المقالات
قراءة فى ورقة بحثية بعنوان “اللحظة الخليجية وصنع الدولة الخليجية”
- أبريل 18, 2024
- Posted by: Maram Akram
- Category: أوراق بحثية وحدة الشرق الأوسط
إعداد: مصطفى مقلد
تستعرض ورقة بحثية صادرة من ” Belfer Center for Science and International Affairs” التابع لـ ” Harvard Kennedy School” بعنوان “اللحظة الخليجية وصنع الدولة الخليجية” بتاريخ أبريل 2024، ومقدمة من الدكتور عبد الخالق عبد الله هو زميل أول في مبادرة الشرق الأوسط في مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية، وأستاذ العلوم السياسية متقاعد، وعضو مجموعة المفكرين الإماراتيين، وتشمل اهتماماته البحثية التغيرات السياسية في الخليج والعالم العربي.
ولأن منطقة الخليج تعد منطقة حيوية ومتطورة، فهى تتطلب المزيد من الدراسة نظرا للتغيرات الكبيرة والتاريخية التي تعيشها مجتمعاتها واقتصاداتها، وتقدم هذه الورقة مفهومين للأدبيات المهتمة بالتطورات في الدول الخليجية، والمفهوم الأول هو “اللحظة الخليجية” حيث يعيش الخليج لحظته، يعيش عصره الذهبى، وهذه اللحظة الخليجية في التاريخ العربي المعاصر موجودة لتبقى في المستقبل المنظور.علاوة على ذلك، تفترض الورقة أنه ضمن اللحظة الخليجية، هناك زخم إماراتي موجود حاليًا ينعش التطور والتقدم الخليجى.
والمفهوم الثاني فهو مفهوم الدولة الخليجية، وترى الدراسة أنه، بالنظر إلى ظهور كل من الحركة الخليجية والزخم الإماراتي، فقد حان الوقت لوضع نموذج الدولة الريعية القديم الذي سيطر لفترة طويلة على الأدب الخليجي جانبًا وتجربة مفهوم تحليلي أكثر حداثة: هو الدولة الخليجية.
لذا تحاول هذه الورقة الإجابة على عدة أسئلة رئيسية: ما هي اللحظة الخليجية؟ وما هي مظاهرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ ماذا يعني الزخم الإماراتي؟ ما هي الدولة الخليجية؟ وما هي أركانها الأساسية؟
الدولة الخليجية و اللحظة الخليجية:
قدمت الدراسة مفهوم الدولة الخليجية كمحاولة تحليلية لفهم أفضل لجوهر “الحقائق المعاصرة” للدول الخليجية التي أصبحت “تبتعد” عن النظريات السائدة على حد وصف الكاتب، وخاصة نموذج الدولة الريعية الذي هيمن على الدراسات الخليجية لفترة طويلة، و”الدولة الخليجية” هي أيضًا وسيلة لفهم تطورات اللحظة الخليجية، وتعتبر ركائز الدولة الخليجية المتصورة هى العائلة الحاكمة الخليجية، والطبقة الوسطى الخليجية ورأس المال الخليجي، ويشير مصطلح “اللحظة الخليجية” إلى التأثير العميق الذي تحتفظ به دول الخليج على بقية العالم العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين.
وكان الرأي السائد كانت دولاً متخلفة وتقليدية وبدوية وغير مهمة وضعيفة تعيش على مزيج من عائدات النفط والحماية الأجنبية، ومعظمها من الولايات المتحدة، لكن الدراسة تعتبر أن النشاط والزخم الإماراتي حاليا هو المحرك الرئيسي لـ”اللحظة الخليجية” التى لم تعد يقودها النفط بل تتأثر بالحكم الرشيد، البراغماتية الأيديولوجية، والتكيف مع أفضل الممارسات العالمية.
اللحظة الخليجية تاريخياً:
ترى الدراسة أن اللحظة الخليجية لم تظهر من العدم بل احتاجت لوقت، فما يعيشه الخليج الآن هو نتاج خمسين عامًا من الأحداث والتطورات ونقاط التحول، ويمكن تقسيم ذلك الى مراحل تاريخية رئيسية. حيث:
- فترة سيطرة البريطانيين: وهى مرحلة ما قبل عام 1970، واتسمت باقتصاد ما قبل الحداثة، وما قبل النفط، والاقتصاد المرتكز على صيد اللؤلؤ ، استمر ذلك 150 عاما وكانت المنطقة منغلقة على نفسها.
- الفترة 1971-1990: هي المرحلة الأولى من الحداثة، وأبرز ما يميز هذه المرحلة الثانية هو الاستقلال السياسي، علاوة على ذلك، أحدثت طفرة عائدات النفط عام 1973 ثورة وحوّلت كل جوانب الحياة الخليجية.
- كانت الفترة 1990-2000: هي المرحلة الثانية من الحداثة، فخلال هذه المرحلة شهدت دول الخليج طفرة نفطية ثانية، واستثمرت بكثافة في نظامها التعليمي الحديث، وأنشأت بنية تحتية مادية حديثة (بما في ذلك الموانئ والمطارات ذات المستوى العالمي)، وأنفقت بسخاء على برامج الرعاية الاجتماعية. كما رفعوا الملايين من مواطنيهم إلى مستوى الطبقة المتوسطة.
كان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وما بعده هو سنوات “الانطلاقة”، لقد حافظوا على أنظمة سياسية مستقرة وأثبتوا قدرتهم على الصمود على الرغم من العقد المضطرب للربيع العربي. الملامح الرئيسية لهذه المرحلة هي: الانتقال من الاقتصادات النفطية الريعية بشكل رئيسي إلى بناء اقتصادات حديثة ومتنوعة ومتطورة نسبيا، وإبراز القوة الإقليمية
اللحظة الخليجية اقتصادياً:
تجادل الورقة هنا بأن اللحظة الخليجية ليست مدفوعة بالنفط، وأن القوة الاقتصادية للعالم العربي هى دول الخليج، فقد أظهرت الحرب الأوكرانية بوضوح أن النفط والغاز لا يزالان يشكلان مصدرين أساسيين للطاقة في جميع أنحاء العالم، وسيظلان كذلك لسنوات قادمة، مما يزيد من مركزية “اللحظة الخليجية”، وفي حين ساهمت الهيدروكربونات بشكل كبير في التطور التاريخي لدول الخليج، إلا أن اللحظة الخليجية لا تقوم حصراً على الهيدروكربونات، ولم يعد النفط محورياً كما كان الوضع فى السعودية وقت السبعينيات.
وتقوم دول الخليج العربية بتفكيك الجوانب العديدة لدولة الرفاهية القديمة، ويسلكون طرق جديدة مثل فرض ضرائب القيمة المضافة، وعلى استعداد لتطبيق الضرائب على الشركات، ولديهم خطط لفرض ضرائب على الدخل، وكلها تتناقض بشكل مباشر مع نموذج الدولة الريعية، ويتم ذلك بالتزامن مع النمو المتسارع للناتج المحلي الإجمالي وتوسيع الاقتصاد.
بالإضافة إلى ذلك، تعد دول الخليج موطنًا لأربعة من أكبر عشرة صناديق ثروة سيادية في العالم من حيث الأصول الخاضعة للإدارة، وفقاً لمعهد صناديق الثروة السيادية، وتتصدر دول الخليج مؤشرات اقتصادية هامة، مثل القدرة التنافسية، والشفافية، والإنتاجية، والاتصال، والابتكار، واقتصاد المعرفة، والرقمنة الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، يحتل اقتصاد الإمارات المركز الأول في القدرة التنافسية بين الدول العربية والعاشر عالمياً، وتحتل قطر والسعودية ثم الكويت والبحرين المرتبة الثانية إلى الخامسة على التوالي بين الدول العربية، وفي المقابل، تتأخر بقية الاقتصادات العربية بشكل كبير في ترتيب القدرة التنافسية الاقتصادية فمثلا المغرب والجزائر وتونس تحتل المراكز 70 و81 و95 على مستوى العالم بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي 2021.
ويبرز النمط نفسه عندما يتعلق الأمر بالشفافية ومكافحة الفساد، وهي مؤشرات لا تقل أهمية، حيث تأتي دولة الإمارات مرة أخرى في المركز الأول خليجيا وعربيا، وهي الدولة رقم 24 الأقل فسادًا من بين 180 دولة، وفقًا لمؤشر مدركات الفساد لعام 2021 الذي نشرته منظمة الشفافية الدولية.
اللحظة الخليجية سياسياً:
الدول الخليجية لم تعد دولًا صغيرة وهامشية سياسيًا، ولكنها حولت نفسها إلى قوة إقليمية صاعدة تتمتع بتأثيرات كبيرة، ويتزامن ذلك مع تحولها إلى اقتصادات ما بعد النفط وما بعد الريعية، وبناء شبكة عالمية واسعة من الأصدقاء، فالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر لا تتصرف ولا تفكر مثل الدول الصغيرة، بل تعمل بدلاً من ذلك كقوى متوسطة ناشئة، مما يجعل من المركز السياسي والدبلوماسي الفعلي للسياسة العربية بعد تراجع المراكز السياسية العربية القديمة، وهي القاهرة ودمشق وبغداد.
هناك محدد جديد يظهر على الساحة هو أن الجيوش الخليجية “القادرة” تشكل إضافة جديدة إلى اللحظة الخليجية، ويشير الكاتب الى القوات المسلحة الإماراتية، ويصفها أنها “إسبرطة العربية” التي تستخدم القوة الصلبة كلما دعت الحاجة، كذلك قطر وهي أول دولة خليجية تحصل على غواصة، في تطور جديد في التوسع البحري الكبير لدول الخليج، وفى نفس السياق تجتهد المملكة العربية لتوسيع برنامجها للصواريخ الباليستية، وقد بلغت النفقات الدفاعية للدول الخليجية 92.8 مليار دولار في عام 2021.
والفعالية السياسية لـ “لحظة الخليج” تتضخم من خلال مجلس التعاون الخليجي الذي يبلغ من العمر 43 عامًا، فهو يوفر أرضية لتكامل إقليمى تفتقر إليه الدول العربية الـ16 الأخرى، فوفق تعبير الكاتب فإن الجامعة العربية التي يبلغ عمرها ثمانين عاماً تعاني من اختلال وظيفي، كما أن اتحاد المغرب العربي لم يحقق بالكامل بعد طموحاته التعاهدية، وعلى الرغم من إنجازاته المتواضعة والعثرات مثل الخلاف الخليجي عام 2017 فقد استطاع المجلس الاستمرار رغم التحديات، ووفقاً لمراقبين فقد سهل مجلس التعاون الخليجي نمو هوية خليجية متميزة. وعدد الكاتب ثلاثة عوامل وراء مرونة المنظمة:
- القرب الجغرافي: تتجمع الدول الأعضاء الست جغرافياً بجوار بعضها البعض، بدءاً من الكويت شمالاً إلى عمان على طول بحر العرب.
- التقارب الثقافي: تتمتع تلك الدول بسمات تاريخية وقبلية وثقافية واجتماعية مماثلة أو متطابقة تقريبًا.
- الأمن: الضرورات الأمنية الناشئة عن التهديدات الخارجية المشتركة لبقائهم المشترك. فهم يتعاملون بشكل جماعي مع تداعيات الثورة الإيرانية عام 1979 والدمار الذي سببته الحرب الإيرانية العراقية. ولا يزال التهديد الإيراني المستمر سبب يبقي دول مجلس التعاون الخليجي متماسكة.
اللحظة الخليجية اجتماعياً وثقافياً:
ترى الورقة أن دول الخليج قد طورت نسختها الخاصة من الحداثة وتؤكد وضعها الجديد كمراكز إقليمية للفن والثقافة والمعرفة، ولم تعد مجتمعات تقليدية، ويعتبر الكاتب أنها باتت تشبه بشكل لافت للنظر العديد من الحواضر في شرق آسيا، خاصة أن 90 بالمائة من مواطني دول الخليج البالغ عددهم 36 مليونًا يعرفون القراءة والكتابة ويتمتعون بتعليم جيد، ويتكون جزء كبير من جيل الشباب من خريجي الجامعات والعديد منهم تخرجوا من أفضل جامعات في الغرب، بالتالى منفتح على العالم الخارجي ومرتبط بشكل جيد بالقيم والأفكار والمناقشات والرموز العالمية وأحدث اتجاهات التكنولوجيا.
المواطنون الخليجيون أكثر تفاؤلاً بمستقبلهم وفخورين باستقرارهم وازدهارهم وينطبق هذا أيضًا على النساء، فتمكين المرأة هو أحدث سمة اجتماعية وثقافية “للحظة الخليجية”، فدولة الإمارات تعد رائدة إقليمياً في مجال تمكين المرأة والمساواة بين الجنسين، فقد عينت تسع نساء في حكومتها المؤلفة من 21 عضوا، أي أكثر من أي دولة عربية أخرى، وتهيمن النساء من الخليج على قائمة فوربس الشرق الأوسط لأقوى 200 امرأة عربية.
لم تعد دول الخليج مستهلكة صافية للثقافة، بل أصبحت منتجة نشطة وبمثابة محطة مهمة في الدائرة الأدبية، فقبل عشر سنوات، لم يكن سوى القليل من يسمع عن معرض الشارقة الدولي للكتاب، لكنه اليوم يستقطب 2.3 مليون زائر سنوياً، أي ضعف عدد سكان الشارقة، وتتحول معارض الكتب في أبو ظبي، والدوحة، والمنامة، والرياض من معارض تجارية هادئة إلى فعاليات شعبية، وقد تم استكمال ذلك بحقيقة أن 70 بالمائة من الجوائز الأدبية العربية المرموقة تُمنح لكتاب من الخليج، ولا سيما من دولة الإمارات العربية المتحدة.
تحديات اللحظة الخليجية:
يتمثل التحدي الأول فى اختلال التوازن الديموغرافي الذى يشكل كابوسًا وجوديًا، خاصة وأن مواطني الخليج أصبحوا أقلية تختفي في بلدانهم، ويشكل مواطنو قطر والإمارات العربية المتحدة 11% فقط من إجمالي السكان، وفي كل من الكويت والبحرين، أصبحوا أقلية تبلغ 31 في المائة و48 بالمئة على التوالي، إن دول الخليج هي الوحيدة التي تضم أقليات من المواطنين وأغلبية سكانية من العمال والمقيمين الأجانب، وهي تركيبة ديموغرافية غير صحية وربما خطيرة تثير السؤال المشروع: ما مدى استدامة اللحظة الخليجية؟، لكن لا توجد إجابات جيدة ولا حلول سهلة لهذا الوضع الاجتماعي.
أما التحدي الثاني فهو الأمن الإقليمي، حيث تقع دول الخليج في واحدة من أكثر المناطق غير المستقرة في العالم، إن الشرق الأوسط الكبير مليء بالعنف والصراعات المسلحة النشطة والمنظمات الإرهابية العالمية مثل داعش والقاعدة ووكلاء إيران، وتبرز إيران باعتبارها تهديدًا خطيرا، وهو ما يفسر سبب الإنفاق الكبير على شراء الأسلحة والحصول على أحدث أنظمة الأسلحة من الولايات المتحدة والمصادر الغربية وكسبهم كشركاء استراتيجيين، ومع ذلك، فإن الميزانية العسكرية الكبيرة لم تقلل من حاجتهم إلى القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة للدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة ولردع إيران التوسعية.
التحدي الثالث هو التحول الديمقراطي لا تدعي دول الخليج أنها دول ديمقراطية ولا ترى أي مطالب شعبية محلية عاجلة للديمقراطية، وبدلا من ذلك يتطلعون للحريات الاجتماعية والشخصية والاقتصادية التي تعوض عن الافتقار إلى الحرية السياسية، فالتحول إلى نظام حكم عام أكثر ديمقراطية أمر حذر وبطيء.
اللحظة الخليجية والزخم الإماراتي:
في غضون أقل من 50 عامًا، حولت دولة الإمارات العربية المتحدة نفسها من دولة ريعية صغيرة تقليدية، تعيش تحت حكم الحماية البريطانية، إلى مجتمع حديث يدير اقتصادًا متنوعًا للغاية مع شبكة واسعة من الأصدقاء والشركاء العالميين، وتعد دولة الإمارات هي الدولة التي تجسد حاليًا الإمكانات الكاملة للحظة الخليجية من بين الدول الخليجية الستة، حيث أكدت الإمارات مكانتها كقوة متوسطة ناشئة، تتمتع بقدرة كافية على تشكيل الأحداث الإقليمية والعالمية وتمتلك جيش هائل أُطلق عليه لقب “إسبرطة العالم العربي”، وقد تم توثيق صناعة الدفاع المتنامية بشكل جيد، ولديها بالفعل العديد من الصناعات الدفاعية المتقدمة مثل: شركة أبوظبي لاستثمارات الأنظمة الذاتية، وهي شركة مصنعة للمركبات غير المأهولة التي يتم التحكم فيها عن بعد، وشركة أبوظبي لبناء السفن المتخصصة في بناء وإصلاح وتجديد السفن البحرية والعسكرية والتجارية.
ومع ذلك، قررت الإمارات العربية المتحدة إعادة تقييم دورها الإقليمي النشط، وتقليص وجودها العسكري الأجنبي، وسحب قواتها من اليمن والتواصل مع خصومها مثل إيران وتركيا. وفي الوقت نفسه، تظل قوة متوسطة ناشئة عازمة على تنفيذ رؤيتها لشرق أوسط وشمال أفريقيا مستقر ومعتدل، مع حلفاء إقليميين أقوياء.
وخلال جائحة كوفيد-19، استخدمت الإمارات الدبلوماسية الصحية بشكل فعال، مقارنة مع الجهات المانحة الأجنبية الأخرى على مستوى العالم، وكانت الإمارات ثاني أكبر مقدم للمساعدات بعد الصين، وقد برزت أيضًا كرائد عربي في مجال الفضاء، فأصبحت دولة الإمارات أول دولة عربية تصل إلى كوكب المريخ في 9 فبراير 2021، وهي تتجه إلى برنامجها الفضائي الجديد لتضع نفسها كمركز للتكنولوجيا المتقدمة، وتنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط، وإحياء ثقافة الفضاء بين الشباب.
علاوة على ذلك، فإن البلاد تقوم ببطء ولكن بثبات ببناء دور لنفسها كدولة صانع السلام الدولي، على سبيل المثال، لعبت دولة الإمارات العربية المتحدة دوراً مركزياً في الترتيب اتفاق السلام التاريخي بين إثيوبيا وإريتريا، وعملت على التوسط في مفاوضات بين باكستان والهند لتهدئة التوترات الحدودية وتأمين وقف إطلاق النار في نزاع كشمير المستمر منذ 70 عاماً.
وبعد إنشاء اتفاقيات استثمار جديدة لتنويع الاقتصاد، يمكن القول إن اقتصاد دولة الإمارات هو الأكثر تنوعاً في منطقة الخليج، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى دبي، التي تعتبر مركز الأعمال والتجارة في الشرق الأوسط.
وبالنظر الى اتفاقيات إبراهيم للسلام، والتي طبعت العلاقات بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، وتعتبرها الامارات بمثابة رصيد استراتيجي لتعزيز انتشارها العالمي والإقليمي برعاية الولايات المتحدة، فاتفاق التطبيع لديه القدرة على إنشاء محور ثلاثي الأقطاب بين الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة، وقد أدى ذلك أيضًا إلى إنشاء تحالف رباعي جديد، مجموعة I2U2 المكونة من الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة والهند وإسرائيل، والتي عقدت قمتها الافتراضية الأولى خلال الزيارة الأولى للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط في يوليو 2022، بما يعزز الزخم الإماراتي عالمياً.
الزخم الإماراتي مدفوع إلى حد كبير بقيادتها، حيث كان معظم النمو الأخير الذي حققته دولة الإمارات نتيجة لعمل الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولحسن الحظ، يبدو أن القيادة في أبو ظبي تدرك تماماً خطر الثقة المفرطة، وقد ظهر ذلك جلياً في الأحداث الأخيرة، وتحديداً مع انتهاء مقاطعة قطر، وتطور الحوار مع قطر إيران وتركيا، كذلك كان القادة في أبو ظبي أذكياء بما يكفي للبدء في سحب القوات الإماراتية من اليمن ابتداءً من يوليو 2019.
وتشير الدراسة الى مكون أساسى للزخم الإماراتى وهو بناء التحالفات والشركاء الاستراتيجيين باعتباره جزءًا لا يتجزأ من العلاقات الدولية، فكلما زاد عدد الحلفاء لدى الدولة، في كثير من الأحيان، زادت القوة والنفوذ الذي يمكن أن تظهره الدولة على المسرح العالمي. ولتحقيق هذه الغاية، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجًا يحتذى به في تكوين شبكة واسعة من الشركاء الإقليميين والعالميين. على سبيل المثال، الوجود الإماراتي فى القرن الأفريقي حيث ضمنت اتفاق السلام الإريتري الإثيوبي الأخير، وتحتفظ دولة الإمارات بميناء تجاري في أرض الصومال، وتخطط لتوسيع استثماراتها الحكومية والخاصة في البنية التحتية، والأعمال التجارية والسياحة في جميع أنحاء المنطقة، ونتيجة لهذه الروابط والاستثمارات، أصبح السودان وإثيوبيا وإريتريا وأرض الصومال جميعهم حلفاء رئيسيين للإمارات في القرن الأفريقي.
وعلى الرغم من كل الروابط المهمة، لا يزال هناك اعتماد مفرط على العلاقة مع الولايات المتحدة، حيث تحتاج الإمارات إلى القوة الأمريكية لدعم نفسها عسكرياً، كما أن الوضع الحالي مع الولايات المتحدة مفيد سياسياً لأبو ظبي، ومع ذلك، فقد أصبحت أقل موثوقية بشكل متزايد كشريك طويل الأمد، لذا عملت الإمارات على تطوير حوار مع الصين، لكن الصين، في هذه المرحلة المبكرة من ظهورها كقوة عظمى محتملة تبدو مترددة، فمن المؤكد أن الصين شريك تجاري ذو مصداقية لدولة الإمارات، ولكنها ليست حليفًا أمنيًا بعد.
وعلى الرغم من كل المخاطر، فإن الزخم الإماراتي يسير على قدم وساق، ففي عام 2021، أطلقت الإمارات خطتها المئوية حتى عام 2071، وهي خطة طويلة المدى وكاملة الرؤية للحكومة لتعزيز سمعة البلاد وقوتها الناعمة، وتساهم هذه الخطة في تعزيز الشعور بالثقة والتفاؤل في دولة الإمارات العربية المتحدة المعاصرة، وتعترف دولة الإمارات ببداياتها المتواضعة في عام 1971، وتخطط للمكان الذي ستتجه إليه بعد 50 عاماً.
تنظير الدولة الخليجية:
إن دول الخليج المزدهرة اقتصاديًا، والمستقرة سياسيًا، و”الليبرالية اجتماعيًا” كما ذكر الكاتب، والمهيمنة إقليميًا في القرن الحادي والعشرين، اختلفت بشكل كبير عن تلك التي كانت موجودة في الأيام الأولى عندما كانت تعتبر دولًا صغيرة، ومجتمعات تقليدية، واقتصادات نفطية ريعية، حيث كان النفط يخترق كل جوانب الحياة والاقتصاد، وكان المجتمع والحكومة منظمين حول النفط وعائداته، وكان من المبرر في ذلك الوقت القول بأنه لا يوجد لدى دول الخليج سوى النفط، لكن اليوم، تغلبت دول الخليج على اعتمادها على النفط، بالتالى فاستمرار وجهة النظر هذه تعتبر اختزالية إلى حد كبير وتخطئ في قراءة الحقائق الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين.
وتبرز بعض العناصر الأساسية التي تراكمت على مدار الثلاثين عامًا الماضية وغيرت المشهد الاجتماعي والسياسي لدول الخليج، فالاقتصاد الخليجي الجديد لم يعد اقتصاداً نفطياً، حيث ينمو الاقتصاد غير النفطي بوتيرة أسرع من الاقتصاد النفطي، والقطاع الخاص مزدهر، ويخضع القطاع العام لعملية خصخصة هيكلية، بجانب ذلك يتم تنفيذ الضرائب مثل ضريبة القيمة المضافة، ويأتي المزيد منها، كما تم تحقيق مستوى أعلى من إضفاء الطابع المؤسسي، وتعتبر الشرعية المؤسسية وشرعية الأداء مكملة للشرعية التقليدية، بالإضافة لذلك، ظهرت طبقة وسطى وأصبحت مستقلة عن الدولة، وأصبحت إعانات الرعاية الاجتماعية شيئاً من الماضي، وظهر الاستثمار الضخم في قطاع الطاقة الخضراء.
تعمل دولة الإمارات العربية المتحدة ودول الخليج بنشاط على تفكيك النزعة الريعية. ومع ذلك، لا يولي العديد من الباحثين الخليجيين في الغرب سوى القليل من الاهتمام لهذه الحقائق الجديدة.
الدولة الخليجية سياسياً:
الدولة الخليجية هي مفهوم سياسي يدور حول ثلاث ركائز متساوية الأهمية، الركيزة المؤسسية الأساسية هي الأسر الخليجية الحاكمة، فالأنظمة الملكية هي السمة الأبرز فى الدولة الخليجية أكثر من أي سمة أخرى، إن شرعيتهم متجذرة بعمق في التاريخ والتقاليد، يؤكد مفهوم الدولة الخليجية على مركزية الأسر الحاكمة، فقد أثبتت أنها صامدة، وأنها أنظمة ملكية تقدمية مرنة وقابلة للتكيف وواقعية للغاية، وتواصل إعادة اختراع نفسها مرارًا وتكرارًا.
الدولة الخليجية اجتماعياً:
ومن الناحية الاجتماعية، تعتبر الطبقة الوسطى الخليجية قاعدة القوة الاجتماعية للدولة الخليجية، لقد أصبح مجتمع الطبقة الوسطى هذا القاعدة الاجتماعية الأكثر موثوقية للعائلات الخليجية الحاكمة، إن قواعد القوة الاجتماعية القديمة، مثل الشرائح القبلية الخليجية وطبقة التجار، تحظى بالاعتزاز لأنها تمثل قوى الاستقرار والاستمرارية إلا أنها اليوم تتقلص، ولم تعد ضرورية للدولة الخليجية، كما كانت في مرحلة ما قبل الحداثة ومرحلة الحداثة الأولى.
وتتبدل الأحوال لتظهر مكونات جديدة للطبقة الوسطى، فباتت تتكون الطبقة الوسطى الخليجية من خريجي الجامعات وهم في الغالب مواطنون متعددو اللغات، ومرنون للغاية، وهم في الأساس أداة للحداثة والعولمة، لكنهم يشعرون بالارتياح إزاء القيم والمؤسسات التقليدية وهم عادة إصلاحيون لكنهم يفضلون الوضع الراهن والتغييرات المؤسسية الإضافية. إن الطبقة الوسطى الخليجية، مثل نظيراتها الآسيوية، تقدمية وتطورية بطبيعتها، وتعمل كقوى للاستمرارية، وبالكاد كانت هذه الطبقة موجودة في مرحلة ما قبل الحداثة في المجتمع الخليجي. وتلك الطبقة الوسطى هي نتاج طبيعي لدولة الرفاهية في السبعينيات، والاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي من الخمسين سنة الماضية، فقد استثمرت الأسر الخليجية الحاكمة بسخاء في تعليم ورفاهية هذه الطبقة، التي تطورت كحلفاء استراتيجيين، أكثر من الدوائر القبلية والتجارية القديمة، ومع ذلك، فإنهم لا يشكلون مجموعة اجتماعية متجانسة، فبعضها تقليدي، ومحافظ، ومتدين، وقبلي، والبعض الآخر عالمي، وعلماني، وليبرالي اقتصاديًا واجتماعيًا، وقد يأتون من خلفيات اجتماعية مختلفة.
الدولة الخليجية اقتصادياً:
لقد تم بناء الدولة الخليجية حول اقتصاد خليجي جديد لا يعتمد حصرياً على النفط ولا يعتمد على الريعية بالكامل، فالاقتصاد الخليجي الجديد أكثر تنوعاً بكثير، وصحيح لا يزال النفط موجودا، لكنه ليس القطاع الاستراتيجي الوحيد للاقتصاد الجديد. على سبيل المثال، تعد صناديق الثروة السيادية الخليجية مصدرًا مهمًا للدخل، وهو ما يمكن اعتباره نفط القرن الحادي والعشرين.
ويبلغ عدد صناديق الثروة السيادية الخليجية أحد عشر صندوقا، وهي من بين أكبر الصناديق السيادية على مستوى العالم، حيث يتجاوز صافي أصولها 3.5 تريليون دولار، أي ما يقرب من 45 في المائة من إجمالي صناديق الثروة السيادية في العالم، وتمتلك دولة الإمارات خمسة صناديق ثروة سيادية، ويعد جهاز أبوظبي للاستثمار أحد أقدم الصناديق الخليجية وأكبرها بإجمالي 702 مليار دولار في عام 2022، وهناك أيضًا النمو القوي لقطاع الطيران التجاري الخليجي، والذي يمنح الاقتصاد الخليجي رؤية عالمية أكثر من النفط، حيث أصبحت شركات الطيران لاعباً حاسماً في سوق الطيران العالمي، حيث تتنافس مع أفضل وأقدم شركات الطيران في العالم.
السيناريوهات لعام 2030:
تحدثت الورقة عن ثلاثة استقراءات مستقبلية للوضع الراهن: السيناريو المشرق (الواقعي)، والسيناريو الأكثر إشراقاً (المتفائل)، والسيناريو الأقل إشراقاً (التشاؤم).
ويستلزم السيناريو المتفائل، نموًا اقتصاديًا مكونًا من رقمين على مدى السنوات العشر القادمة ومتوسط أسعار النفط فوق 80 دولارًا، مما يمنح دول الخليج نفوذًا ماليًا وسياسيًا واستراتيجيًا، بجانب تحقيق أهداف الرؤية السعودية 2030، وإنهاء الحرب في اليمن، ونقل مجلس التعاون الخليجي إلى مستوى أعلى من التكامل، والحد بشكل كبير من التوتر الخليجي، والتخلص من التهديدات الإيرانية، والوصول لشرق أوسط أكثر استقرارًا، وهو السيناريو الأرجح وفق رؤية الكاتب.
ويتنبأ السيناريو الواقعي نفس المستوى من الازدهار الاقتصادي الحالي، والاستقرار السياسي، وتمدد النفوذ الإقليمي، بجانب الحفاظ على نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي الحالي بنسبة
3-4 في المائة، ومتوسط أسعار النفط من 60 إلى 80 دولاراً، والتعاون والتنسيق بين دول مجلس التعاون الخليجي عند مستواه الحالي، واستمرار انخفاض مستوى الصراع المسلح في اليمن، ونجاح التقارب مع إيران، وهزيمة الجماعات الإرهابية مثل داعش.
ويتحدث السيناريو الأقل إشراقا عن حدوث ركود اقتصادي محتمل على المدى القصير أو الطويل، وانخفاض حاد في أسعار النفط إلى أقل من 60 دولارًا للبرميل، وفشل الرؤية السعودية 2030، وتكرار الصدع الخليجي، والتحول من التعاون للمنافسة الاقتصادية والسياسية، وإعادة تنشيط الحرب في اليمن، والمواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل، والانفجار المفاجئ للأنشطة الإرهابية، وهذا السيناريو هو الأقل احتمالاً، ولكن حتى لو كان هناك تباطؤ اقتصادي غير متوقع، ومواجهة عسكرية مفاجئة، وزيادة في التوترات الإقليمية، فإن لدي الدول الخليجية القدرة للتعامل مع الأوقات الصعبة بثقة والحفاظ على استقرارها وازدهارها الحالي.