أجرى الإعلامي عمرو عبد الحميد، في أوائل مارس الجاري، حوارًا في موسكو، مع ألكسندر دوجين – الفيلسوف والمفكر السياسي الروسي المقرب من الكرملين- عبْر فضائية الغد عن التطورات الجيوسياسية العالمية وموقف روسيا من القوى الكبرى والقضايا المختلفة، ويُعدُّ دوجين من أبرز منظري “الأوراسية الجديدة”، وهي رؤية تدعو إلى تعزيز نفوذ روسيا كقوة حضارية مستقلة عن الغرب، عبْر تحالفات مع آسيا وأوروبا الشرقية، ويحمل خلفيةً أكاديميةً في الفلسفة، وعمل أستاذًا ومحاضرًا، كما يؤثر بشكل غير رسمي في رسْم الاستراتيجية الروسية، لا سيما في العلاقات الدولية.
تناول دوجين في الحوار عددًا من القضايا الدولية البارزة؛ حيث تصدَّرت حرب غزة، وسقوط نظام بشار الأسد، وتطورات الحرب في أوكرانيا قائمة اهتماماته، مُسلِّطًا الضوء على أبعاد هذه القضايا، من خلال استعراض وجهة نظر موسكو، وباعتباره قريبًا من دوائر صُنْع القرار الروسي – إذ يطلق عليه في الأوساط السياسية بأنه “عقل بوتين” – كشفت رؤيته عن تقاطُعٍ كبيرٍ مع مواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفيما يأتي استعراضٌ لرؤيته تجاه هذه القضايا، باعتبار “دوجين” أحد أهم منظري السياسة الروسية[1]:-
أولًا: حرب غزة
1- انتقاد عملية ٧ أكتوبر
وجَّه “ألكسندر دوجين” انتقادًا شديدًا لحركة حماس؛ بسبب عملية 7 أكتوبر، معتبرًا أنها لم تكن خطوة استراتيجية مدروسة بقدر ما كانت أقرب إلى عملية انتحارية؛ أدَّت إلى نتائج كارثية على الفلسطينيين، ورغم أنه يؤمن بالمقاومة كفكرة ويدعمها، إلا أنه يرى أن ما فعلته حماس لم يؤدِ فِعْليًّا إلى استعادة الأراضي المحتلة أو حتى تحقيق مكاسب جزئية، بل انتهى بها الأمر إلى خسارة كل شيء، وبدلًا من تحقيق أي تقدُّم سياسي أو عسكري، أصبحت فكرة إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 مستحيلة تمامًا في الوقت الحالي؛ بسبب الوضع الجديد الذي فرضته الحرب.
في سياقٍ متصلٍ، لم يوجه “دوجين” اللوم لحماس بسبب تنفيذ العملية التي لم تستغرق بضع ساعات فحسب، بل بسبب غياب التخطيط لمرحلة ما بعد التنفيذ؛ حيث يكمن السؤال الرئيسي بالنسبة له هو: ماذا عن اليوم التالي؟ كيف كانت حماس تخطط للتعامل مع الرَّدِّ الإسرائيلي؟ ما هي التدابير التي وضعتها لحماية المدنيين في غزة؟ كيف كانت تنوي تأمين الجبهة الداخلية بعد بدْء الحرب؟ كل هذه الأسئلة لم تجد إجابات على الأرض، وهو ما أدى إلى دمار واسع النطاق في غزة؛ حيث خسرت حماس ليس فقط مقاتليها وأسلحتها، بل أيضًا البنية التحتية وكل مظاهر الحياة في القطاع، والأسوأ من ذلك، أنها وجدت نفسها وحيدةً تمامًا في الحرب، بعدما استغلَّت إسرائيل الموقف لتوجيه ضربات قاصمة لما يسمى بمحور المقاومة بأكمله.
فبحسب دوجين، لم تكن الحرب مجرد مواجهة بين حماس وإسرائيل، بل كانت فرصةً لإسرائيل لتفكيك الجبهة المعادية لها، وهو ما تحقق بالفعل؛ حيث اغتالت الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصرالله؛ مما أضعف حزب الله في لبنان، وأسقطت نظام الأسد في سوريا، ووجَّهت ضربات قاسية لإيران، جعلت موقفها الإقليمي أضعف مما كان عليه، كل هذا ترتب عليه في نهاية المطاف، أنه بعدما دخلت حماس الحرب معتقدةً أنها جزء من محور المقاومة، انتهت بها الحال تقاتل وحدها دون أيِّ دعم حقيقي من حلفائها السابقين.
٢-عدم وجود تحالفات
يرى ألكسندر دوجين، أن أحد أكبر أخطاء حماس قبل تنفيذ عملية 7 أكتوبر، كان عدم بناء تحالفات موثوقة يمكن الاعتماد عليها في لحظة المواجهة، فمن وجهة نظره، لا يمكن لحركة مقاومة أن تقْدُم على خطوة بهذا الحجم دون أن تضمن أن هناك قوى إقليميةً داعمةً لها ومستعدةً للتدخُّل أو توفير غطاء استراتيجي عند الحاجة، فعملية بهذا التأثير لن تقتصر نتائجها على غزة فقط، بل ستنعكس على الإقليم بأكمله، وبالتالي كان من الضروري أن تكون الأطراف التي سيتأثر أمنها واستقرارها شريكةً في القرار منذ البداية، وليس مجرد مشاهد لتطور الأحداث.
فمن غير المنطقي – برأيه – أن تتوقع حماس تنفيذ ضربة بهذا الحجم ثم تأمل أن يمر الأمر دون رد فعل إسرائيلي عنيف؛ حيث كان متوقعًا – منذ اللحظة الأولى – أن إسرائيل لن تتغاضى عن العملية، بل ستنفذ ردًّا واسعًا ومدعومًا بالكامل من الولايات المتحدة؛ مما يعني أن على حماس أن تكون مستعدةً لحرب طويلة الأمد، وهنا يطرح دوجين سؤالًا جوهريًّا: كيف كانت حماس تتوقع أن تصمد وحدها في مواجهة هذا السيناريو؟ من سيدعمها بالسلاح؟ من سيتدخل سياسيًّا أو عسكريًّا لحمايتها؟ ما هي الخطط البديلة إذا تطورت الحرب إلى مواجهة إقليمية أوسع؟
بالنسبة لدوجين، كان غياب التحالفات القوية يعني ببساطة أن حماس أقدمت على مقامرة غير محسوبة، فبدون شركاء إقليميِّين يدعمونها في لحظة الحسم، كان من الأفضل لها ألا تدخل الحرب من الأساس؛ لأن النتيجة كانت محسومةً منذ البداية: مواجهة غير متكافئة مع إسرائيل، عُزْلة سياسية، وضربات عسكرية كاسحة كان يصعب التصدِّي لها دون دعم خارجي حقيقي.
٣-خطة ترامب
يرى ألكسندر دوجين، أن خطة ترامب لتهجير سكان غزة والسيطرة الأمريكية على القطاع سيتمُّ تنفيذها في النهاية، إن أرادت واشنطن ذلك، ليس لأنها خطة عادلة أو منطقية، ولكن لأنها تتماشى مع موازين القوى الحالية؛ حيث أعلن ترامب صراحةً، أنه يمتلك رؤية بشأن غزة، تقوم على إعادة تشكيل الوضع الديموجرافي والجغرافي للقطاع، والسؤال الأهم هنا: هل يملك المعترضون على هذه الخطة الأدوات الفِعْلية لعرقلتها؟ الإجابة، وفقًا لدوجين، هي لا، وهذا يعني أن الخطة ستنفذ بغضِّ النظر عن البلد الذي سيتم تهجير الفلسطينيين إليها، وفي ظل غياب خطة بديلة حظيت بدعم واشنطن إلى الآن تتعلق بمستقبل غزة، يرجح دوجين كفة خطة ترامب، لكنه – من ناحيةٍ أُخرى – لا يعتبرها خطة أخلاقية على الإطلاق.
٤- عودة الاستعمار
يرى ألكسندر دوجين، أن خطة ترامب للسيطرة على غزة ليست مجرد إعادة ترتيب للوضع الإقليمي، بل هي احتلال واضح، لكنه في الوقت نفسه، يشير إلى أن الاحتلال لم ينتهِ من العالم في أيِّ وقت، بل تغيرت أشكاله وأساليبه فقط؛ حيث لم يعُدْ الاحتلال الحديث بالضرورة يعتمد على السيطرة العسكرية المباشرة، لكنه أصبح يأخذ أشكالًا أخرى، مثل النفوذ السياسي والاقتصادي، والهيمنة عبْر الأنظمة العميلة أو الضغط الدولي؛ مما يجعله أكثر تعقيدًا من النماذج التقليدية التي عرفها التاريخ.
ومما يميز طرْح دوجين في هذه النقطة هو موضوعيته؛ حيث لم يعفِ الاتحاد السوفيتي من ممارسة الاحتلال أيضًا، مؤكِّدًا أن كل القوى العظمى، بما فيها الاتحاد السوفيتي، مارست أشكالًا مختلفة من السيطرة، وإن غلَّفتها بشعارات أيديولوجية، مثل نشر الشيوعية أو محاربة الإمبريالية، ففي الوقت الذي كان فيه السوفييت يبنون تحالفاتهم مع دول متعددة، لم يكن الهدف فقط نشْر الأيديولوجيا الشيوعية، بل تحقيق مصالح روسية استراتيجية، ومن هنا، فإن الاحتلال ليس حِكْرًا على الغرب أو الولايات المتحدة، بل هو نهْجٌ عالمي استخدمته كل القوى الكبرى عبر التاريخ، ولا يزال موجودًا حتى اليوم، وإن تغيرت آلياته وأدواته.
ثانيًا: سقوط نظام الأسد
١- حرب أوكرانيا
يرى ألكسندر دوجين، أن السبب الرئيسي لسقوط نظام بشار الأسد دون تدخُّل روسي مباشر لإنقاذه هو تبدُّل الأولويات الاستراتيجية لموسكو، فبالنسبة لروسيا، أصبحت الحرب في أوكرانيا القضية الرئيسية وغير مقبول التفريط فيها؛ مما جعل من الصعب عليها الانخراط في مواجهة جديدة لإنقاذ الأسد، خاصَّةً في ظل تعقيدات المشهد الدولي وضغوط الحرب الأوكرانية.
ويؤكد دوجين على أن سقوط الأسد لم يكن ناتجًا عن ضعف روسي بقدر ما كان نتيجة تقدير دقيق للأوضاع الجيوسياسية، فمن وجهة نظر الكرملين، كانت جبهة أوكرانيا أكثر أهميةً وإلحاحًا من الجبهة السورية، وكان من غير الممكن أن تخوض روسيا حربيْن في آنٍ واحدٍ، بل حتى الولايات المتحدة نفسها – وهي القوة العظمى الأكبر – لا تستطيع إدارة حربيْن كبيرتيْن في الوقت نفسه، فكيف يمكن لروسيا أن تفعل ذلك؟
ورغم أن موسكو لديها مصالح استراتيجية في سوريا، فإن دوجين يرى أن بإمكانها التوصُّل إلى صيغة توافقية بشأنها مع الإدارة الجديدة في دمشق كتعويضٍ عن سقوط نظام الأسد وضمان للحفاظ على مصالحها هناك، بدلًا من خيار استنزاف مواردها في حرب للدفاع عن النظام السوري السابق، والذي كان من الصعب تأمين نصر حاسم فيها، في وقتٍ تحتاج فيه إلى تركيز جهودها بالكامل على أوكرانيا، التي تعتبرها المعركة المصيرية لمستقبلها كقوة عالمية.
٢- انتقاد الأسد
وجَّه ألكسندر دوجين انتقادًا لاذعًا لبشار الأسد، معتبرًا أنه لم يكن مجرد ضحية لتغيرات إقليمية ودولية، بل كان أحد الأسباب الرئيسية في سقوط نظامه، ورأى أن الأسد يفتقر إلى المهارات السياسية والمرونة المطلوبة لإدارة دولة في منطقة مضطربة، مشيرًا إلى أن الفارق بينه وبين والده حافظ الأسد كبير؛ فالأخير كان لاعبًا سياسيًّا بارعًا، استطاع الحفاظ على توازنات دقيقة بين القوى الإقليمية والدولية، بينما افتقد بشار هذه القدرة؛ مما جعله رهينةً للأحداث بدلًا من أن يكون صانعًا لها.
ويؤكد دوجين، أن الأسد لو كان يتمتع بحدٍّ أدْنى من الذكاء السياسي والقدرة على التكيُّف مع المتغيرات، لكان ذلك انعكس على استقرار نظامه، وربما مكَّنه من تجنُّب السقوط السريع، لكنه بدلًا من ذلك، أظهر جمودًا سياسيًّا قاتلًا، وجعل خياراته محدودة؛ مما أدى إلى عزْله دوليًّا وإضعاف موقفه الداخلي، حتى بات سقوطه مسألة وقت لا أكثر.
٣- فخ بايدن
يرى ألكسندر دوجين، أن الإدارة الروسية كانت مدركة تمامًا للفخ الذي حاولت إدارة بايدن نصبه لها قبْل رحيلها، وهو إشعال الأوضاع في سوريا؛ بهدف دفْع روسيا إلى فقدان امتيازاتها هناك، ولم يكن هذا مجرد محاولة لضرب النفوذ الروسي في المنطقة، بل كان جزءًا من استراتيجية أوسع، تهدف إلى استنزاف موسكو وتشتيت انتباهها عن معركتها الرئيسية في أوكرانيا، فمن خلال انزلاق روسيا إلى مواجهة جديدة في سوريا، لكان ذلك يعني إضعاف تركيزها العسكري والسياسي؛ ما يمنح الغرب فرصةً لإطالة أمد الحرب الأوكرانية وترجيح كفتها لصالح كييف.
ونتيجة لذلك، فضلت موسكو إدارة الوضْع بحذر، وتجنُّب الاستدراج إلى حرب جانبية قد تؤدي إلى إنهاكها على أكثر من جبهة؛ حيث أدركت القيادة الروسية، أن الأولوية القصوى هي حسْم المعركة في أوكرانيا؛ لأنها الجبهة التي ستحدد مستقبل روسيا كقوة عظمى. ومن هذا المنطلق، فضّلت روسيا المناورة الدبلوماسية وإعادة ترتيب أوراقها في الشرق الأوسط، دون التورُّط في صراع جديد، كان يمكن أن يصبح ورقة ضغط أمريكية لإضعاف موقفها الاستراتيجي عالميًّا.
٤- مستقبل سوريا
يستبعد ألكسندر دوجين أيّ احتمالية لحدوث توافق سياسي في سوريا، معتبرًا أن البنية الداخلية للبلاد شديدة التعقيد والانقسام، مع وجود أبعاد طائفية تزيد من تعقيد المشهد، ويرى أن الأزمة السورية ليست محلية بالكامل، بل تتداخل فيها قوى خارجية تدعم أطرافًا داخليةً؛ ما يجعل الحلَّ السياسي أكثر صعوبةً.
فعلى سبيل المثال، الأكراد في الشرق يحظوْن بدعم أمريكي، بينما تتدخل تركيا في المشهد السوري لتحقيق مصالحها الخاصة، كما أن الوضع في الجنوب لا يزال غير مستقر؛ حيث تتصارع قوى متعددة على النفوذ، ويضاف إلى ذلك، أن الإدارة الجديدة في سوريا تتكون من تحالفات من فصائل مسلحة، بعضها يحمل توجُّهات متطرفة؛ ما يطرح تساؤلاتٍ حول مدى قبول هذه الفصائل على تبنِّي العمل السياسي بدلًا من اللجوء إلى العنف، كما أنه حتى لو قَبِلَتْ هذه الفصائل الانخراط في المسار السياسي، فلا يوجد ضمان بأنها لن تعود إلى العنف مجدَّدًا، خاصَّةً مع تاريخها القتالي.
لذلك، يرى دوجين، أن الحديث عن توافق سياسي في سوريا في المستقبل القريب يبدو غير واقعي؛ حيث لا توجد مؤشرات واضحة على إمكانية تحقيق استقرار سياسي مستدام، في ظل هذه التعقيدات الداخلية والخارجية.
٥- تسليم بشار
يستبعد ألكسندر دوجين – تمامًا – احتمالية أن تتخلَّى روسيا عن بشار الأسد، في إطار أيِّ تفاهمات مستقبلية مع الإدارة الجديدة في سوريا، لكنه يؤكد أن المسألة لا تتعلق بشخص الأسد بل برمزية بشار كحليف لموسكو وبصورة روسيا كقوة عظمى، فمن وجهة نظره، إذا قامت موسكو بالتخلِّي عن أحد أقرب حلفائها، فهذا سيضر بمصداقيتها على السَّاحة الدولية، ويجعلها حليفًا غير موثوق به، وهو أمر لا يمكن لروسيا أن تقوم به.
وعلى الرغم من إيمان دوجين بالواقعية السياسية، ويقر بأن السياسة تقوم على التفاعل مع المتغيرات، وربما تغيير المواقف – إن تطلب الأمر – لكنه يرى أن ليس كل تغيير في الموقف يكون صائبًا أو مقبولًا؛ فهناك فرق بين التكيُّف مع المتغيرات بما يخدم المصالح الاستراتيجية، وبين اتخاذ قرارات تضر بالمكانة الدولية لروسيا وتضعف ثقة حلفائها بها؛ لذا، فإن التخلِّي عن الأسد سيكون خطوةً مكلفةً لروسيا ليس فقط في سوريا، بل في علاقتها مع جميع حلفائها الدوليِّين، الذين سيرون في ذلك دليلًا على أن موسكو لا تحمي حلفاءها عند الأزمات.
ثالثًا: التطورات في أوكرانيا
١- تفاؤلٌ حَذِر
منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة، حدث تحوُّل ملحوظ في نهْج الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا، وبدأ ذلك من خلال الخطاب الرسمي الصادر عن المسؤولين الأمريكيين؛ حيث ظهرت تصريحات تنتقد الرئيس الأوكراني، وأخرى تدعو كييف إلى التعامل مع الواقع الجديد والتطوُّرات الميدانية إذا كانت ترغب في إنهاء الحرب.
وتجلَّى هذا التوجُّه بشكل أوضح في تعليق المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، وهو تطور تعتبره موسكو إيجابيا ويخدم مصالحها، ومع ذلك، فإن روسيا تتعامل مع هذه التغيُّرات بتفاؤل حذر؛ لأنها تدرك أن ترامب في النهاية هو رئيس الولايات المتحدة وليس روسيا، وبالتالي سيتخذ قراراتٍ بناءً على ما يراه في مصلحة بلاده، وليس بناءً على ما يخدم موسكو.
ويشير دوجين إلى أن السياسة الأمريكية تقوم على المصالح وليس الولاءات، وبالتالي، حتى مع المواقف التي تبدو إيجابيةً لروسيا، فإنها لا تعني بالضرورة تغيُّرًا جذريًّا أو دائمًا في الاستراتيجية الأمريكية تجاه روسيا أوكرانيا.
٢- شروط روسيا
يرى ألكسندر دوجين، أن هناك شروطًا أساسيةً لن تتنازل عنها روسيا إذا كانت أوكرانيا ترغب في السلام. وهذه الشروط تتضمن: رفْض وجود أيِّ قوات أوروبية أو تابعة لحلف الناتو في أوكرانيا، إنهاء الوعود المقدمة لكييف بالانضمام إلى الحلف مستقبلًا، وعدم قبول استمرار زيلينسكي كرئيس، بل المطالبة بإجراء انتخابات تأتي برئيس جديد.
ويؤكد على أن هذه المطالب ليست فقط شروطًا روسيةً صارمةً لإنهاء الحرب قد يتم تنفيذ بعضها واستبعاد البعض الآخر، بل هي أيضًا قابلة للتنفيذ بدرجة كبيرة؛ لأنها تتماشى مع رؤية دونالد ترامب لحلِّ الأزمة الأوكرانية؛ حيث يرى ترامب أن هذه الحرب ليست معركته، بل هي نتيجةٌ لسياسات الإدارة السابقة، ولا يتحمل أيَّ مسؤولية عنها؛ لذا يسعى لإنهائها بأسرع وقتٍ ممكنٍ، ومن وجهة نظر ترامب، أوكرانيا ليست سوى مصدرٍ دائمٍ للمشاكل والتكاليف، وقد حان الوقت لوضْع حدٍّ لهذا حتى لو تطلب ذلك تقديم كييف تنازلات كبيرة.
٣- مستقبل أوكرانيا والناتو
يرى ألكسندر دوجين، أن أوكرانيا دولة بلا فائدة، بل إنها تمثل تهديدا مباشرًا لروسيا، مستشهدًا بمثال المكسيك والولايات المتحدة. فهو يتساءل: ماذا لو هدَّدت المكسيك الولايات المتحدة بالحرب؟ أو تحالفت معها دول معادية للولايات المتحدة؟ في هذه الحالة، لن تتردد أمريكا لحظةً واحدةً في اتخاذ إجراءات عسكرية حاسمة ضد المكسيك، ومن هذا المنطلق، يعتبر دوجين أن أوكرانيا تمثل تهديدا مماثًلا لروسيا؛ لذا لا ينبغي أن تبقى كدولة مستقلة.
أمَّا فيما يتعلق بحلف الناتو، فيتوقع دوجين، أن ترامب سينسحب منه تمامًا، كما انسحب من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية؛ حيث إن واشنطن ليست بحاجة إلى حماية من أوروبا، بل العكس هو الصحيح، حيث تعتمد الدول الأوروبية على واشنطن لضمان أمنها.
في المقابل، يرى دوجين، أن ترامب لن يتخلَّى عن أوروبا بالكامل، لكنه سيستبدل الناتو باتفاقيات دفاعية ثنائية مع حكومات أوروبية يراها قريبةً من توجُّهاته، مثل المجر وإيطاليا، وهذا سيخلق نظامًا أمنيًّا جديدًا لا يعتمد على التحالفات الجماعية التقليدية، بل على اتفاقات منفصلة بين واشنطن والأنظمة الأوروبية التي تتماشى مع سياساته.
رابعًا: النظرة النقدية لأفكار دوجين
أولًا: نقاط القوة
أ- واقعية التحليل
يتبع ألكسندر دوجين نهْجًا واقعيًّا إلى حدٍّ كبيرٍ في نظرته للأحداث الدولية؛ حيث يستند في تحليلاته إلى موازين القوى الفعلية بدلًا من التفسيرات الأيديولوجية المنحازة، ويظهر هذا النهْج بوضوح في تناوله لحرب غزة؛ حيث يرى أن الولايات المتحدة تمتلك القدرة على تنفيذ مخططها الخاص بتهجير سكان القطاع، وفْق رؤية ترامب، بغض النظر عن أيِّ اعتراضات دولية أو إقليمية؛ حيث لا يتعامل دوجين مع هذه المعارضة باعتبارها عائقًا حقيقيًّا، بل كعامل ثانوي أمام التفوق الأمريكي؛ ما يعكس إدراكه لطبيعة التفاعلات الدولية التي تحكمها القوة أكثر من المبادئ.
ب- ترسيخ مكانة روسيا كقوة عظمى
يرى ألكسندر دوجين، أن روسيا ليست مجرد لاعب دولي، بل قوة عظمى تمتلك نفوذًا وتأثيرًا عالميًّا، وهو ما ينعكس بوضوح في تحليلاته لمختلف الأزمات من زاوية موسكو؛ حيث يتعامل مع السياسة الروسية باعتبارها قوة موازية للولايات المتحدة وليست مجرد قوة إقليمية، ويظهر هذا الطرْح في موقفه من سوريا؛ حيث يؤكد أن روسيا لن تتخلَّى عن الأسد بسهولة، ليس لحماية نظامه، بل للحفاظ على صورتها كحليف موثوق لا يفرط في شركائه، وهو ما يعكس إدراكه لأهمية القوة الناعمة في السياسة الدولية.
كما يتجلَّى هذا التصوُّر في رؤيته للصراع الأوكراني؛ حيث يضع مصير روسيا على المحكِّ في هذه الحرب، ويعتبر أن حسمها لصالح موسكو هو مسألة وجودية تتعلق بمكانتها كقوة عظمى.
ج- تقديم أساس نظري للسياسة الروسية
لا يكتفي ألكسندر دوجين بتكرار المواقف الرسمية الصادرة عن المؤسسات الروسية، بل يقدم أساسًا نظريًّا وفلسفيًّا يضفي بُعْدًا فكريًّا على السياسات الروسية، فبدلًا من مجرد الدفاع عن القرارات التي تتخذها موسكو، يعمل على تأصيلها نظريًّا وربطها بإطار ٍ يعكس رؤية روسيا لدورها في العالم.
يظهر هذا بوضوح في تحليله للصراع في أوكرانيا؛ حيث لا يبرر الحرب فقط من منظور المصالح السياسية، بل يضعها في سياق أوسع، يتعلق بمكانة روسيا كقوة حضارية يجب أن تحافظ على مجالها الجيوسياسي.
ونتيجةً لذلك؛ فإن هذا النهْج يجعل دوجين أكثر من مجرد مُنظر سياسي يعيد إنتاج الخطاب الرسمي، بل يجعله مفكرًا يوفر الغطاء الأيديولوجي لتوجُّهات روسيا الخارجية؛ ما يساعد في فهْم كيف ترى موسكو نفسها ودورها على السَّاحة الدولية.
ثانيًا: نقاط الضعف
أ- افتراض حتمية بعض السيناريوهات
رغم أن ألكسندر دوجين يستند إلى نهْج واقعي في تحليله، إلَّا أن ذلك دفعه أحيانًا إلى افتراض حتمية وقوع بعض الأحداث دون النظر إلى العوامل المتغيرة، ومثال على ذلك، رؤيته لخطة ترامب بشأن تهجير سكان غزة؛ حيث اعتبر أن الخطة ستُنفذ لا محالة؛ لأن ميزان القوى يميل لصالح الولايات المتحدة، متجاهلًا إمكانية أن تكون هذه الخطة مجرد مناورة سياسية أو ورقة تفاوضية تستخدمها إدارة ترامب للضغط على الأطراف المختلفة.
ب- تجاهل البدائل المطروحة
يرى ألكسندر دوجين، أن خطة ترامب لتهجير سكان غزة ستُنفذ حتمًا؛ لأنه لا أحد يملك الأدوات الكافية لمواجهتها، وأن ما يطرح مجرد اعتراضات كلامية دون خطواتٍ فعليةٍ، لكنه في هذا الطرح يتجاهل البدائل المطروحة على الأرض، مثل الخطة المصرية العربية التي تهدف إلى إيجاد حلٍّ يحافظ على بقاء سكان غزة في أرضهم، ويمنع تصفية القضية الفلسطينية، كما أن عدم الإشارة إلى هذه المبادرات يجعل تحليله غير مكتمل؛ حيث يركز فقط على الهيمنة الأمريكية، دون الأخذ في الاعتبار التحرُّكات الإقليمية التي قد تشكل توازنًا مضادًّا وعاملًا يمكن البناء عليه.
ج- التقليل من تأثير سقوط الأسد على روسيا
رغم أن ألكسندر دوجين يؤكد أن الحرب في أوكرانيا تشكل الأولوية القصوى لروسيا في هذه المرحلة؛ ما جعلها تتجنَّب التورُّط في الدفاع عن نظام الأسد، إلَّا أنه يتجنَّب الاعتراف صراحةً، بأن سقوط الأسد يمثل خسارةً استراتيجيةً كبيرةً لموسكو، فبدلًا من ذلك، يبرر دوجين الموقف الروسي بأنه مجرد إعادة ترتيب للأولويات، وكأن التخلِّي عن الأسد كان خيارًا محسوبًا بالكامل وليس خسارة اضطرارية.
وتجدر الإشارة، أن التواجد الروسي في سوريا كان أحد أهم أوراق النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، ومع سقوط الأسد، لا تزال العلاقة بين موسكو والإدارة الجديدة في دمشق غير واضحة المعالم؛ ما يجعل من الصعب الجزْم بأن روسيا ستحتفظ بالامتيازات نفسها التي كانت تحظى بها سابقًا.
لذا، فإن الموقف الأكثر واقعيةً، هو التأكيد على أولوية أوكرانيا بالنسبة لروسيا، لكن مع الاعتراف، بأن فقدان الأسد يمثل ضربةً استراتيجيةً لموسكو، على الأقل في المدى القصير، حتى تتضح طبيعة علاقتها مع الإدارة السورية الجديدة.
د- التطرُّف في الموقف تجاه أوكرانيا
يذهب ألكسندر دوجين إلى أبعد مدى في موقفه من أوكرانيا؛ حيث لا يكتفي باعتبارها دولةً معاديةً لروسيا، بل يرى أنها لا يجب أن تبقى كدولة مستقلة من الأساس.
إن هذا الطرح يمثل رؤية راديكالية تجاه أوكرانيا؛ حيث إن العداء بين دولتيْن لا يعني بالضرورة ضرورة إلغاء وجود إحداهما، وبدلًا من تبنِّي هذا الطرح المتطرف، كان يمكن النظر إلى الأزمة الأوكرانية من منظور معتدل؛ حيث يمكن البحث عن ترتيبات سياسية وأمنية تخفف من التوتُّر بين البلدين، مع الحفاظ على سيادة كل طرفٍ. فحتى لو كانت روسيا تعتبر أوكرانيا تهديدًا مباشرًا، فإن الحلول الدبلوماسية والتسويات الإقليمية تظل خيارًا قائمًا، بدلًا من الدفع نحو منطق الإلغاء الكامل للدولة الأوكرانية.
إجمالًا:
بالنظر إلى ما ورد في قراءة دوجين للأحداث والقضايا السياسية محل الإشارة، يمكن فهْم المواقف الروسية واستشراف توجُّهاتها المستقبلية؛ حيث تتوازى آراء دوجين في كثيرٍ من القضايا مع التوجُّهات الرسمية الصادرة عن الكرملين، ومع ذلك، فإن رؤيته تتميز بطابع أكثر تنظيرًا؛ ما يجعل أفكاره تشكل الأساس النظري الذي يستند إليه السلوك الروسي في التعامل مع القضايا المختلفة
