في خضم التحولات الجيوسياسية العميقة التي يشهدها النظام الدولي في العقد الأخير، برزت منطقة الخليج العربي كساحة تنافس مركزية بين القوى الكبرى، في مشهد يعكس صعود أقطاب جديدة تسعى لإعادة رسم خرائط النفوذ التقليدية. فمع انحسار الحضور الأمريكي التدريجي، لا سيما خلال ولاية الرئيس السابق جو بايدن، والتي شهدت تحولاً واضحاً في بوصلة الأولويات الأمريكية باتجاه آسيا لمواجهة النفوذ الصيني المتصاعد، وجدت بكين وموسكو فرصة لملء الفراغ الذي خلفته واشنطن عبر تعزيز حضورهما السياسي والاقتصادي والعسكري في الخليج، وهو ما دفع الدول الخليجية إلى انتهاج سياسة أكثر براغماتية تقوم على تنويع الشراكات الدولية وتوسيع دوائر النفوذ بعيداً عن الارتهان الحصري للضمانات الأمريكية. وهكذا، باتت الصين وروسيا فاعلين مؤثرين في معادلات الخليج، فكل منهما يحمل تصوراً مختلفاً لطبيعة النفوذ الإقليمي، لكنهما يشتركان في هدف استراتيجي يتمثل في تقليص هامش الحركة الأمريكية في المنطقة.
ومع هذا التحول، جاءت عودة الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم في عام 2025، لتقلب التوقعات وتعيد واشنطن إلى الواجهة من جديد، فقد حملت زيارته الأخيرة إلى الخليج في 13 مايو، رسائل قوية لمنافسي واشنطن تتجاوز نطاق العلاقات الثنائية والتحالفات التقليدية. ومن هنا يبرز تساؤلاً جوهرياً: كيف تقرأ موسكو وبكين هذه العودة الأمريكية المفاجئة إلى الخليج؟ وهل تنظران إليها كتحدٍّ مباشر لمصالحهما المتنامية، أم كمناورة سياسية يمكن احتواءها ضمن صراع النفوذ الاستراتيجي طويل الأمد؟
أولًا: النظرة الروسية لمنطقة الخليج في العقد الأخير
شهدت السياسة الروسية تجاه الخليج تنامياً ملحوظاً خلال العقد الأخير، مستفيدة من تراجع الدور الأمريكي وسعي الدول الخليجية لتنويع شراكاتها. وفي هذا السياق، نتناول ملامح التحرك الروسي في ضوء تغير الإدارات الأمريكية، إلى جانب قراءة موسكو لزيارة ترامب الأخيرة إلى الخليج.
1- السياسة الروسية تجاه الخليج وفق تغير الإدارات الأمريكية:
منذ تولي فلاديمير بوتين الحكم في مطلع الألفية، بدأت روسيا في إعادة صياغة استراتيجيتها الخارجية بهدف استعادة مكانتها كقوة عظمى تنافس الولايات المتحدة في مناطق نفوذها التقليدية، وفي مقدمتها الخليج العربي. ورغم محدودية الحضور الروسي في الخليج خلال السنوات الأولى لحكم بوتين، إلا أن الاهتمام بالمنطقة تصاعد بشكل ملحوظ في السنوات اللاحقة، مدفوعاً بطموحات استراتيجية أوسع تشمل بناء علاقات متعددة الأبعاد مع دول الخليج عبر الزيارات الرسمية والحوار الاستراتيجي، والتعاون في الملفات الإقليمية.
وقد شهدت النظرة الروسية لمنطقة الخليج تحولاً نوعياً ارتبط بالتغيرات في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقدين الأخيرين، ففي ظل إدارة الرئيس باراك أوباما، التي تبنت سياسة “القيادة من الخلف” والانكفاء النسبي عن أزمات الشرق الاوسط، رأت موسكو فرصة لتعزيز نفوذها، وملء الفراغات التي خلفتها واشنطن، وهو ما ازداد بوضوح خلال فترة الرئيس جو بايدن، والتي أعادت ترتيب أولويات الأمن القومي الأمريكي نحو آسيا والمحيط الهادئ في إطار استراتيجية احتواء الصين، مما انعكس على خفض الانخراط العسكري والدبلوماسي الأمريكي في منطقة الخليج.[1]
فمع تحول أولويات واشنطن نحو آسيا، وتنامي شعور الدول الخليجية بفتور الالتزام الأمني الأمريكي، وجدت موسكو فرصتها في منطقة الخليج لتوسيع حضورها ومزاحمة النفوذ الأمريكي، وتقديم نفسها كشريك استراتيجي بديل يفي بتعهداته ولا يتدخل في الشؤون الداخلية لشركائه ولا يتلاعب باستقرار وأمن المنطقة لخدمة مصالحه، وبالفعل نجحت في مد أذرعها السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة عبر أدوات متعددة، أبرزها:
– التعاون الاقتصادي الروسي الخليجي: شهدت العلاقات الاقتصادية بين روسيا ودول الخليج العربي تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، مدفوعة برغبة موسكو في تنويع شركائها التجاريين وتعزيز حضورها الاقتصادي والتجاري في المنطقة، وتخفيف أثر العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ عام 2014. وتركز التعاون بين الطرفين على عدة قطاعات استراتيجية، منها البتروكيماويات، والزراعة، والتكنولوجيا، إضافة إلى مشاريع استثمارية مشتركة شملت مجالات الطاقة، والبنية التحتية، والخدمات اللوجستية. ولعبت صناديق الاستثمار السيادي دوراً رئيسياً في دعم هذه الشراكة، لا سيما من خلال “صندوق الاستثمار المباشر الروسي” (RDIF) الذي عقد شراكات مالية مع صناديق خليجية كبرى مثل صندوق الاستثمارات العامة السعودي وجهاز أبو ظبي للاستثمار.
وعلى صعيد التبادل التجاري، ارتفع حجم التجارة بين روسيا ودول الخليج من 3.5 مليار دولار عام 2016 إلى 4.1 مليار دولار عام 2017، بنسبة زيادة بلغت 17.6%، وفقاً لإحصائيات مجلس التعاون الخليجي. وتعززت العلاقات الاقتصادية بشكل أكبر خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى السعودية والإمارات في أكتوبر 2019، حيث تم توقيع اتفاقيات استثمارية وتجارية كبيرة تجاوزت قيمتها 1.3 مليار دولار مع الإمارات، ونحو 20 اتفاقية مع السعودية.[2]
واستمر هذا الزخم، ففي عام 2022، شهدت التجارة بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي نمواً بنسبة تجاوزت 6%، لتتخطى حاجز 11 مليار دولار مقارنة بعام 2021، مما يعكس توجهاً استراتيجياً لروسيا نحو توسيع نفوذها الاقتصادي في الخليج، مستفيدة من تحولات الأولويات الأمريكية في المنطقة ورغبة دول الخليج في تنويع شراكاتها الدولية.[3]
– التعاون الروسي الخليجي في مجال الطاقة: تعد الطاقة ركيزة استراتيجية في العلاقات الروسية الخليجية، حيث تجمع الطرفين مصالح مشتركة في قطاعات النفط والغاز والطاقة النووية السلمية، ويأتي هذا التعاون في إطار تحالف “أوبك+” الذي يهدف إلى تنسيق مستويات الإنتاج وضبط أسعار النفط في السوق العالمية. وقد توسع هذا التعاون ليشمل مجالات الطاقة النووية السلمية، في سياق التوجه الخليجي نحو تنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. ففي عام 2012، وقعت الإمارات وروسيا اتفاقية بشأن الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، تلتها مذكرة تفاهم متجددة في 2019 بين مؤسسة الإمارات للطاقة النووية ومؤسسة “روساتوم” الروسية، شملت تطوير المحطات النووية، إدارة دورة الوقود، وتدريب الكوادر الوطنية.[4] كما بادرت السعودية في عام 2015، بتوقيع اتفاقية مع روسيا لبناء 16 مفاعلاً نووياً، مع تشكيل لجنة مشتركة لمتابعة تنفيذ المشروع.[5]
– التعاون العسكري وصفقات السلاح: شهد التعاون العسكري الروسي – الخليجي تطوراً ملحوظاً خلال العقد الأخير، وقد تعددت مظاهر هذا التعاون بين زيارات الوفود العسكرية، والمشاركة في المعارض الدفاعية، وتوقيع اتفاقيات عسكرية، كان أبرزها اتفاقية التعاون العسكري بين روسيا والسعودية الموقعة في أغسطس 2021 على هامش معرض “الجيش 2021” في موسكو، والتي فتحت الباب أمام صفقات سلاح محتملة تشمل أنظمة الدفاع الجوي والطائرات بدون طيار. كما أبدت الإمارات اهتماماً كبيراً بتطوير التعاون الدفاعي مع موسكو، وذلك عبر عقد صفقات لشراء أنظمة دفاعية متقدمة، وشاركت روسيا بانتظام في معرض الدفاع الدولي “آيدكس” بأبوظبي. ومن جانب آخر، بحثت موسكو تعزيز التعاون الدفاعي مع الكويت، وناقشت إمكانية تفعيل اتفاقيات التسليح التي تعود إلى ما قبل 2011، فيما أبدت البحرين اهتماماً بشراء منظومات دفاع جوي روسية، مثل “بانتسير-S1”.[6]
وعلى الجانب الاخر، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتُظهر ملامح هذا التوازن الروسي الخليجي الذي تمثل في الامتناع عن الانخراط في العقوبات الغربية المفروضة على موسكو منذ فبراير 2022. ففي حين امتنعت الإمارات عن التصويت في مجلس الأمن على مشروع قرار أمريكي يدين الغزو الروسي، حرصت على استمرار قنوات التعاون السياسي والاقتصادي مع روسيا، بما يعكس رغبة أبو ظبي في الحفاظ على علاقاتها المتوازنة مع موسكو.[7] ومن جانبها، حافظت السعودية على شراكتها مع روسيا داخل تحالف “أوبك+”، وامتنعت بدورها عن فرض أي عقوبات اقتصادية أو سياسية على موسكو، الأمر الذي يعد بمثابة رسالة واضحة باستقلالية القرار الخليجي وسعيه لتنويع شراكاته الاستراتيجية.[8]
وبشكل عام، يبدو أن روسيا تنظر إلى الخليج كساحة استراتيجية لإعادة تشكيل التوازنات مع واشنطن، فكل تحرك روسي في التعاون مع دول الخليج سواء في الطاقة أو الدفاع أو الاستثمار، يحمل أبعاداً استراتيجية تتجاوز المصالح الاقتصادية المباشرة، لتعكس طموحاً متنامياً نحو توسيع شبكة المصالح الروسية في المنطقة وتقليص الهيمنة الأمريكية وترسيخ فكرة أن الشراكة مع موسكو لا تفرض شروطاً سياسية، بل تحترم السيادة، وهو ما يتوافق مع توجهات بعض صناع القرار في المنطقة.
2- قراءة روسيا لزيارة ترامب إلى الخليج:
تثير زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الخليج في 13 مايو 2025 اهتماماً واسعاً لدي موسكو، خاصةً أنها جاءت في سياق تنافسي متصاعد بين القوى الكبرى على النفوذ في المنطقة. وفي هذا الإطار، يبدو أن روسيا تُدرج هذه الزيارة ضمن محاولات واشنطن لاستعادة موقعها التقليدي في الخليج بعد سنوات من التراجع التدريجي، لا سيما في عهد إدارة بايدن التي اتسمت بعزوف نسبي عن الانخراط المباشر في ملفات الخليج.
وربما تنظر إليها كمناورة لتقويض المكاسب التي حققتها موسكو في علاقاتها مع بعض دول الخليج خلال العقد الأخير. ورغم ذلك، لا تتعامل موسكو مع هذه التحركات بمنطق المواجهة المباشرة، بل تعتمد مقاربة براغماتية تقوم على اختبار جدية واشنطن في استعادة نفوذها مع الحفاظ على قنوات التنسيق المفتوحة مع دول الخليج، لا سيما في ملفات الطاقة والدفاع.
وبالتالي يُمكن قراءة الموقف الروسي كترقب حذر، فبينما تدرك موسكو أن واشنطن تظل شريكاً أمنياً مفضلاً لدى بعض العواصم الخليجية، إلا أنها تراهن على أن تجربة العقود الماضية فتحت الباب أمام شراكات أكثر توازناً، تتيح لها الحفاظ على حضورها الاستراتيجي في المنطقة بصرف النظر عن التحركات الأمريكية المرحلية، ولهذا قد تعتمد روسيا في المرحلة المقبلة على تعزيز وجودها غير التصادمي وتكثيف شراكاتها الثنائية مع الدول الخليجية، في محاولة لتحصين مكاسبها الإقليمية ضد موجات التغير في السياسات الأمريكية.
ثانيًا: النظرة الصينية لمنطقة الخليج في العقد الأخير
مع صعود الرئيس شي جين بينغ إلى الحكم في 2013، تبنت بكين توجهاً استراتيجياً يُعرف باسم “التوجه غربًا”، وهو جزء من رؤية أوسع لتعزيز النفوذ الصيني في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، ضمن مبادرة “الحزام والطريق” التي أُطلقت رسميًا عام 2013. وقد جاءت هذه الاستراتيجية مدفوعة بعدة اعتبارات، أبرزها الحاجة إلى تنويع مصادر الطاقة، وفتح أسواق جديدة أمام المنتجات والاستثمارات الصينية، فضلاً عن تحصين الأمن القومي من خلال النفاذ إلى المناطق الاستراتيجية المحاذية لحدود الصين ومنافذها البحرية.
وقد رأت بكين في منطقة الخليج محوراً مهماً لهذه الاستراتيجية، لاعتبارات تتعلق بأمن الطاقة، والارتباط الجغرافي بالممرات البحرية الحيوية، بالإضافة إلى التغييرات الجيوسياسية التي رافقت انكفاء الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط، خصوصاً في عهد الرئيس باراك أوباما وما تلاه من إدارات. ففي ظل هذا التراجع الأمريكي النسبي، برزت لدى الصين فرصة سانحة لتوسيع نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي في الخليج، عبر تعزيز التعاون الثنائي، وتوقيع اتفاقيات شراكة استراتيجية شاملة مع دول مجلس التعاون الخليجي، وتكثيف الزيارات الرسمية بين الجانبين. وبينما اكتفت بكين لفترة طويلة بلعب دور “الشريك التجاري المحايد”، فإن العقد الأخير شهد تحولاً تدريجياً نحو دور أكثر انخراطاً وتأثيراً في ملفات الأمن والطاقة والتنمية والبنية التحتية، بما يعكس طموح الصين في أن تكون فاعلاً رئيسياً في معادلة التوازنات الخليجية، دون الدخول في مواجهات مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها. ومن أبرز الأبعاد التي تعكس توجهات السياسة الصينية تجاه منطقة الخليج ما يلي:
– العلاقات الاقتصادية الصينية – الخليجية: تُعد العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول الخليج ركيزة أساسية في التعاون الثنائي، فقد أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لمعظم دول الخليج، إذ تزداد قيمة التبادل التجاري بين الجانبين في العقدين الأخيرين تدريجياً؛ لتبلغ في 182 مليار دولار خلال عام 2014، وترتفع إلى 228 مليار دولار بحلول عام 2021. وقد تضاعف حجم التبادل التجاري بين الجانبين في الفترة من (2015 – 2022) بنسبة 140% ليبلغ نحو 316 مليار دولار في عام 2022. في حين بلغ نحو 287 مليار دولار خلال عام 2023، واستحوذت السعودية وحدها على حوالي 40% من هذا التبادل، وتُعد تجارة النفط المكون الأساسي فيه. كما تصدرت الصين قائمة الشركاء التجاريين لقطر، إذ بلغ حجم التبادل بين الجانبين 23.7 مليار دولار عام 2023، مسجلاً ارتفاعاً بنسبة 3.7% مع بداية 2024.[9]
وعلى مستوى الاستثمار، فقد شهدت دول الخليج تدفقات متزايدة لرؤوس الأموال الصينية في قطاعات حيوية كالصناعة والطاقة والتكنولوجيا والنقل، إذ وقعت الصين والإمارات عدة اتفاقيات شراكة ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، شملت تطوير موانئ ومناطق لوجستية في أبو ظبي ودبي. كما تنخرط الشركات الصينية في تطوير المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم في سلطنة عُمان، عبر مشروعات صناعية واستثمارية تمولها مؤسسات صينية كبرى. وتتعاون بكين مع الكويت في تطوير البنية التحتية ضمن خطة “رؤية كويت 2035”. في حين ترتبط الصين بعلاقات استثمارية قوية مع السعودية، حيث نمت استثماراتها المباشرة بنسبة 5.1% في 2022، وبنسبة 37.3% مقارنة بعام 2018، مع انخراطها في مشاريع كبرى كمشروع “نيوم”.
– التعاون في مجالات الطاقة والتكنولوجيا: تمثل الطاقة حجر الزاوية في العلاقات بين الجانبين، حيث تعتمد الصين على الخليج كمصدر رئيسي لتلبية احتياجاتها المتزايدة من النفط، وتستورد ما يقارب 40% من وارداتها النفطية من دول مجلس التعاون، خصوصاً من السعودية والإمارات. وبالتوازي مع ذلك، توسعت مجالات التعاون لتشمل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا المتقدمة، حيث وقّعت الصين اتفاقيات مع الإمارات لتطوير مشاريع الطاقة الشمسية والنووية ضمن مبادرة الحزام والطريق.
وفي مجال التكنولوجيا، نشطت شركات صينية مثل “هواوي” في بناء شبكات الجيل الخامس في السعودية والإمارات وقطر وسلطنة عمان، كما تم توقيع مذكرات تفاهم في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني مع عدة دول خليجية، ضمن جهود الجانبين لتعزيز التحول الرقمي والتعاون التكنولوجي.[10]
– التعاون الأمني والعسكري: رغم محدودية التعاون الأمني مقارنة بالعلاقات الاقتصادية، تشهد العلاقات الدفاعية بين الصين ودول الخليج نمواً تزايداً، حيث أصبحت بكين من أبرز مصدري السلاح للمنطقة، فضلاً عن توقيع اتفاقيات تشمل التدريبات العسكرية المشتركة وتبادل الخبرات. ففي الإمارات، أُجريت أول مناورات جوية مشتركة مع الصين عام 2024، إلى جانب صفقات لتوريد طائرات مسيرة وأنظمة صاروخية. وفي السعودية، شمل التعاون صفقة صواريخ “دونغ فنغ 3” ومناورات بحرية مشتركة كان أبرزها “السيف الأزرق”. كما أبدت الصين اهتماماً ببناء شراكات أمنية متقدمة في دول أخرى مثل قطر وعُمان عبر توقيع مذكرات تفاهم ركزت على قضايا مكافحة الإرهاب وأمن الموانئ، وجاء ذلك ضمن توجه خليجي أوسع لتنويع الشراكات الأمنية.[11]
– قراءة الصين لزيارة ترامب الأخيرة إلى الخليج: تثير الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الخليج في مايو 2025 اهتمام الصين، والتي تعتبرها كمؤشر على مساعٍ أمريكية متجددة لإعادة تأكيد النفوذ في المنطقة بعد فترة من التراجع النسبي لصالح قوى دولية أخرى كالصين وروسيا، لا سيما أن الزيارة جاءت في سياق توقيع واشنطن اتفاقيات دفاعية وتجارية كبيرة خاصةً مع المملكة العربية السعودية، وهو ما دفع بكين إلى مراقبة هذه التحركات بحذر.
وربما تنظر بكين إلى تلك الزيارة، وما تبعها من اتفاقيات دفاعية مع السعودية والإمارات وقطر، باعتبارها مؤشراً على انطلاق سباق تسلح إقليمي. فمن المرجح أن تدفع هذه الخطوات دولاً أخرى بالمنطقة إلى السعي لتقليص الفجوة العسكرية عبر إبرام صفقات تسليح مماثلة سواء مع دول غربية أو مع روسيا، وهو ما يُنذر بتهديد مصالح الصين الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة.
ورغم ذلك، لا يبدو أن الصين تنظر إلى التحركات الأمريكية باعتبارها تهديداً مباشراً، بل تتبنى مقاربة براغماتية تقوم على تعميق العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع دول الخليج، والاستفادة من رغبة تلك الدول في تنويع شراكاتها وعدم الارتهان لطرف واحد. وبالتالي يُتوقع أن تواصل بكين تعزيز حضورها في المنطقة، مع مراقبة تأثيرات التقارب الأمريكي الخليجي الجديد على مصالحها الاستراتيجي.
ثالثًا: توازن الخليج بين القوى الكبرى الثلاث (الولايات المتحدة والصين وروسيا)
تعتمد دول الخليج على استراتيجية “التوازن متعدد الأبعاد” في إدارة علاقاتها مع القوى الكبرى الثلاثة، مستندة إلى اعتبارات المصلحة الوطنية وتوازنات القوة الدولية، بدلاً من الارتهان لتحالف أحادي. فعلى الرغم من عمق الشراكة الأمنية والتاريخية مع الولايات المتحدة، لم تعد دول الخليج تنظر إلى واشنطن باعتبارها الضامن المطلق لأمنها، خاصةً في ظل تراجع الالتزام الأمريكي في الفترات السابقة وتغير أولويات السياسة الأمريكية تجاه آسيا وأوروبا.
وفي المقابل، يبدو أن دول الخليج تقيم علاقاتها مع الصين على أسس اقتصادية واضحة، إذ تُعد بكين شريكاً تجارياً واستثمارياً موثوقاً يوفر فرص تنمية دون شروط سياسية، مما يجعلها محط اهتمام متزايد في سياسات التنويع الاستراتيجي الخليجية. كما تنظر العواصم الخليجية إلى روسيا كفاعل مؤثر في ملفات إقليمية حساسة، لا سيما في قضايا الطاقة والأمن، وتسعى إلى الاستفادة من خبراتها العسكرية، إلا أن شراكتها تبقى محدودة من حيث العمق الاقتصادي أو القدرة على توفير دعم استراتيجي شامل.
وفي هذا السياق، لا يقتصر توازن دول الخليج بين القوى الكبرى على مجرد تنويع العلاقات أو تجنب الاصطفاف الكامل لطرف واحد، بل يتجاوز ذلك ليشكل أداة لإعادة تعريف دورها في النظام الدولي. إذ تسعى العواصم الخليجية إلى استخدام هذا التوازن لتعزيز استقلالية قرارها السياسي، وتقليص تبعيتها الاستراتيجية لأي طرف خارجي. ومع تصاعد التنافس بين واشنطن وبكين، وعودة روسيا إلى المشهد الدولي كلاعب متمرد على المنظومة الغربية، تجد دول الخليج نفسها أمام فرصة وتحدٍ في آنٍ واحد، لصياغة نموذج جديد في العلاقات الدولية، يستند إلى تعددية الشراكات، ومرونة التحالفات، وتوظيف محوري وفعال لمعادلات القوة العالمية بما يضمن مصالحها الأمنية والاقتصادية على المدى الطويل.
خاتمة
تكشف السياسات الأمريكية والروسية والصينية تجاه الخليج في العقد الأخير عن تباين واضح في الرؤى والأدوات، فبدءً من سعي واشنطن لترميم نفوذها عبر الاتفاقيات الأمنية والتجارية الأخيرة، إلى التمدد الروسي القائم على النفوذ السياسي والعسكري، وصولاً إلى الاستراتيجية الصينية المرتكزة على الشراكات الاقتصادية والمشاريع الكبرى؛ يبدو جلياً أن كل قوة تسعى لترسيخ حضورها في منطقة تشهد تصاعداً في مكانتها الجيوسياسية ضمن خارطة التوازنات العالمية.
ورغم تباين هذه المقاربات واختلاف دوافعها الاستراتيجية، فإن التحول الأبرز كان في الرؤية الخليجية ذاتها والتي أصبحت تتسم بالرشادة والعقلانية؛ فلم تعد دول الخليج مجرد ساحات نفوذ تتنازعها القوى الكبرى، بل فاعلاً دولياً مؤثراً، يعتمد نهجاً تعددياً واقعياً يرتكز على تنويع الشراكات الدولية، واستثمار تنافس القوى الكبرى بما يخدم مصالحه الوطنية واستقلالية قراره السياسي، وترسيخ أمنه ونموه المستدام.
المصادر:
[1] عبدالله خليفة الشايجي، نوف عبداللطيف الجسار، تأثير استراتيجية انكفاء الولايات المتحدة الأمريكية على أمن منطقة الخليج العربي 2009-2024، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، 50 (195) 2024، متاح على الرابط: https://2u.pw/uWfyu
[2] عبد الحافظ الصاوي، تمدد روسيا الاقتصادي في الخليج ليس بديلاً لواشنطن، البيت الخليجي للدراسات والنشر، 5 نوفمبر 2019، متاح على الرابط: https://2u.pw/QTna3
[3] RT، لافروف: نمو التجارة بين روسيا ودول التعاون الخليجي إلى 11 مليار دولار، 10 يوليو 2023، متاح على الرابط:
[4] مركز الاتحاد للأخبار، «الإمارات للطاقة النووية» تجدد مذكرة التفاهم مع «روساتوم» الروسية في الاستخدامات السلمية، 17 أكتوبر 2019، متاح على الرابط: https://2u.pw/UNekC
[5] RT، روسيا والسعودية تدفعان قدما باتفاقهما النووي، 5 سبتمبر 2015، متاح على الرابط: https://2u.pw/la2K5
[6] محمد أمين، ي توسع تدريجياً.. إلى أين وصل التعاون العسكري الخليجي – الروسي؟، الخليج أونلاين، 6 مارس 2024، متاح على الربط: https://2u.pw/fY5b7
[7] سامر وسام، الإمارات وغزو أوكرانيا.. لماذا تجنبت أبوظبي إدانة موسكو في مجلس الأمن؟، الحرة، 2 مارس 2022، متاح على الرابط: https://2u.pw/UiH2L
[8] Anna Borshchevskaya, A Russian Win in Ukraine Would Be a U.S. Loss in the Middle East, The Washington Institute, Feb 18, 2025, available in: https://2u.pw/9cqNw
[9] عبد الرحمن أنور، الصعود الصيني في منطقة الخليج العربي بين الفرص والتحديات، مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية، 18 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/ztGke
[10] وليد منصور، الصين وأميركا على أعتاب معركة رقمية بالمنطقة، صحيفة القبس، 27 ديسمبر 2020، متاح على الرابط: https://2u.pw/Hr0ZV
[11] محاسن عجم، الوجود الصيني في الخليج بالأرقام… هل يهدّد الهيمنة الأمريكية؟، رصيف 22، 19 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/qVuXc
