهك وقْف إطلاق النار وقتل شعبنا ولم يوافق على تبادل السجناء”، وقال: ” نريد وقْف الحرب ولكن ينبغي أن تكون المفاوضات بين طرفيْ الحرب وليس بين روسيا والولايات المتحدة”.
ردود الفعل المختلفة بعد انتهاء اللقاء:-
التصريحات الأمريكية:
قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ليس مستعدًّا للسلام ولم يحترم المكتب البيضاوي، وأضاف في منشور على حسابه بمنصة “تروث سوشال”، أن بإمكان الرئيس الأوكراني العودة للبيت الأبيض عندما يكون مستعدًّا للسلام”.
قال وزير الخارجية الأمريكي روبيو: ” أطالب زيلينسكي بالاعتذار بعد المشادة الكلامية مع الرئيس ترامب في البيت الأبيض”
التصريحات الأوكرانية:
شكر الرئيس الأوكراني زيلينسكي الولايات المتحدة وترامب في تدوينة على موقع إكس، وأضاف “أوكرانيا بحاجة إلى سلام عادل ودائم، وهذا بالضبط ما نعمل من أجله”، وأضاف ” كان من المهم للغاية الاستماع إلى أوكرانيا وليس نسيانها”، وأضاف ” أحترم ترامب ولست مدينًا له باعتذارٍ ولا أحد يريد إنهاء الحرب أكثر منا”، فيما أكد رئيس الوزراء الأوكراني دنيش شميغال عبْر المنصة نفسها، أن “الرئيس زيلينسكي كان على حقٍّ؛ فوقف إطلاق النار من دون ضمانات سيُفضي إلى احتلال روسي للقارة الأوروبية برمتها”.
فيما أكَّد قائد الجيش الأوكراني أوليكساندر سيرسكي، أن قواته تقف إلى جانب الرئيس فولوديمير زيلينسكي، وقال: أن “القوات المسلحة مع أوكرانيا ومع الشعب ومع القائد الأعلى”، مضيفًا “قوتنا في وحدتنا”.
وقال ميخايلو بودولياك مستشار مكتب الرئيس الأوكراني: إن “موقف الرئيس زيلينسكي لا تشوبه شائبه ومدعوم بالحجج وصحيح تمامًا”.[1]
التصريحات الروسية:
جاءت التصريحات الروسية سعيدة بالمشادة التي حصلت بين ترامب وزيلينسكي؛ حيث قال ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي: إن زيلينسكي “تلقَّى صفعةً قويةً من ترامب في البيت الأبيض”
رأت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا “ان الطريقة التي تمكَّن ترامب و(نائبه) فانس من ضبْط نفسيهما وعدم توجيه أيِّ لكمةٍ لهذا الوغْد تُعدُّ معجزةً”
وقالت الخارجية الروسية: ” زيارة زيلينسكي إلى واشنطن مُنِيَتْ بفشلٍ تامٍّ، ومن الواضح أنه مهووسٌ بمواصلة النزاع”.
ردود الفعل الأوروبية:
لم يلبث أن انتهى لقاء ترامب وزيلينسكي في البيت الأبيض إلَّا وأصدرت الدول الأوروبية تصريحات عدة حول اللقاء، أعلنوا فيه دعمهم التَّام لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وفيما يأتي يمكن عرْض أبرز ردود الفعل حول اللقاء:
حيث قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: إن “روسيا هي المعتدية، وإن الأوكرانيِّين هم الشعب المعتدَى عليه، وعلينا احترام من يقاتلون من البداية من أجل كرامتهم وحقوقهم وأمن أوروبا “، وأكَّد أن فرنسا كانت على صواب في القيام بمساعدة أوكرانيا ومعاقبة روسيا منذ 3 سنوات وستواصل ذلك.[2]
فيما قال رئيس وزراء المملكة المتحدة كير ستارمر: ” إنه يحتفظ بدعمه الثابت لأوكرانيا، ويبذل قصارى جهده لإيجاد طريقٍ للمُضيّ قُدُمًا نحو سلامٍ دائمٍ قائمٍ على السيادة والأمن لأوكرانيا، وأنه يتطلع لاستضافة زعماء دوليِّين، الأحد؛ بما في ذلك الرئيس زيلينسكي”، وقال المستشار الألماني أولاف شولتس: ” يمكن لأوكرانيا الاعتماد على ألمانيا وأوروبا”، فيما قال رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الفائز في الانتخابات الألمانية فريدريش ميرتس: إنه “يجب ألا نخلط بين المعتدي والضحية في الحرب”، مؤكدًا أن ألمانيا تقف مع أوكرانيا “في السَّرَّاء والضراء”، وقالت الخارجية الألمانية: ” نقف مع حلفائنا الأوروبييِّن إلى جانب أوكرانيا وضد العدوان الروسي”.[3]
فيما أعلنت بولندا وإسبانيا والبرتغال والنرويج والسويد وبلجيكا والدنمارك ولاتفيا والتشيك ممثلين في رئيس وزراء كُلٍّ منهم على حِدَةٍ، دعمهم التام لزيلينسكي وللشعب الأوكراني في كفاحهم ضد العدوان الروسي من أجل السلام الدائم والعادل على حدِّ قولهم.[4]
كما دون الرئيس الليتواني غيتاناس نوسيدا على وسائل التواصل الاجتماعي “أوكرانيا، لن تسيري وحدك أبدًا”، وقالت وزيرة خارجية فنلندا: ” نقف مع الشعب الأوكراني وحقه في الاختيار وهو اختار الحرية”.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مخاطبة زيلينسكي: ” كرامتك اليوم هي تكريم لشجاعة الشعب الأوكراني، كن قويًّا وشجاعًا “، وأضافت “أنت لست وحدك أبدًا، وسنواصل العمل معكم من أجل سلامٍ عادلٍ ودائمٍ”.
قالت الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية كايا كالاس: ” أوكرانيا هي أوروبا ونقف إلى جانبها، وسنزيد دعمنا لها في التصدِّي للمعتدي”، وأضافت على وسائل التواصل الاجتماعي في أعقاب المواجهة في المكتب البيضاوي “اليوم، أصبح من الواضح أن العالم الحر يحتاج إلى زعيم جديد؛ الأمر يعود لنا كأوروبيِّين لقبول هذا التحدِّي”، وأضافت “أوكرانيا هي أوروبا، نحن نقف إلى جانب أوكرانيا”.
وجاءت تصريحات رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني محايدةً إلى حدٍّ ما؛ حيث قالت: ” نحن بحاجة لقِمَّةٍ على الفور بين واشنطن وأوروبا والحلفاء لبحث التحديات الراهنة بدْءًا بأوكرانيا”، وأضافت “أيّ انشقاقٍ في الغرب يجعلنا جميعًا أضعف ويصُبُّ في مصلحة من يرغبون في رؤية تراجع حضارتنا”.
فيما جاءت تصريحات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مناصفة لترامب؛ حيث قال: ” الأقوياء يصنعون السلام والضعفاء يشعلون الحروب واليوم وقف الرئيس ترامب بشجاعة من أجل السلام، حتى وإن كان من الصعب على كثيرين استيعاب ذلك”.
ومن خارج القارة الأوروبية:
أعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو دعمه لأوكرانيا، وأكَّد أن “معركة أوكرانيا ضد روسيا دفاع عن الديمقراطية”، وأضاف “أن بلاده ستستمر في الوقوف إلى جانب كييف”، وكتب ترودو على منصة إكس “روسيا غزت أوكرانيا بشكلٍ غير قانونيٍّ وغير مبررٍ، وعلى مدى 3 سنوات، قاتل الأوكرانيون بشجاعةٍ ومرونةٍ، فإن معركتهم من أجل الديمقراطية والحرية والسيادة مهمة بالنسبة إلينا جميعًا”.
فيما أعلن رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، أن بلاده “ستقف إلى جانب أوكرانيا، طالما كان ذلك ضروريًّا؛ لأن الأمر يتعلق بنضال أمة ديمقراطية ضد نظام استبدادي بقيادة فلاديمير بوتين، الذي لديه مخططات إمبريالية تجاه أوكرانيا والمنطقة بكاملها، وأكَّد أن “الشعب الأوكراني لا يقاتل من أجل سيادته الوطنية فحسب، بل أيضًا من أجل تأكيد احترام القانون الدولي”.[5]
ويمكن فهْم دوافع أوكرانيا لعدم التوقيع على الاتفاقية والاختلافات التي حدثت بين ترامب وزيلينسكي في النقاط التحليلية القادمة:
أولًا: اتفاقية المعادن مجحفة وبدون ضمانات؛ حيث يرغب دونالد ترامب في أن يجعل أوكرانيا تُوقِّعُ على اتفاقية المعادن التي تُمكِّنُ واشنطن من الاستحواذ على 50% من المعادن الأوكرانية؛ كي تُعوِّضَ المبالغ التي أنفقتها الرئيس السابق للولايات المتحدة جو بايدن على أوكرانيا لمساعدتها في حربها أمام روسيا، وتأتي هذه الاتفاقية بدون ضمانات واضحة لأوكرانيا، تضمن لها عدم خرْق مثل هذه الاتفاقية من قِبَلِ الجانب الروسي مستقبلًا، وأن وجود ترامب في السلطة لا يكفي لضمان ذلك، فدولة أوكرانيا تحتاج إلى ضمان يفوق الأشخاص، وهذا ما يهمشه ترامب؛ حيث يضع نفسه ضمانة على استمرار السلام الذي يريد صنعه مع الجانب الروسي، وهو ما لا تراه أوكرانيا كافيًا بالنسبة لها، بعبارةٍ أخرى لم يحظَ زيلينسكي بتعهُّدات امنية من الولايات المتحدة مقابل اتفاق المعادن كما كان يأمل، حيث يفتح توقيع اتفاقية بدون وجود ضمانات أمنية أو قوات حفظ سلام في أوكرانيا الباب أمام روسيا لشنِّ الحرب مرة أخرى، حينما ترى ذلك مناسبًا مستقبلًا؛ لذا بدا أن الولايات المتحدة تريد أخذ المعادن لتستردَّ ما أنفقته على أوكرانيا خلال الحرب في السنوات الماضية، ومن ثمَّ؛ ترك أوكرانيا لروسيا لتفعل بها ما تشاء وتنْأَى بنفسها عن الصراعات والحروب وسط سياسات العُزْلة الأمريكية وسياسات “أمريكا أولًا” الترامبية.
ثانيًا:ترامب يحاول صياغة نظام دولي جديد قائم على الضغط والاستغلال؛ حيث يرى ترامب، أن استخدام القوة والضغط هو النَّهْج الأكثر نجاحًا في عملية صُنْع السلام، ولكن موقف زيلينسكي جاء بمثابة صفعةٍ قويةٍ لهذا النَّهْج الترامبي في صُنْع السلام؛ حيث نوَّه لترامب، أنه يجب أن تأخذ مصلحة الدولة في المدى القصير والبعيد في الحسبان، وأن تصُبَّ عملية السلام بشكلٍ منطقيٍّ في صالح الطرفيْن على الأقل وليس طرفًا واحدًا، خاصَّةً وأن الطرف المتضرر في هذا الاتفاق الذي كان مقررًا توقيعه يوم الجمعة 28 فبراير 2025، هي الدولة المعتدى عليها، وفقًا لوجهة نظر الرئيس الأوكراني والفرنسي، وقد أشار التصريح الفرنسي، أن روسيا هي الطرف المعتدي وأوكرانيا هي الطرف المعتدى عليه؛ لذا في عملية صنع السلام يجب أن يكون الوسيط محايدًا ولا ينحاز إلى طرفٍ، ويأخذ في الاعتبارات حقوق الطرفيْن ووجهة نظرهم، ومن ثمَّ؛ يحاول إحداث مقاربات بينهما.
ثالثًا: رؤية ترامب للسلام تحقق انتصارًا روسيًّا ساحقًا، تحاول أوكرانية تفاديه؛ حيث وجدت نفسها في موضع الخاسر، سواء قامت بعقْد اتفاق المعادن مع ترامب أم لا؛ حيث إنها لن تستردَّ الأراضي التي تسيطر عليها القوات الروسية، ولن تنضم إلى حلف الناتو، وستدفع مقابل دعم الولايات المتحدة لها بإعطائها 50% من المعادن الأوكرانية، ومع ذلك لن تأخذ ضمانات بالتزام الطرف الروسي بالمعاهدة، فكان تفكير زيلينسكي منطقيًّا إلى حدٍّ ما؛ حيث ينتصر الجانب الروسي في كلا الحالتين، ومن المتوقع أن لا يتردد في استمرار الحرب؛ نظرًا للترسانة العسكرية المهولة التي تمتلكها روسيا الدولة صاحبة القدرات العسكرية الأقوى في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، في مقابل أوكرانيا التي تواجه ضغوطًا أمريكية بقطْع الإمداد العسكري لها الذي كانت تعتمد عليه اعتمادًا شِبْه كُلِّيٍّ منذ بدْء الحرب “الروسية – الأوكرانية” في عام 2022.
رابعًا: أوكرانيا لا تريد أن تكون لقمةً سائغةً في عملية التفاوض، أراد زيلينسكي، أن يُوقظ الدول الأوروبية في المشادة الكلامية مع ترامب ونائبه جي دي فانس، وأن يرسل رسائل غير مباشرة إلى الدول الأوروبية، بأن حربه مع روسيا مازالت مستمرة، وأنها لن تنتهي إلا بشروط وضمانات عقلانية يمكن قبولها من الطرف الأوكراني، وليس بشروطٍ يُمليها عليه ترامب ويصدق عليها زيلينسكي دون مراجعة؛ لذا جاء موقف زيلينسكي جاء بمثابة صفعةٍ لنهْج ترامب الذي نظر نظرةً أُحاديةً في هذا اللقاء وإجمالًا في صنعه عملية السلام، وترتب على ذلك تصريحات أوروبية داعمة لأوكرانيا لاستشعارهم بخطورة الموقف، وبأن عليهم المشاركة بشكلٍ أكثر فعالية في هذه المرحلة العصيبة التي تمُرُّ بها أوكرانيا.
خامسًا: ترامب لا يريد جداًلا، بل يريد أن يُمْلِي لغيره ما عليه فعله، وهو ما لم يستقبله الرئيس الأوكراني، ولم يُبْدِ مرونةً حوله في الردِّ على ترامب؛ لذا تحوَّل اللقاء إلى ساحة مبارزةٍ كلاميةٍ بين ترامب وجي دي فانس من جهة وزيلينسكي من جهةٍ أخرى؛ حيث سعوا لفرْض رُؤيتهم للسلام على زيلينسكي في موقفٍ تعدَّى الأعراف الدبلوماسية – على الأغلب – أن الجانب الأمريكي يستغلُّ ضعف موقف أوكرانيا الحالي؛ نظرًا لما تشير إليه التقديرات، بأن أوكرانيا ستعاني إذا فكرت في الاستمرار في الحرب بدون الولايات المتحدة.
سناريوهات مستقبلية: –
السيناريو الأول، استفاقة واستقلالية أوروبية:
من المتوقع أن تغير الدول الأوروبية نهجها في التعامل مع الحرب “الروسية – الأوكرانية”؛ حيث ينتظر أن يجتمع القادةُ الأوروبيون في لندن، يوم الأحد المقبل الموافق الثاني من شهر مارس 2025؛ لبحث الحرب “الروسية – الأوكرانية”، ومن المنتظر أن يكون الحديث أكثر جدية، خاصَّةً بعد لقاء ترامب وزيلينسكي، ومن المحتمل أن تبحث أوروبا الدفاع عن أمنها القومي بعيدًا عن الاعتمادية على الولايات المتحدة الأمريكية؛ حتى لا يترك تحديد مصير قارة بأكملها في يد واشنطن، وقد طرح هذا السيناريو مرارًا وتكرارًا، ولكن دون أخذ خطوات جدية تجاهه، ويرجع أسباب ذلك إلى افتقار القارة الأوروبية إلى القادة القادرين على الأخذ بزمام المبادرة لمثل هذه الخطوة الجريئة، حتى وإن بدى ماكرون يُمثِّلُ دور هذا القائد، إلا أنه ليس من الواضح أنه يثق ثقةً تامَّةً في خوْض مثل هذه الخطوة التي يمكنها أن تؤدي إلى انخراط أوروبا في حرب مباشرة مع الجانب الروسي، وسببًا آخر يقوض هذا السيناريو هو المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها القارة الأوروبية، خاصَّةً أزمات الطاقة التي تجعل دول أوروبا تتحلَّى بالواقعية ولا تريد الانخراط مع الجانب الروسي في حرب مباشرة بدون مساعدة حليف أوروبا الرئيسي منذ الحرب العالمية الثانية، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، الذي من المرجح بنسبة قوية أن يُشكِّلَ غيابها في نزاع “روسي – أوروبي” مستقبلي إلى معاناة أوروبية محتملة أمام منافس يتمتع بقوة عسكرية وعُمْق إستراتيجي مثالي لمجابهة قارة بأكملها.
السيناريو الثاني، تقارب وجهات نظر وتفاهم:
السيناريو الثاني، أن تحدث مقاربات في وجهات النظر الأمريكية والأوكرانية بوساطة أوروبية تضغط من أجل وجود ضمانات أمنية أمريكية لعدم حدوث نزاعٍ مستقبلي بين روسيا وأوكرانيا ولحماية أوكرانيا في حال حدوث ذلك، وهو ما تريده أوكرانيا، ومستعدة لقبول عملية السلام التي يطرحها ترامب في حال توفره، ويخشى ترامب من إعطاء أوكرانيا ضمانات أمنية قد تجبر الولايات المتحدة على الانخراط في حروب مستقبلية من أجل أوكرانيا اذا ما فكرت روسيا في العودة إلى القتال مرة أخرى لأيِّ سبب كان، وترجع تلك المخاوف الى رؤيته بأن الجانب الأوروبي هو الذي عليه أن يلتزم بحماية الأمن القومي الأوروبي وليس واشنطن، ولا يدعم ترامب فكرة انخراط الولايات المتحدة في نزاعات وحروب لا تهمها ولا تعني شيء لأمنها القومي، وذلك كان نقطة خلاف بين ترامب وبايدن والدول الأوروبية حول نسبة مشاركاتهم المادية في حلف الناتو التي يراها ترامب منخفضة للغاية مقابل ما تقدمه الولايات المتحدة الامريكية للحلف الذي يصب في المقام الأول في المصلحة الأوروبية وحماية أمنها القومي أمام روسيا، وكان قد هدد ترامب أكثر من مرة بإمكانية انسحابه من الحلف إذا لم يتحمل الجانب الأوروبي أعباء الحلف المادية، ويرفع نسبة المساهمة في قدراته الدفاعية الى 5% من الدخل القومي للدول الأعضاء؛ لذا من المحتمل أن لا يكون إعطاء ترامب لزيلينسكي ضمانات أمنية بهذه السهولة؛ حيث إن ذلك يتنافى مع الرُّؤية الترامبية الانعزالية كما تمَّ الإشارة إليه.
السيناريو الثالث، الاستعانة بحلفاء ووسطاء جدد:
سيناريو البحث عن وسطاء جُدُد بدلًا من الولايات المتحدة وجلب الصين وتركيا لصنع السلام؛ حيث من الممكن في ظل احتياج الدول الأوروبية لشريك اقتصادي قوي، في ظل عزم واشنطن فرض رسوم جمركية باهظة على الاتحاد الأوروبي، قد تتجه أوروبا للتعاون مع بكين وأنقرة والاستعانة بهما لصنع عملية السلام في الحرب “الروسية – الأوكرانية” بصفتهم حليفين مقربين لدى روسيا ودول صاحبة رؤية تنموية، ولديهم من أوراق الضغط والقدرة السياسية والاقتصادية والعسكرية على صُنْع عملية السلام بين روسيا وأوكرانيا، وتكون هذه ورقة ضغطٍ كبيرةٍ على الولايات المتحدة وتحدٍّ من الممكن أن يشرذم العلاقات الأمريكية الأوروبية؛ حيث إن في هذه الحالة سيتم إعلان الاستغناء رسميًّا عن رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لصنع السلام من قِبَلِ أوكرانيا وأوروبا، ولكن في هذه الحالة قد تعاود تركيا مطالبها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مقابل الموافقة على الانخراط في ذلك، ويُعدُّ هذا بمثابة تغيُّرات وتحوُّلات جذرية في النظام العالمي الذي أربك خياراته وطرق سيْره عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وختامًا:
لا يمكن ترجيح أيّ سيناريو على الآخر؛ لأن ذلك يرجع إلى مدى استقبال واستيعاب أوروبا لتلك التطورات، ومن المتوقع أن توقف الولايات المتحدة مساعداتها لأوكرانيا تمامًا، ولكي يحدث اتفاق برعاية وجهة النظر الترامبية، يجب على أوكرانيا تقديم تنازلات عديدة، ومنها القبول بإنهاء الحرب بناء على الواقع الميداني الحالي، الذي تسيطر فيه روسيا على أراضٍ أوكرانية، وعقد اتفاق المعادن مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى منعها من الانضمام إلى حلف الناتو، وعقد اتفاقية بدون ضمانات أمنية كبيرة، ويكون الضامن فيها هو شخص دونالد ترامب نفسه، والذي لا تراه أوكرانيا كافيًا؛ لذلك من المتوقع أن تتسارع وتيرة الأحداث في الفترة المقبلة، وتأجيل عملية السلام لحين حدوث تقاربٍ في وجهات النظر بين زيلينسكي وترامب في مسار التفاوض الذي يريد فيه الجانب الأوكراني أن يحتوي على ضمانات أمنية لإنهاء الحرب، وهذا هو الشرط الأوكراني الأهم.
المصادر:
[1] زيلينسكي يصف مشادته الكلامية مع ترامب بـ “الموقف الصعب”، ويقول إن بلاده مستعدة للسلام، بي بي سي، 28 فبراير 2025
